قَاعِدَةٌ لِسَانِيَّةٌ تُبْطِلُ تَأْويلَ الفَوْقِيَّةِ في بَعْضِ آيِ الكِتَاب
الحمد لله و الصلاة و السلام على رسول الله و على ءاله و صحبه و من والاه و بعد:
فإن المارقين عن عقد المسلمين الذي شرعه رب العالمين ، و بينه رسوله الأمين ، و الذي سار عليه الصحب الغر الميامين ، إنما سلكوا في انتحالاتهم الباطلة ، و تأويلاتهم الجاهلة ، مطايا هي ـ لعمر الله ـ خزايا و رزايا ، فكان منها في جنايتهم على صفة العلو للرحمن ، أن أغاروا تحريفا و تخريفا على هذا اللسان ، فسلكوا به الضيّق الصعب ، و تركوا الواسع الرحب ، فكان جمعُ المسلمين على كلمة سواء ، حين كان يشرح لسانهم أربابه من بين سائر الأمم ، ثم دب الخلاف و افترق الجمع حين صار الحجة في لسانهم لكعاء من أمة العجم ، فإلى الله المشتكى من هذا المنقلب الوخم.
و هذه محاولة مني لإعادة السير على النهج القويم و الطريق المستقيم ، الذي سلكه رعيلنا الأول فكان سبيلهم النجاة من هذا الجحيم!!
فوقع الاختيار على فائدة جليلة لأديب من الأدباء و عالم من العلماء إغتالته أيادي الغدر الأثيمة من جهمية هذا الزمان بعد أن أعيتهم الحيل في إسكات هذا الصوت السلفي ، الذي دك حصونهم بالأدلة و الشواهد على إثبات علو الرب الواحد ، فكان فيما نحسبه شهيدا عند الله ـ و الله حسيبه ـ لا نزكيه على الله
و قد ترك لنا هذا الجهبذ الأديب كنزا عظيما ، و خيرا عميما ، بما زبرته يمناه اليمين ، في نصرة هذا الدين ، فأخرج لنا كتابه العجاب الذي لم ينسج على منواله في عصرنا كتاب و هو الموسوم بلسان صاحبه ـ رحمه الله ـ [ إثباتُ العلو للرحمن من قول فرعون لهامان]
و من هذا الكتاب أنقل لكم هذه الفائدة الجليلة فدونكموها
قال رحمه الله (1/87 ـ 92)
( الظروف )
لها أشكال و أحوال
منها اسم المكان المبهم كالجهات الست (فوق و تحت و يمين و شمال و أمام و خلف)
1 ـ (فوق و تحت)
هذا النوع قابل للاستعمال في غير ما وضع له أصلا ، أي يستخدم لغير الجهة مجازا ، و لكن بشرط عدم تقيده بحرف الجر [من] ، فإذا قيدته عيّنت المعنى الأصلي منه و هو الجهة.
فأنت تقول: (الذهب فوق الفضة) و ( الياقوت فوق الخزف) ، و تقصد أن الذهب أجود و أثمن من الفضة ، و كذلك الياقوت بالنسبة للخزف.
و لكن لا تقول: ( الذهب من فوق الفضة) أو (الياقوت من فوق الخزف) فهذا استعمال باطل لا يعرفه العرب ، فإذا قلت لك : (أبي فوق أبيك) ، فالقصد أن أبي أشرف و أكرم و أفضل من أبيك ، و هذا للرتبة.
و إطلاق [ فوق و تحت] يكون أصلا للحقيقة الحسية ، كقولك : (السماء فوق الأرض) ، إلا إذا احتفت إحداهما بقرائن تعيّن الرتبة و ما شابهها من مقصودها ، كقولك عند المفاخرة : (رجالنا فوق رجالكم) ، فالقرينة المفاخرة .
فالقاعدة أن [ فوق و تحت] إذا أطلقتا احتملتا الحقيقة و المجاز معا ، كقوله سبحانه { و هو القاهر فوق عباده} ، فهو سبحانه أقهر لمخلوقاته من مخلوقاته ، و أقدر عليهم من بعضهم على بعض ، و هو فوقهم بعلو ذاته.
و كقوله تعالى { وفوق كل ذي علم عليم} ، فهذه الفوقية باعتبار التفاوت في العلم ، فكل عالم لا بد أن يكون هناك الأعلم منه ، و الله سبحانه أعلم من كل العلماء ، وهو فوق الكل بذاته.
و قد يستعملان عند الإطلاق لغير الحس كالرتبة ، و من ذلك قوله سبحانه عن لسان فرعون { و إنا فوقهم قاهرون} ، أي نحن أقوى و أقدر منهم ، و سنقهرهم.
أو يستعملان للحس و هو الأصل و الحقيقة ، و من ذلك قوله سبحانه { و يحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية} ، (ففوق) هنا أطلقت و أريد بها المعنى الحسي و هو الأصل ، فلا يقال : يحتاج إلى قرينة ، لأن القرينة تُحتاج للمجاز لا للحقيقة ، فالقرينة إن وجدت في الكلام، يكون ذلك تعيينا و تأكيدا لإرادة الحقيقة الحسية ، كما في هذه الآية من ذكر الحمل الذي سبق الظرف ، مما دل على أن العرش فوق الملائكة من غير ريب و لا شك .
و من ذلك قوله سبحانه { أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم } ، فهنا أطلق الظرف ( فوق) و لم تدخل عليه [من] ، و لكن أريد بها المعنى الحقيقي الحسي ، و أكد على تعيينه ما احتفت به من القرائن ، كقوله ( أفلم ينظروا) ، فذكر النظر ، و قوله ( إلى السماء) معقبا به على ذلك يعين الحس و يؤكده.
و كل ما سقناه من هذه الاحتمالات ينحصر بشيء واحد عندما تتقيد [فوق و تحت] بحرف الجر [من] ، وهو الاستعمال للحقيقة الحسية لا لغيره ، و نحن نتحدى من الآن إلى الأبد ، جيلا بعد جيل ، كل ناعق جاهل ليخرج إلينا بمثال واحد يخالف ما نقول.
فانظر معي أخي إلى هذه الأدلة ، هل تجد فيها غير ما نقول.
قال تعالى{ و جعل فيها رواسي من فوقها}
و قال سبحانه { بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها}
و قال عز و جل { فخر عليهم السقف من فوقهم}
و قال تبارك و تعالى { تكاد السموات يتفطرن من فوقهن}
و قال عز و جل { لهم من فوقهم ظلل من النار و من تحتهم ظلل}
و قال جل في علاه { لكن الذين اتقوا ربهم لهم غرفٌ من فوقها غرفٌ مبنية تجري من تحتها الأنهار}
و قال تبارك و تعالى { أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض}
و قال سبحانه عن عيسى عليه السلام { فناداها من تحتها...} ، و في هذه الآية قراءتان:
ـ [مِنْ] حرف جر ، و هو مثال على ما نقول ، من تعيين الحس بحرف الجر.
ـ [مَنْ] بمعنى [الذي] و تكون [تحت] مطلقة ، و لكن يعين الحس فيها و يؤكده القرينة ، و هي كون مريم تضع عيسى ، فهو تحتها دون شك.
و المقصود من هذه الآيات كما ترى ، أنه لم يأت مثال واحد ، فيه [فوق أو تحت] لغير الحس عند تقييدها بحرف الجر [من] ، و نحن ننتظر من يأتينا به و لا سبيل.و الآية التي استدللنا بها تندرج ضمن هذا النوع و هو قوله تعالى { يخافون ربهم من فوقهم و يفعلون ما يؤمرون}
فلا يجوز حملها على المجاز لما قررنا ، بل يتعين المعنى الأصلي الحسي ، القاضي بأن الله تعالى فوقنا ، و فوق من هم فوقنا.
يقول شيخ الإسلام العلامة ابن قيم الجوزية ـ رحمه الله ـ :
( هب أن هذا يحتمل في مثل قوله { وفوق كل ذي علم عليم} لدلالة السياق و القرائن المقترنة باللفظ على فوقية الرتبة ، و لكن هذا إنما يأتي مجردا عن [من] و لا يستعمل مقرونا بـ [من] ، فلا يعرف في اللغة البتة أن يقال : الذهب من فوق الفضة ، و لا العالم من فوق الجاهل ، و قد جاءت فوقية الرب مقرونة بـ [من] كقوله تعالى { يخافون ربهم من فوقهم} ، فهذا صريح في فوقية الذات ، و لا يصح حمله على فوقية الرتبة لعدم استعمال أهل اللغة له )....) اهــ
فما أعظمها من درّة غالية من هذا الهمام ، فكونوا لها حافظين ، و بها قائمين ، فما وصلتك إلا وقد بذل فيها الكاتب مهجته و قضى نحبه ـ تقبله الله في الشهداء ـ
فلا تتركها تمرُّ عليك بالسهل و قد علمت أمرها ، فخذها بحقها و لك الله