د. أكرم حجازي
22/2/2011
ألقى الرئيس الليبي مساء اليوم ( الاثنين 22/2/2011 ) أول خطاب له تعليقا على وقائع الثورة الليبية التي انفجرت في البلاد في 17 فبراير الجاري للإطاحة به. وقد جاء خطابه بعد يومين من خطاب ابنه سيف الإسلام الذي تم بثه مساء السبت الماضي (20/2/2011). وبقطع النظر عن مضمون الخطاب إلا أنه اشتمل على خدع كثيرة أمكن تمريرها بسلاسة عبر إطالة أمد الخطاب لأكثر من ساعة، وعبر تكرار بعض المواضيع بصورة مملة شعرت به الجزيرة الإخبارية التي فضلت التوقف عن بثه بعد مضي خمسين دقيقة عليه وإحالته إلى قناة الجزيرة مباشر.
ورغم الملل المتعمد إلا أن تحليل الخطاب بالغ الأهمية من جهة الوقت الذي تعادل فيه قيمة الدقيقة في مثل هذه الأوقات بقنطار من الذهب. إذ ثمة مؤشرات كثيرة تجعلنا نرجح أن يكون الخطاب مسجلا وليس مباشرا كما قيل. بل أنه سجل في نفس الوقت الذي سجل فيه خطاب ابنه سيف الإسلام. وحتى خطاب هذا الأخير يبدو أنه سجل قبل يوم على الأقل من بثه. وهذه بعض المؤشرات الأولية:
• لم يصدر الخطاب الذي ألقاه القذافي من خيمة كما جرت العادة غالبا. بل من على شرفة منزله في حي البوعزيزية حيث تتركز قوته الأمنية وأجهزة حكمه. وبدا الخطاب من جهة أخرى وكأنه بُث من مكتب. وفي كل الحالات فلم نشاهد أية وسيلة إعلامية ولا جمهورا ولا حضورا. ولم تظهر أية حركة لغير القذافي في المكان، لا من مرافق، ولا من معاون. كما أننا لم نسمع خلال الخطاب أي صوت يذكر من أية جهة كانت. ولم نر سوى خطابا موجها إلى عين الكاميرا، وأحيانا جانبيا!!! ومع ذلك فقد شاهدنا وسمعنا، كغيرنا، توصية من القذافي لجمهور لم يشاهده أحد غيره بعدم إطلاق الرصاص إلا في الوقت المناسب!!!
• استشهد القذافي بخطاب ابنه سيف الإسلام!! وهذه شهادة من المفترض أنها توحي بكون الخطاب مباشر. لكن مضامين الخطاب وموضوعاته تؤكد تطابقه مع خطاب الابن. فالرئيس والابن استعملا نفس اللغة، ونفس المفردات، ونفس التهديدات، ونفس الأطروحات .. فلا مصطلحات جديدة ولا خبر جديد ولا وجود لأي اختلاف يذكر إلا فيما فصل به هو أو ابنه في بعض المواضيع المطروحة. وهذا يعني أن الخطابين تم إعدادهما بنفس الموضوع والمضمون. وما إشارته إلى خطاب ابنه ( كما قال لكم سيف) إلا لكون خطاب الابن سيتم بثه قبل خطاب الأب باعتباره صاحب الكلمة الأخيرة!!!
• تهديدات القذافي بأنه: « لم يصدر بعد أمرا باستعمال السلاح لأنه حينها سيحرق كل شيء»، وأنه « سيقاتل حتى آخر طلقة» .. هي نفس تهديدات الابن!!! أما الخدعة التي تؤكد أن الخطاب مسجل فتكمن في وقائع اليومين الفارقين بين الخطابين. ففي اليوم التالي لخطاب الابن بدأت سلطات القذافي، كما تقول، بـ « حملة أمنية موسعة لاجتثاث المتمردين». وفعلا بدأ قصف الطائرات الليبية لعشرات الحشود البشرية في العاصمة طرابلس والزاوية وبنغازي والبيضاء وتاجوراء وغيرها من المناطق. كما استعملت قوات القذافي الأمنية شتى أنواع الأسلحة من الرشاشات المضادة للطائرات إلى الدبابات، وأعلنت مالطا عن هبوط طائرتين ليبيتين في مطاراتها هربا من أوامر تلقاها الطياريْن بقصف التجمعات البشرية، وكشف النقاب عن انحياز قطاعات واسعة من الجيش والضباط والجنود إلى المتظاهرين، كما كشف النقاب عن إعدامات طالت الجنود والضباط في الثكنات العسكرية لرفضهم قتل الناس، ثم جاءت فتوى الشيخ الصادق الغرياني بإعلان الجهاد، تبعها فتوى نخبة علماء ليبيا باعتبار الجهاد فرض عين على كل ليبي، ثم تمرد لكبرى القبائل على السلطة. كما سجلت انهيارات دبلوماسية للنظام الليبي في عدد من الدول العربية والأجنبية والمنظمات الإقليمية والدولية، وهروب آخرين واستقالات لوزراء ومسؤولين ليبيين احتجاجا على سفك الدماء وليس على شيء آخر. وبلغ عدد القتلى بالأمس فقط نحو 600 قتيل بحسب الإحصاءات الأولية!!!
إذن الغالبية الساحقة من أشد الأحداث هولا هي تلك التي أشرنا إليها أعلاه، والتي وقعت في اليومين اللاحقين على خطاب سيف الإسلام. والأمر هنا يعني واحد من أمرين: إما أن القذافي معزول عن العالم لا يعرف ما يجري في الخارج، لا هو ولا أحد من مستشاريه، إنْ بقي منهم أحد، ولا حتى مصوريه، وإما أن الخطاب، وهو الأرجح، تم تسجيله فعلا بالتزامن مع خطاب ابنه. أما أن يكون على الهواء مباشرة فهذا أبعد ما يكون عن الحقيقة والمنطق.
• طالب الخطاب الناس رجالا وشبابا وأطفالا ونساء، محجبات أو غير محجبات، بالخروج إلى الشوارع والأحياء في كل المدن!! وقال بأنه لا يجب على غير المرأة المحجبة أن تخشى من الاختطاف .. فالخطف يقع في هناك في بنغازي، ويقوم به أولئك الذين أعلنوا إمارة إسلامية في درنة!! هذه التلميحات الخفية المعنى تؤشر على أن خطاب القذافي، بالإضافة لخطاب الابن، سجل مسبقا قبل وصول الاحتجاجات الشعبية إلى طرابلس، وإلا ما كان له أن يستنجد إلا بمن تبقى. وحتى هؤلاء لم يعودوا موجودين. كما يؤكد أن النظام في حالة انهيار شبه شامل إلا ما تبقى من فلول أمنية وجيوب عسكرية. كما أنه ليس من المعقول أن يستنجد حاكم بالأطفال والنساء والشيوخ لاحتلال البلد بحجة أنهم أصحاب السلطة لو كان يحظى بالشرعية والقوة خاصة وأنه يدين خروج الفنيان في المظاهرات من جهة ويتهم الشعب بتعاطي حبوب الهلوسة. فلو بقي له غير القوة العسكرية لاستعان بها، لكنه من الواضح أنه لم يعد له أي ظهير شعبي يذكر ولا عسكري إلا قواته الأمنية الخاصة، بالإضافة إلى بعض تحالفاته القبلية التي تعيش، في ضوء صمتها، حالة بينة من الارتباك.
• تركيز القذافي وابنه على شماعة الإرهاب له ما يبرره فعليا. فلما يقول الابن أن ليبيا ليست تونس ولا مصر فهذا صحيح بحدود معينة. فليبيا، ذات الخمسة ملايين نسمة، فيها شعب مسلم من بينهم مليون حافظ للقرآن الكريم. وهو رقم ليبي، رسمي وشعبي، يؤكد أن الشعب الليبي متدين، بصغيره وكبيره، ويعرف كتاب الله عز وجل. كما أن في ليبيا جماعة إسلامية قوية جدا، وليس بها أحزاب. وفي المقابل ليس في ليبيا علمانية أو لبرالية كما هو الحال في مصر وتونس. وليس بها نظام سياسي ولا مؤسسات حكم يمكن للغرب أن يلتف بها على الثورة بحيث يتم تسليم السلطة فيها للجيش مثلا، كما حدث في مصر، أو للوزير الأول كما وقع في تونس!!! وبالتالي فإن الغرب واقع في حيرة ومأزق لم يجد خلاصا منه إلا دعم القذافي والصمت المطبق منه على السماح له بلعب ورقة القتل، على أوسع نطاق، كما حصل في العراق وأفغانستان.
إلى هنا يمكن القول باطمئنان أنه لا خوف على الشعب الليبي ولا على ثورته. أما الخوف الوحيد فهو في الطرف الآخر الذي لجأ إلى التلاعب الإعلامي في التأثير على الرأي العام أو تضليله عبر خدع من هذا النوع. فإذا كان خطاب الابن قد تسبب في تحرير الكثير من المدن فضلا عن انفجار الوضع في طرابلس؛ فما الذي سيقدمه خطاب مطابق لسابقه، سجل بالتزامن مع خطاب الابن غير الخداع ومحاولة إثارة البلبلة؟ لا شيء. فحذار من الخدع والغضب بلا مبرر.
هذا رد محايد على كلامي وكلام الأخوه حفظهم ربما نأخذ به وربما نتركه ولكن نحترمه