قال المؤلف : (( 5- الإمام مالك بن أنس رحمه الله تعالى :
قال رضي الله عنه للخليفة المنصور لما حج وزار قبر النبي عليه وعلى آله الصلاة والسلام وسأل مالكا قائلا: يا أبا عبدالله أأستقبل القبلة وأدعو أم استقبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأدعو؟ فقال الإمام مالك: ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم إلى الله تعالى ؟ بل استقبل واستشفع به فيشفعه الله فيك.
قال الله تعالى ﴿ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما﴾ )) [ ص 118 ] .
قلت : وهذه القصة لا تصح ليس كما قال المنصف في الحاشية ، وقد تلكم العلماء على هذه القصة وبينوا ضعفها ، ولكن المؤلف ما زال يردد الأحاديث الضعيف لينصر مذهبه وإليك بيان ضعف هذه القصة .
قال ابن عبد الهادي في رده على السبكي قال : (( ثم قال : وقد روى القاضي في ( الشفا ) .
حدثنا القاضى أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن الأشعري وأبو القاسم أحمد بن بقى الحاكم وغير واحد فيما أجازونيه قالو أخبرنا أبو العباس أحمد بن عمر بن دلهاث قال حدثنا أبو الحسن على بن فهر حدثنا أبو بكر محمد بن أحمد بن الفرج حدثنا أبو الحسن عبد الله بن المنتاب حدثنا يعقوب بن إسحاق بن أبى إسرائيل حدثنا ابن حميد ... الحديث )) [ الصارم المنكي ص 259 ] .
ثم قال ابن عبد الهادي : (( المعروف عن مالك أنه لا يستقبل القبر عند الدعاء ، وهذه الحكاية ذكرها القاضي عياض ورواها بإسناده عن مالك ليست بصحيحة عنه ، وقد ذكرها المعترض في موضع من كتابه أن إسناده جيد ، وهو مخطي ، في هذا القول خطأً فاحشاً ، بل إسنادها ليس بجيد ؛ بل هو إسناد مظلم منقطع ، وهو مشتمل على من يتهم بالكذب وعلى من يجهل حاله ، وابن حميد هو محمد بن حميد الرازي ، وهو ضعيف كثير المناكير غير محتج بروايته ، ولم يسمع من مالك شيئاً ولم يلقه ، بل روايته عنه منقطعة غير متصلة )) [ الصارم المنكي ص 259 - 260 ] .
وقد فند هذه الشبهة شيخ الإسلام ابن تيمية في رده على البكر قال : (( فيجاب الجواب عن هذا من وجهين أحدهما المطالبة بصحة هذه الحكاية وليس معه ولا مع من ينقلها بها إسناد صحيح ولا ضعيف وإنما غايته أن يعزوها إلى الشفا أو إلى من نقلها منه وكل عالم بالحديث يعلم أن في هذا الكتاب من الأحاديث والآثار ما ليس له أصل ولا يجوز الاعتماد عليه فإذا قال القاضي عياض ذكره فلان في كتابه فهو الصادق في خطابه وإذا لم يذكره من أين نقله لم نتهمه ولكن نتهم من فوقه وقد رأيناه ينقل من كتب فيها كذب كثير وهو صادق في نقله منها لكن ما فوقه لا يجوز الاعتماد عليهم .
الوجه الثاني أن يقال هذه الحكاية كذب بلا ريب من وجوه منها أنها مخالفة لمذهب مالك ومذهب سائر الأئمة فإنهم متفقون على أن من سلم على النبي صلى الله عليه وسلم ثم أراد الدعاء فإنه يستقبل القبلة كما روى ذلك عن الصحابة وتنازعوا وقت السلام عليه هل يستقبل القبلة أو القبر على قولين فقال أبو حنيفة يستقبل القبلة أيضا وقال غيره يستقبل القبر وقت السلام عليه وأما وقت الدعاء فما أعلم إماما خالف في أنه يستقبل القبلة بل الأئمة متفقون على أن قبلة المسلمين التي يستقبلونها في جميع أدعيتهم وأمكنتهم هي الكعبة ويستحب لكل من دعا الله أن يستقبل الكعبة حيث كان وأين كان كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يستقبلها فيستقبل وقت الذكر والدعاء بعرفة ومزدلفة وبين الجمرات وعلى الصفا والمروة وعقب الصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وغيره وما جعل أحد من الأئمة قبر أحد من الأنبياء قبلة للدعاء وإنما يستقبل قبورهم أهل الجهل عند عباداتهم ومن هؤلاء الغلاة من يستقبل قبورهم ويصلي إليها وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها .
ومنها أن مالك من قوة متابعته للسنة كره أن يقال زرت قبر النبي صلى الله عليه وسلم وهذا مما لا يستريب أحد في ثبوته عنه مع أن لفظ زيارة القبور في الجملة مما جاءت به السنة في غير قبره كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة قال زار النبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه فبكى وأبكى من حوله فقال استأذنت ربي أن أستغفر لها فلم يؤذن لي واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن فزوروا القبور فإنها تذكر الموت والأحاديث في ذلك كثيرة ثم بسط الشيخ الكلام على ذلك )) [ ص 102 – 104 ] .