الحديث الذي ذكره السائل الكريم حديث ضعيف ،
لا يصح بوجه من الوجوه ،
ولم يرد من طريق صحيحة ذكر شيء من مراتب الولاية عند الصوفية .
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى في "المنار المنيف" (136) :
" أحاديث الأبدال والأقطاب والأغواث والنقباء والنجباء والأوتاد
كلها باطلة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
وأقرب ما فيها
( لا تسبوا أهل الشام ؛ فإن فيهم البدلاء ،
كلما مات رجل منهم أبدل الله مكانه رجلا آخر )
ذكره أحمد ، ولا يصح أيضا ، فإنه منقطع " انتهى .
( وانظر تفصيل الأحاديث المروية في ذلك وبيان نكارتها
في "المقالات القصار" لأبي محمد الألفي (69-81) )
وقد سئل شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله :
عن الحديث المروى فى الأبدال ، هل هو صحيح أم مقطوع ،
وهل الأبدال مخصوصون بالشام
أم حيث تكون شعائر الاسلام قائمة بالكتاب والسنة يكون بها الأبدال ، بالشام وغيره من الأقاليم ،
وهل صحيح أن الولى يكون قاعدا فى جماعة ويغيب جسده ،
وما قول السادة العلماء فى هذه الأسماء
التى تسمى بها أقوام من المنسوبين إلى الدين والفضيلة ،
ويقولون هذا غوث الأغواث ، وهذا قطب الأقطاب ،
وهذا قطب العالم ،
وهذا القطب الكبير ، وهذا خاتم الأولياء ؟
فأجاب رحمه الله :
" أما الاسماء الدائرة على ألسنة كثير من النساك والعامة ، مثل الغوث الذي بمكة ،
والأوتاد الأربعة ، والأقطاب السبعة ، والأبدال الأربعين ، والنجباء الثلاثمائة ،
فهذه أسماء ليست موجودة فى كتاب الله تعالى ،
ولا هي أيضا مأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد صحيح
ولا ضعيف يحمل عليه ،
إلا لفظ الأبدال ،
فقد روي فيهم حديث شامى منقطع الإسناد عن على بن أبى طالب رضي الله عنه
مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال :
( إن فيهم - يعني أهل الشام - الأبدال الأربعين رجلا ،
كلما مات رجل أبدل الله تعالى مكانه رجلا ) ،
ولا توجد هذه الأسماء فى كلام السلف كما هي على هذا الترتيب ،
ولا هي مأثورة على هذا الترتيب والمعانى عن المشائخ المقبولين عند الأمة قبولا عاما ،
وإنما توجد على هذه الصورة عن بعض المتوسطين من المشائخ ،
وقد قالها إما آثرا لها عن غيره ، أو ذاكرا ،
فأما لفظ الغوث والغياث فلا يستحقه إلا الله ،
فهو غياث المستغيثين ،
فلا يجوز لأحد الاستغاثة بغيره ،
ولا بملك مقرب ، ولا نبى مرسل ،
ومن زعم أن أهل الأرض يرفعون حوائجهم التي يطلبون بها كشف الضر عنهم ونزول الرحمة
إلى الثلاثمائة ، والثلاثمائة إلى السبعين ،
والسبعون إلى الأربعين ، والأربعون إلى السبعة ،
والسبعة إلى الأربعة ، والأربعة إلى الغوث ،
فهو كاذب ضال مشرك ،
فقد كان المشركون كما أخبر الله تعالى عنهم بقوله :
( وإذا مسكم الضر فى البحر ضل من تدعون إلا إياه )
وقال سبحانه وتعالى :
( أمَّن يجيب المضطر إذا دعاه )
فكيف يكون المؤمنون يرفعون إليه حوائجهم بعده بوسائط من الحُجَّاب
وهو القائل تعالى :
( وإذا سألك عبادي عني
فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان
فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي
لعلهم يرشدون ) ،
وقد علم المسلمون كلهم
أنه لم يكن عامة المسلمين ولا مشايخهم المعروفون
يرفعون إلى الله حوائجهم ،
لا ظاهرا ولا باطنا ، بهذه الوسائط والحجاب ،
فتعالى الله عن تشبيهه بالمخلوقين من الملوك
وسائر ما يقوله الظالمون علوا كبيرا ،
وهذا من جنس دعوى الرافضة أنه لا بد فى كل زمان من إمام معصوم
يكون حجة الله على المكلفين ، لا يتم الإيمان إلا به ،
بل هذا الترتيب والأعداد تشبه من بعض الوجوه ترتيب الإسماعيلية والنصيرية ونحوهم
فى السابق والتالي والناطق والأساس والجسد
وغير ذلك من الترتيب الذى ما نزل الله به من سلطان .
وأما الأوتاد فقد يوجد فى كلام البعض أنه يقول :
فلان من الأوتاد ، يعني بذلك أن الله تعالى يثبت به الإيمان والدين فى قلوب من يهديهم الله به ،
كما يثبت الأرض بأوتادها ،
وهذا المعنى ثابت لكل من كان بهذه الصفة من العلماء ،
فكل من حصل به تثبيت العلم والإيمان في جمهور الناس كان بمنزلة الأوتاد العظيمة والجبال الكبيرة ،
ومن كان بدونه كان بحسبه ،
وليس ذلك محصورا فى أربعة ولا أقل ولا أكثر ،
بل جعل هؤلاء أربعة مضاهاة بقول المنجمين فى أوتاد الأرض .
واما القطب فيوجد أيضا فى كلامهم :
( فلان من الأقطاب ) ، أو ( فلان قطب )
فكل من دار عليه أمر من أمور الدين أو الدنيا باطنا أو ظاهرا
فهو قطب ذلك الأمر ومداره ،
ولا اختصاص لهذا المعنى بسبعة ولا أقل ولا أكثر ،
لكن الممدوح من ذلك من كان مدارا لصلاح الدنيا والدين ،
دون مجرد صلاح الدنيا ، فهذا هو القطب فى عرفهم .
وكذلك لفظ البدل ، جاء فى كلام كثير منهم .
فأما الحديث المرفوع فالأشبه أنه ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم ،
فإن الإيمان كان بالحجاز وباليمن قبل فتوح الشام ،
وكانت الشام والعراق دار كفر ،
ثم لما كان فى خلافة علي رضي الله عنه ،
قد ثبت عنه عليه السلام أنه قال :
( تمرق مارقة من المسلمين تقتلهم أولى الطائفتين بالحق ) ،
فكان علي وأصحابه أولى بالحق ممن قاتلهم من أهل الشام ،
ومعلوم أن الذين كانوا مع علي رضي الله عنه من الصحابة ،
مثل : عمار بن ياسر ، وسهل بن حنيف ونحوهما ،
كانوا أفضل من الذين كانوا مع معاوية ،
فكيف يعتقد مع هذا أن الأبدال جميعهم ،
الذين هم أفضل الخلق ، كانوا في أهل الشام ، هذا باطل قطعا ،
وإن كان قد ورد فى الشام وأهله فضائل معروفة ،
فقد جعل الله لكل شىء قدرا ،
والكلام يجب أن يكون بالعلم والقسط .
والذين تكلموا باسم ( البدل ) فسروه بمعان ، منها :
أنهم أبدال الأنبياء ،
ومنها : أنه كلما مات منهم رجل أبدل الله تعالى مكانه رجلا ،
ومنها : أنهم أبدلوا السيئات من أخلاقهم وأعمالهم وعقائدهم بحسنات ،
وهذه الصفات كلها لا تختص بأربعين ، ولا بأقل ولا بأكثر ،
ولا تحصر بأهل بقعة من الأرض "
انتهى باختصار من مجموع فتاوى ابن تيمية
(11/433-444)