بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ للّه ولي الإنعام ، وصلى الله على من هو للأنبياء ختام ، وعلى آله سُرُج الظلام ، وعلى أصحابه الغُرّ الكرام . والسلام على صدر الإسلام . ورَضِيّ الإمام . زَينه اللّهُ بالتقوى ، وختم له بالحسنى ، وجمع له بين خير الآخرة والدنيا .
معلوم يا صدر الإسلام : أن آحاد الرعية من الأعيان مخيَّرون في القاصد والوافد : إن شاءوا وصَلُوا ، وإن شاءوا فَصلُوا ، وَأَما من توشح بولاية ؛ فليس مخيرًا في القاصد والوافد ؛ لأن مَن هو على الخليقة أَمير ، فهو في الحقيقة أجير ، قد باع زمنه وأخذ ثمنه . فلم يبق له من نهاره ما يتصرف فيه على اختياره ، ولا له أن يصليَ نفلاً ، ولا يدخل معتكفًا ، دون الصدد لتدبيرهم ، والنظر في أمورهم ، لأن ذلك فضلٌ ، وهذا فرضٌ لازم .
وأنتَ يا صدر الإسلام ، وإن كنت وزيرَ الدولة ، فأنت أجيرُ الأمّة ، استأجرك جلال الدولة بالأجرة الوافرة لتنوب عنه في الدنيا والآخرة .
فأما في الدنيا : ففي مصالح المسلمين .
وأمَّا في الآخرة : فلتجيب عنه ربّ العالمين . فإنه سيقفه بين يديه ، فيقول له : ملَّكتُكَ البلاد ، وقلّدتك أزمّة العباد . فما صنعتَ في إفاضة البذل ، وإقامة العدل ؟
فلعله يقول : يا ربّ اخترتُ من دولتي شجاعًا عاقلاً ، حازمًا فاضلاً ، وسمَّيتُه قوام الدين ونِظام المُلك ، وها هو قائمٌ في جملة الولاة ، وبسطتُ بيده في الشُرَط والسيف والقلم ، ومكنته في الدينار والدرِهم ، فاسأله يا ربّ : ماذا صنع في عبادك وبلادك ؟
أفتُحسن أن تقولَ في الجواب : نعم تقلدتُ أمورَ البلاد ، وملكت أزمَّة العباد ، وبثثت النوال ، وأعطيت الإفضال ، حتى إذا قربتُ من لقائك ، ودنوتُ من تلقائك ، اتخذت الأبواب والبواب ، والحِجاب والحُجاب ؛ ليصُدُّوا عني القاصد ، ويردُّوا عني الوافد ؟
فاعمر قبرَك كما عمرتَ قصرَك ، وانتهز الفرصة ما دام الدهر يقبل أمرك ، فلا تعتذر ، فما ثمَّ من يقبل عُذرَك .
وهذا ملكُ الهند . وهو عابدُ صنم : ذهبَ سمعُه ، فدخل عليه أهل مملكته يُعزونه في سَمعه ، فقال : ما حسرتي لذهاب هذه الجارحة من بدني ، ولكن تأسفي لصوت المظلوم لا أسمعه فأغيثه ، ثم قال : إن كان قد ذهب سمعي فما ذهب بصري ، فليؤمر كلُ ذي ظلامة أن يلبس الأحمر ، حتى إذا رأيتُه عرفتُه فأنصفته .
وهذا " أنوشروان " قال له رسول ملك الروم : لقد أقدرتَ عدوَّك عليك بتسهيل الوصول إليك .
فقال : إنما أجلسُ هذا المجلس لأكشف ظُلاَمَةً ، وأقضي حاجةً .
وأنتَ يا صدر الإسلام ، أحق بهذه المأثرة ، وأولى بهذه وأحرى مَن أعدَّ جوابًا لتلك المسألة ، فإنَه اللّهُ الّذي ( تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَرْنَ مِنْه ) ، في موقفٍ ما فيه إلا خاشع ، أو خاضع أو مُقنِع ، لينخلع فيه القلب ، ويحكم فيه الرب ، ويعظم فيه الكرب ، ويشيب فيه الصغير ، ويُعزل فيه الملك والوزير .
يوم ( يتَذكَّرُ الإنْسَانُ ، وَأنَّى لَهُ الذِّكْرَى ) ، ( يَوْمَ تَجِدُ كُلّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِن خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدّ لَوْ أنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا ) .
وقد استجلبتُ لك الدعاء ، وخلّدتُ لك الثناء ، مع براءتي من التُهمة . فليس لي - بحمد الله تعالى - في أرض الله ضَيعةً ولا قرية ، ولا بيني وبين أحد خصُومةً ، ولا بي - بحمد اللّه تعالى - فقرٌ ولا فاقة ) .
فلما سمع " نظام المُلك " هذه الموعظة بكى بكاءً شديدًا ، وأمر له بمائة دينار .
فأبى أن يأخذها ، وقال : أنا في ضيافة أمير المؤمنين . ومن يكن في ضيافة أمير المؤمنين يقبح عليه أن يأخذ عطاءَ غيره .
فقال له : فُضَّها على الفقراء ؟
فقال : الفقراءُ على بابك أكثر مِنْهُمْ على بابي ، ولم يأخذ شيئًا !
* " الذيل على طبقات الحنابلة " ؛ لابن رجب ( 1 / 249 - 252 ) .