إن الحمد لله نحمده ونستعينه من يهده الله فلا مضلَّ له ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله...أما بعد:
طلب مِّني أحد الأخوة الذين أحبهم أن أكتب له رسالة مبيناً له فيها الأسباب التي دعتني لترك العمل من جماعة الإخوان, فأَجَبْتُهُ إلى طلبه ولسان حالي (مكرهٌ أخاك لا بطل), وقبل أن أرسل له بالرسالة صوَّرتها ووضعتُ الصورة عند عامل التَّصوير وذهبتُ إلى القرية وبعد رجوعي تبيَّن لي أنَّ الرسالةَ قد طارت كل مطار وهبت هبوب الريح في الأقطار, وسارت بها الفلك في البحار وحملتها الركبان في السهل والأوعار.
فسار مَسِيرَ الشمس في كلِّ بلدةٍ وهبَّ هبوب الرّيح في البرِّ والبَحرِ
فأحببت أن أحذف الاسم وأجعلها عامة فيراها الجميع وتكون ملكاً لهم.
ولعل فائلاً يقول: إن الرسالة إذا كانت عامة تمكن العدو من معرفة عيوبنا. فالجواب عليه: إن الأعداء أعرَفُ منا بعيوبنا, والذي لا يعرفها – أو لا يحبُّ أن يعترف بها – هو نحن – فقط – لأننا مصرون عليها, ولله در الشاعر حيث قال:
فلستُ براءٍ عيبَ ذي الودِّ كلَّهُ
ولا بعض ما فيه إذا كنتُ راضيا
فعينُ الرِّضا عن كل عيبٍ كليلةٌ
ولكنَّ عينَ السخطِ تبدي المساويا
على أنني قد عرضتُ آراء وأفكار جماعة الإخوان على كل الوجوه المحتملة ملتمساً لها مخرجاً, فأبَتْ إلًّا أن تلقي بجرانها على صدري, وحسبي أني لم آلُ جهداً, ولم أدّخر وسعاً في إنصاف جماعة كان لها الفضل - بعد الله – في إنقاذي وإنقاذ غيري من براثن الفساد, وتربيتنا على منهجٍ إسلاميٍّ فيه دخنٌ كثيرٌ, وإن كان هذا هو جُهدُ المُقِلِّ وغاية المستطاع, (لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ)[1] والله من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء السَّبيل.
[1]سورة الطلاق, الآية: 7.
نص الرسالة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين وأصلِّي وأسلِّم على رسوله الأمين...ثم أمَّا بعد:
من أبي عبد الله فيصل بن عبدة بن قائد الحاشدي
إلى جناب الأخ الحبيب..............حفظه الله تعالى بطاعته
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أي أخي, لا أدري كيف أبدأ رسالتي هذه إلى شخصك الحبيب إلى قلبي, فلا تستطع الحروف, ولا الكلمات أن تعبِّر عمَّا يخالج النفس من مشاعر وأحاسيس وعما يعتري القلب من انفعالات, وعمَّا يجري على الخاطر من ذكرياتٍ محفورةٍ فيه, لا تمحوها الأيَّامُ, ولا تعود عليها عوادي الزمان, فسقى الله أياماً سُعِدنا فيها بالقرب منكم, ونَهلنا من معين محبَّتكم الصافي, ووردنا نبع جماعة (الإخوان المسلمين) عطاشاً, فما صدرنا عنها إلا عن شبع, وريٍّ وامتلاءٍ على كدرٍ ودخنٍ كثير.
أي أخي, يا صنوَ رُوحِي, وشقيق فؤادي – يا رعاك الله, ويا حفظك الله – كم أنت – دائماً – كعهدي بك لم تنسَ أخوَّتي, وحفظ ودادي, كم أنت كعهدي بك فياض الأحاسيس حلو المعشر ودوداً.
أي أخي تسألني عن سرِّ تركي العمل مع جماعة (الإخوان المسلمين) تلك الجماعة التي أحببتها حباً عظيماً وأعطيتها خلاصة شبابي وعصارةَ جهدي.؟!
أي أخي, بسبب هذا السؤال تأخر جوابك, فغاب الغيث ومال عن المورد يميناً وشمالاً, ولكن بعد أن استخرتُ الله - سبحانه وتعالى – انشرح صدري لجوابك وقد رأيتُ لِزاماً عليَّ التخلق بخلق الإنصاف ولا سيما مع جماعة لها عليَّ فضلٌ عظيمٌ, ولا زلت أحبها وأحب أهلها كلٌ على قدر الخير الذي فيه.
أي أخي, لقد كان من أسباب تركي العمل مع جماعة الإخوان على جادة المثال لا الحصر[1] ما يأتي:
أ)عدم وجود قاعدة عقائدية أجمعوا أمرهم على تبنِّيها والدعوة إليها.
ب)عدم التركيز على الدعوة إلى التوحيد وتصفية العقيدة.
ت)افتقارها إلى الدعائم التي تقوم عليها الدعوة الصحيحة ومنه البداءة بالأهم فالأهم. بأن يدعو الداعية أولا إلى إصلاح العقيدة كما هي طريقة الرسل جميعاً, قال تعالى: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ)[2], وقال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ)[3].
أي أخي هذه الخلاصة أما الأدلة فأكثر من تحصر وإليك طرفاً منها:
1)نفي الصفات:
عقيدة الإخوان في توحيد الأسماء والصفات مضطربة؛ لذلك لم يقرّ لهم في هذه المسألة قرار, فالشيخ حسن البنا : يرى أن آيات الأسماء والصِّفات وأحاديثها من المتشابه قال :[4]: (ومعرفة الله – تبارك وتعالى – وتوحيده وتنزيهه أسمى عقائد الإسلام, وآيات الصفات وأحاديثها الصحيحة وما لحق بذلك من المتشابه نؤمن به كما جاء من غير تأويل ولا تعطيل).
والجواب أن ما ذهب إليه الشيخ : ليس من عقيدة أهل السنة والجماعة في شيء, والدليل: قال شيخ الإسلام[5]: (من قال إن هذا من المتشابه وأنه لا يفهم معناه, فنقول: أما الدليل على بطلان ذلك فإني ما أعلم أحد من سلف الأمة ولا الأئمة, لا أحمد بن حنبل ولا غيره أنَّه جعل ذلك مِن المتشابه الداخل في الآية ونفى أن يعلم أحد معناه, وجعلوا أسماء الله وصفاته بمنزلة الكلام الأعجمي الذي لا يُفْهَم, ولا قالوا: إن الله يُنَزِّل كلاماً لا يَفْهَمُ أحدٌ معناه, إنما قالوا: كلمات لها معانٍ صحيحةٌ, قالوا في أحاديث الصفات تمر كما جاءت, ثم قال: و– أيضاً – فالسّلف من الصحابة والتابعين وسائر الأئمة, قد تكلَّموا في جميع نصوص الصفات وغيرها وفسّروها بما يوافق دلالتها, ورووا عن النبي ث أحاديث كثيرة توافق القرأن, ولو كان معاني هذه الآيات منفيَّاً أو مسكوتاً عنه لم يكن ربَّانيُّو الصحابة – أهل العلم بالكتاب والسُّنَّة – أكثر كلاماً فيه.
ثم إن الصحابة نقلوا عن النبي ث أنَّهم كانوا يتعلمون منه التفسير مع التِّلاوة, ولم يذكر أحدٌ منهم أنه امتنع عن تفسير آية". اهـ مختصراً.
2)القول بالتفويض:
والدليل قول الشيخ حسن البنا : بعد أن حاول التَّهوين والتَّقريب بين مذهبي السلف والخلف في العقيدة: "وإن البحث في مثل هذا الشأن مهما طال فيه القول لا يؤدي في النهاية إلا إلى نتيجة واحدة هي التفويض لله تبارك وتعالى"[6].
وقال :: "ونحن نعتقد أن رأي السلف من السكوت وتفويض علم هذه المعاني إلى الله – تبارك وتعالى- أسلم وأولى بالاتباع حسما لمادة التاويل والتعطيل"[7]
والجواب عليه:
لعلك قد فهمت -أخي- من خلال كلام الشيخ : أنه يعتقد أن رأي السلف السكوت وتفويض علم هذه المعاني الى الله, وهذا يعني مجرد الإيمان بألفاظ آيات الصفات وأحاديثها من غير فقه لمعانيها وهو من التقول على السلف بلا علم ولا برهان, وقد فند شيخ الإسلام ابن تيمية : أقوال أهل التفويض وبيَّن بطلانه وأنه من شر الأقوال, قال :: "غاية ما ينتهي إليه هؤلاءِ المعارضون لكلام الله وكلام رسوله بآرائهم من المشهورين بالإسلام هو التأويل أو التفويض. ثم قال: ومعلوم أن هذا قدح في القرآن والأنبياء, إذا كان الله أنزل القرآن وأخبر أنه جعله هدى وبياناً للناس, وأمر الرسول أن يُبلِّغ البلاغ المبين, وأن يبيِّن للناس ما نزِّل إليهم, وأمر بتدبر القرآن وعقله, ومع هذا فأشرف ما فيه هو ما أخبر به الربُّ عن صفاته, وعن كونه خالقاً لكل شيء وهو بكل شيء عليم".
ثم قال: "فتبَّين أنَّ قول أهل التفويض الذين يزعمون أنَّهم متَّبعون للسُّنَّة والسلف مِنْ شرِّ أقوال أهل البدع والإلحاد" اهـ مختصرا[8].
3)إنكار المهدي:
والدليل قول الشيخ حسن البنا :: "فمن حُسنِ الحظِّ لم نرَ في السنُّة الصحيحة ما يثبت دعوى المهديِّ, وإنما أحاديثه تدور على الضعف والوضع". اهـ[9].
والجواب عليه:
أن أحاديث المهدي وخروجه آخر الزمان بلغت الخمسين حديثاً, منها الصحيح والحسن وما دون ذلك.
قال الإمام السفاريني : في عقيدته: "فالإيمان بخروج المهدي واجب كما هو مقرَّر عند أهل العلم ومدوَّن في عقائد أهل السنة والجماعة".
وقال الإمام محمد ناصر الدين الألباني :: "لقد تواترت الأخبار واستفاضت بكثرة رواتِها عن المصطفى ث بمجيءِ المهديِّ, وأنه من أهل بيته وأنه يخرج مع عيسى عليه السلام فيساعده على قتل الدجَّال وأنه يؤمُّ هذه الأمة وعيسى يصلِّي خلفَهُ" اهـ [10].
[1]ذكرت في هذه الرسالة أشياء أقنعتني بترك هذه الجماعة, وأخرى ظهرت لي من بعدُ زادتني اقتناعاً على عدم جواز الاستمرار معها بل رأيتُ أن من واجبي أن أُبيِّن للناس أن منهج هذه الجماعة خلاف منهج السلف الأصيل الواجب الاتباع (وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ) وما أحسن قول الشاعر:
ستبدي لك الأيامُ ما كنت جاهلاً ويأتيك بالأخبار ما لم تزوّدِ
[2]سورة النحل, الآية: 36.
[3]سورة الأنبياء, الآية 25.
[4]في كتاب "الأصول العشرين" الأصل العاشر (ص 39).
[5]في كتابه "الإكليل في المتشابه والتأويل" لشيخ الإسلام ابن تيمية (32-50).
[6]في كتابه "رسالة العقائد" (ص 74).
[7]مجموعة رسائل البنا رسالة العقائد (ص 498).
[8]في كتابه "درء تعارض العقل والنقل" (1/201-205).
[9]حديث الثلاثاء لحسن البنا (ص 108).
[10]السلسلة الصحيحة (5/372).
يتبع ان شاء الله....