العودة   شبكة الدفاع عن السنة > المنتديـــــــــــــات الحوارية > الحــوار مع الــصـوفــيـــة

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 31-08-17, 03:40 AM   رقم المشاركة : 1
مهذب
عضو ماسي






مهذب غير متصل

مهذب is on a distinguished road


مَا حَقِيقَةُ الْعُبُودِيَّةِ

.

الجواب لشيخ الإسلام ابن تيمية .. في المرفقات .






الملفات المرفقة
نوع الملف: doc العبودية.doc‏ (348.5 كيلوبايت, المشاهدات 179)
التوقيع :

{وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا (53)}
[الإسراء: 53]


إن كانت الأحداث المعاصرة أصابتك بالحيرة ، فاقرأ هذا الكتاب فكأنه يتكلم عن اليوم :
مدارك النَّظر في السّياسة بين التطبيقات الشّرعية والانفعالات الحَمَاسية
http://www.dd-sunnah.net/forum/showthread.php?t=174056

من مواضيعي في المنتدى
»» بدء بث إذاعة وتلفزيون سعودي بالفارسية لتغطية الحج
»» إذا تغلب الكفار بالإحتلال / العلامة محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله
»» تريد التبرع للسوريين باطمئنان ؟ هنا جهة رسمية مخولة لجمع التبرعات
»» باركوا لي فداء لأمي عائشة طردوني
»» هل عاصر الشيخ ابن عثيمين ما يسمى بثورات الربيع العربي ؟
 
قديم 03-09-17, 10:44 AM   رقم المشاركة : 2
مهذب
عضو ماسي






مهذب غير متصل

مهذب is on a distinguished road


.

تفريغ لكلام شيخ الإسلام -رحمه الله - في الملف السابق :


[مَسْأَلَةٌ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اُعْبُدُوا رَبَّكُمْ]

1060 - 36 وَسُئِلَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -:

عَنْ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة: 21] فَمَا الْعِبَادَةُ وَفُرُوعُهَا؟ وَهَلْ مَجْمُوعُ الدِّينِ دَاخِلٌ فِيهَا أَمْ لَا؟ وَمَا حَقِيقَةُ الْعُبُودِيَّةِ؟ وَهَلْ هِيَ أَعْلَى الْمَقَامَاتِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَمْ فَوْقَهَا شَيْءٌ مِنْ الْمَقَامَاتِ؟ وَلْيَبْسُطُوا لَنَا الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ.

فَأَجَابَ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ: " الْعِبَادَةُ " هِيَ اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ: مِنْ الْأَقْوَالِ، وَالْأَعْمَالِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ؛ فَالصَّلَاةُ، وَالزَّكَاةُ، وَالصِّيَامُ، وَالْحَجُّ، وَصِدْقُ الْحَدِيثِ، وَأَدَاءُ الْأَمَانَةِ، وَبِرُّ الْوَالِدَيْنِ، وَصِلَةُ الْأَرْحَامِ، وَالْوَفَاءُ بِالْعُهُودِ، وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ، وَالْجِهَادُ لِلْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ، وَالْإِحْسَانُ إلَى الْجَارِ، وَالْيَتِيمِ، وَالْمِسْكِينِ، وَابْنِ السَّبِيلِ، وَالْمَمْلُوكِ مِنْ الْآدَمِيِّينَ وَالْبَهَائِمِ، وَالدُّعَاءُ، وَالذِّكْرُ، وَالْقِرَاءَةُ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنْ الْعِبَادَةِ.
وَكَذَلِكَ حُبُّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَخَشْيَةُ اللَّهِ وَالْإِنَابَةُ إلَيْهِ، وَإِخْلَاصُ الدِّينِ لَهُ، وَالصَّبْرُ لِحُكْمِهِ، وَالشُّكْرُ لِنِعَمِهِ، وَالرِّضَا بِقَضَائِهِ، وَالتَّوَكُّلُ عَلَيْهِ، وَالرَّجَاءُ لِرَحْمَتِهِ، وَالْخَوْفُ
(5/154)
________________________________________
لِعَذَابِهِ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ هِيَ مِنْ الْعِبَادَةِ لِلَّهِ.
وَذَلِكَ أَنَّ الْعِبَادَةَ لِلَّهِ هِيَ الْغَايَةُ الْمَحْبُوبَةُ لَهُ، وَالْمَرَضِيَّةُ لَهُ، الَّتِي خَلَقَ الْخَلْقَ لَهَا.
كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] وَبِهَا أَرْسَلَ جَمِيعَ الرُّسُلِ، كَمَا قَالَ نُوحٌ لِقَوْمِهِ: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [المؤمنون: 23] .
وَكَذَلِكَ قَالَ هُودٌ، وَصَالِحٌ، وَشُعَيْبٌ، وَغَيْرُهُمْ لِقَوْمِهِمْ.
وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} [النحل: 36] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 92] كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون: 51] .
وَجَعَلَ ذَلِكَ لَازِمًا لِرَسُولِهِ إلَى الْمَوْتِ كَمَا قَالَ: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99] .
وَبِذَلِكَ وَصَفَ مَلَائِكَتَهُ وَأَنْبِيَاءَهُ فَقَالَ تَعَالَى: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ} [الأنبياء: 19] {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء: 20] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} [الأعراف: 206] وَذَمَّ الْمُسْتَكْبِرِينَ عَنْهَا بِقَوْلِهِ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60] .
(5/155)
________________________________________
وَنَعَتَ صَفْوَةَ خَلْقِهِ بِالْعُبُودِيَّةِ لَهُ فَقَالَ تَعَالَى: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} [الإنسان: 6] .
وَقَالَ: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان: 63] الْآيَاتِ.
وَلَمَّا قَالَ الشَّيْطَانُ: {بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 39] {إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [الحجر: 40] قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر: 42] .
وَقَالَ فِي وَصْفِ الْمَلَائِكَةِ بِذَلِكَ: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} [الأنبياء: 26] {لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء: 27] إلَى قَوْلِهِ: {وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء: 28] وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا} [مريم: 88] {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا} [مريم: 89] {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا} [مريم: 90] {أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا} [مريم: 91] {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا} [مريم: 92] {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا - لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا} [مريم: 93 - 94] {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم: 95] .
وَقَالَ تَعَالَى عَنْ الْمَسِيحِ - الَّذِي اُدُّعِيَتْ فِيهِ الْأُلُوهِيَّةُ وَالنُّبُوَّةُ - {إِنْ هُوَ إِلا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} [الزخرف: 59] .
وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ فَقُولُوا: عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ» .
وَقَدْ نَعَتَهُ اللَّهُ " بِالْعُبُودِيَّةِ " فِي أَكْمَلِ أَحْوَالِهِ فَقَالَ فِي الْإِسْرَاءِ: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا} [الإسراء: 1] وَقَالَ فِي الْإِيحَاءِ: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم: 10] وَقَالَ
(5/156)
________________________________________
فِي الدَّعْوَةِ: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} [الجن: 19] وَقَالَ فِي التَّحَدِّي: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة: 23] فَالدِّينُ كُلُّهُ دَاخِلٌ فِي الْعِبَادَةِ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: «أَنَّ جِبْرِيلَ لَمَّا جَاءَ إلَى النَّبِيِّ فِي صُورَةِ أَعْرَابِيٍّ وَسَأَلَهُ عَنْ الْإِسْلَامِ قَالَ: أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إنْ اسْتَطَعْت إلَيْهِ سَبِيلًا قَالَ: فَمَا الْإِيمَانُ؟ قَالَ: أَنْ تُؤْمِنَ بِاَللَّهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ قَالَ: فَمَا الْإِحْسَانُ؟ قَالَ: أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّك تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاك» ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ: «هَذَا جِبْرِيلُ جَاءَكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ» فَجَعَلَ هَذَا كُلَّهُ مِنْ الدِّينِ.
" وَالدِّينُ " يَتَضَمَّنُ مَعْنَى الْخُضُوعِ وَالذُّلِّ.
يُقَالُ: دِنْته فَدَانَ، أَيْ: ذَلَلْتُهُ فَذَلَّ، وَيُقَالُ يَدِينُ اللَّهَ؛ وَيَدِينُ لِلَّهِ أَيْ: يَعْبُدُ اللَّهَ وَيُطِيعُهُ وَيَخْضَعُ لَهُ، فَدِينُ اللَّهِ عِبَادَتُهُ وَطَاعَتُهُ وَالْخُضُوعُ لَهُ.
" وَالْعِبَادَةُ " أَصْلُ مَعْنَاهَا الذُّلُّ، أَيْضًا، يُقَالُ: طَرِيقٌ مُعَبَّدٌ إذَا كَانَ مُذَلَّلًا، قَدْ وَطِئَتْهُ الْأَقْدَامُ.
لَكِنَّ الْعِبَادَةَ الْمَأْمُورَ بِهَا تَتَضَمَّنُ مَعْنَى الذُّلَّ وَمَعْنَى الْحُبِّ، فَهِيَ تَتَضَمَّنُ غَايَةَ الذُّلِّ لِلَّهِ بِغَايَةِ الْمَحَبَّةِ لَهُ، فَإِنَّ آخِرَ مَرَاتِبِ الْحُبِّ هُوَ التَّتَيُّمُ، وَأَوَّلُهُ " الْعَلَاقَةُ " لِتَعَلُّقِ الْقَلْبِ بِالْمَحْبُوبِ، ثُمَّ " الصَّبَابَةُ " لِانْصِبَابِ الْقَلْبِ إلَيْهِ، ثُمَّ " الْغَرَامُ " وَهُوَ الْحُبُّ اللَّازِمُ لِلْقَلْبِ ثُمَّ " الْعِشْقُ " وَآخِرُهَا التَّتَيُّمُ " يُقَالُ: تَيْمُ اللَّهَ أَيْ: عَبْدُ اللَّهَ.
فَالْمُتَيَّمُ الْمُعَبَّدُ لِمَحْبُوبِهِ.
(5/157)
________________________________________
وَمَنْ خَضَعَ لِإِنْسَانٍ مَعَ بُغْضِهِ لَهُ لَا يَكُونُ عَابِدًا لَهُ، وَلَوْ أَحَبَّ شَيْئًا وَلَمْ يَخْضَعْ لَهُ لَمْ يَكُنْ عَابِدًا لَهُ، كَمَا قَدْ يُحِبُّ وَلَدَهُ وَصَدِيقَهُ، وَلِهَذَا لَا يَكْفِي أَحَدُهُمَا فِي عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى، بَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ أَحَبَّ إلَى الْعَبْدِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَأَنْ يَكُونَ اللَّهُ أَعْظَمَ عِنْدَهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، بَلْ لَا يَسْتَحِقُّ الْمَحَبَّةَ وَالذُّلَّ التَّامَّ إلَّا اللَّهُ.
وَكُلُّ مَا أُحِبَّ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَحَبَّتُهُ فَاسِدَةٌ، وَمَا عُظِّمَ بِغَيْرِ أَمْرِ اللَّهِ كَانَ تَعْظِيمُهُ بَاطِلًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [التوبة: 24] .
فَجِنْسُ الْمَحَبَّةِ تَكُونُ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، كَالطَّاعَةِ؛ فَإِنَّ الطَّاعَةَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْإِرْضَاءَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} [التوبة: 62] وَالْإِيتَاءَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} [التوبة: 59] .
وَأَمَّا " الْعِبَادَةُ " وَمَا يُنَاسِبُهَا مِنْ التَّوَكُّلِ؛ وَالْخَوْفِ؛ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَلَا يَكُونُ إلَّا لِلَّهِ وَحْدَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا} [آل عمران: 64] إلَى قَوْلِهِ: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64] قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} [التوبة: 59] فَالْإِيتَاءُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ كَقَوْلِهِ: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] .
وَأَمَّا الْحَسْبُ وَهُوَ الْكَافِي فَهُوَ اللَّهُ وَحْدَهُ.
كَمَا قَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173] .
وَقَالَ
(5/158)
________________________________________
تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 64] أَيْ حَسْبُك وَحَسْبُ مَنْ اتَّبَعَك اللَّهُ.
وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ الْمَعْنَى حَسْبُك اللَّهُ وَالْمُؤْمِنُونَ مَعَهُ فَقَدْ غَلِطَ غَلَطًا فَاحِشًا، كَمَا قَدْ بَسَطْنَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَقَالَ تَعَالَى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر: 36] .
" وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ " أَنَّ الْعَبْدَ يُرَادُ بِهِ " الْمُعَبَّدُ " الَّذِي عَبَّدَهُ اللَّهُ فَذَلَّلَهُ وَدَبَّرَهُ وَصَرَّفَهُ.
وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ: الْمَخْلُوقُونَ كُلُّهُمْ عِبَادُ اللَّهِ مِنْ الْأَبْرَارِ، وَالْفُجَّارِ، وَالْمُؤْمِنِينَ، وَالْكُفَّارِ، وَأَهْلِ الْجَنَّةِ، وَأَهْلِ النَّارِ، إذْ هُوَ رَبُّهُمْ كُلِّهِمْ وَمَلِيكُهُمْ، لَا يَخْرُجُونَ عَنْ مَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَكَلِمَاتِهِ التَّامَّاتِ الَّتِي لَا يُجَاوِزُهُنَّ بَرٌّ وَلَا فَاجِرٌ؛ فَمَا شَاءَ كَانَ وَإِنْ لَمْ يَشَاءُوا.
وَمَا شَاءُوا إنْ لَمْ يَشَأْهُ لَمْ يَكُنْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [آل عمران: 83] .
فَهُوَ سُبْحَانَهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَخَالِقُهُمْ، وَرَازِقُهُمْ، وَمُحْيِيهمْ، وَمُمِيتُهُمْ، وَمُقَلِّبُ قُلُوبِهِمْ، وَمُصَرِّفُ أُمُورِهِمْ، لَا رَبَّ لَهُمْ غَيْرُهُ، وَلَا مَالِكَ لَهُمْ سِوَاهُ، وَلَا خَالِقَ إلَّا هُوَ، سَوَاءٌ اعْتَرَفُوا بِذَلِكَ أَوْ نَكِرُوهُ، وَسَوَاءٌ عَلِمُوا ذَلِكَ أَوْ جَهِلُوهُ؛ لَكِنَّ أَهْلَ الْإِيمَانِ مِنْهُمْ عَرَفُوا ذَلِكَ وَاعْتَرَفُوا بِهِ، بِخِلَافِ مَنْ كَانَ جَاهِلًا بِذَلِكَ؛ أَوْ جَاحِدًا لَهُ مُسْتَكْبِرًا عَلَى رَبِّهِ، لَا يُقِرُّ وَلَا يَخْضَعُ لَهُ، مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّ اللَّهَ رَبُّهُ وَخَالِقُهُ.
فَالْمَعْرِفَةُ بِالْحَقِّ إذَا كَانَتْ مَعَ الِاسْتِكْبَارِ عَنْ قَبُولِهِ، وَالْجَحْدِ لَهُ كَانَ عَذَابًا عَلَى صَاحِبِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [النمل: 14] وَقَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 146] وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33] .
(5/159)
________________________________________
فَإِنْ اعْتَرَفَ الْعَبْدُ أَنَّ اللَّهَ رَبُّهُ وَخَالِقُهُ وَأَنَّهُ مُفْتَقِرٌ إلَيْهِ، مُحْتَاجٌ إلَيْهِ عَرَفَ الْعُبُودِيَّةَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِرُبُوبِيَّةِ اللَّهِ، وَهَذَا الْعَبْدُ يَسْأَلُ رَبَّهُ فَيَتَضَرَّعُ إلَيْهِ وَيَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ، لَكِنْ قَدْ يُطِيعُ أَمْرَهُ، وَقَدْ يَعْصِيهِ، وَقَدْ يَعْبُدُهُ مَعَ ذَلِكَ؛ وَقَدْ يَعْبُدُ الشَّيْطَانَ وَالْأَصْنَامَ.
وَمِثْلُ هَذِهِ الْعُبُودِيَّةِ لَا تُفَرِّقُ بَيْنَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَلَا يَصِيرُ بِهَا الرَّجُلُ مُؤْمِنًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 106] فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يُقِرُّونَ أَنَّ اللَّهَ خَالِقُهُمْ وَرَازِقُهُمْ وَهُمْ يَعْبُدُونَ غَيْرَهُ قَالَ تَعَالَى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: 25] وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [المؤمنون: 84] {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [المؤمنون: 85] إلَى قَوْلِهِ: {قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون: 89] .
وَكَثِيرٌ مِمَّنْ يَتَكَلَّمُ فِي الْحَقِيقَةِ وَيَشْهَدُهَا يَشْهَدُ هَذِهِ الْحَقِيقَةَ وَهِيَ " الْحَقِيقَةُ الْكَوْنِيَّةُ " الَّتِي يَشْتَرِكُ فِيهَا وَفِي شُهُودِهَا وَمَعْرِفَتِهَا الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ، وَالْبَرُّ وَالْفَاجِرُ، وَإِبْلِيسُ مُعْتَرِفٌ بِهَذِهِ الْحَقِيقَةِ؛ وَأَهْلُ النَّارِ.
قَالَ إبْلِيسُ: {رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الحجر: 36] وَقَالَ: {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 39] وَقَالَ: {فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 82] وَقَالَ: {أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ} [الإسراء: 62] وَأَمْثَالُ هَذَا مِنْ الْخِطَابِ الَّذِي يُقِرُّ فِيهِ بِأَنَّ اللَّهَ رَبُّهُ وَخَالِقُهُ وَخَالِقُ غَيْرِهِ؛ وَكَذَلِكَ أَهْلُ النَّارِ قَالُوا: {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ} [المؤمنون: 106] وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا} [الأنعام: 30] .
(5/160)
________________________________________
فَمَنْ وَقَفَ عِنْدَ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ، وَعِنْدَ شُهُودِهَا، وَلَمْ يَقُمْ بِمَا أُمِرَ بِهِ مِنْ الْحَقِيقَةِ الدِّينِيَّةِ الَّتِي هِيَ عِبَادَتُهُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِإِلَهِيَّتِهِ وَطَاعَةِ أَمْرِهِ وَأَمْرِ رَسُولِهِ كَانَ مِنْ جِنْسِ إبْلِيسَ وَأَهْلِ النَّارِ؛ وَإِنْ ظَنَّ مَعَ ذَلِكَ أَنَّهُ مِنْ خَوَاصِّ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَأَهْلِ الْمَعْرِفَةِ وَالتَّحْقِيقِ الَّذِينَ يَسْقُطُ عَنْهُمْ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ الشَّرْعِيَّانِ، كَانَ مِنْ أَشَرِّ أَهْلِ الْكُفْرِ وَالْإِلْحَادِ.
وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ الْخَضِرَ وَغَيْرَهُ سَقَطَ عَنْهُمْ الْأَمْرُ لِمُشَاهَدَةِ الْإِرَادَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ كَانَ قَوْلُهُ هَذَا مِنْ شَرِّ أَقْوَالِ الْكَافِرِينَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ، حَتَّى يَدْخُلَ فِي النَّوْعِ الثَّانِي " مِنْ مَعْنَى الْعَبْدِ وَهُوَ الْعَبْدُ بِمَعْنَى الْعَابِدِ، فَيَكُونُ عَابِدًا لِلَّهِ لَا يَعْبُدُ إلَّا إيَّاهُ؛ فَيُطِيعُ أَمْرَهُ وَأَمْرَ رُسُلِهِ، وَيُوَالِي أَوْلِيَاءَهُ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ؛ وَيُعَادِي أَعْدَاءَهُ، وَهَذِهِ الْعِبَادَةُ مُتَعَلِّقَةٌ بِإِلَهِيَّتِهِ، وَلِهَذَا كَانَ عُنْوَانُ التَّوْحِيدِ " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " بِخِلَافِ مَنْ يُقِرُّ بِرُبُوبِيَّتِهِ وَلَا يَعْبُدُهُ، أَوْ يَعْبُدُ مَعَهُ إلَهًا آخَرَ، فَالْإِلَهُ الَّذِي يَأْلَهُهُ الْقَلْبُ بِكَمَالِ الْحُبِّ، وَالتَّعْظِيمِ، وَالْإِجْلَالِ، وَالْإِكْرَامِ، وَالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَهَذِهِ الْعِبَادَةُ هِيَ الَّتِي يُحِبُّهَا اللَّهُ وَيَرْضَاهَا، وَبِهَا وَصَفَ الْمُصْطَفِينَ مِنْ عِبَادِهِ، وَبِهَا بَعَثَ رُسُلَهُ.
وَأَمَّا " الْعَبْدُ " بِمَعْنَى الْعَبْدِ سَوَاءٌ أَقَرَّ بِذَلِكَ أَوْ أَنْكَرَهُ؛ فَتِلْكَ يَشْتَرِكُ فِيهَا الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ.
وَبِالْفَرْقِ بَيْنَ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ يُعْرَفُ الْفَرْقُ بَيْنَ " الْحَقَائِقِ الدِّينِيَّةِ " الدَّاخِلَةِ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ وَدِينِهِ وَأَمْرِهِ الشَّرْعِيِّ الَّتِي يُحِبُّهَا وَيَرْضَاهَا، وَيُوَالِي أَهْلَهَا وَيُكْرِمُهُمْ بِجَنَّتِهِ، وَبَيْنَ " الْحَقَائِقِ الْكَوْنِيَّةِ " الَّتِي يَشْتَرِكُ فِيهَا الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ، وَالْبَرُّ، وَالْفَاجِرُ الَّتِي مَنْ اكْتَفَى بِهَا، وَلَمْ يَتَّبِعْ الْحَقَائِقَ الدِّينِيَّةَ كَانَ مِنْ أَتْبَاعِ إبْلِيسَ اللَّعِينِ، وَالْكَافِرِينَ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ، وَمَنْ اكْتَفَى بِهَا فِي بَعْضِ الْأُمُورِ دُونَ بَعْضٍ، أَوْ فِي مَقَامٍ، أَوْ حَالٍ، نَقَصَ مِنْ إيمَانِهِ وَوِلَايَتِهِ لِلَّهِ بِحَسَبِ مَا نَصَّ مِنْ الْحَقَائِقِ الدِّينِيَّةِ.
وَهَذَا مَقَامٌ عَظِيمٌ فِيهِ غَلِطَ الْغَالِطُونَ؛ وَكَثُرَ فِيهِ الِاشْتِبَاهُ عَلَى السَّالِكِينَ، حَتَّى زَلَقَ فِيهِ مِنْ أَكَابِرِ الشُّيُوخِ الْمُدَّعِينَ التَّحْقِيقَ وَالتَّوْحِيدَ وَالْعِرْفَانَ مَا لَا يُحْصِيهِمْ إلَّا اللَّهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ وَالْإِعْلَانَ؛ وَإِلَى هَذَا أَشَارَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِيمَا ذُكِرَ عَنْهُ، فَبَيَّنَ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ الرِّجَالِ إذَا وَصَلُوا إلَى الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ أَمْسَكُوا، إلَّا أَنَا فَإِنِّي
(5/161)
________________________________________
انْفَتَحَتْ لِي فِيهِ رَوْزَنَةٌ فَنَازَعْت أَقْدَارَ الْحَقِّ بِالْحَقِّ لِلْحَقِّ؛ وَالرَّجُلُ مَنْ يَكُونُ مُنَازِعًا لِلْقَدَرِ لَا مَنْ يَكُونُ مُوَافِقًا لِلْقَدَرِ.
وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هُوَ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ؛ لَكِنْ كَثِيرٌ مِنْ الرِّجَالِ غَلِطُوا، فَإِنَّهُمْ قَدْ يَشْهَدُونَ مَا يُقَدَّرُ عَلَى أَحَدِهِمْ مِنْ الْمَعَاصِي وَالذُّنُوبِ؛ أَوْ مَا يُقَدَّرُ عَلَى النَّاسِ مِنْ ذَلِكَ، بَلْ مِنْ الْكُفْرِ؛ وَيَشْهَدُونَ أَنَّ هَذَا جَارٍ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ دَاخِلٌ فِي حُكْمِ رُبُوبِيَّتِهِ، وَمُقْتَضَى مَشِيئَتِهِ، فَيَظُنُّونَ الِاسْتِسْلَامَ لِذَلِكَ وَمُوَافَقَتَهُ وَالرِّضَا بِهِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ، دِينًا وَطَرِيقًا وَعِبَادَةً؛ فَيُضَاهُونَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قَالُوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 148] وَقَالُوا: {أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} [يس: 47] وَقَالُوا: {لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} [الزخرف: 20] .
وَلَوْ هُدُوا لَعَلِمُوا أَنَّ الْقَدَرَ أَمَرَنَا أَنْ نَرْضَى بِهِ وَنَصْبِرَ عَلَى مُوجِبِهِ فِي الْمَصَائِبِ الَّتِي تُصِيبُنَا: كَالْفَقْرِ، وَالْمَرَضِ، وَالْخَوْفِ، قَالَ تَعَالَى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن: 11] .
قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: هُوَ الرَّجُلُ تُصِيبُهُ الْمُصِيبَةُ فَيَعْلَمُ أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَيَرْضَى وَيُسَلِّمُ.
وَقَالَ تَعَالَى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد: 22] {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} [الحديد: 23] .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: عَنْ النَّبِيِّ
أَنَّهُ قَالَ: «احْتَجَّ آدَم وَمُوسَى، فَقَالَ مُوسَى: أَنْتَ آدَم الَّذِي خَلَقَك اللَّهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيك مِنْ رُوحِهِ، وَأَسْجَدَ لَك مَلَائِكَتَهُ، وَعَلَّمَك أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ، فَلِمَاذَا أَخْرَجْتنَا وَنَفْسَك مِنْ الْجَنَّةِ؟ فَقَالَ آدَم: أَنْتَ مُوسَى الَّذِي
(5/162)
________________________________________
اصْطَفَاك اللَّهُ بِرِسَالَتِهِ وَبِكَلَامِهِ، فَهَلْ وَجَدْت ذَلِكَ مَكْتُوبًا عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَحَجَّ آدَم مُوسَى» .
وَآدَمُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمْ يَحْتَجَّ عَلَى مُوسَى بِالْقَدَرِ ظَنًّا أَنَّ الْمُذْنِبَ يَحْتَجُّ بِالْقَدَرِ، فَإِنَّ هَذَا لَا يَقُولُهُ مُسْلِمٌ وَلَا عَاقِلٌ، وَلَوْ كَانَ هَذَا عُذْرًا لَكَانَ عُذْرًا لَإِبْلِيسَ، وَقَوْمِ نُوحٍ، وَقَوْمِ هُودٍ، وَكُلِّ كَافِرٍ، وَلَا مُوسَى لَامَ آدَمَ أَيْضًا لِأَجْلِ الذَّنْبِ.
فَإِنَّ آدَمَ قَدْ تَابَ إلَى رَبِّهِ فَاجْتَبَاهُ وَهَدَى، وَلَكِنْ لَامَهُ لِأَجْلِ الْمُصِيبَةِ الَّتِي لَحِقَتْهُمْ بِالْخَطِيئَةِ.
وَلِهَذَا قَالَ: فَلِمَاذَا أَخْرَجْتنَا وَنَفْسَك مِنْ الْجَنَّةِ؟ فَأَجَابَهُ آدَم أَنَّ هَذَا كَانَ مَكْتُوبًا قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ، فَكَانَ الْعَمَلُ وَالْمُصِيبَةُ الْمُتَرَتِّبَةُ عَلَيْهِ مُقَدَّرًا، وَمَا قُدِّرَ مِنْ الْمَصَائِبِ يَجِبُ الِاسْتِسْلَامُ لَهُ، فَإِنَّهُ مِنْ تَمَامِ الرِّضَا بِاَللَّهِ رَبًّا.
وَأَمَّا الذُّنُوبُ فَلَيْسَ لِلْعَبْدِ أَنْ يُذْنِبَ، وَإِذَا أَذْنَبَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَغْفِرَ وَيَتُوبَ، فَيَتُوبُ مِنْ الْمَعَائِبِ وَيَصْبِرُ عَلَى الْمَصَائِبِ.
قَالَ تَعَالَى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [غافر: 55] وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} [آل عمران: 120] وَقَالَ: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [آل عمران: 186] وَقَالَ يُوسُفُ: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 90] .
وَكَذَلِكَ ذُنُوبُ الْعِبَادِ، يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ فِيهَا أَنْ يَأْمُرَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ - بِحَسَبِ قُدْرَتِهِ - وَيُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَيُوَالِيَ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ وَيُعَادِيَ أَعْدَاءَ اللَّهِ وَيُحِبَّ فِي اللَّهِ وَيُبْغِضَ فِي اللَّهِ.
كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} [الممتحنة: 1] إلَى قَوْلِهِ:
(5/163)
________________________________________
{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة: 4] .
وَقَالَ تَعَالَى: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة: 22] إلَى قَوْلِهِ: {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} [المجادلة: 22] .
وَقَالَ تَعَالَى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} [القلم: 35] وَقَالَ: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص: 28] وَقَالَ تَعَالَى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية: 21] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ - وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ - وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ} [فاطر: 19 - 21] {وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ} [فاطر: 22] وَقَالَ تَعَالَى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَجُلا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلا} [الزمر: 29] .
وَقَالَ تَعَالَى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} [النحل: 75] إلَى قَوْلِهِ: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ - وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} [النحل: 75 - 76] إلَى قَوْلِهِ: {وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [النحل: 76] .
وَقَالَ تَعَالَى: {لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} [الحشر: 20]
(5/164)
________________________________________
وَنَظَائِرُ ذَلِكَ مِمَّا يُفَرِّقُ اللَّهُ فِيهِ بَيْنَ أَهْلِ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَأَهْلِ الطَّاعَةِ وَأَهْلِ الْمَعْصِيَةِ، وَأَهْلِ الْبِرِّ، وَأَهْلِ الْفُجُورِ، وَأَهْلِ الْهُدَى وَالضَّلَالِ، وَأَهْلِ الْغَيِّ وَالرَّشَادِ، وَأَهْلِ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ.
فَمَنْ شَهِدَ " الْحَقِيقَةَ الْكَوْنِيَّةَ " دُونَ " الدِّينِيَّةِ " سَوَّى بَيْنَ هَذِهِ الْأَجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ الَّتِي فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهَا غَايَةَ التَّفْرِيقِ حَتَّى يَئُولَ بِهِ الْأَمْرُ إلَى أَنْ يُسَوِّيَ اللَّهَ بِالْأَصْنَامِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْهُمْ: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الشعراء: 97] {إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 98] بَلْ قَدْ آلَ الْأَمْرُ بِهَؤُلَاءِ إلَى أَنْ سَوَّوْا اللَّهَ بِكُلِّ مَوْجُودٍ، وَجَعَلُوا مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ الْعِبَادَةِ وَالطَّاعَةِ حَقًّا لِكُلِّ مَوْجُودٍ إذْ جَعَلُوهُ هُوَ وُجُودُ الْمَخْلُوقَاتِ، وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْكُفْرِ وَالْإِلْحَادِ بِرَبِّ الْعِبَادِ.
وَهَؤُلَاءِ يَصِلُ بِهِمْ الْكُفْرُ إلَى أَنَّهُمْ لَا يَشْهَدُونَ أَنَّهُمْ عِبَادٌ لَا بِمَعْنَى أَنَّهُمْ مُعْبِدُونَ، وَلَا بِمَعْنَى أَنَّهُمْ عَابِدُونَ: إذْ يَشْهَدُونَ أَنَّ أَنْفُسَهُمْ هِيَ الْحَقُّ، كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ طَوَاغِيتُهُمْ: كَابْنِ عَرَبِيٍّ صَاحِبِ " الْفُصُوصِ "، وَأَمْثَالِهِ مِنْ الْمُلْحِدِينَ الْمُفْتَرِينَ: كَابْنِ سَبْعِينَ، وَأَمْثَالِهِ، وَيَشْهَدُونَ أَنَّهُمْ هُمْ الْعَابِدُونَ وَالْمَعْبُودُونَ، وَهَذَا لَيْسَ بِشُهُودٍ لِحَقِيقَةٍ؛ لَا كَوْنِيَّةٍ وَلَا دِينِيَّةٍ؛ بَلْ هُوَ ضَلَالٌ، وَعَمًى عَنْ شُهُودِ الْحَقِيقَةِ الْكَوْنِيَّةِ، حَيْثُ جَعَلُوا وُجُودَ الْخَالِقِ هُوَ وُجُودُ الْمَخْلُوقِ، وَجَعَلُوا كُلَّ وَصْفٍ مَذْمُومٍ وَمَمْدُوحٍ نَعْتًا لِلْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ، إذْ وُجُودُ هَذَا هُوَ وُجُودُ هَذَا عِنْدَهُمْ.
وَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ، عَوَامُّهُمْ وَخَوَاصُّهُمْ، الَّذِينَ هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ لِلَّهِ أَهْلِينَ مِنْ النَّاسِ قِيلَ: مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: أَهْلُ الْقُرْآنِ هُمْ أَهْلُ اللَّهِ، وَخَاصَّتُهُ» .
فَهَؤُلَاءِ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكُهُ، وَخَالِقُهُ، وَأَنَّ الْخَالِقَ سُبْحَانَهُ مُبَايِنٌ لِلْمَخْلُوقِ، لَيْسَ هُوَ حَالًّا فِيهِ وَلَا مُتَّحِدًا بِهِ، وَلَا وُجُودُهُ وُجُودَهُ.
وَالنَّصَارَى كَفَّرَهُمْ اللَّهُ بِأَنْ قَالُوا بِالْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ بِالْمَسِيحِ خَاصَّةً، فَكَيْفَ مَنْ جَعَلَ ذَلِكَ عَامًّا فِي كُلِّ مَخْلُوقٍ؟ ،
(5/165)
________________________________________
وَيَعْلَمُونَ مَعَ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِطَاعَتِهِ، وَطَاعَةِ رَسُولِهِ، وَنَهَى عَنْ مَعْصِيَتِهِ، وَمَعْصِيَةِ رَسُولِهِ، وَأَنَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ، وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ، وَأَنَّ عَلَى الْخَلْقِ أَنْ يَعْبُدُوهُ فَيُطِيعُوا أَمْرَهُ، وَيَسْتَعِينُوا بِهِ عَلَى ذَلِكَ، كَمَا قَالَ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] .
وَمِنْ عِبَادَتِهِ وَطَاعَتِهِ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ - بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ - وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ لِأَهْلِ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ.
فَيَجْتَهِدُونَ فِي إقَامَةِ دِينِهِ، مُسْتَعِينِينَ بِهِ، دَافِعِينَ مُزِيلِينَ بِذَلِكَ مَا قُدِّرَ مِنْ السَّيِّئَاتِ، دَافِعِينَ بِذَلِكَ مَا قَدْ يُخَافُ مِنْ ذَلِكَ، كَمَا يُزِيلُ الْإِنْسَانُ الْجُوعَ الْحَاضِرَ بِالْأَكْلِ، وَيَدْفَعُ بِهِ الْجُوعَ الْمُسْتَقْبَلَ، وَكَذَلِكَ إذَا آنَ أَوَانُ الْبَرْدِ دَفَعَهُ بِاللِّبَاسِ.
وَكَذَلِكَ كُلُّ مَطْلُوبٍ يُدْفَعُ بِهِ مَكْرُوهٌ، كَمَا «قَالُوا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْت أَدْوِيَةً نَتَدَاوَى بِهَا، وَرُقًى نَسْتَرْقِي بِهَا، وَتُقَاةً نَتَّقِي بِهَا، هَلْ تَرُدُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ شَيْئًا؟ فَقَالَ: هِيَ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ» .
وَفِي الْحَدِيثِ «إنَّ الدُّعَاءَ وَالْبَلَاءَ لَيَلْتَقِيَانِ فَيَعْتَلِجَانِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ» فَهَذَا حَالُ الْمُؤْمِنِينَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ الْعَابِدِينَ لِلَّهِ وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ الْعِبَادَةِ.

وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ " الْحَقِيقَةَ الْكَوْنِيَّةَ " وَهِيَ رُبُوبِيَّتُهُ تَعَالَى لِكُلِّ شَيْءٍ، وَيَجْعَلُونَ ذَلِكَ مَانِعًا مِنْ اتِّبَاعِ أَمْرِهِ الدِّينِيِّ الشَّرْعِيِّ عَلَى مَرَاتِبَ فِي الضَّلَالِ.
فَغُلَاتُهُمْ يَجْعَلُونَ ذَلِكَ مُطْلَقًا عَامًّا، فَيَحْتَجُّونَ بِالْقَدَرِ فِي كُلِّ مَا يُخَالِفُونَ فِيهِ الشَّرِيعَةَ.
وَقَوْلُ هَؤُلَاءِ شَرٌّ مِنْ قَوْلِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَهُوَ مِنْ جِنْسِ قَوْلِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قَالُوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 148] وَقَالُوا: {لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} [الزخرف: 20] .
وَهَؤُلَاءِ مِنْ أَعْظَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ تَنَاقُضًا: بَلْ كُلُّ مَنْ احْتَجَّ بِالْقَدَرِ فَإِنَّهُ مُتَنَاقِضٌ، فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُقِرَّ كُلَّ آدَمِيٍّ عَلَى مَا فَعَلَ؛ فَلَا بُدَّ إذَا ظَلَمَهُ ظَالِمٌ أَوْ ظَلَمَ النَّاسَ ظَالِمٌ
(5/166)
________________________________________
وَسَعَى فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ وَأَخَذَ يَسْفِكُ دِمَاءَ النَّاسِ وَيَسْتَحِلُّ الْفُرُوجَ وَيُهْلِكُ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الضَّرَرِ الَّتِي لَا قِوَامَ لِلنَّاسِ بِهَا أَنْ يَدْفَعَ هَذَا الْقَدَرَ؛ وَأَنْ يُعَاقِبَ الظَّالِمَ بِمَا يَكُفُّ عُدْوَانَ أَمْثَالِهِ.
فَيُقَالُ لَهُ: إنْ كَانَ الْقَدَرُ حُجَّةً فَدَعْ كُلَّ أَحَدٍ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ بِك وَبِغَيْرِك، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حُجَّةً بَطَلَ أَصْلُ قَوْلِك: حُجَّةٌ.
وَأَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ [الَّذِينَ] يَحْتَجُّونَ بِالْحَقِيقَةِ الْكَوْنِيَّةِ لَا يَطْرُدُونَ هَذَا الْقَوْلَ وَلَا يَلْتَزِمُونَهُ، وَإِنَّمَا هُمْ بِحَسَبِ آرَائِهِمْ وَأَهْوَائِهِمْ؛ كَمَا قَالَ فِيهِمْ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: أَنْتَ عِنْدَ الطَّاعَةِ قَدَرِي، وَعِنْدَ الْمَعْصِيَةِ جَبْرِي؛ أَيُّ مَذْهَبٍ وَافَقَ هَوَاك تَمَذْهَبْتَ بِهِ.
وَمِنْهُمْ " صِنْفٌ " يَدَّعُونَ التَّحْقِيقَ وَالْمَعْرِفَةَ، فَيَزْعُمُونَ أَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ لَازِمٌ لِمَنْ شَهِدَ لِنَفْسِهِ فِعْلًا وَأَثْبَتَ لَهُ صُنْعًا؛ أَمَّا مَنْ شَهِدَ أَنَّ أَفْعَالَهُ مَخْلُوقَةٌ؛ أَوْ أَنَّهُ مَجْبُورٌ عَلَى ذَلِكَ؛ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُتَصَرِّفُ فِيهِ.
كَمَا تُحَرَّكُ سَائِرُ الْمُتَحَرِّكَاتِ، فَإِنَّهُ يَرْتَفِعُ عَنْهُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ.
وَقَدْ يَقُولُونَ: مَنْ شَهِدَ " الْإِرَادَةَ " سَقَطَ عَنْهُ التَّكْلِيفُ، وَيَزْعُمُ أَحَدُهُمْ أَنَّ الْخَضِرَ سَقَطَ عَنْهُ التَّكْلِيفُ لِشُهُودِهِ الْإِرَادَةَ، فَهَؤُلَاءِ لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ الَّذِينَ شَهِدُوا الْحَقِيقَةَ الْكَوْنِيَّةَ، فَشَهِدُوا أَنَّ اللَّهَ خَالِقٌ أَفْعَالَ الْعِبَادِ، وَأَنَّهُ يُدَبِّرُ جَمِيعَ الْكَائِنَاتِ، وَقَدْ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ مَنْ يَعْلَمُ ذَلِكَ عِلْمًا وَبَيْنَ مَنْ يَرَاهُ شُهُودًا، فَلَا يُسْقِطُونَ التَّكْلِيفَ عَمَّنْ يُؤْمِنُ بِذَلِكَ وَيَعْلَمُهُ فَقَطْ، وَلَكِنْ عَمَّنْ يَشْهَدُهُ، فَلَا يَرَى لِنَفْسِهِ فِعْلًا أَصْلًا، وَهَؤُلَاءِ لَا يَجْعَلُونَ الْجَبْرَ وَإِثْبَاتَ الْقَدَرِ مَانِعًا مِنْ التَّكْلِيفِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ.
وَقَدْ وَقَعَ فِي هَذَا طَوَائِفُ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى التَّحْقِيقِ وَالْمَعْرِفَةِ وَالتَّوْحِيدِ.
وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ ضَاقَ نِطَاقُهُمْ عَنْ كَوْنِ الْعَبْدِ يُؤْمَرُ بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ خِلَافُهُ، كَمَا ضَاقَ نِطَاقُ الْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ مِنْ الْقَدَرِيَّةِ عَنْ ذَلِكَ، ثُمَّ الْمُعْتَزِلَةُ أَثْبَتَتْ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ الشَّرْعِيَّيْنِ دُونَ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ الَّذِي هُوَ إرَادَةُ اللَّهِ الْعَامَّةُ وَخَلْقُهُ لِأَفْعَالِ الْعِبَادِ، وَهَؤُلَاءِ أَثْبَتُوا الْقَضَاءَ وَالْقَدَرَ وَنَفَوْا الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ فِي حَقِّ مَنْ شَهِدَ الْقَدَرَ، إذْ لَمْ يُمْكِنْهُمْ نَفْيُ ذَلِكَ مُطْلَقًا.
وَقَوْلُ هَؤُلَاءِ شَرٌّ مِنْ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ فِي السَّلَفِ مِنْ هَؤُلَاءِ أَحَدٌ، وَهَؤُلَاءِ يَجْعَلُونَ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ لِلْمَحْجُوبِينَ الَّذِينَ لَمْ يَشْهَدُوا هَذِهِ الْحَقِيقَةَ
(5/167)
________________________________________
الْكَوْنِيَّةَ، وَلِهَذَا يَجْعَلُونَ مَنْ وَصَلَ إلَى شُهُودِ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ يَسْقُطُ عَنْهُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ، وَصَارَ مِنْ الْخَاصَّةِ.
وَرُبَّمَا تَأَوَّلُوا عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99] وَجَعَلُوا الْيَقِينَ هُوَ مَعْرِفَةُ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ، وَقَوْلُ هَؤُلَاءِ كُفْرٌ صَرِيحٌ، وَإِنْ وَقَعَ فِيهِ طَوَائِفُ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ كُفْرٌ؛ فَإِنَّهُ قَدْ عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ أَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ لَازِمٌ لِكُلِّ عَبْدٍ مَا دَامَ عَقْلُهُ حَاضِرًا إلَى أَنْ يَمُوتَ، لَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ لَا بِشُهُودِهِ الْقَدَرَ، وَلَا بِغَيْرِ ذَلِكَ، فَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ ذَلِكَ عُرِّفَهُ، وَبُيِّنَ لَهُ، فَإِنْ أَصَرَّ عَلَى اعْتِقَادِ سُقُوطِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ، وَقَدْ كَثُرَتْ مِثْلُ هَذِهِ الْمَقَالَاتِ فِي الْمُسْتَأْخِرِينَ.
وَأَمَّا الْمُسْتَقْدِمُونَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، فَلَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْمَقَالَاتُ مَعْرُوفَةً فِيهِمْ.
وَهَذِهِ الْمَقَالَاتُ هِيَ مُحَادَةٌ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمُعَادَاةٌ لَهُ، وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِهِ، وَمُشَاقَّةٌ لَهُ، وَتَكْذِيبٌ لِرُسُلِهِ؛ وَمُضَادَّةٌ لَهُ فِي حُكْمِهِ، وَإِنْ كَانَ مَنْ يَقُولُ هَذِهِ الْمَقَالَاتِ قَدْ يَجْهَلُ ذَلِكَ، وَيَعْتَقِدُ أَنَّ هَذَا الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ هُوَ طَرِيقُ الرَّسُولِ، وَطَرِيقُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُحَقِّقِينَ؛ فَهُوَ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ؛ لِاسْتِغْنَائِهِ عَنْهَا بِمَا حَصَلَ لَهُ مِنْ الْأَحْوَالِ الْقَلْبِيَّةِ، أَوْ أَنَّ الْخَمْرَ حَلَالٌ لَهُ لِكَوْنِهِ مِنْ الْخَوَاصِّ الَّذِينَ لَا يَضُرُّهُمْ شُرْبُ الْخَمْرِ؛ أَوْ أَنَّ الْفَاحِشَةَ حَلَالٌ لَهُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ كَالْبَحْرِ لَا تُكَدِّرُهُ الذُّنُوبُ؛ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كَذَّبُوا الرُّسُلَ يَتَرَدَّدُونَ بَيْنَ الْبِدْعَةِ الْمُخَالِفَةِ لِشَرْعِ اللَّهِ؛ وَبَيْنَ الِاحْتِجَاجِ بِالْقَدَرِ عَلَى مُخَالَفَةِ أَمْرِ اللَّهِ؛ فَهَؤُلَاءِ الْأَصْنَافُ فِيهِمْ شَبَهٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ، إمَّا أَنْ يَبْتَدِعُوا، وَإِمَّا أَنْ يَحْتَجُّوا بِالْقَدَرِ، وَإِمَّا أَنْ يَجْمَعُوا بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْ الْمُشْرِكِينَ: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 28] وَكَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْهُمْ: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 148] .
(5/168)
________________________________________
وَقَدْ ذَكَرَ عَنْ الْمُشْرِكِينَ مَا ابْتَدَعُوهُ مِنْ الدِّينِ الَّذِي فِيهِ تَحْلِيلُ الْحَرَامِ، وَالْعِبَادَةُ الَّتِي لَمْ يُشَرِّعْهَا اللَّهُ بِمِثْلٍ قَوْله تَعَالَى: {وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُهَا إِلا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ} [الأنعام: 138] إلَى آخِرِ السُّورَةِ.
وَكَذَلِكَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ فِي قَوْلِهِ: {يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ} [الأعراف: 27] إلَى قَوْلِهِ: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} [الأعراف: 28] إلَى قَوْلِهِ: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 29] إلَى قَوْلِهِ: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31] {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32] إلَى قَوْلِهِ: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33] .
وَهَؤُلَاءِ قَدْ يُسَمُّونَ مَا أَحْدَثُوهُ مِنْ الْبِدَعِ " حَقِيقَةً "، كَمَا يُسَمُّونَ مَا يَشْهَدُونَ مِنْ الْقَدَرِ " حَقِيقَةً ".
وَطَرِيقُ الْحَقِيقَةِ عِنْدَهُمْ هُوَ السُّلُوكُ الَّذِي لَا يَتَقَيَّدُ صَاحِبُهُ بِأَمْرِ الشَّارِعِ وَنَهْيِهِ، وَلَكِنْ بِمَا يَرَاهُ وَيَذُوقُهُ وَيَجِدُهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَهَؤُلَاءِ لَا يَحْتَجُّونَ بِالْقَدَرِ مُطْلَقًا، بَلْ عُمْدَتُهُمْ اتِّبَاعُ آرَائِهِمْ وَأَهْوَائِهِمْ، وَجَعْلُهُمْ لِمَا يَرَوْنَهُ وَيَهْوُونَهُ حَقِيقَةً، وَأَمْرُهُمْ بِاتِّبَاعِهَا دُونَ اتِّبَاعِ أَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، نَظِيرُ بِدَعِ أَهْلِ الْكَلَامِ مِنْ الْجَهْمِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ، الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَا ابْتَدَعُوهُ مِنْ الْأَقْوَالِ الْمُخَالِفَةِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ حَقَائِقَ عَقْلِيَّةً يَجِبُ اعْتِقَادُهَا.
دُونَ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ السَّمْعِيَّاتُ، ثُمَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ إمَّا أَنْ يُحَرِّفُوهُ عَنْ مَوَاضِعِهِ، وَإِمَّا أَنْ يُعْرِضُوا عَنْهُ بِالْكُلِّيَّةِ، فَلَا يَتَدَبَّرُونَهُ وَلَا يَعْقِلُونَهُ، بَلْ يَقُولُونَ: نُفَوِّضُ مَعْنَاهُ إلَى اللَّهِ، مَعَ اعْتِقَادِهِمْ نَقِيضَ مَدْلُولِهِ.
وَإِذَا حُقِّقَ عَلَى هَؤُلَاءِ مَا يَزْعُمُونَهُ مِنْ الْعَقْلِيَّاتِ الْمُخَالِفَةِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَجَدْتَ جَهْلِيَّاتٍ وَاعْتِقَادَاتٍ فَاسِدَةً.
وَكَذَلِكَ أُولَئِكَ إذَا حُقِّقَ عَلَيْهِمْ مَا يَزْعُمُونَهُ مِنْ حَقَائِقِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُخَالِفَةِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَجَدْتَ مِنْ الْأَهْوَاءِ الَّتِي يَتَّبِعُهَا أَعْدَاءُ اللَّهِ لَا أَوْلِيَاؤُهُ.
وَأَصْلُ ضَلَالِ مَنْ ضَلَّ هُوَ بِتَقْدِيمِ قِيَاسِهِ عَلَى النَّصِّ الْمُنَزَّلِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ،
(5/169)
________________________________________
وَاخْتِيَارِهِ الْهَوَى عَلَى اتِّبَاعِ أَمْرِ اللَّهِ، فَإِنَّ الذَّوْقَ وَالْوَجْدَ وَنَحْوَ ذَلِكَ هُوَ بِحَسَبِ مَا يُحِبُّهُ الْعَبْدُ، فَكُلُّ مُحِبٍّ لَهُ ذَوْقٌ وَوَجْدٌ بِحَسَبِ مَحَبَّتِهِ، فَأَهْلُ الْإِيمَانِ لَهُمْ مِنْ الذَّوْقِ وَالْوَجْدِ مِثْلُ مَا بَيَّنَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَمَنْ كَانَ يُحِبُّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إلَّا لِلَّهِ، وَمَنْ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ» .
وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاَللَّهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا» .
وَأَمَّا أَهْلُ الْكُفْرِ وَالْبِدَعِ وَالشَّهَوَاتِ فَكُلٌّ بِحَسْبِهِ، قِيلَ لِسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ: مَا بَالُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ لَهُمْ مَحَبَّةٌ شَدِيدَةٌ لِأَهْوَائِهِمْ؟ ، فَقَالَ: أَنَسِيتَ قَوْله تَعَالَى: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} [البقرة: 93] أَوْ نَحْوَ هَذَا مِنْ الْكَلَامِ؟ ، فَعُبَّادُ الْأَصْنَامِ يُحِبُّونَ آلِهَتَهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: 165] وَقَالَ: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} [القصص: 50] .
وَقَالَ: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [النجم: 23] وَلِهَذَا يَمِيلُ هَؤُلَاءِ إلَى سَمَاعِ الشِّعْرِ وَالْأَصْوَاتِ الَّتِي تُهَيِّجُ الْمَحَبَّةَ الْمُطَلَّقَةَ الَّتِي لَا تَخْتَصُّ بِأَهْلِ الْإِيمَانِ، بَلْ يَشْتَرِكُ فِيهَا مُحِبُّ الرَّحْمَنِ، وَمُحِبُّ الْأَوْثَانِ، وَمُحِبُّ الصُّلْبَانِ وَمُحِبُّ الْأَوْطَانِ، وَمُحِبُّ الْإِخْوَانِ، وَمُحِبُّ الْمُرْدَانِ، وَمُحِبُّ النِّسْوَانِ.
وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَتْبَعُونَ أَذْوَاقَهُمْ وَمَوَاجِيدَهُمْ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارٍ لِذَلِكَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَمَا كَانَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ.
فَالْمُخَالِفُ لِمَا بُعِثَ بِهِ رَسُولُهُ مِنْ عِبَادَتِهِ وَطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ لَا يَكُونُ مُتَّبِعًا
(5/170)
________________________________________
لِدِينٍ شَرَعَهُ اللَّهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الجاثية: 18] {إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [الجاثية: 19] إلَى قَوْلِهِ: {وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} [الجاثية: 19] .
بَلْ يَكُونُ مُتَّبِعًا لِهَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ قَالَ تَعَالَى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21] وَهُمْ فِي ذَلِكَ تَارَةً يَكُونُونَ عَلَى بِدْعَةٍ يُسَمُّونَهَا حَقِيقَةً يُقَدِّمُونَهَا عَلَى مَا شَرَعَهُ اللَّهُ، وَتَارَةً يَحْتَجُّونَ بِالْقَدَرِ الْكَوْنِيِّ عَلَى الشَّرِيعَةِ، كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ عَنْ الْمُشْرِكِينَ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَمِنْ هَؤُلَاءِ طَائِفَةٌ هُمْ أَعْلَاهُمْ قَدْرًا وَهُمْ مُسْتَمْسِكُونَ بِالدِّينِ فِي أَدَاءِ الْفَرَائِضِ الْمَشْهُورَةِ، وَاجْتِنَابِ الْمُحَرَّمَاتِ الْمَشْهُورَةِ، لَكِنْ يَغْلَطُونَ فِي تَرْكِ مَا أُمِرُوا بِهِ مِنْ الْأَسْبَابِ الَّتِي هِيَ عِبَادَةٌ، ظَانِّينَ أَنَّ الْعَارِفَ إذَا شَهِدَ " الْقَدَرَ " أُعْرَضَ عَنْ ذَلِكَ.
مِثْلُ مَنْ يَجْعَلُ التَّوَكُّلَ مِنْهُمْ، أَوْ الدُّعَاءَ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ مَقَامَاتِ الْعَامَّةِ دُونَ الْخَاصَّةِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَنْ شَهِدَ الْقَدَرَ عَلِمَ أَنَّ مَا قُدِّرَ سَيَكُونُ، فَلَا حَاجَةَ إلَى ذَلِكَ، وَهَذَا غَلَطٌ عَظِيمٌ.
فَإِنَّ اللَّهَ قَدَّرَ الْأَشْيَاءَ بِأَسْبَابِهَا كَمَا قَدَّرَ السَّعَادَةَ وَالشَّقَاوَةَ بِأَسْبَابِهَا.
كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ اللَّهَ خَلَقَ لِلْجَنَّةِ أَهْلًا خَلَقَهَا لَهُمْ وَهُمْ فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ، وَبِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَعْمَلُونَ» .
وَكَمَا «قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا أَخْبَرَهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْمَقَادِيرَ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَلَا نَدَعُ الْعَمَلَ وَنَتَّكِلُ عَلَى الْكِتَابِ؟ فَقَالَ: لَا. اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ، أَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَسَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ فَسَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ» .
فَمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ مِنْ الْأَسْبَابِ فَهُوَ عِبَادَةٌ وَالتَّوَكُّلُ مَقْرُونٌ بِالْعِبَادَةِ كَمَا فِي
(5/171)
________________________________________
قَوْله تَعَالَى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود: 123] وَفِي قَوْلِهِ: {قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} [الرعد: 30] .
وَقَوْلِ شُعَيْبٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88] وَمِنْهُمْ طَائِفَةٌ قَدْ تَتْرُكُ الْمُسْتَحَبَّاتِ مِنْ الْأَعْمَالِ دُونَ الْوَاجِبَاتِ، فَتُنْقَصُ بِقَدْرِ ذَلِكَ.
وَمِنْهُمْ طَائِفَةٌ يَغْتَرُّونَ بِمَا يَحْصُلُ لَهُمْ مِنْ خَرْقِ عَادَةٍ مِثْلِ مُكَاشَفَةٍ، أَوْ اسْتِجَابَةِ دَعْوَةٍ مُخَالِفَةٍ لِلْعَادَةِ الْعَامَّةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَيَشْتَغِلُ أَحَدُهُمْ عَمَّا أُمِرَ بِهِ مِنْ الْعِبَادَةِ وَالشُّكْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
فَهَذِهِ الْأُمُورُ وَنَحْوُهَا كَثِيرًا مَا تَعْرِضُ لِأَهْلِ السُّلُوكِ وَالتَّوَجُّهِ؛ وَإِنَّمَا يَنْجُو الْعَبْدُ مِنْهَا بِمُلَازَمَةِ أَمْرِ اللَّهِ الَّذِي بَعَثَ بِهِ رَسُولَهُ فِي كُلِّ وَقْتٍ.
كَمَا قَالَ الزُّهْرِيُّ: كَانَ مَنْ مَضَى مِنْ سَلَفِنَا يَقُولُونَ: الِاعْتِصَامُ بِالسُّنَّةِ نَجَاةٌ.
وَذَلِكَ أَنَّ السُّنَّةَ - كَمَا قَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِثْلُ سَفِينَةِ نُوحٍ مَنْ رَكِبَهَا نَجَا، وَمَنْ تَخَلَّفَ عَنْهَا غَرِقَ.

وَالْعِبَادَةُ وَالطَّاعَةُ وَالِاسْتِقَامَةُ وَلُزُومُ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْمَاءِ مَقْصُودُهَا وَاحِدٌ وَلَهَا أَصْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَلَا يُعْبَدَ إلَّا اللَّهُ.
" وَالثَّانِي ": أَنْ يُعْبَدَ بِمَا أَمَرَ وَشَرَعَ، لَا بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْبِدَعِ.
قَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110] وَقَالَ تَعَالَى: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 112] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلا} [النساء: 125] .
فَالْعَمَلُ الصَّالِحُ هُوَ الْإِحْسَانُ، وَهُوَ فِعْلُ الْحَسَنَاتِ، " وَالْحَسَنَاتُ " هِيَ مَا أَحَبَّهُ
(5/172)
________________________________________
اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَهُوَ مَا أُمِرَ بِهِ أَمْرَ إيجَابٍ أَوْ اسْتِحْبَابٍ، فَمَا كَانَ مِنْ الْبِدَعِ فِي الدِّينِ الَّتِي لَيْسَتْ مَشْرُوعَةً فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّهَا وَلَا رَسُولُهُ، فَلَا تَكُونُ مِنْ الْحَسَنَاتِ وَلَا مِنْ الْعَمَلِ الصَّالِحِ، كَمَا أَنَّ مَنْ يَعْمَلُ مَا لَا يَجُوزُ كَالْفَوَاحِشِ، وَالظُّلْمِ لَيْسَ مِنْ الْحَسَنَاتِ، وَلَا مِنْ الْعَمَلِ الصَّالِحِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110] وَقَوْلُهُ: {أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} [البقرة: 112] فَهُوَ إخْلَاصُ الدِّينِ لِلَّهِ وَحْدَهُ، وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَقُولُ: اللَّهُمَّ اجْعَلْ عَمَلِي كُلَّهُ صَالِحًا وَاجْعَلْهُ لِوَجْهِك خَالِصًا، وَلَا تَجْعَلْ لِأَحَدٍ فِيهِ شَيْئًا.
وَقَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ فِي قَوْلِهِ: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا} [الملك: 2] قَالَ: أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ.
قَالُوا: يَا أَبَا عَلِيٍّ مَا أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ؟ قَالَ: إنَّ الْعَمَلَ إذَا كَانَ خَالِصًا وَلَمْ يَكُنْ صَوَابًا لَمْ يُقْبَلْ، وَإِذَا كَانَ صَوَابًا وَلَمْ يَكُنْ خَالِصًا لَمْ يُقْبَلْ، حَتَّى يَكُونَ خَالِصًا صَوَابًا، وَالْخَالِصُ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ، وَالصَّوَابُ أَنْ يَكُونَ عَلَى السُّنَّةِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا كَانَ جَمِيعُ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ دَاخِلًا فِي اسْمِ الْعِبَادَةِ فَلِمَاذَا عَطَفَ عَلَيْهَا غَيْرَهَا؛ كَقَوْلِهِ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] وَقَوْلِهِ: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود: 123] وَقَوْلِ نُوحٍ: {اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} [نوح: 3] وَكَذَلِكَ قَوْلُ غَيْرِهِ مِنْ الرُّسُلِ، قِيلَ هَذَا لَهُ نَظَائِرُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45] وَالْفَحْشَاءُ مِنْ الْمُنْكَرِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ} [النحل: 90] وَإِيتَاءُ ذِي الْقُرْبَى هُوَ مِنْ الْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ، كَمَا أَنَّ الْفَحْشَاءَ وَالْبَغْيَ مِنْ الْمُنْكَرِ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ:
(5/173)
________________________________________
{وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ} [الأعراف: 170] وَإِقَامَةُ الصَّلَاةِ مِنْ أَعْظَمِ التَّمَسُّكِ بِالْكِتَابِ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} [الأنبياء: 90] وَدُعَاؤُهُمْ رَغَبًا وَرَهَبًا مِنْ الْخَيْرَاتِ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ.
وَهَذَا الْبَابُ يَكُونُ تَارَةً مَعَ كَوْنِ أَحَدِهِمَا بَعْضَ الْآخَرِ، فَيُعْطَفُ عَلَيْهِ تَخْصِيصًا لَهُ بِالذِّكْرِ لِكَوْنِهِ مَطْلُوبًا بِالْمَعْنَى الْعَامِّ، وَالْمَعْنَى الْخَاصِّ، وَتَارَةً تَكُونُ دَلَالَةُ الِاسْمِ تَتَنَوَّعُ بِحَالِ الِانْفِرَادِ وَالِاقْتِرَانِ، فَإِذَا أَفْرَدَ عَمَّ، وَإِذَا قَرَنَ بِغَيْرِهِ خَصَّ، كَاسْمِ " الْفَقِيرِ " " وَالْمِسْكِينِ " لَمَّا أَفْرَدَ أَحَدَهُمَا فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة: 273] وَقَوْلِهِ: {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة: 89] دَخَلَ فِيهِ الْآخَرُ، وَلَمَّا قَرَنَ بَيْنَهُمَا فِي قَوْلِهِ: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60] صَارَا نَوْعَيْنِ.
وَقَدْ قِيلَ: إنَّ الْخَاصَّ الْمَعْطُوفَ عَلَى الْعَامِّ لَا يَدْخُلُ فِي الْعَامِّ حَالَ الِاقْتِرَانِ؛ بَلْ يَكُونُ مِنْ هَذَا الْبَابِ.
وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ هَذَا لَيْسَ لَازِمًا قَالَ تَعَالَى: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة: 98] وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [الأحزاب: 7] .
وَذِكْرُ الْخَاصِّ مَعَ الْعَامِّ يَكُونُ لِأَسْبَابٍ مُتَنَوِّعَةٍ: تَارَةً لِكَوْنِهِ لَهُ خَاصِّيَّةٌ لَيْسَتْ لِسَائِرِ أَفْرَادِ الْعَامِّ؛ كَمَا فِي نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى.
وَتَارَةً لِكَوْنِ الْعَامِّ فِيهِ إطْلَاقٌ قَدْ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ الْعُمُومُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ - وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} [البقرة: 3 - 4] فَقَوْلُهُ: {يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة: 3] يَتَنَاوَلُ الْغَيْبَ الَّذِي يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ؛ لَكِنْ فِيهِ إجْمَالٌ فَلَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ مِنْ الْغَيْبِ مَا أُنْزِلَ إلَيْك وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِك. وَقَدْ
(5/174)
________________________________________
يَكُونُ الْمَقْصُودُ أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِالْمُخْبَرِ بِهِ وَهُوَ الْغَيْبُ، وَبِالْإِخْبَارِ بِالْغَيْبِ، وَهُوَ مَا أُنْزِلَ إلَيْك وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِك.
وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْله تَعَالَى: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ} [العنكبوت: 45] وَقَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ} [الأعراف: 170] " وَتِلَاوَةُ الْكِتَابِ " هِيَ اتِّبَاعُهُ، كَمَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي قَوْله تَعَالَى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ} [البقرة: 121] قَالَ: يُحَلِّلُونَ حَلَالَهُ، وَيُحَرِّمُونَ حَرَامَهُ، وَيُؤْمِنُونَ بِمُتَشَابِهِهِ وَيَعْمَلُونَ بِمُحْكَمِهِ، فَاتِّبَاعُ الْكِتَابِ يَتَنَاوَلُ الصَّلَاةَ وَغَيْرَهَا، لَكِنْ خَصَّهَا بِالذِّكْرِ لِمَزِيَّتِهَا، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ لِمُوسَى: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14] وَإِقَامَةُ الصَّلَاةِ لِذِكْرِهِ مِنْ أَجَلِّ عِبَادَتِهِ، وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا} [الأحزاب: 70] وَقَوْلُهُ: {اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة: 35] وَقَوْلُهُ: {اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119] فَإِنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ هِيَ أَيْضًا مِنْ تَمَامِ تَقْوَى اللَّهِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود: 123] فَإِنَّ التَّوَكُّلَ وَالِاسْتِعَانَةَ هِيَ مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ؛ لَكِنْ خُصَّتْ بِالذِّكْرِ لِيَقْصِدَهَا الْمُتَعَبِّدُ بِخُصُوصِهَا؛ فَإِنَّهَا هِيَ الْعَوْنُ عَلَى سَائِرِ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ إذْ هُوَ سُبْحَانَهُ لَا يُعْبَدُ إلَّا بِمَعُونَتِهِ.
إذَا تَبَيَّنَ هَذَا فَكَمَالُ الْمَخْلُوقِ فِي تَحْقِيقِ عُبُودِيَّتِهِ لِلَّهِ، وَكُلَّمَا ازْدَادَ الْعَبْدُ تَحْقِيقًا لِلْعُبُودِيَّةِ ازْدَادَ كَمَالُهُ وَعَلَتْ دَرَجَتُهُ، وَمَنْ تَوَهَّمَ أَنَّ الْمَخْلُوقَ يَخْرُجُ عَنْ الْعُبُودِيَّةِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ، أَوْ أَنَّ الْخُرُوجَ عَنْهَا أَكْمَلُ فَهُوَ مِنْ أَجْهَلِ الْخَلْقِ وَأَضَلِّهِمْ.
قَالَ تَعَالَى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} [الأنبياء: 26] {لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء: 27] إلَى قَوْلِهِ: {وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء: 28] وَقَالَ
(5/175)
________________________________________
تَعَالَى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا} [مريم: 88] {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا} [مريم: 89] إلَى قَوْلِهِ: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا - لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا} [مريم: 93 - 94] {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم: 95] .
وَقَالَ تَعَالَى فِي الْمَسِيحِ: {إِنْ هُوَ إِلا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} [الزخرف: 59] وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ} [الأنبياء: 19] {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء: 20] وَقَالَ تَعَالَى: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا} [النساء: 172] إلَى قَوْلِهِ: {وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا} [النساء: 173] وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60]
وَقَالَ تَعَالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصلت: 37] {فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ} [فصلت: 38] وَقَالَ تَعَالَى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً} [الأعراف: 205] إلَى قَوْلِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} [الأعراف: 206] .
وَهَذَا وَنَحْوُهُ مِمَّا فِيهِ وَصْفُ أَكَابِرِ الْمَخْلُوقَاتِ بِالْعِبَادَةِ وَذَمُّ مَنْ خَرَجَ عَنْ ذَلِكَ مُتَعَدِّدٌ فِي الْقُرْآنِ، وَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ أَرْسَلَ جَمِيعَ الرُّسُلِ بِذَلِكَ.
فَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25] وَقَالَ: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36] وَقَالَ تَعَالَى لِبَنِي
(5/176)
________________________________________
إسْرَائِيلَ: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} [العنكبوت: 56] {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} [البقرة: 41] وَقَالَ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21] وَقَالَ: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} [الزمر: 11] {وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} [الزمر: 12] {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الزمر: 13] {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي} [الزمر: 14] {فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} [الزمر: 15] .
وَكُلُّ رَسُولٍ مِنْ الرُّسُلِ افْتَتَحَ دَعْوَتَهُ بِالدُّعَاءِ إلَى عِبَادَةِ اللَّهِ كَقَوْلِ نُوحٍ وَمَنْ بَعْدَهُ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ -: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [المؤمنون: 23] .
وَفِي الْمُسْنَدِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «بُعِثْت بِالسَّيْفِ بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ حَتَّى يُعْبَدَ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي، وَجُعِلَ الذِّلَّةُ وَالصِّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي» .
وَقَدْ بَيَّنَ أَنَّ عِبَادَهُ هُمْ الَّذِينَ يَنْجُونَ مِنْ السَّيِّئَاتِ قَالَ الشَّيْطَانُ: {بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 39] {إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [الحجر: 40] قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر: 42] وَقَالَ: {فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 82] {إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص: 83] وَقَالَ فِي حَقِّ يُوسُفَ: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف: 24] وَقَالَ: {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ - إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} [الصافات: 159 - 160]
وَقَالَ: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ - إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل: 99 - 100]
(5/177)
________________________________________
وَبِهَا نَعَتَ كُلَّ مَنْ اصْطَفَى مِنْ خَلْقِهِ كَقَوْلِهِ: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ} [ص: 45] {إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ} [ص: 46] {وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ} [ص: 47] وَقَوْلِهِ: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 17] وَقَالَ عَنْ سُلَيْمَانَ: {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 30] وَعَنْ أَيُّوبَ: {نِعْمَ الْعَبْدُ} [ص: 30] وَقَالَ: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ} [ص: 41] وَقَالَ نُوحٌ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} [الإسراء: 3] وَقَالَ: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى} [الإسراء: 1] وَقَالَ: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} [الجن: 19] وَقَالَ: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة: 23] وَقَالَ: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم: 10] وَقَالَ: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} [الإنسان: 6] وَقَالَ: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان: 63] وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ مُتَعَدِّدٌ فِي الْقُرْآنِ.

فَصْلٌ إذَا تَبَيَّنَ ذَلِكَ: فَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا الْبَابَ يَتَفَاضَلُونَ فِيهِ تَفَاضُلًا عَظِيمًا.
وَهُوَ تَفَاضُلُهُمْ فِي حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ، وَهُمْ يَنْقَسِمُونَ فِيهِ إلَى: عَامٍّ، وَخَاصٍّ، وَلِهَذَا كَانَتْ
(5/178)
________________________________________
رُبُوبِيَّةُ الرَّبِّ لَهُمْ فِيهَا عُمُومٌ وَخُصُوصٌ؛ وَلِهَذَا كَانَ الشِّرْكُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ.
وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «تَعِسَ عَبْدُ الدِّرْهَمِ، تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ، تَعِسَ عَبْدُ الْقَطِيفَةِ، تَعِسَ عَبْدُ الْخَمِيصَةِ، تَعِسَ وَانْتَكَسَ، وَإِذَا شِيكَ فَلَا انْتَقَشَ، إنْ أُعْطِيَ رَضِيَ، وَإِنْ مُنِعَ سَخِطَ» فَسَمَّاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَبْدَ الدِّرْهَمِ، وَعَبْدَ الدِّينَارِ، وَعَبْدَ الْقَطِيفَةِ، وَعَبْدَ الْخَمِيصَةِ.
وَذِكْرُ مَا فِيهِ دُعَاءٌ وَخَبَرٌ، وَهُوَ قَوْلُهُ: «تَعِسَ وَانْتَكَسَ، وَإِذَا شِيكَ فَلَا انْتَقَشَ» وَالنَّقْشُ: إخْرَاجُ الشَّوْكَةِ مِنْ الرِّجْلِ، وَالْمِنْقَاشُ: مَا يُخْرَجُ بِهِ الشَّوْكَةُ، وَهَذِهِ حَالُ مَنْ إذَا أَصَابَهُ شَرٌّ لَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ، وَلَمْ يَفْلَحْ لِكَوْنِهِ تَعِسَ وَانْتَكَسَ.
فَلَا نَالَ الْمَطْلُوبَ وَلَا خَلَصَ مِنْ الْمَكْرُوهِ، وَهَذِهِ حَالُ مَنْ عَبَدَ الْمَالَ، وَقَدْ وَصَفَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ «إذَا أُعْطِيَ رَضِيَ، وَإِذَا مُنِعَ سَخِطَ» كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} [التوبة: 58] فَرِضَاهُمْ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَسُخْطُهُمْ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَهَكَذَا حَالُ مَنْ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِرِئَاسَةٍ أَوْ بِصُورَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ أَهْوَاءِ نَفْسِهِ إنْ حَصَلَ لَهُ رَضِيَ، وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ سَخِطَ، فَهَذَا عَبْدُ مَا يَهْوَاهُ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ رَقِيقٌ لَهُ، إذْ الرِّقُّ وَالْعُبُودِيَّةُ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ رِقُّ الْقَلْبِ وَعُبُودِيَّتُهُ، فَمَا اسْتَرَقَّ الْقَلْبَ وَاسْتَعْبَدَهُ فَهُوَ عَبْدُهُ.
وَلِهَذَا يُقَالُ:
الْعَبْدُ حُرٌّ مَا قَنَعَ ... وَالْحُرُّ عَبْدٌ مَا طَمَعَ
وَقَالَ الْقَائِلُ:
أَطَعْتُ مَطَامِعِي فَاسْتَعْبَدَتْنِي ... وَلَوْ أَنِّي قَنَعْت لَكُنْت حُرًّا
وَيُقَالُ: الطَّمَعُ غُلٌّ فِي الْعُنُقِ قَيْدٌ فِي الرِّجْلِ، فَإِذَا زَالَ الْغُلُّ مِنْ الْعُنُقِ زَالَ الْقَيْدُ مِنْ الرِّجْلِ.
وَيُرْوَى عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: الطَّمَعُ فَقْرٌ، وَالْيَأْسُ غِنًى، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ إذَا يَئِسَ مِنْ شَيْءٍ اسْتَغْنَى عَنْهُ.
وَهَذَا أَمْرٌ يَجِدُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ نَفْسِهِ؛ فَإِنَّ الْأَمْرَ الَّذِي يَيْأَسُ مِنْهُ لَا يَطْلُبُهُ وَلَا يَطْمَعُ بِهِ، وَلَا يَبْقَى قَلْبُهُ فَقِيرًا إلَيْهِ، وَلَا إلَى مَنْ يَفْعَلُهُ، وَأَمَّا إذَا طَمِعَ فِي أَمْرٍ مِنْ الْأُمُورِ وَرَجَاهُ تَعَلَّقَ قَلْبُهُ بِهِ، فَصَارَ فَقِيرًا إلَى حُصُولِهِ؛
(5/179)
________________________________________
وَإِلَى مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ سَبَبٌ فِي حُصُولِهِ، وَهَذَا فِي الْمَالِ وَالْجَاهِ وَالصُّوَرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ قَالَ الْخَلِيلُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [العنكبوت: 17] .
فَالْعَبْدُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ رِزْقٍ، مُحْتَاجٌ إلَى ذَلِكَ، فَإِذَا طَلَبَ رِزْقَهُ مِنْ اللَّهِ صَارَ عَبْدًا لِلَّهِ، فَقِيرًا إلَيْهِ، وَإِنْ طَلَبَهُ مِنْ مَخْلُوقٍ صَارَ عَبْدًا لِذَلِكَ الْمَخْلُوقِ فَقِيرًا إلَيْهِ.
وَلِهَذَا كَانَتْ " مَسْأَلَةُ الْمَخْلُوقِ " مُحَرَّمَةً فِي الْأَصْلِ، وَإِنَّمَا أُبِيحَتْ لِلضَّرُورَةِ، وَفِي النَّهْيِ عَنْهَا أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي الصِّحَاحِ، وَالسُّنَنِ، وَالْمَسَانِيدِ: كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَزَالُ الْمَسْأَلَةُ بِأَحَدِكُمْ حَتَّى يَأْتِيَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَيْسَ فِي وَجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ» وَقَوْلِهِ: «مَنْ سَأَلَ النَّاسَ وَلَهُ مَا يُغْنِيهِ جَاءَتْ مَسْأَلَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خُدُوشًا أَوْ خُمُوشًا أَوْ كُدُوحًا فِي وَجْهِهِ» وَقَوْلِهِ: «لَا تَحِلُّ الْمَسْأَلَةُ إلَّا لِذِي غُرْمٍ مُفْظِعٍ، أَوْ دَمٍ مُوجِعٍ، أَوْ فَقْرٍ مُدْقِعٍ» هَذَا الْمَعْنَى فِي الصَّحِيحِ، وَفِيهِ أَيْضًا: «لَأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ فَيَذْهَبَ فَيَحْتَطِبَ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ أَعْطَوْهُ أَوْ مَنَعُوهُ» وَقَالَ: «مَا أَتَاك مِنْ هَذَا الْمَالِ وَأَنْتَ غَيْرُ سَائِلٍ وَلَا مُشْرِفٍ فَخُذْهُ، وَمَا لَا فَلَا تُتْبِعْهُ نَفْسَك» فَكُرِهَ أَخْذُهُ مِنْ سُؤَالِ اللِّسَانِ وَاسْتِشْرَافِ الْقَلْبِ، وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «مَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ؛ وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ؛ وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنْ الصَّبْرِ»
(5/180)
________________________________________
وَأَوْصَى خَوَّاصٌ أَصْحَابِهِ أَنْ لَا يَسْأَلُوا النَّاسَ شَيْئًا.
وَفِي الْمُسْنَدِ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ يَسْقُطُ السَّوْطُ مِنْ يَدِهِ فَلَا يَقُولُ لِأَحَدٍ نَاوِلْنِي إيَّاهُ؛ وَيَقُولُ: خَلِيلِي أَمَرَنِي أَنْ لَا أَسْأَلَ النَّاسَ شَيْئًا ".
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَغَيْرِهِ: عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ «أَنَّ النَّبِيَّ بَايَعَهُ فِي طَائِفَةٍ وَأَسَرَّ إلَيْهِمْ كَلِمَةً خَفِيَّةً: أَنْ لَا تَسْأَلُوا النَّاسَ شَيْئًا، فَكَانَ بَعْضُ أُولَئِكَ النَّفَرِ يَسْقُطُ السَّوْطُ مِنْ يَدِ أَحَدِهِمْ، وَلَا يَقُولُ لِأَحَدٍ نَاوِلْنِي إيَّاهُ» وَقَدْ دَلَّتْ النُّصُوصُ عَلَى الْأَمْرِ بِمَسْأَلَةِ الْخَالِقِ، وَالنَّهْيِ عَنْ مَسْأَلَةِ الْمَخْلُوقِ؛ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ.
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ} [الشرح: 7] {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح: 8] وَقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِابْنِ عَبَّاسٍ: «إذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ؛ وَإِذَا اسْتَعَنْت فَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ» وَمِنْهُ قَوْلُ الْخَلِيلِ: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ} [العنكبوت: 17] وَلَمْ يَقُلْ فَابْتَغُوا الرِّزْقَ عِنْدَ اللَّهِ؛ لِأَنَّ تَقْدِيمَ الظَّرْفِ يُشْعِرُ بِالِاخْتِصَاصِ وَالْحَصْرِ؛ كَأَنَّهُ قَالَ لَا تَبْتَغُوا الرِّزْقَ إلَّا عِنْدَ اللَّهِ.
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 32] وَالْإِنْسَانُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ حُصُولِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ الرِّزْقِ وَنَحْوِهِ؛ وَدَفْعِ مَا يَضُرُّهُ؛ وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ شُرِعَ لَهُ أَنْ يَكُونَ دُعَاؤُهُ لِلَّهِ؛ فَلَهُ أَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ وَإِلَيْهِ يَشْتَكِي؛ كَمَا قَالَ يَعْقُوبُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف: 86] .
وَاَللَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي الْقُرْآنِ " الْهَجْرَ الْجَمِيلَ " " وَالصَّفْحَ الْجَمِيلَ " " وَالصَّبْرَ الْجَمِيلَ "
(5/181)
________________________________________
وَقَدْ قِيلَ: إنَّ " الْهَجْرَ الْجَمِيلَ " هُوَ هَجْرٌ بِلَا أَذًى، وَالصَّفْحَ الْجَمِيلَ صَفْحٌ بِلَا مُعَاتَبَةٍ.
وَالصَّبْرَ الْجَمِيلَ صَبْرٌ بِغَيْرِ شَكْوَى إلَى الْمَخْلُوقِ؛ وَلِهَذَا قُرِئَ عَلَى أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فِي مَرَضِهِ أَنَّ طَاوُسًا كَانَ يَكْرَهُ أَنِينَ الْمَرِيضِ وَيَقُولُ: إنَّهُ شَكْوَى فَمَا أَنَّ أَحْمَدُ حَتَّى مَاتَ.
وَأَمَّا الشَّكْوَى إلَى الْخَالِقِ فَلَا تَنَافِي الصَّبْرَ الْجَمِيلَ؛ فَإِنَّ يَعْقُوبَ قَالَ: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} [يوسف: 18] وَقَالَ: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف: 86] .
وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. يَقْرَأُ فِي الْفَجْرِ بِسُورَةِ (يُونُسَ) ، (وَيُوسُفَ) ، (وَالنَّحْلِ) فَمَرَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي قِرَاءَتِهِ فَبَكَى حَتَّى سُمِعَ نَشِيجُهُ مِنْ آخِرِ الصُّفُوفِ.
وَمِنْ دُعَاءِ مُوسَى: " اللَّهُمَّ لَك الْحَمْدُ، وَإِلَيْك الْمُشْتَكَى، وَأَنْتَ الْمُسْتَعَانُ، وَبِكَ الْمُسْتَغَاثُ، وَعَلَيْك التُّكْلَانُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِك ".
وَفِي الدُّعَاءِ الَّذِي دَعَا بِهِ النَّبِيُّ لَمَّا فَعَلَ بِهِ أَهْلُ الطَّائِفِ مَا فَعَلُوا: «اللَّهُمَّ إلَيْك أَشْكُو ضَعْفَ قُوَّتِي؛ وَقِلَّةَ حِيلَتِي؛ وَهَوَانِي عَلَى النَّاسِ؛ أَنْتَ رَبُّ الْمُسْتَضْعَفِينَ وَأَنْتَ رَبِّي. اللَّهُمَّ إلَى مَنْ تَكِلُنِي؟ إلَى بَعِيدٍ يَتَجَهَّمُنِي، أَمْ إلَى عَدُوٍّ مَلَّكْته أَمْرِي؛ إنْ لَمْ يَكُنْ بِك غَضَبٌ عَلَيَّ فَلَا أُبَالِي؛ غَيْرَ أَنَّ عَافِيَتَك أَوْسَعُ لِي، أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِك الَّذِي أَشْرَقَتْ بِهِ الظُّلُمَاتُ؛ وَصَلَحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، أَنْ يَنْزِلَ بِي سَخَطُك؛ أَوْ يَحِلَّ عَلَيَّ غَضَبُك؛ لَك الْعُتْبَى حَتَّى تَرْضَى؛ فَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِك» - وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ - «وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِك» .
وَكُلَّمَا قَوِيَ طَمَعُ الْعَبْدِ فِي فَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ وَرَجَائِهِ لِقَضَاءِ حَاجَتِهِ وَدَفْعِ ضَرُورَتِهِ قَوِيَتْ عُبُودِيَّتُهُ لَهُ وَحُرِّيَّتُهُ مِمَّا سِوَاهُ؛ فَكَمَا أَنَّ طَمَعَهُ فِي الْمَخْلُوقِ يُوجِبُ عُبُودِيَّتَهُ لَهُ فَيَأْسُهُ مِنْهُ يُوجِبُ غِنَى قَلْبِهِ عَنْهُ.
كَمَا قِيلَ: اسْتَغْنِ عَمَّنْ شِئْت تَكُنْ نَظِيرَهُ، وَافْضُلْ عَلَى مَنْ شِئْت تَكُنْ أَمِيرَهُ؛ وَاحْتَجْ إلَى مَنْ شِئْت تَكُنْ أَسِيرَهُ.
فَكَذَلِكَ طَمَعُ الْعَبْدِ فِي رَبِّهِ وَرَجَاؤُهُ لَهُ يُوجِبُ عُبُودِيَّتَهُ لَهُ: وَإِعْرَاضُ قَلْبِهِ عَنْ
(5/182)
________________________________________
الطَّلَبِ مِنْ غَيْرِ اللَّهِ وَالرَّجَاءِ لَهُ يُوجِبُ انْصِرَافَ قَلْبِهِ عَنْ الْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ؛ لَا سِيَّمَا مَنْ كَانَ يَرْجُو الْمَخْلُوقَ وَلَا يَرْجُو الْخَالِقَ؛ بِحَيْثُ يَكُونُ قَلْبُهُ مُعْتَمِدًا إمَّا عَلَى رِئَاسَتِهِ وَجُنُودِهِ وَأَتْبَاعِهِ وَمَمَالِيكِهِ؛ وَإِمَّا عَلَى أَهْلِهِ وَأَصْدِقَائِهِ؛ وَإِمَّا عَلَى أَمْوَالِهِ وَذَخَائِرِهِ؛ وَإِمَّا عَلَى سَادَاتِهِ وَكُبَرَائِهِ؛ كَمَالِكِهِ وَمِلْكِهِ؛ وَشَيْخِهِ وَمَخْدُومِهِ وَغَيْرِهِمْ؛ مِمَّنْ هُوَ قَدْ مَاتَ أَوْ يَمُوتُ قَالَ تَعَالَى {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا} [الفرقان: 58] .
وَكُلُّ مَنْ عَلَّقَ قَلْبَهُ بِالْمَخْلُوقَاتِ أَنْ يَنْصُرُوهُ، أَوْ يَرْزُقُوهُ، أَوْ أَنْ يُهْدُوهُ خَضَعَ قَلْبُهُ لَهُمْ؛ وَصَارَ فِيهِ مِنْ الْعُبُودِيَّةِ لَهُمْ بِقَدْرِ ذَلِكَ؛ وَإِنْ كَانَ فِي الظَّاهِرِ أَمِيرًا لَهُمْ مُدَبِّرًا لَهُمْ مُتَصَرِّفًا بِهِمْ؛ فَالْعَاقِلُ يَنْظُرُ إلَى الْحَقَائِقِ لَا إلَى الظَّوَاهِرِ؛ فَالرَّجُلُ إذَا تَعَلَّقَ قَلْبُهُ بِامْرَأَةٍ وَلَوْ كَانَتْ مُبَاحَةً لَهُ يَبْقَى قَلْبُهُ أَسِيرًا لَهَا تَحْكُمُ فِيهِ وَتَتَصَرَّفُ بِمَا تُرِيدُ؛ وَهُوَ فِي الظَّاهِرِ سَيِّدُهَا لِأَنَّهُ زَوْجُهَا.
وَفِي الْحَقِيقَةِ هُوَ أَسِيرُهَا وَمَمْلُوكُهَا لَا سِيَّمَا إذَا دَرَتْ بِفَقْرِهِ إلَيْهَا، وَعِشْقِهِ لَهَا؛ وَأَنَّهُ لَا يَعْتَاضُ عَنْهَا بِغَيْرِهَا؛ فَإِنَّهَا حِينَئِذٍ تَحْكُمُ فِيهِ بِحُكْمِ السَّيِّدِ الْقَاهِرِ الظَّالِمِ فِي عَبْدِهِ الْمَقْهُورِ؛ الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ الْخَلَاصَ مِنْهُ بَلْ أَعْظَمُ.
فَإِنَّ أَسْرَ الْقَلْبِ أَعْظَمُ مِنْ أَسْرِ الْبَدَنِ، وَاسْتِعْبَادَ الْقَلْبِ أَعْظَمُ مِنْ اسْتِعْبَادِ الْبَدَنِ، فَإِنَّ مَنْ اسْتَعْبَدَ بَدَنَهُ وَاسْتَرَقَّ لَا يُبَالِي إذَا كَانَ قَلْبُهُ مُسْتَرِيحًا مِنْ ذَلِكَ مُطْمَئِنًّا، بَلْ يُمْكِنُهُ الِاحْتِيَالُ فِي الْخَلَاصِ، وَأَمَّا إذَا كَانَ الْقَلْبُ الَّذِي هُوَ الْمِلْكُ رَقِيقًا مُسْتَعْبَدًا مُتَيَّمًا لِغَيْرِ اللَّهِ فَهَذَا هُوَ الذُّلُّ وَالْأَسْرُ الْمَحْضُ، وَالْعُبُودِيَّةُ لِمَا اسْتَعْبَدَ الْقَلْبُ.
وَعُبُودِيَّةُ الْقَلْبِ وَأَسْرُهُ هِيَ الَّتِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ، فَإِنَّ الْمُسْلِمَ لَوْ أَسَرَهُ كَافِرٌ؛ أَوْ اسْتَرَقَّهُ فَاجِرٌ بِغَيْرِ حَقٍّ لَمْ يَضُرَّهُ ذَلِكَ إذَا كَانَ قَائِمًا بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ الْوَاجِبَاتِ، وَمَنْ اسْتَعْبَدَ بِحَقٍّ إذَا أَدَّى حَقَّ اللَّهِ وَحَقَّ مَوَالِيهِ لَهُ أَجْرَانِ، وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى التَّكَلُّمِ بِالْكُفْرِ فَتَكَلَّمَ بِهِ وَقَلْبُهُ مُطَمْئِنٌ بِالْإِيمَانِ لَمْ يَضُرَّهُ ذَلِكَ وَأَمَّا مَنْ اسْتَعْبَدَ قَلْبَهُ فَصَارَ عَبْدًا لِغَيْرِ اللَّهِ فَهَذَا يَضُرُّهُ ذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ فِي الظَّاهِرِ مَلِكَ النَّاسِ.
فَالْحُرِّيَّةُ حُرِّيَّةُ الْقَلْبِ، وَالْعُبُودِيَّةُ عُبُودِيَّةُ الْقَلْبِ، كَمَا أَنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ، وَإِنَّمَا الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ» .
(5/183)
________________________________________
وَهَذَا لَعَمْرِي إذَا كَانَ قَدْ اسْتَعْبَدَ قَلْبَهُ صُورَةٌ مُبَاحَةٌ، فَأَمَّا مَنْ اسْتَعْبَدَ قَلْبَهُ صُورَةٌ مُحَرَّمَةٌ: امْرَأَةٌ أَوْ صَبِيٌّ، فَهَذَا هُوَ الْعَذَابُ الَّذِي لَا يُدَانُ فِيهِ.
وَهَؤُلَاءِ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ عَذَابًا وَأَقَلِّهِمْ ثَوَابًا، فَإِنَّ الْعَاشِقَ لِصُورَةٍ إذَا بَقِيَ قَلْبُهُ مُتَعَلِّقًا بِهَا، مُسْتَعْبَدًا لَهُ اجْتَمَعَ لَهُ مِنْ أَنْوَاعِ الشَّرِّ وَالْفَسَادِ مَا لَا يُحْصِهِ إلَّا رَبُّ الْعِبَادِ، وَلَوْ سَلِمَ مِنْ فِعْلِ الْفَاحِشَةِ الْكُبْرَى، فَدَوَامُ تَعَلُّقِ الْقَلْبِ بِهَا بِلَا فِعْلِ الْفَاحِشَةِ أَشَدُّ ضَرَرًا عَلَيْهِ، مِمَّنْ يَفْعَلُ ذَنْبًا ثُمَّ يَتُوبُ مِنْهُ وَيَزُولُ أَثَرُهُ مِنْ قَلْبِهِ، وَهَؤُلَاءِ يُشَبَّهُونَ بِالسُّكَارَى وَالْمَجَانِينِ.
كَمَا قِيلَ: سَكْرَانِ: سُكْرُ هَوًى، وَسُكْرُ مُدَامَةٍ وَمَتَى إفَاقَةُ مَنْ بِهِ سَكْرَانِ، وَقِيلَ:
قَالُوا جُنِنْت بِمَنْ تَهْوَى فَقُلْت لَهُمْ ... الْعِشْقُ أَعْظَمُ مِمَّا بِالْمَجَانِينِ
الْعِشْقُ لَا يَسْتَفِيقُ الدَّهْرَ صَاحِبُهُ ... وَإِنَّمَا يُصْرَعُ الْمَجْنُونُ فِي الْحِينِ
وَمِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ هَذَا الْبَلَاءِ إعْرَاضُ الْقَلْبِ عَنْ اللَّهِ، فَإِنَّ الْقَلْبَ إذَا ذَاقَ طَعْمَ عِبَادَةِ اللَّهِ وَالْإِخْلَاصِ لَهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ شَيْءٌ قَطُّ أَحْلَى مِنْ ذَلِكَ، وَلَا أَلَذُّ وَلَا أَطْيَبُ، وَالْإِنْسَانُ لَا يَتْرُكُ مَحْبُوبًا إلَّا بِمَحْبُوبٍ آخَرَ يَكُونُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْهُ، أَوْ خَوْفًا مِنْ مَكْرُوهٍ، فَالْحُبُّ الْفَاسِدُ إنَّمَا يَنْصَرِفُ الْقَلْبُ عَنْهُ بِالْحُبِّ الصَّالِحِ؛ أَوْ بِالْخَوْفِ مِنْ الضَّرَرِ.
قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ يُوسُفَ: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف: 24] ، فَاَللَّهُ يَصْرِفُ عَنْ عَبْدِهِ مَا يَسُوءُهُ مِنْ الْمَيْلِ إلَى الصُّوَرِ وَالتَّعَلُّقِ بِهَا، وَيَصْرِفُ عَنْهُ الْفَحْشَاءَ بِإِخْلَاصِهِ لِلَّهِ.
وَلِهَذَا يَكُونُ قَبْلَ أَنْ يَذُوقَ حَلَاوَةَ الْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ وَالْإِخْلَاصَ لَهُ تَغْلِبُهُ نَفْسُهُ عَلَى اتِّبَاعِ هَوَاهَا، فَإِذَا ذَاقَ طَعْمَ الْإِخْلَاصِ، وَقَوِيَ فِي قَلْبِهِ انْقَهَرَ لَهُ هَوَاهُ بِلَا عِلَاجٍ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت: 45] .
فَإِنَّ الصَّلَاةَ فِيهَا دَفْعٌ لِلْمَكْرُوهِ، وَهُوَ الْفَحْشَاءُ وَالْمُنْكَرُ، وَفِيهَا تَحْصِيلُ الْمَحْبُوبِ، وَهُوَ ذِكْرُ اللَّهِ، وَحُصُولُ هَذَا الْمَحْبُوبِ أَكْبَرُ مِنْ دَفْعِ الْمَكْرُوهِ، فَإِنَّ ذِكْرَ اللَّهِ عِبَادَةٌ لِلَّهِ، وَعِبَادَةُ الْقَلْبِ لِلَّهِ
(5/184)
________________________________________
مَقْصُودَةٌ لِذَاتِهَا.
وَأَمَّا انْدِفَاعُ الشَّرِّ عَنْهُ فَهُوَ مَقْصُودٌ لِغَيْرِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّبَعِ وَالْقَلْبُ خَلْقٌ يُحِبُّ الْحَقَّ وَيُرِيدُهُ وَيَطْلُبُهُ.
فَلَمَّا عَرَضَتْ لَهُ إرَادَةُ الشَّرِّ طَلَبَ دَفْعَ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَفْسُدُ الْقَلْبُ كَمَا يَفْسُدُ الزَّرْعُ بِمَا يَنْبُتُ فِيهِ مِنْ الدَّغَلِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس: 9] {وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 10] .
وَقَالَ تَعَالَى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى: 14] {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 15] .
وَقَالَ: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} [النور: 30] وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا} [النور: 21] فَجَعَلَ سُبْحَانَهُ غَضَّ الْبَصَرِ، وَحِفْظَ الْفَرْجِ هُوَ أَزْكَى لِلنَّفْسِ.
وَبَيَّنَ أَنَّ تَرْكَ الْفَوَاحِشِ مِنْ زَكَاةِ النُّفُوسِ، وَزَكَاةُ النُّفُوسِ تَتَضَمَّنُ زَوَالَ جَمِيعِ الشُّرُورِ مِنْ الْفَوَاحِشِ، وَالظُّلْمِ، وَالشِّرْكِ، وَالْكَذِبِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَكَذَلِكَ طَالِبُ الرِّئَاسَةِ وَالْعُلُوِّ فِي الْأَرْضِ قَلْبُهُ رَقِيقٌ لِمَنْ يُعِينُهُ عَلَيْهَا وَلَوْ كَانَ فِي الظَّاهِرِ مُقَدَّمَهُمْ وَالْمُطَاعَ فِيهِمْ.
فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ يَرْجُوهُمْ وَيَخَافُهُمْ، فَيَبْذُلُ لَهُمْ الْأَمْوَالَ وَالْوِلَايَاتِ، وَيَعْفُو عَنْهُمْ لِيُطِيعُوهُ، وَيُعِينُوهُ، فَهُوَ فِي الظَّاهِرِ رَئِيسٌ مُطَاعٌ، وَفِي الْحَقِيقَةِ عَبْدٌ مُطِيعٌ لَهُمْ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ كِلَيْهِمَا فِيهِ عُبُودِيَّةٌ لِلْآخَرِ، وَكِلَاهُمَا تَارِكٌ لِحَقِيقَةِ عِبَادَةِ اللَّهِ، وَإِذَا كَانَ تَعَاوُنُهُمَا عَلَى الْعُلُوِّ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ كَانَا بِمَنْزِلَةِ الْمُتَعَاوِنِينَ عَلَى الْفَاحِشَةِ أَوْ قَطْعِ الطَّرِيقِ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّخْصَيْنِ لِهَوَاهُ الَّذِي اسْتَعْبَدَهُ وَاسْتَرَقَّهُ يَسْتَعْبِدُهُ الْآخَرُ.
وَهَكَذَا أَيْضًا طَالِبُ الْمَالِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَسْتَعْبِدُهُ وَيَسْتَرِقُّهُ، وَهَذِهِ الْأُمُورُ نَوْعَانِ: مِنْهَا: مَا يَحْتَاجُ الْعَبْدُ إلَيْهِ كَمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ طَعَامِهِ، وَشَرَابِهِ، وَمَسْكَنِهِ، وَمُنْكَحِهِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ.
فَهَذَا يَطْلُبُهُ مِنْ اللَّهِ وَيَرْغَبُ إلَيْهِ فِيهِ، فَيَكُونُ الْمَالُ عِنْدَهُ يَسْتَعْمِلُهُ فِي حَاجَتِهِ بِمَنْزِلَةِ حِمَارِهِ الَّذِي يَرْكَبُهُ، وَبِسَاطِهِ الَّذِي يَجْلِسُ عَلَيْهِ؛ بَلْ بِمَنْزِلَةِ الْكَنِيفِ الَّذِي يَقْضِي فِيهِ حَاجَتَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْتَعْبِدَهُ، فَيَكُونَ هَلُوعًا إنْ مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا؛ وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا.
(5/185)
________________________________________



يتبع ......






التوقيع :

{وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا (53)}
[الإسراء: 53]


إن كانت الأحداث المعاصرة أصابتك بالحيرة ، فاقرأ هذا الكتاب فكأنه يتكلم عن اليوم :
مدارك النَّظر في السّياسة بين التطبيقات الشّرعية والانفعالات الحَمَاسية
http://www.dd-sunnah.net/forum/showthread.php?t=174056

من مواضيعي في المنتدى
»» المراد بطاعة ولاة الأمر وكيفية الإنكار / حوار مع الشيخ عبد العزيز بن باز يرحمه االله
»» هل المسؤول الشرعي لداعش أبو عبد الله الكويتي عميل للإستخبارات الأمريكية
»» بحثان مختصران لأقوال فلاسفة اليونان والفلاسفة المنتسبين للإسلام في توحيد الربوبية
»» مباشر / قناة السنة النبوية وخطبة الجمعة من مسجد النبي صلى الله عليه وسلم
»» سؤال محرج من مجهول المجرة حان الوقت لتبيضوا أيها الوهابية
 
قديم 03-09-17, 10:47 AM   رقم المشاركة : 3
مهذب
عضو ماسي






مهذب غير متصل

مهذب is on a distinguished road


.
وَمِنْهَا: مَا لَا يَحْتَاجُ الْعَبْدُ إلَيْهِ، فَهَذِهِ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُعَلِّقَ قَلْبَهُ بِهَا؛ فَإِذَا تَعَلَّقَ قَلْبُهُ بِهَا صَارَ مُسْتَعْبَدًا لَهَا؛ وَرُبَّمَا صَارَ مُعْتَمِدًا عَلَى غَيْرِ اللَّهِ، فَلَا يَبْقَى مَعَهُ حَقِيقَةُ الْعِبَادَةِ لِلَّهِ، وَلَا حَقِيقَةُ التَّوَكُّلِ عَلَيْهِ؛ بَلْ فِيهِ شُعْبَةٌ مِنْ الْعِبَادَةِ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَشُعْبَةٌ مِنْ التَّوَكُّلِ عَلَى غَيْرِ اللَّهِ، وَهَذَا مِنْ أَحَقِّ النَّاسِ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تَعِسَ عَبْدُ الدِّرْهَمِ، تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ، تَعِسَ عَبْدُ الْقَطِيفَةِ، تَعِسَ عَبْدُ الْخَمِيصَةِ» وَهَذَا هُوَ عَبْدُ هَذِهِ الْأُمُورِ، فَلَوْ طَلَبَهَا مِنْ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ إذَا أَعْطَاهُ إيَّاهَا رَضِيَ؛ وَإِذَا مَنَعَهُ إيَّاهَا سَخِطَ، وَإِنَّمَا عَبْدُ اللَّهِ مَنْ يُرْضِيهِ مَا يُرْضِي اللَّهَ؛ وَيُسْخِطُهُ مَا يُسْخِطُ اللَّهَ؛ وَيُحِبُّ مَا أَحَبَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَيَبْغُضُ مَا أَبْغَضَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ؛ وَيُوَالِي أَوْلِيَاءَ اللَّهِ وَيُعَادِي أَعْدَاءَ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا هُوَ الَّذِي اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ.
كَمَا فِي الْحَدِيثِ: «مَنْ أَحَبَّ لِلَّهِ، وَأَبْغَضَ لِلَّهِ، وَأَعْطَى لِلَّهِ، وَمَنَعَ لِلَّهِ: فَقَدْ اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ» وَقَالَ: «أَوْثَقُ عُرَى الْإِيمَانِ: الْحُبُّ فِي اللَّهِ، وَالْبُغْضُ فِي اللَّهِ» .
وَفِي الصَّحِيحِ: عَنْهُ: «ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَمَنْ كَانَ يُحِبُّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إلَّا لِلَّهِ، وَمَنْ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ» ، فَهَذَا وَافَقَ رَبَّهُ فِيمَا يُحِبُّهُ، وَمَا يَكْرَهُهُ فَكَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبُّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَحَبُّ الْمَخْلُوقِ لِلَّهِ لَا لِغَرَضٍ آخَرَ، فَكَانَ هَذَا مِنْ تَمَامِ حُبِّهِ لِلَّهِ، فَإِنَّ مَحَبَّةَ مَحْبُوبِ الْمَحْبُوبِ مِنْ تَمَامِ مَحَبَّةِ الْمَحْبُوبِ؛ فَإِذَا أَحَبَّ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ وَأَوْلِيَاءَ اللَّهِ لِأَجْلِ قِيَامِهِمْ بِمَحْبُوبَاتِ الْحَقِّ لَا لِشَيْءٍ آخَرَ، فَقَدْ أَحَبَّهُمْ لِلَّهِ لَا لِغَيْرِهِ.
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة: 54] .
(5/186)
________________________________________
وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] فَإِنَّ الرَّسُولَ يَأْمُرُ بِمَا يُحِبُّ اللَّهُ وَيَنْهَى عَمَّا يُبْغِضُهُ اللَّهُ وَيَفْعَلُ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيُخْبِرُ بِمَا يُحِبُّ اللَّهُ التَّصْدِيقَ بِهِ؛ فَمَنْ كَانَ مُحِبًّا لِلَّهِ لَزِمَ أَنْ يَتْبَعَ الرَّسُولَ فَيُصَدِّقُهُ فِيمَا أَخْبَرَ وَيُطِيعُهُ فِيمَا أَمَرَ وَيَتَأَسَّى بِهِ فِيمَا فَعَلَ، وَمَنْ فَعَلَ هَذَا فَقَدْ فَعَلَ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ؛ فَيُحِبُّهُ اللَّهُ؛ فَجَعَلَ اللَّهُ لِأَهْلِ مَحَبَّتِهِ عَلَامَتَيْنِ: اتِّبَاعَ الرَّسُولِ؛ وَالْجِهَادَ فِي سَبِيلِهِ.
وَذَلِكَ لِأَنَّ الْجِهَادَ حَقِيقَتُهُ الِاجْتِهَادُ فِي حُصُولِ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ مِنْ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ؛ وَمِنْ دَفْعِ مَا يَبْغُضُهُ اللَّهُ مِنْ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ.
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ} [التوبة: 24] إلَى قَوْلِهِ: {حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [التوبة: 24] فَتَوَعَّدَ مَنْ كَانَ أَهْلُهُ وَمَالُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ بِهَذَا الْوَعِيدِ.
بَلْ قَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ: أَنَّهُ قَالَ: «وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ، وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» .
وَفِي الصَّحِيحِ: أَنَّ «عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَاَللَّهِ لَأَنْتَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إلَّا مِنْ نَفْسِي: فَقَالَ: لَا يَا عُمَرُ، حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إلَيْك مِنْ نَفْسِك فَقَالَ: فَوَاَللَّهِ، لَأَنْتَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ نَفْسِي فَقَالَ: الْآنَ يَا عُمَرُ» .
فَحَقِيقَةُ الْمَحَبَّةِ لَا تَتِمُّ إلَّا بِمُوَالَاةِ الْمَحْبُوبِ، وَهُوَ مُوَافَقَتُهُ فِي حُبِّ مَا يُحِبُّ، وَبُغْضِ مَا يَبْغُضُ، وَاَللَّهُ يُحِبُّ الْإِيمَانَ وَالتَّقْوَى، وَيَبْغُضُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْحُبَّ يُحَرِّكُ إرَادَةَ الْقَلْبِ، فَكُلَّمَا قَوِيَتْ الْمَحَبَّةُ فِي الْقَلْبِ طَلَب الْقَلْبُ فِعْلَ الْمَحْبُوبَاتِ، فَإِذَا كَانَتْ الْمَحَبَّةُ تَامَّةً اسْتَلْزَمَتْ إرَادَةً جَازِمَةً فِي حُصُولِ الْمَحْبُوبَاتِ، فَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ قَادِرًا عَلَيْهَا حَصَّلَهَا، وَإِنْ كَانَ عَاجِزًا عَنْهَا فَفَعَلَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ كَانَ لَهُ كَأَجْرِ الْفَاعِلِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ دَعَا إلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنْ
(5/187)
________________________________________
الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ اتَّبَعَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُنْقِصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا؛ وَمَنْ دَعَا إلَى ضَلَالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الْوِزْرِ مِثْلُ أَوْزَارِ مَنْ اتَّبَعَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُنْقِصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْئًا» .
وَقَالَ: «إنَّ بِالْمَدِينَةِ لَرِجَالًا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا، وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا إلَّا كَانُوا مَعَكُمْ. قَالُوا: وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ. قَالَ: وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ حَبَسَهُمْ الْعُذْرُ» .

" وَالْجِهَادُ " هُوَ بَذْلُ الْوُسْعِ وَهُوَ الْقُدْرَةُ فِي حُصُولِ مَحْبُوبِ الْحَقِّ وَدَفْعِ مَا يَكْرَهُهُ الْحَقُّ، فَإِذَا تَرَكَ الْعَبْدُ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ الْجِهَادِ كَانَ دَلِيلًا عَلَى ضَعْفِ مَحَبَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فِي قَلْبِهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَحْبُوبَاتِ لَا تُنَالُ غَالِبًا إلَّا بِاحْتِمَالِ الْمَكْرُوهَاتِ، سَوَاءٌ كَانَتْ مَحَبَّةً صَالِحَةً أَوْ فَاسِدَةً، فَالْمُحِبُّونَ لِلْمَالِ وَالرِّئَاسَةِ وَالصُّوَرِ لَا يَنَالُونَ مَطَالِبَهُمْ إلَّا بِضَرَرٍ يَلْحَقُهُمْ فِي الدُّنْيَا مَعَ مَا يُصِيبُهُمْ مِنْ الضَّرَرِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَالْمُحِبُّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ إذَا لَمْ يَحْتَمِلْ مَا يَرَى ذُو الرَّأْيِ مِنْ الْمُحِبِّينَ لِغَيْرِ اللَّهِ مِمَّا يَحْتَمِلُونَ فِي حُصُولِ مَحْبُوبِهِمْ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى ضَعْفِ مَحَبَّتِهِمْ لِلَّهِ إذَا كَانَ مَا يَسْلُكُهُ أُولَئِكَ هُوَ الطَّرِيقُ الَّذِي يُشِيرُ بِهِ الْعَقْلُ، وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْمُؤْمِنَ أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ.
كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: 165] .
نَعَمْ، قَدْ يَسْلُكُ الْمُحِبُّ لِضَعْفِ عَقْلِهِ وَفَسَادِ تَصَوُّرِهِ طَرِيقًا لَا يَحْصُلُ بِهَا الْمَطْلُوبُ، فَمِثْلُ هَذِهِ الطَّرِيقِ لَا تُحْمَدُ إذَا كَانَتْ الْمَحَبَّةُ صَالِحَةً مَحْمُودَةً، فَكَيْفَ إذَا كَانَتْ الْمَحَبَّةُ فَاسِدَةً وَالطَّرِيقُ غَيْرَ مُوَصِّلٍ، كَمَا يَفْعَلُهُ الْمُتَهَوِّرُونَ فِي طَلَبِ الْمَالِ، وَالرِّئَاسَةِ وَالصُّوَرِ فِي حُبِّ أُمُورٍ تُوجِبُ لَهُمْ ضَرَرًا، وَلَا تُحَصِّلُ لَهُمْ مَطْلُوبًا، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ الطُّرُقُ الَّتِي يَسْلُكُهَا الْعَقْلُ لِحُصُولِ مَطْلُوبِهِ.
وَإِذَا تَبَيَّنَ هَذَا فَكُلَّمَا ازْدَادَ الْقَلْبُ حُبًّا لِلَّهِ ازْدَادَ لَهُ عُبُودِيَّةً، وَكُلَّمَا ازْدَادَ لَهُ عُبُودِيَّةً ازْدَادَ لَهُ حُبًّا وَحُرِّيَّةً عَمَّا سِوَاهُ، وَالْقَلْبُ فَقِيرٌ بِالذَّاتِ إلَى اللَّهِ مِنْ " وَجْهَيْنِ ": مِنْ جِهَةِ الْعِبَادَةِ وَهِيَ الْعِلَّةُ الْغَائِبَةُ وَمِنْ جِهَةِ الِاسْتِعَانَةِ وَالتَّوَكُّلِ، وَهِيَ الْعِلَّةُ الْفَاعِلِيَّةُ.
فَالْقَلْبُ لَا يَصْلُحُ وَلَا يَفْلَحُ، وَلَا يَلْتَذُّ، وَلَا يُسَرُّ، وَلَا يَطِيبُ، وَلَا يَسْكُنُ، وَلَا يَطْمَئِنُّ إلَّا
(5/188)
________________________________________
بِعِبَادَةِ رَبِّهِ، وَحُبِّهِ وَالْإِنَابَةِ إلَيْهِ، وَلَوْ حَصَلَ لَهُ كُلُّ مَا يَلْتَذُّ بِهِ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ لَمْ يَطْمَئِنَّ، وَلَمْ يَسْكُنْ، إذْ فِيهِ فَقْرٌ ذَاتِيٌّ إلَى رَبِّهِ، وَمِنْ حَيْثُ هُوَ مَعْبُودُهُ، وَمَحْبُوبُهُ، وَمَطْلُوبُهُ وَبِذَلِكَ يَحْصُلُ لَهُ الْفَرَحُ، وَالسُّرُورُ، وَاللَّذَّةُ، وَالنِّعْمَةُ، وَالسُّكُونُ، وَالطُّمَأْنِينَةُ.
وَهَذَا لَا يَحْصُلُ لَهُ إلَّا بِإِعَانَةِ اللَّهِ لَهُ، لَا يَقْدِرُ عَلَى تَحْصِيلِ ذَلِكَ لَهُ إلَّا اللَّهُ، فَهُوَ دَائِمًا مُفْتَقِرٌ إلَى حَقِيقَةِ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] فَإِنَّهُ لَوْ أُعِينَ عَلَى حُصُولِ مَا يُحِبُّهُ وَيَطْلُبُهُ وَيَشْتَهِيهِ يُرِيدُهُ، وَلَمْ يَحْصُلْ لَهُ عِبَادَتُهُ لِلَّهِ بِحَيْثُ يَكُونُ هُوَ غَايَةَ مُرَادِهِ وَنِهَايَةَ مَقْصُودِهِ وَهُوَ الْمَحْبُوبُ لَهُ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ وَكُلُّ مَا سِوَاهُ إنَّمَا يُحِبُّهُ لِأَجْلِهِ لَا يُحِبُّ شَيْئًا لِذَاتِهِ إلَّا اللَّهَ، فَمَتَى لَمْ يَحْصُلْ لَهُ هَذَا لَمْ يَكُنْ قَدْ حَقَّقَ حَقِيقَةَ " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " وَلَا حَقَّقَ التَّوْحِيدَ، وَالْعُبُودِيَّةَ، وَالْمَحَبَّةَ، وَكَانَ فِيهِ مِنْ النَّقْصِ وَالْعَيْبِ، بَلْ مِنْ الْأَلَمِ، وَالْحَسْرَةِ، وَالْعَذَابِ، بِحَسَبِ ذَلِكَ.
وَلَوْ سَعَى فِي هَذَا الْمَطْلُوبِ وَلَمْ يَكُنْ مُسْتَعِينًا بِاَللَّهِ، مُتَوَكِّلًا عَلَيْهِ، مُفْتَقِرًا إلَيْهِ فِي حُصُولِهِ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ، فَإِنَّ مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، فَهُوَ مُفْتَقِرٌ إلَى اللَّهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ الْمَطْلُوبُ الْمَحْبُوبُ الْمُرَادُ الْمَعْبُودُ.
وَمِنْ حَيْثُ هُوَ الْمَسْئُولُ الْمُسْتَعَانُ بِهِ الْمُتَوَكَّلُ عَلَيْهِ، فَهُوَ إلَهُهُ لَا إلَهَ لَهُ غَيْرُهُ، وَهُوَ رَبُّهُ لَا رَبَّ لَهُ سِوَاهُ.
وَلَا تَتِمُّ عُبُودِيَّتُهُ لِلَّهِ إلَّا بِهَذَيْنِ " فَمَتَى كَانَ يُحِبُّ غَيْرَ اللَّهِ لِذَاتِهِ أَوْ يَلْتَفِتُ إلَى غَيْرِ اللَّهِ أَنَّهُ يُعِينُهُ كَانَ عَبْدًا لِمَا أَحَبَّهُ، وَعَبْدًا لِمَا رَجَاهُ بِحَسَبِ حُبِّهِ لَهُ وَرَجَائِهِ إيَّاهُ.
وَإِذَا لَمْ يُحِبَّ لِذَاتِهِ إلَّا اللَّهَ، وَكُلَّمَا أَحَبَّ سِوَاهُ فَإِنَّمَا أَحَبَّهُ لَهُ، وَلَمْ يَرْجُ قَطُّ شَيْئًا إلَّا اللَّهَ وَإِذَا فَعَلَ مَا فَعَلَ مِنْ الْأَسْبَابِ، أَوْ حَصَّلَ مَا حَصَّلَ مِنْهَا كَانَ مُشَاهِدًا أَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي خَلَقَهَا وَقَدَّرَهَا وَأَنَّ كُلَّ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ فَاَللَّهُ رَبُّهُ، وَمَلِيكُهُ، وَخَالِقُهُ، وَهُوَ مُفْتَقِرٌ إلَيْهِ، كَانَ قَدْ حَصَلَ لَهُ مِنْ تَمَامِ عُبُودِيَّتِهِ لِلَّهِ بِحَسَبِ مَا قُسِمَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ.
وَالنَّاسُ فِي هَذَا عَلَى دَرَجَاتٍ مُتَفَاوِتَةٍ لَا يُحْصِي طَرَفَيْهَا إلَّا اللَّهُ.
فَأَكْمَلُ الْخَلْقِ، وَأَفْضَلُهُمْ، وَأَعْلَاهُمْ، وَأَقْرَبُهُمْ إلَى اللَّهِ، وَأَقْوَاهُمْ، وَأَهْدَاهُمْ: أَتَمُّهُمْ عُبُودِيَّةً لِلَّهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَهَذَا هُوَ حَقِيقَةُ دِينِ الْإِسْلَامِ الَّذِي أَرْسَلَ بِهِ رُسُلَهُ، وَأَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ، وَهُوَ أَنْ
(5/189)
________________________________________
يَسْتَسْلِمَ الْعَبْدُ لِلَّهِ لَا لِغَيْرِهِ، فَالْمُسْتَسْلِمُ لَهُ وَلِغَيْرِهِ مُشْرِكٌ، وَالْمُمْتَنِعُ عَنْ الِاسْتِسْلَامِ لَهُ مُسْتَكْبِرٌ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنَّ الْجَنَّةَ لَا يَدْخُلُهَا مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ كَمَا أَنَّ النَّارَ لَا يَدْخُلُهَا مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ» فَجَعَلَ الْكِبْرَ مُقَابِلًا لِلْإِيمَانِ، فَإِنَّ الْكِبْرَ يُنَافِي حَقِيقَةَ الْعُبُودِيَّةِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «يَقُولُ اللَّهُ: الْعَظَمَةُ إزَارِي وَالْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي، فَمَنْ نَازَعَنِي وَاحِدًا مِنْهُمَا عَذَّبْته» فَالْعَظَمَةُ وَالْكِبْرِيَاءُ مِنْ خَصَائِصِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَالْكِبْرِيَاءُ أَعْلَى مِنْ الْعَظَمَةِ؛ وَلِهَذَا جَعَلَهَا بِمَنْزِلَةِ الرِّدَاءِ، كَمَا جَعَلَ الْعَظَمَةَ بِمَنْزِلَةِ الْإِزَارِ.
وَلِهَذَا كَانَ شِعَارُ الصَّلَوَاتِ، وَالْأَذَانِ، وَالْأَعْيَادِ هُوَ: التَّكْبِيرُ، وَكَانَ مُسْتَحَبًّا فِي الْأَمْكِنَةِ الْعَالِيَةِ كَالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَإِذَا عَلَا الْإِنْسَانُ شُرَفًا أَوْ رَكِبَ دَابَّةً وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَبِهِ يُطْفَأُ الْحَرِيقُ وَإِنْ عَظُمَ، وَعِنْدَ الْأَذَانِ يَهْرُبُ الشَّيْطَانُ.
قَالَ تَعَالَى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60] .
وَكُلُّ مَنْ اسْتَكْبَرَ مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ لَا بُدَّ أَنْ يَعْبُدَ غَيْرَهُ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ حَسَّاسٌ يَتَحَرَّكُ بِالْإِرَادَةِ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أَصْدَقُ الْأَسْمَاءِ حَارِثٌ وَهَمَّامٌ» فَالْحَارِثُ الْكَاسِبُ الْفَاعِلُ، وَالْهَمَّامُ فَعَّالٌ مِنْ الْهَمِّ، وَالْهَمُّ أَوَّلُ الْإِرَادَةِ، فَالْإِنْسَانُ لَهُ إرَادَةٌ دَائِمًا، وَكُلُّ إرَادَةٍ فَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ مُرَادٍ تَنْتَهِي إلَيْهِ، فَلَا بُدَّ لِكُلِّ عَبْدٍ مِنْ مُرَادٍ مَحْبُوبٍ هُوَ مُنْتَهَى حُبِّهِ وَإِرَادَتِهِ.
فَمَنْ لَمْ يَكُنْ اللَّهُ مَعْبُودَهُ وَمُنْتَهَى حُبِّهِ وَإِرَادَتِهِ بَلْ اسْتَكْبَرَ عَنْ ذَلِكَ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ مُرَادٌ مَحْبُوبٌ يَسْتَعْبِدُهُ غَيْرُ اللَّهِ، فَيَكُونُ عَبْدًا لِذَلِكَ الْمُرَادِ الْمَحْبُوبِ: إمَّا الْمَالُ، وَإِمَّا الْجَاهُ، وَإِمَّا الصُّوَرُ، وَإِمَّا مَا يَتَّخِذُهُ إلَهًا مِنْ دُونِ اللَّهِ: كَالشَّمْسِ، وَالْقَمَرِ، وَالْكَوَاكِبِ، وَالْأَوْثَانِ، وَقُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ، وَالصَّالِحِينَ، أَوْ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ، الَّذِينَ يَتَّخِذُهُمْ أَرْبَابًا، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا عَبَدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ.
وَإِذَا كَانَ عَبْدًا لِغَيْرِ اللَّهِ يَكُونُ مُشْرِكًا، وَكُلُّ مُسْتَكْبِرٍ فَهُوَ مُشْرِكٌ، وَلِهَذَا كَانَ
(5/190)
________________________________________
فِرْعَوْنُ مِنْ أَعْظَمِ الْخَلْقِ اسْتِكْبَارًا عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ، وَكَانَ مُشْرِكًا.
قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ - إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} [غافر: 23 - 24] إلَى قَوْلِهِ: {وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ} [غافر: 27] إلَى قَوْلِهِ: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} [غافر: 35] .
وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ} [العنكبوت: 39] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ} [القصص: 4] وَقَالَ: {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [النمل: 14] ، وَمِثْلُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ.
وَقَدْ وُصِفَ فِرْعَوْنُ بِالشِّرْكِ فِي قَوْلِهِ: {وَقَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} [الأعراف: 127] .
بَلْ الِاسْتِقْرَاءُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كُلَّمَا كَانَ الرَّجُلُ أَعْظَمَ اسْتِكْبَارًا عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ كَانَ أَعْظَمَ إشْرَاكًا بِاَللَّهِ؛ لِأَنَّهُ كُلَّمَا اسْتَكْبَرَ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ ازْدَادَ فَقْرُهُ وَحَاجَتُهُ إلَى الْمُرَادِ الْمَحْبُوبِ الَّذِي هُوَ الْمَقْصُودُ: مَقْصُودُ الْقَلْبِ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ، فَيَكُونُ مُشْرِكًا بِمَا اسْتَعْبَدَهُ مِنْ ذَلِكَ.
وَلَنْ يَسْتَغْنِيَ الْقَلْبُ عَنْ جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ إلَّا بِأَنْ يَكُونَ اللَّهُ هُوَ مَوْلَاهُ الَّذِي لَا يَعْبُدُ إلَّا إيَّاهُ وَلَا يَسْتَعِينُ إلَّا بِهِ، وَلَا يَتَوَكَّلُ إلَّا عَلَيْهِ، وَلَا يَفْرَحُ إلَّا بِمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ، وَلَا يَكْرَهُ إلَّا مَا يَبْغُضُهُ الرَّبُّ وَيَكْرَهُهُ، وَلَا يُوَالِي إلَّا مَنْ وَالَاهُ اللَّهُ، وَلَا يُعَادِي إلَّا مَنْ عَادَاهُ اللَّهُ، وَلَا يُحِبُّ إلَّا لِلَّهِ، وَلَا يَبْغُضُ شَيْئًا إلَّا لِلَّهِ، وَلَا يُعْطِي إلَّا لِلَّهِ، وَلَا يَمْنَعُ إلَّا لِلَّهِ، فَكُلَّمَا قَوِيَ إخْلَاصُ دِينِهِ لِلَّهِ كَمُلَتْ عُبُودِيَّتُهُ وَاسْتِغْنَاؤُهُ عَنْ الْمَخْلُوقَاتِ، وَبِكَمَالِ عُبُودِيَّتِهِ لِلَّهِ يُبْرِئُهُ مِنْ الْكِبْرِ وَالشِّرْكِ،
(5/191)
________________________________________
وَالشِّرْكُ غَالِبٌ عَلَى النَّصَارَى، وَالْكِبْرُ غَالِبٌ عَلَى الْيَهُودِ.
قَالَ تَعَالَى فِي النَّصَارَى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31] وَقَالَ فِي الْيَهُودِ: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} [البقرة: 87] .
وَقَالَ تَعَالَى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلا} [الأعراف: 146] .
وَلَمَّا كَانَ الْكِبْرُ مُسْتَلْزِمًا لِلشِّرْكِ، وَالشِّرْكُ ضِدُّ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ الذَّنْبُ الَّذِي لَا يَغْفِرُهُ اللَّهُ - قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} [النساء: 48] وَقَالَ: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيدًا} [النساء: 116]- كَانَ الْأَنْبِيَاءُ جَمِيعُهُمْ مَبْعُوثِينَ بِدِينِ الْإِسْلَامِ، فَهُوَ الدِّينُ الَّذِي لَا يَقْبَلُ اللَّهُ غَيْرَهُ، لَا مِنْ الْأَوَّلِينَ وَلَا مِنْ الْآخِرِينَ.
قَالَ نُوحٌ: {فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس: 72] وَقَالَ فِي حَقِّ إبْرَاهِيمَ: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [البقرة: 130] {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة: 131] إلَى قَوْلِهِ: {فَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 132] .
وَقَالَ يُوسُفُ: {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف: 101] وَقَالَ مُوسَى: {يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ - فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا} [يونس: 84 - 85] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا} [المائدة: 44]
(5/192)
________________________________________
وَقَالَتْ بِلْقِيسُ {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل: 44] وَقَالَ: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} [المائدة: 111] وَقَالَ {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران: 19] وَقَالَ: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85] .
وَقَالَ تَعَالَى: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [آل عمران: 83] فَذَكَرَ إسْلَامَ الْكَائِنَاتِ طَوْعًا وَكَرْهًا، لِأَنَّ الْمَخْلُوقَاتِ جَمِيعَهَا مُتَعَبِّدَةٌ لَهُ التَّعَبُّدَ الْعَامَّ، سَوَاءٌ أَقَرَّ الْمُقِرُّ بِذَلِكَ أَوْ أَنْكَرَهُ، وَهُمْ مَدِينُونَ مُدَبَّرُونَ، فَهُمْ مُسْلِمُونَ لَهُ طَوْعًا وَكَرْهًا.
لَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ خُرُوجٌ عَمَّا شَاءَهُ وَقَدَّرَهُ وَقَضَاهُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِهِ، وَهُوَ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَمَلِيكُهُمْ يُصَرِّفُهُمْ كَيْفَ يَشَاءُ، وَهُوَ خَالِقُهُمْ كُلِّهِمْ وَبَارِئُهُمْ وَمُصَوِّرُهُمْ، وَكُلُّ مَا سِوَاهُ فَهُوَ مَرْبُوبٌ، مَصْنُوعٌ، مَفْطُورٌ، فَقِيرٌ، مُحْتَاجٌ، مُعَبَّدٌ، مَقْهُورٌ، وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ.
وَهُوَ وَإِنْ كَانَ قَدْ خَلَقَ مَا خَلَقَ بِأَسْبَابٍ، فَهُوَ خَالِقُ السَّبَبِ وَالْمُقَدِّرُ لَهُ، وَهُوَ مُفْتَقِرٌ إلَيْهِ كَافْتِقَارِ هَذَا، وَلَيْسَ فِي الْمَخْلُوقَاتِ سَبَبٌ مُسْتَقِلٌّ بِفِعْلٍ وَلَا دَفْعِ ضَرَرٍ بَلْ كُلُّ مَا هُوَ سَبَبٌ فَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى سَبَبٍ آخَرَ يُعَاوِنُهُ وَإِلَى مَا يَدْفَعُ عَنْهُ الضِّدَّ الَّذِي يُعَارِضُهُ وَيُمَانِعُهُ.
وَهُوَ سُبْحَانَهُ وَحْدَهُ الْغَنِيُّ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ، لَيْسَ لَهُ شَرِيكٌ يُعَاوِنُهُ وَلَا ضِدٌّ يُنَاوِئُهُ وَيُعَارِضُهُ.
قَالَ تَعَالَى: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [الزمر: 38]
(5/193)
________________________________________
وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأنعام: 17] وَقَالَ تَعَالَى عَنْ الْخَلِيلِ: {يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} [الأنعام: 78] {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ - وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِي وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا} [الأنعام: 79 - 80] إلَى قَوْله تَعَالَى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 82] .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: «عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَمَّا نَزَلَتْ شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ النَّبِيِّ وَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّنَا لَمْ يُلْبِسْ إيمَانَهُ بِظُلْمٍ، فَقَالَ: إنَّمَا هُوَ الشِّرْكُ، أَلَمْ تَسْمَعُوا إلَى قَوْلِ الْعَبْدِ الصَّالِحِ: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] » .
وَإِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ إمَامُ الْحُنَفَاءِ الْمُخْلَصِينَ حَيْثُ بُعِثَ وَقَدْ طَبَّقَ الْأَرْضَ دِينُ الْمُشْرِكِينَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة: 124] فَبَيَّنَ أَنَّ عَهْدَهُ بِالْإِمَامَةِ لَا يَتَنَاوَلُ الظَّالِمَ، فَلَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ الظَّالِمُ إمَامًا، وَأَعْظَمُ الظُّلْمِ الشِّرْكُ.
وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل: 120] .
" وَالْأُمَّةُ " هُوَ مُعَلِّمُ الْخَيْرِ الَّذِي يُؤْتَمُّ بِهِ، كَمَا أَنَّ " الْقُدْوَةَ " الَّذِي يُقْتَدَى بِهِ.
وَاَللَّهُ تَعَالَى جَعَلَ فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ، وَإِنَّمَا بَعَثَ الْأَنْبِيَاءَ بَعْدَهُ بِمِلَّتِهِ قَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل: 123]
(5/194)
________________________________________
وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 68] .
وَقَالَ تَعَالَى: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران: 67] وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ - قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ} [البقرة: 135 - 136]- إلَى قَوْلِهِ - {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 136] .
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: «عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ إبْرَاهِيمَ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ» فَهُوَ أَفْضَلُ الْأَنْبِيَاءِ بَعْدَ النَّبِيِّ وَهُوَ خَلِيلُ اللَّهِ تَعَالَى.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ اللَّهَ اتَّخَذَنِي خَلِيلًا كَمَا اتَّخَذَ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا» وَقَالَ: «لَوْ كُنْت مُتَّخِذًا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ خَلِيلًا لَاِتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا، وَلَكِنَّ صَاحِبَكُمْ خَلِيلُ اللَّهِ» - يَعْنِي نَفْسَهُ - وَقَالَ «لَا يَبْقَيَنَّ فِي الْمَسْجِدِ خَوْخَةٌ إلَّا سُدَّتْ إلَّا خَوْخَةَ أَبِي بَكْرٍ» .
وَقَالَ: «إنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ، أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ، فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ» وَكُلُّ هَذَا فِي الصَّحِيحِ. وَفِيهِ أَنَّهُ قَالَ: ذَلِكَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِأَيَّامٍ، وَذَلِكَ مِنْ تَمَامِ رِسَالَتِهِ.
فَإِنَّ فِي ذَلِكَ تَحْقِيقَ تَمَامِ مُخَالَلَتِهِ لِلَّهِ الَّتِي أَصْلُهَا مَحَبَّةُ اللَّهِ تَعَالَى لِلْعَبْدِ، وَمَحَبَّةُ الْعَبْدِ لِلَّهِ خِلَافًا لِلْجَهْمِيَّةِ.
وَفِي ذَلِكَ تَحْقِيقُ تَوْحِيدِ اللَّهِ، وَأَنْ لَا يَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ، وَرَدٌّ عَلَى أَشْبَاهِ الْمُشْرِكِينَ.
وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى الرَّافِضَةِ الَّذِينَ يَبْخَسُونَ الصِّدِّيقَ حَقَّهُ، وَهُمْ أَعْظَمُ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْقِبْلَةِ إشْرَاكًا بِالْبَشَرِ.
(5/195)
________________________________________
" وَالْخُلَّةُ " هِيَ كَمَالُ الْمَحَبَّةِ الْمُسْتَلْزِمَةِ مِنْ الْعَبْدِ كَمَالَ الْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ، وَمِنْ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ كَمَالَ الرُّبُوبِيَّةِ لِعِبَادِهِ الَّذِينَ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ، وَلَفْظُ الْعُبُودِيَّةِ يَتَضَمَّنُ كَمَالَ الذُّلِّ، وَكَمَالَ الْحُبِّ، فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: قَلْبٌ مُتَيَّمٌ إذَا كَانَ مُتَعَبِّدًا لِلْمَحْبُوبِ، وَالْمُتَيَّمُ الْمُتَعَبِّدُ، وَتَيَّمَ اللَّهُ عَبَدَهُ، وَهَذَا عَلَى الْكَمَالِ حَصَلَ لِإِبْرَاهِيمَ وَمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ خَلِيلٌ؛ إذْ الْخُلَّةُ لَا تَحْتَمِلُ الشَّرِكَةَ فَإِنَّهُ كَمَا قِيلَ فِي الْمَعْنَى.
قَدْ تَخَلَّلَتْ مَسْلَكُ الرُّوحِ مِنِّي وَبِذَا سُمِّيَ الْخَلِيلُ خَلِيلًا بِخِلَافِ أَصْلِ الْحُبِّ فَإِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ قَالَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «فِي الْحَسَنِ وَأُسَامَةَ: اللَّهُمَّ إنِّي أُحِبُّهُمَا فَأَحِبَّهُمَا وَأَحِبَّ مَنْ يُحِبُّهُمَا» «وَسَأَلَهُ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إلَيْك؟ قَالَ: عَائِشَةُ قَالَ: فَمِنْ الرِّجَالِ؟ قَالَ: أَبُوهَا وَقَالَ لِعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ رَجُلًا يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَيُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ» وَأَمْثَالُ ذَلِكَ كَثِيرٌ.
وَقَدْ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ، وَيُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ، وَيُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ، وَيُحِبُّ التَّوَّابِينَ، وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ، وَيُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ، وَقَالَ: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54] فَقَدْ أَخْبَرَ بِمَحَبَّتِهِ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَحَبَّةِ الْمُؤْمِنِينَ لَهُ، حَتَّى قَالَ: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: 165] ، وَأَمَّا الْخُلَّةُ فَخَاصَّةٌ.
وَقَوْلُ بَعْضِ النَّاسِ: إنَّ مُحَمَّدًا حَبِيبُ اللَّهِ.
وَإِبْرَاهِيمَ خَلِيلُ اللَّهِ، وَظَنُّهُ أَنَّ الْمَحَبَّةَ فَوْقَ الْخُلَّةِ قَوْلٌ ضَعِيفٌ، فَإِنَّ مُحَمَّدًا أَيْضًا خَلِيلُ اللَّهِ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْمُسْتَفِيضَةِ.
وَمَا يُرْوَى " أَنَّ الْعَبَّاسَ يُحْشَرُ بَيْنَ حَبِيبٍ وَخَلِيلٍ " وَأَمْثَالُ ذَلِكَ، فَأَحَادِيثُ مَوْضُوعَةٌ لَا تَصْلُحُ أَنْ يُعْتَمَدَ عَلَيْهَا.
وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ مِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ تَعَالَى مَحَبَّةَ مَا أَحَبَّ، كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ: عَنْ
(5/196)
________________________________________
النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا وَمَنْ كَانَ يُحِبُّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إلَّا لِلَّهِ، وَمَنْ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ» أَخْبَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ هَذِهِ الثَّلَاثَ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ؛ لِأَنَّ وُجُودَ الْحَلَاوَةِ بِالشَّيْءِ يَتْبَعُ الْمَحَبَّةَ لَهُ، فَمَنْ أَحَبَّ شَيْئًا أَوْ اشْتَهَاهُ إذَا حَصَلَ لَهُ مُرَادُهُ، فَإِنَّهُ يَجِدُ الْحَلَاوَةَ وَاللَّذَّةَ وَالسُّرُورَ بِذَلِكَ، وَاللَّذَّةُ أَمْرٌ يَحْصُلُ عَقِيبَ إدْرَاكِ الْمُلَائِمِ الَّذِي هُوَ الْمَحْبُوبُ أَوْ الْمُشْتَهِي.
وَمَنْ قَالَ إنَّ اللَّذَّةَ إدْرَاكُ الْمُلَائِمِ كَمَا يَقُولُهُ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَالْأَطِبَّاءِ، فَقَدْ غَلِطَ فِي ذَلِكَ غَلَطًا مُبِينًا؛ فَإِنَّ الْإِدْرَاكَ يَتَوَسَّطُ بَيْنَ الْمَحَبَّةِ وَاللَّذَّةِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ مَثَلًا يَشْتَهِي الطَّعَامَ فَإِذَا أَكَلَهُ حَصَلَ لَهُ عَقِيبَ ذَلِكَ اللَّذَّةُ، فَاللَّذَّةُ تَتْبَعُ النَّظَرَ إلَى الشَّيْءِ، فَإِذَا نَظَرَ إلَيْهِ الْتَذَّ، فَاللَّذَّةُ تَتْبَعُ النَّظَرَ لَيْسَ نَفْسَ النَّظَرِ، وَلَيْسَتْ هِيَ رُؤْيَةَ الشَّيْءِ؛ بَلْ تَحْصُلُ عَقِيبَ رُؤْيَتِهِ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ} [الزخرف: 71] وَهَكَذَا جَمِيعُ مَا يَحْصُلُ لِلنَّفْسِ مِنْ اللَّذَّاتِ، وَالْآلَامِ مِنْ فَرَحٍ وَحُزْنٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ يَحْصُلُ بِالشُّعُورِ بِالْمَحْبُوبِ، أَوْ الشُّعُورِ بِالْمَكْرُوهِ، وَلَيْسَ نَفْسُ الشُّعُورِ هُوَ الْفَرَحُ وَلَا الْحُزْنُ.
فَحَلَاوَةُ الْإِيمَانِ الْمُتَضَمَّنَةِ مِنْ اللَّذَّةِ بِهِ وَالْفَرَحِ مَا يَجِدُهُ الْمُؤْمِنُ الْوَاجِدُ مِنْ حَلَاوَةِ الْإِيمَانِ تَتْبَعُ كَمَالَ مَحَبَّةِ الْعَبْدِ لِلَّهِ، وَذَلِكَ بِثَلَاثَةِ أُمُورٍ تَكْمِيلُ هَذِهِ الْمَحَبَّةِ، وَتَفْرِيعُهَا، وَدَفْعُ ضِدِّهَا.
" فَتَكْمِيلُهَا " أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، فَإِنَّ مَحَبَّةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لَا يُكْتَفَى فِيهَا بِأَصْلِ الْحُبِّ، بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا كَمَا تَقَدَّمَ.
" وَتَفْرِيعُهَا " أَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إلَّا لِلَّهِ.
" وَدَفْعُ ضِدِّهَا " أَنْ يَكْرَهَ ضِدَّ الْإِيمَانِ أَعْظَمَ مِنْ كَرَاهَتِهِ الْإِلْقَاءَ فِي النَّارِ، فَإِذَا كَانَتْ مَحَبَّةُ الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ مِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ
يُحِبُّ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يُحِبُّهُمْ اللَّهُ؛ لِأَنَّهُ أَكْمَلُ النَّاسِ مَحَبَّةً لِلَّهِ، وَأَحَقُّهُمْ بِأَنْ يُحِبَّ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ،
(5/197)
________________________________________
وَيَبْغُضَ مَا يَبْغُضُهُ اللَّهُ، " وَالْخُلَّةُ " لَيْسَ لِغَيْرِ اللَّهِ فِيهَا نَصِيبٌ، بَلْ قَالَ: «لَوْ كُنْت مُتَّخِذًا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ خَلِيلًا لَاتَّخَذْت أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا» عُلِمَ مَزِيدُ مَرْتَبَةِ الْخُلَّةِ عَلَى مُطْلَقِ الْمَحَبَّةِ.
وَالْمَقْصُودُ هُوَ أَنَّ " الْخُلَّةَ " " وَالْمَحَبَّةَ لِلَّهِ " تَحْقِيقُ عُبُودِيَّتِهِ؛ وَإِنَّمَا يَغْلَطُ مَنْ يَغْلَطُ فِي هَذِهِ مِنْ حَيْثُ يَتَوَهَّمُونَ أَنَّ الْعُبُودِيَّةَ مُجَرَّدُ ذُلٍّ وَخُضُوعٍ فَقَطْ، لَا مَحَبَّةَ مَعَهُ، أَوْ أَنَّ الْمَحَبَّةَ فِيهَا انْبِسَاطٌ فِي الْأَهْوَاءِ، أَوْ إذْلَالٌ لَا تَحْتَمِلُهُ الرُّبُوبِيَّةُ؛ وَلِهَذَا يُذْكَرُ عَنْ " ذِي النُّونِ " أَنَّهُمْ تَكَلَّمُوا عِنْدَهُ فِي مَسْأَلَةِ الْمَحَبَّةِ، فَقَالَ: أَمْسِكُوا عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَا تَسْمَعُهَا النُّفُوسُ فَتَدَّعِيهَا.
وَكَرِهَ مَنْ كَرِهَ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ وَالْعِلْمِ مُجَالَسَةَ أَقْوَامٍ يُكْثِرُونَ الْكَلَامَ فِي الْمَحَبَّةِ بِلَا خَشْيَةٍ؛ وَقَالَ مَنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ: مَنْ عَبَدَ اللَّهَ بِالْحُبِّ وَحْدَهُ فَهُوَ زِنْدِيقٌ، وَمَنْ عَبَدَهُ بِالرَّجَاءِ وَحْدَهُ فَهُوَ مُرْجِئٌ، وَمَنْ عَبَدَهُ بِالْخَوْفِ وَحْدَهُ فَهُوَ حَرُورِيٌّ، وَمَنْ عَبَدَهُ بِالْحُبِّ وَالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ مُوَحِّدٌ.
وَلِهَذَا وُجِدَ فِي الْمُسْتَأْخِرِينَ مَنْ انْبَسَطَ فِي دَعْوَى الْمَحَبَّةِ حَتَّى أَخْرَجَهُ ذَلِكَ إلَى نَوْعٍ مِنْ الرُّعُونَةِ، وَالدَّعْوَى الَّتِي تُنَافِي الْعُبُودِيَّةَ وَتُدْخِلُ الْعَبْدَ فِي نَوْعٍ مِنْ الرُّبُوبِيَّةِ الَّتِي لَا تَصْلُحُ إلَّا لِلَّهِ؛ وَيَدَّعِي أَحَدُهُمْ دَعَاوَى تَتَجَاوَزُ حُدُودَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، أَوْ يَطْلُبُونَ مِنْ اللَّهِ مَا لَا يَصْلُحُ - بِكُلِّ وَجْهٍ - إلَّا لِلَّهِ لَا يَصْلُحُ لِلْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ.
وَهَذَا بَابٌ وَقَعَ فِيهِ كَثِيرٌ مِنْ الشُّيُوخِ وَسَبَبُهُ ضَعْفُ تَحْقِيقِ الْعُبُودِيَّةِ الَّتِي بَيَّنَتْهَا الرُّسُلُ وَحَرَّرَهَا الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ الَّذِي جَاءُوا بِهِ، بَلْ ضَعْفُ الْعَقْلِ الَّذِي بِهِ يَعْرِفُ الْعَبْدُ حَقِيقَتَهُ؛ وَإِذَا ضَعُفَ الْعَقْلُ وَقَلَّ الْعِلْمُ بِالدِّينِ وَفِي النَّفْسِ مَحَبَّةٌ انْبَسَطَتْ النَّفْسُ بِحُمْقِهَا فِي ذَلِكَ، كَمَا يَنْبَسِطُ الْإِنْسَانُ فِي مَحَبَّةِ الْإِنْسَانِ مَعَ حُمْقِهِ وَجَهْلِهِ، وَيَقُولُ: أَنَا مُحِبٌّ فَلَا أُؤَاخَذُ بِمَا أَفْعَلُهُ مِنْ أَنْوَاعٍ يَكُونُ فِيهَا عُذْرٌ أَوْ جَهْلٌ.
فَهَذَا عَيْنُ الضَّلَالِ، وَهُوَ شَبِيهٌ بِقَوْلِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18] قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} [المائدة: 18] فَإِنَّ تَعْذِيبَهُ لَهُمْ بِذُنُوبِهِمْ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ غَيْرُ مَحْبُوبِينَ وَلَا مَنْسُوبِينَ إلَيْهِ بِنِسْبَةِ الْبُنُوَّةِ، بَلْ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ مَرْبُوبُونَ مَخْلُوقُونَ.
(5/198)
________________________________________
فَمَنْ كَانَ اللَّهُ يُحِبُّهُ اسْتَعْمَلَهُ فِيمَا يُحِبُّهُ مَحْبُوبُهُ، لَا يَفْعَلُ مَا يَبْغُضُهُ الْحَقُّ، وَيَسْخَطُهُ مِنْ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ، وَمَنْ فَعَلَ الْكَبَائِرَ، وَأَصَرَّ عَلَيْهَا وَلَمْ يَتُبْ مِنْهَا، فَإِنَّ اللَّهَ يَبْغُضُ مِنْهُ ذَلِكَ؛ كَمَا يُحِبُّ مِنْهُ مَا يَفْعَلُهُ مِنْ الْخَيْرِ؛ إذْ حُبُّهُ لِلْعَبْدِ بِحَسَبِ إيمَانِهِ وَتَقْوَاهُ، وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ الذُّنُوبَ لَا تَضُرُّهُ لِكَوْنِ اللَّهِ يُحِبُّهُ مَعَ إصْرَارِهِ عَلَيْهَا كَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ تَنَاوُلَ السُّمِّ لَا يَضُرُّهُ مَعَ مُدَاوَمَتِهِ عَلَيْهِ، وَعَدَمِ تَدَاوِيهِ مِنْهُ بِصِحَّةِ مِزَاجِهِ.
وَلَوْ تَدَبَّرَ الْأَحْمَقُ مَا قَصَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ مِنْ قَصَصِ أَنْبِيَائِهِ؛ وَمَا جَرَى لَهُمْ مِنْ التَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ؛ وَمَا أُصِيبُوا بِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَلَاءِ الَّذِي فِيهِ تَمْحِيصٌ لَهُمْ وَتَطْهِيرٌ بِحَسَبِ أَحْوَالِهِمْ؛ عَلِمَ بَعْضَ ضَرَرِ الذُّنُوبِ بِأَصْحَابِهَا وَلَوْ كَانَ أَرْفَعَ النَّاسِ مَقَامًا، فَإِنَّ الْمُحِبَّ لِلْمَخْلُوقِ إذَا لَمْ يَكُنْ عَارِفًا بِمَصْلَحَتِهِ وَلَا مُرِيدًا لَهَا؛ بَلْ يَعْمَلُ بِمُقْتَضَى الْحُبِّ - وَإِنْ كَانَ جَهْلًا وَظُلْمًا - أَنَّ ذَلِكَ سَبَبًا لِبُغْضِ الْمَحْبُوبِ لَهُ وَنُفُورِهِ عَنْهُ؛ بَلْ لِعُقُوبَتِهِ.


وَكَثِيرٌ مِنْ السَّالِكِينَ سَلَكُوا فِي دَعْوَى حُبِّ اللَّهِ أَنْوَاعًا مِنْ أُمُورِ الْجَهْلِ بِالدِّينِ؛ إمَّا مِنْ تَعَدِّي حُدُودِ اللَّهِ؛ وَإِمَّا مِنْ تَضْيِيعِ حُقُوقِ اللَّهِ، وَإِمَّا مِنْ ادِّعَاءِ الدَّعَاوَى الْبَاطِلَةِ الَّتِي لَا حَقِيقَةَ لَهَا، كَقَوْلِ بَعْضِهِمْ: أَيُّ مُرِيدٍ لِي تَرَكَ فِي النَّارِ أَحَدًا فَأَنَا مِنْهُ بَرِيءٌ؛ فَقَالَ الْآخَرُ: أَيُّ مُرِيدٍ لِي تَرَكَ أَحَدًا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ يَدْخُلُ النَّارَ فَأَنَا مِنْهُ بَرِيءٌ.
فَالْأَوَّلُ جَعَلَ مُرِيدَهُ يُخْرِجُ كُلَّ مَنْ فِي النَّارِ؛ وَالثَّانِي جَعَلَ مُرِيدَهُ يَمْنَعُ أَهْلَ الْكَبَائِرِ مِنْ دُخُولِ النَّارِ.
وَيَقُولُ بَعْضُهُمْ: إذَا كَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ نَصَبْت خَيْمَتِي عَلَى جَهَنَّمَ حَتَّى لَا يَدْخُلَهَا أَحَدٌ.
وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنْ الْأَقْوَالِ الَّتِي تُؤْثَرُ عَنْ بَعْضِ الْمَشَايِخِ الْمَشْهُورِينَ؛ وَهِيَ إمَّا كَذِبٌ عَلَيْهِمْ، وَإِمَّا غَلَطٌ مِنْهُمْ؛ وَمِثْلُ هَذَا قَدْ يَصْدُرُ فِي حَالِ سُكْرٍ وَغَلَبَةٍ وَفَنَاءٍ يَسْقُطُ فِيهَا تَمْيِيزُ الْإِنْسَانِ؛ أَوْ يَضْعُفُ حَتَّى لَا يَدْرِي مَا قَالَ، " وَالسُّكْرُ " هُوَ لَذَّةٌ مَعَ عَدَمِ تَمْيِيزٍ وَلِهَذَا كَانَ بَيْنَ هَؤُلَاءِ مَنْ إذَا صَحَا اسْتَغْفَرَ مِنْ ذَلِكَ الْكَلَامِ.
وَاَلَّذِينَ تَوَسَّعُوا مِنْ الشُّيُوخِ فِي سَمَاعِ الْقَصَائِدِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِلْحُبِّ، وَالشَّوْقِ، وَاللَّوْمِ، وَالْعَذْلِ، وَالْغَرَامِ كَانَ هَذَا أَصْلَ مَقْصِدِهِمْ؛ وَلِهَذَا أَنْزَلَ اللَّهُ لِلْمَحَبَّةِ مِحْنَةً يَمْتَحِنُ بِهَا الْمُحِبَّ فَقَالَ: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] فَلَا
(5/199)
________________________________________
يَكُونُ مُحِبًّا لِلَّهِ إلَّا مَنْ يَتَّبِعُ رَسُولَهُ، وَطَاعَةُ الرَّسُولِ وَمُتَابَعَتُهُ تَحْقِيقُ الْعُبُودِيَّةِ.
وَكَثِيرٌ مِمَّنْ يَدَّعِي الْمَحَبَّةَ يَخْرُجُ عَنْ شَرِيعَتِهِ وَسُنَّتِهِ، وَيَدَّعِي مِنْ الْخَيَالَاتِ مَا لَا يَتَّسِعُ هَذَا الْمَوْضِعُ لِذِكْرِهِ، حَتَّى قَدْ يَظُنُّ أَحَدُهُمْ سُقُوطَ الْأَمْرِ وَتَحْلِيلَ الْحَرَامِ لَهُ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ مُخَالَفَةُ شَرِيعَةِ الرَّسُولِ وَسُنَّتِهِ، وَطَاعَتِهِ، بَلْ قَدْ جَعَلَ مَحَبَّةَ اللَّهِ وَمَحَبَّةَ رَسُولِهِ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِهِ.
" وَالْجِهَادُ " يَتَضَمَّنُ كَمَالَ مَحَبَّةِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، وَكَمَالَ بُغْضِ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ، وَلِهَذَا قَالَ فِي صِفَةِ مَنْ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [المائدة: 54] .
وَلِهَذَا كَانَتْ مَحَبَّةُ هَذِهِ الْأُمَّةِ لِلَّهِ أَكْمَلَ مِنْ مَحَبَّةِ مَنْ قَبْلَهَا، وَعُبُودِيَّتُهُمْ لِلَّهِ أَكْمَلَ مِنْ عُبُودِيَّةِ مَنْ قَبْلَهُمْ.
وَأَكْمَلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ فِي ذَلِكَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَنْ كَانَ بِهِمْ أَشْبَهَ كَانَ ذَلِكَ فِيهِ أَكْمَلَ، فَأَيْنَ هَذَا مِنْ قَوْمٍ يَدَّعُونَ الْمَحَبَّةَ؟ ،.
[وَفِي] كَلَامِ بَعْضِ الشُّيُوخِ: الْمَحَبَّةُ نَارٌ تُحَرِّقُ فِي الْقَلْبِ مَا سِوَى مُرَادِ الْمَحْبُوبِ.
وَأَرَادُوا أَنَّ الْكَوْنَ كُلَّهُ قَدْ أَرَادَ اللَّهُ وُجُودَهُ، فَظَنُّوا أَنَّ كَمَالَ الْمَحَبَّةِ أَنْ يُحِبَّ الْعَبْدُ كُلَّ شَيْءٍ، حَتَّى الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ، وَلَا يُمْكِنُ لِأَحَدٍ أَنْ يُحِبَّ كُلَّ مَوْجُودٍ بَلْ يُحِبُّ مَا يُلَائِمُهُ وَيَنْفَعُهُ وَيَبْغُضُ مَا يُنَافِيهِ وَيَضُرُّهُ، وَلَكِنْ اسْتَفَادُوا بِهَذَا الضَّلَالِ اتِّبَاعَ أَهْوَائِهِمْ، فَهُمْ يُحِبُّونَ مَا يَهْوَوْنَهُ كَالصُّوَرِ وَالرِّئَاسَةِ وَفُضُولِ الْمَالِ، وَالْبِدَعِ الْمُضِلَّةِ، زَاعِمِينَ أَنَّ هَذَا مِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ، وَمِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ بُغْضُ مَا يَبْغُضُهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَجِهَادُ أَهْلِهِ بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ.
وَأَصْلُ ضَلَالِهِمْ أَنَّ هَذَا الْقَائِلَ الَّذِي قَالَ: " إنَّ الْمَحَبَّةَ نَارٌ تُحَرِّقُ مَا سِوَى مُرَادِ الْمَحْبُوبِ " قَصَدَ بِمُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى الْإِرَادَةَ الدِّينِيَّةَ الشَّرْعِيَّةَ الَّتِي هِيَ بِمَعْنَى مَحَبَّتِهِ وَرِضَاهُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: تُحَرِّقُ مِنْ الْقَلْبِ مَا سِوَى الْمَحْبُوبِ لِلَّهِ، وَهَذَا مَعْنًى صَحِيحٌ.
فَإِنَّ مِنْ تَمَامِ الْحُبِّ أَنْ لَا يُحِبَّ إلَّا مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْت مَا لَا يُحِبُّ كَانَتْ الْمَحَبَّةُ نَاقِصَةً، وَأَمَّا قَضَاؤُهُ وَقَدَرُهُ فَهُوَ يَبْغُضُهُ، وَيَكْرَهُهُ، وَيَسْخَطُهُ، وَيَنْهَى عَنْهُ، فَإِنْ لَمْ أُوَافِقْهُ فِي بُغْضِهِ وَكَرَاهَتِهِ وَسُخْطِهِ لَمْ أَكُنْ مُحِبًّا لَهُ، بَلْ مُحِبًّا لِمَا يَبْغُضُهُ.
فَاتِّبَاعُ الشَّرِيعَةِ، وَالْقِيَامُ بِالْجِهَادِ مِنْ أَعْظَمِ الْفُرُوقِ بَيْنَ أَهْلِ مَحَبَّةِ اللَّهِ وَأَوْلِيَائِهِ الَّذِينَ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ،
(5/200)
________________________________________
وَبَيْنَ مَنْ يَدَّعِي مَحَبَّةَ اللَّهِ نَاظِرًا إلَى عُمُومِ رُبُوبِيَّتِهِ، أَوْ مُتَّبِعًا لِبَعْضِ الْبِدَعِ الْمُخَالِفَةِ لِشَرِيعَتِهِ، فَإِنَّ دَعْوَى هَذِهِ الْمَحَبَّةِ لِلَّهِ مِنْ جِنْسِ دَعْوَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى الْمَحَبَّةَ لِلَّهِ، بَلْ قَدْ تَكُونُ دَعْوَى هَؤُلَاءِ شَرًّا مِنْ دَعْوَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى لِمَا فِيهِمْ مِنْ النِّفَاقِ الَّذِينَ هُمْ بِهِ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ، كَمَا قَدْ تَكُونُ دَعْوَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى شَرٌّ مِنْ دَعْوَاهُمْ إذَا لَمْ يَصِلُوا إلَى مِثْلِ كُفْرِهِمْ، وَفِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ مِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ مَا هُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَيْهِ، حَتَّى إنَّ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ أَعْظَمُ وَصَايَا النَّامُوسِ.
فَفِي الْإِنْجِيلِ أَنَّ الْمَسِيحَ قَالَ: " أَعْظَمُ وَصَايَا الْمَسِيحِ أَنْ تُحِبَّ اللَّهَ بِكُلِّ قَلْبِك وَعَقْلِك وَنَفْسِك "، وَالنَّصَارَى يَدَّعُونَ قِيَامَهُمْ بِهَذِهِ الْمَحَبَّةِ، وَأَنَّ مَا هُمْ فِيهِ مِنْ الزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ هُوَ مِنْ ذَلِكَ، وَهُمْ بَرَاءٌ مِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ إذْ لَمْ يَتَّبِعُوا مَا أَحَبَّهُ، بَلْ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ، وَاَللَّهُ يَبْغُضُ الْكَافِرِينَ وَيَمْقُتُهُمْ، وَيَلْعَنُهُمْ.
وَهُوَ سُبْحَانَهُ يُحِبُّ مَنْ يُحِبُّهُ، لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ مُحِبًّا لِلَّهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى غَيْرُ مُحِبٍّ لَهُ، بَلْ بِقَدْرِ مَحَبَّةِ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ يَكُونُ حُبُّ اللَّهِ لَهُ؛ وَإِنْ كَانَ جَزَاءُ اللَّهِ لِعَبْدِهِ أَعْظَمَ.
كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْإِلَهِيِّ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْتُ إلَيْهِ ذِرَاعًا وَمَنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْت إلَيْهِ بَاعَا وَمَنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْته هَرْوَلَةً» .
وَقَدْ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ، وَالْمُحْسِنِينَ وَالصَّابِرِينَ، وَيُحِبُّ التَّوَّابِينَ، وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ، بَلْ هُوَ يُحِبُّ مَنْ فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ مِنْ وَاجِبٍ وَمُسْتَحَبٍّ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «لَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْته كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ» الْحَدِيثَ.
وَكَثِيرٌ مِنْ الْمُخْطِئِينَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا أَشْيَاخًا فِي " الزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ " وَقَعُوا فِي بَعْضِ مَا وَقَعَ فِيهِ النَّصَارَى: مِنْ دَعْوَى الْمَحَبَّةِ لِلَّهِ مَعَ مُخَالَفَةِ شَرِيعَتِهِ، وَتَرْكِ الْمُجَاهَدَةِ فِي سَبِيلِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَيَتَمَسَّكُونَ فِي الدِّينِ الَّذِي يَتَقَرَّبُونَ بِهِ إلَى اللَّهِ بِنَحْوِ مَا تَمَسَّكَ بِهِ النَّصَارَى مِنْ الْكَلَامِ الْمُتَشَابِهِ، وَالْحِكَايَاتِ الَّتِي لَا يُعْرَفُ صِدْقُ قَائِلِهَا، وَلَوْ صَدَقَ لَمْ يَكُنْ قَائِلُهَا مَعْصُومًا، فَيَجْعَلُونَ مَتْبُوعِيهِمْ شَارِعِينَ لَهُمْ دِينًا، كَمَا جَعَلَ النَّصَارَى قِسِّيسِيهِمْ
(5/201)
________________________________________
وَرُهْبَانَهُمْ شَارِعِينَ لَهُمْ دِينًا، ثُمَّ إنَّهُمْ يَنْتَقِصُونَ الْعُبُودِيَّةَ وَيَدَّعُونَ أَنَّ الْخَاصَّةَ يَتَعَدَّوْنَهَا كَمَا يَدَّعِي النَّصَارَى فِي الْمَسِيحِ، وَيُثْبِتُونَ لِلْخَاصَّةِ مِنْ الْمُشَارَكَةِ فِي اللَّهِ مِنْ جِنْسِ مَا تُثْبِتُهُ النَّصَارَى فِي الْمَسِيحِ وَأُمِّهِ إلَى أَنْوَاعٍ أُخَرَ يَطُولُ شَرْحُهَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ.
وَإِنَّمَا دِينُ الْحَقِّ هُوَ تَحْقِيقُ الْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ بِكُلِّ وَجْهٍ، وَهُوَ تَحْقِيقُ مَحَبَّةِ اللَّهِ بِكُلِّ دَرَجَةٍ وَبِقَدْرِ تَكْمِيلِ الْعُبُودِيَّةِ تَكْمُلُ مَحَبَّةُ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ، وَتَكْمُلُ مَحَبَّةُ الرَّبِّ لِعَبْدِهِ، وَبِقَدْرِ نَقْصِ هَذَا يَكُونُ نَقْصُ هَذَا؛ وَكُلَّمَا كَانَ فِي الْقَلْبِ حُبٌّ لِغَيْرِ اللَّهِ كَانَتْ فِيهِ عُبُودِيَّةٌ لِغَيْرِ اللَّهِ بِحَسَبِ ذَلِكَ، وَكُلَّمَا كَانَ فِيهِ عُبُودِيَّةٌ لِغَيْرِ اللَّهِ كَانَ فِيهِ حُبٌّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِحَسَبِ ذَلِكَ، وَكُلُّ مَحَبَّةٍ لَا تَكُونُ لِلَّهِ فَهِيَ بَاطِلَةٌ، وَكُلُّ عَمَلٍ لَا يُرَادُ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ.
فَالدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ مَلْعُونٌ مَا فِيهَا إلَّا مَا كَانَ لِلَّهِ، وَلَا يَكُونُ لِلَّهِ إلَّا مَا أَحَبَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَهُوَ الْمَشْرُوعُ.
فَكُلُّ عَمَلٍ أُرِيدَ بِهِ غَيْرُ اللَّهِ لَمْ يَكُنْ لِلَّهِ، وَكُلُّ عَمَلٍ لَا يُوَافِقُ شَرْعَ اللَّهِ لَمْ يَكُنْ لِلَّهِ، بَلْ لَا يَكُونُ لِلَّهِ إلَّا مَا جَمَعَ الْوَصْفَيْنِ: أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ، وَأَنْ يَكُونَ مُوَافِقًا لِمَحَبَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَهُوَ الْوَاجِبُ وَالْمُسْتَحَبُّ.
كَمَا قَالَ: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110] .
فَلَا بُدَّ مِنْ الْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَهُوَ الْوَاجِبُ وَالْمُسْتَحَبُّ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ خَالِصًا لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 112] .
وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى؛ فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إلَى مَا هَاجَرَ إلَيْهِ» .
وَهَذَا الْأَصْلُ هُوَ أَصْلُ الدِّينِ، وَبِحَسَبِ تَحْقِيقِهِ يَكُونُ تَحْقِيقُ الدِّينِ وَبِهِ أَرْسَلَ اللَّهُ الرُّسُلَ، وَأَنْزَلَ الْكُتُبَ، وَإِلَيْهِ دَعَا الرَّسُولُ، وَعَلَيْهِ جَاهَدَ؛ وَبِهِ أَمَرَ، وَفِيهِ رَغِبَ؛ وَهُوَ قُطْبُ الدِّينِ الَّذِي تَدُورُ عَلَيْهِ رَحَاهُ.
(5/202)
________________________________________
وَالشِّرْكُ غَالِبٌ عَلَى النُّفُوسِ، وَهُوَ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ.
«وَهُوَ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ» وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ. كَيْفَ نَنْجُو مِنْهُ، وَهُوَ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَبِي بَكْرٍ: أَلَا أُعَلِّمُك كَلِمَةً إذَا قُلْتَهَا نَجَوْتَ مِنْ دِقِّهِ وَجِلِّهِ؟ قُلْ: اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك أَنْ أُشْرِكَ بِك وَأَنَا أَعْلَمُ، وَأَسْتَغْفِرُك لِمَا لَا أَعْلَمُ» .
وَكَانَ عُمَرُ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: اللَّهُمَّ اجْعَلْ عَمَلِي كُلَّهُ صَالِحًا، وَاجْعَلْهُ لِوَجْهِك خَالِصًا، وَلَا تَجْعَلْ لِأَحَدٍ فِيهِ شَيْئًا.
وَكَثِيرًا مَا يُخَالِطُ النُّفُوسَ مِنْ الشَّهَوَاتِ الْخَفِيَّةِ مَا يُفْسِدُ عَلَيْهَا تَحْقِيقَ مَحَبَّتِهَا لِلَّهِ وَعُبُودِيَّتَهَا لَهُ، وَإِخْلَاصَ دِينِهَا لَهُ.
كَمَا قَالَ شَدَّادُ بْنُ أَوْسٍ: يَا بَقَايَا الْعَرَبِ إنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ الرِّيَاءُ وَالشَّهْوَةُ الْخَفِيَّةُ.
قِيلَ لِأَبِي دَاوُد السِّجِسْتَانِيِّ: وَمَا الشَّهْوَةُ الْخَفِيَّةُ؟ قَالَ: حُبُّ الرِّئَاسَةِ، وَعَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَا ذِئْبَانِ جَائِعَانِ أُرْسِلَا فِي زَرِيبَةِ غَنَمٍ بِأَفْسَدَ لَهَا مِنْ حِرْصِ الْمَرْءِ عَلَى الْمَالِ وَالشَّرَفِ لِدِينِهِ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
فَبَيَّنَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ الْحِرْصَ عَلَى الْمَالِ وَالشَّرَفِ فِي فَسَادِ الدِّينِ لَا يَنْقُصُ عَنْ فَسَادِ الذِّئْبَيْنِ الْجَائِعَيْنِ لِزَرِيبَةِ الْغَنَمِ، وَذَلِكَ بَيِّنٌ؛ فَإِنَّ الدِّينَ السَّلِيمَ لَا يَكُونُ فِيهِ هَذَا الْحِرْصُ، وَذَلِكَ أَنَّ الْقَلْبَ إذَا ذَاقَ حَلَاوَةَ عُبُودِيَّتِهِ لِلَّهِ وَمَحَبَّتِهِ لَهُ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى يُقَدِّمَهُ عَلَيْهِ، وَبِذَلِكَ يُصْرَفُ عَنْ أَهْلِ الْإِخْلَاصِ لِلَّهِ السُّوءُ وَالْفَحْشَاءُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف: 24] .
فَإِنَّ الْمُخْلِصَ لِلَّهِ ذَاقَ مِنْ حَلَاوَةِ عُبُودِيَّتِهِ لِلَّهِ مَا يَمْنَعُهُ مِنْ عُبُودِيَّتِهِ لِغَيْرِهِ، وَمِنْ حَلَاوَةِ مَحَبَّتِهِ لِلَّهِ مَا يَمْنَعُهُ عَنْ مَحَبَّةِ غَيْرِهِ، إذْ لَيْسَ عِنْدَ الْقَلْبِ لَا أَحْلَى وَلَا أَلَذُّ وَلَا أَطْيَبُ وَلَا أَلْيَنُ وَلَا أَنْعَمُ مِنْ حَلَاوَةِ الْإِيمَانِ الْمُتَضَمِّنِ عُبُودِيَّتَهُ لِلَّهِ، وَمَحَبَّتَهُ لَهُ، وَإِخْلَاصَهُ الدِّينَ لَهُ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي انْجِذَابَ الْقَلْبِ إلَى اللَّهِ فَيَصِيرُ الْقَلْبُ مُنِيبًا إلَى اللَّهِ خَائِفًا مِنْهُ رَاغِبًا رَاهِبًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} [ق: 33] .
(5/203)
________________________________________
إذْ الْمُحِبُّ يَخَافُ مِنْ زَوَالِ مَطْلُوبِهِ وَحُصُولِ مَرْغُوبِهِ، فَلَا يَكُونُ عَبْدًا لِلَّهِ وَمُحِبَّهُ إلَّا بَيْنَ خَوْفٍ وَرَجَاءٍ؛ قَالَ تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء: 57] .
وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ مُخْلِصًا لَهُ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَيُحْيِي قَلْبَهُ، وَاجْتَذَبَهُ إلَيْهِ فَيَنْصَرِفُ عَنْهُ مَا يُضَادُّ ذَلِكَ مِنْ السُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ، وَيَخَافُ مِنْ حُصُولِ ضِدِّ ذَلِكَ؛ بِخِلَافِ الْقَلْبِ الَّذِي لَمْ يُخْلِصْ لِلَّهِ، فَإِنَّهُ فِي طَلَبٍ وَإِرَادَةٍ وَحُبٍّ مُطْلَقٍ، فَيَهْوَى مَا يَسْنَحُ لَهُ وَيَتَشَبَّثُ بِمَا يَهْوَاهُ، كَالْغُصْنِ أَيُّ نَسِيمٍ مَرَّ بِعِطْفِهِ أَمَالَهُ فَتَارَةً تَجْتَذِبُهُ الصُّوَرُ الْمُحَرَّمَةُ وَغَيْرُ الْمُحَرَّمَةِ؛ فَيَبْقَى أَسِيرًا عَبْدًا لِمَنْ لَوْ اتَّخَذَهُ هُوَ عَبْدًا لَهُ لَكَانَ ذَلِكَ عَيْبًا وَنَقْصًا وَذَمًّا.
وَتَارَةً يَجْتَذِبُهُ الشَّرَفُ وَالرِّئَاسَةُ، فَتُرْضِيهِ الْكَلِمَةُ وَتُغْضِبُهُ الْكَلِمَةُ وَيَسْتَعْبِدُهُ مَنْ يُثْنِي عَلَيْهِ وَلَوْ بِالْبَاطِلِ، وَيُعَادِي مَنْ يَذُمُّهُ وَلَوْ بِالْحَقِّ.
وَتَارَةً يَسْتَعْبِدُهُمْ الدِّرْهَمُ وَالدِّينَارُ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي تَسْتَعْبِدُ الْقُلُوبَ، وَالْقُلُوبُ تَهْوَاهَا فَيَتَّخِذَ إلَهَهُ هَوَاهُ وَيَتَّبِعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ.
وَمَنْ لَمْ يَكُنْ خَالِصًا لِلَّهِ عَبْدًا لَهُ قَدْ صَارَ قَلْبُهُ مُعْبِدًا لِرَبِّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، بِحَيْثُ يَكُونُ اللَّهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ، وَيَكُونُ ذَلِيلًا لَهُ خَاضِعًا وَإِلَّا اسْتَعْبَدَتْهُ الْكَائِنَاتُ، وَاسْتَوْلَتْ عَلَى قَلْبِهِ الشَّيَاطِينُ، وَكَانَ مِنْ الْغَاوِينَ إخْوَانِ الشَّيَاطِينِ، وَصَارَ فِيهِ مِنْ السُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ، وَهَذَا أَمْرٌ ضَرُورِيٌّ لَا حِيلَةَ فِيهِ؛ فَالْقَلْبُ إنْ لَمْ يَكُنْ حَنِيفًا مُقْبِلًا عَلَى اللَّهِ مُعْرِضًا عَمَّا سِوَاهُ وَإِلَّا كَانَ مُشْرِكًا.
قَالَ تَعَالَى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم: 30] إلَى قَوْلِهِ: {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون: 53] .
وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ إبْرَاهِيمَ وَآلَ إبْرَاهِيمَ أَئِمَّةً لِهَؤُلَاءِ الْحُنَفَاءِ الْمُخْلَصِينَ أَهْلِ
(5/204)
________________________________________
مَحَبَّةِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ وَإِخْلَاصِ الدِّينِ لَهُ؛ كَمَا جَعَلَ فِرْعَوْنَ وَآلَ فِرْعَوْنَ أَئِمَّةَ الْمُشْرِكِينَ الْمُتَّبِعِينَ أَهْوَاءَهُمْ.
قَالَ تَعَالَى فِي إبْرَاهِيمَ: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلا جَعَلْنَا صَالِحِينَ} [الأنبياء: 72] {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} [الأنبياء: 73] .
وَقَالَ فِي فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنْصَرُونَ} [القصص: 41] {وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ} [القصص: 42] .
وَلِهَذَا يَصِيرُ أَتْبَاعُ فِرْعَوْنَ أَوَّلًا إلَى أَنْ لَا يُمَيِّزُوا بَيْنَ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ.
وَبَيْنَ مَا قَدَّرَ اللَّهُ وَقَضَاهُ؛ بَلْ يَنْظُرُونَ إلَى الْمَشِيئَةِ الْمُطْلَقَةِ الشَّامِلَةِ.
ثُمَّ فِي آخِرِ الْأَمْرِ لَا يُمَيِّزُونَ بَيْنَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ، بَلْ يَجْعَلُونَ وُجُودَ هَذَا وُجُودَ هَذَا، وَيَقُولُ مُحَقِّقُوهُمْ الشَّرِيعَةُ فِيهَا طَاعَةٌ وَمَعْصِيَةٌ.
وَالْحَقِيقَةُ فِيهَا مَعْصِيَةٌ بِلَا طَاعَةٍ؛ وَالتَّحْقِيقُ لَيْسَ فِيهِ طَاعَةٌ وَلَا مَعْصِيَةٌ، وَهَذَا تَحْقِيقُ مَذْهَبِ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ الَّذِينَ أَنْكَرُوا الْخَالِقَ وَأَنْكَرُوا تَكْلِيمَهُ لِعَبْدِهِ مُوسَى وَمَا أَرْسَلَهُ بِهِ مِنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ.
وَأَمَّا إبْرَاهِيمُ وَآلُ إبْرَاهِيمَ الْحُنَفَاءُ وَالْأَنْبِيَاءُ فَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ، وَلَا بُدَّ مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ.
وَأَنَّ الْعَبْدَ كُلَّمَا ازْدَادَ تَحْقِيقًا ازْدَادَتْ مَحَبَّتُهُ لِلَّهِ وَعُبُودِيَّتُهُ لَهُ وَطَاعَتُهُ لَهُ وَإِعْرَاضُهُ عَنْ عِبَادَةِ غَيْرِهِ وَمَحَبَّةِ غَيْرِهِ وَطَاعَةِ غَيْرِهِ، وَهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ الضَّالُّونَ يُسَوُّونَ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ خَلْقِهِ.
وَالْخَلِيلُ يَقُولُ: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ} [الشعراء: 75] {أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ} [الشعراء: 76] {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 77] وَيَتَمَسَّكُونَ بِالْمُتَشَابِهِ مِنْ كَلَامِ الْمَشَايِخِ كَمَا فَعَلَتْ النَّصَارَى.
مِثَالُ ذَلِكَ اسْمُ " الْفَنَاءِ " فَإِنَّ " الْفَنَاءَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ ": نَوْعٌ لِلْكَامِلِينَ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ؛ وَنَوْعٌ لِلْقَاصِدِينَ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ؛ وَنَوْعٌ لِلْمُنَافِقِينَ الْمُلْحِدِينَ الْمُشَبِّهِينَ. فَأَمَّا الْأَوَّلُ: فَهُوَ " الْفَنَاءُ عَنْ إرَادَةِ مَا سِوَى اللَّهِ " بِحَيْثُ لَا يُحِبُّ إلَّا اللَّهَ.
وَلَا يَعْبُدُ إلَّا إيَّاهُ وَلَا يَتَوَكَّلُ إلَّا عَلَيْهِ، وَلَا يَطْلُبُ غَيْرَهُ؛ وَهُوَ الْمَعْنَى الَّذِي يَجِبُ أَنْ يُقْصَدَ بِقَوْلِ
(5/205)
________________________________________
الشَّيْخِ أَبِي يَزِيدَ حَيْثُ قَالَ: أُرِيدُ أَنْ لَا أُرِيدَ إلَّا مَا يُرِيدُ.
أَيْ الْمُرَادُ الْمَحْبُوبُ الْمَرْضِيُّ؛ وَهُوَ الْمُرَادُ بِالْإِرَادَةِ الدِّينِيَّةِ وَكَمَالُ الْعَبْدِ أَنْ لَا يُرِيدَ وَلَا يُحِبَّ وَلَا يَرْضَى إلَّا مَا أَرَادَهُ اللَّهُ وَرَضِيَهُ وَأَحَبَّهُ، وَهُوَ مَا أَمَرَ بِهِ أَمْرَ إيجَابٍ أَوْ اسْتِحْبَابٍ؛ وَلَا يُحِبُّ إلَّا مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ كَالْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ.
وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ فِي قَوْلِهِ: {إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 89] ، قَالُوا: هُوَ السَّلِيمُ مِمَّا سِوَى اللَّهِ، أَوْ مِمَّا سِوَى عِبَادَةِ اللَّهِ، أَوْ مِمَّا سِوَى إرَادَةِ اللَّهِ، أَوْ مِمَّا سِوَى مَحَبَّةِ اللَّهِ، فَالْمَعْنَى وَاحِدٌ وَهَذَا الْمَعْنَى إنْ سُمِّيَ فَنَاءً أَوْ لَمْ يُسَمَّ هُوَ أَوَّلُ الْإِسْلَامِ وَآخِرُهُ. وَبَاطِنُ الدِّينِ وَظَاهِرُهُ.
وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي: فَهُوَ " الْفَنَاءُ عَنْ شُهُودِ السِّوَى ".
وَهَذَا يَحْصُلُ لِكَثِيرٍ مِنْ السَّالِكِينَ، فَإِنَّهُمْ لِفَرْطِ انْجِذَابِ قُلُوبِهِمْ إلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَضَعْفِ قُلُوبِهِمْ عَنْ أَنْ تَشْهَدَ غَيْرَ مَا تَعْبُدُ وَتَرَى غَيْرَ مَا تَقْصِدُ؛ لَا يَخْطِرُ بِقُلُوبِهِمْ غَيْرُ اللَّهِ؛ بَلْ وَلَا يَشْعُرُونَ؛ كَمَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا} [القصص: 10] قَالُوا: فَارِغًا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إلَّا مِنْ ذِكْرِ مُوسَى.
وَهَذَا كَثِيرٌ يَعْرِضُ لِمَنْ فَقَمَهُ أَمْرٌ مِنْ الْأُمُورِ إمَّا حُبٌّ وَإِمَّا خَوْفٌ.
وَإِمَّا رَجَاءٌ يَبْقَى قَلْبُهُ مُنْصَرِفًا عَنْ كُلِّ شَيْءٍ إلَّا عَمَّا قَدْ أَحَبَّهُ أَوْ خَافَهُ أَوْ طَلَبَهُ؛ بِحَيْثُ يَكُونُ عِنْدَ اسْتِغْرَاقِهِ فِي ذَلِكَ لَا يَشْعُرُ بِغَيْرِهِ.
فَإِذَا قَوِيَ عَلَى صَاحِبِ الْفَنَاءِ هَذَا فَإِنَّهُ يَغِيبُ بِمَوْجُودِهِ عَنْ وُجُودِهِ، وَبِمَشْهُودِهِ عَنْ شُهُودِهِ، وَبِمَذْكُورِهِ عَنْ ذِكْرِهِ، وَبِمَعْرُوفِهِ عَنْ مَعْرِفَتِهِ، حَتَّى يَفْنَى مَنْ لَمْ يَكُنْ وَهِيَ الْمَخْلُوقَاتُ الْمُعْبَدَةُ مِمَّنْ سِوَاهُ، وَيَبْقَى مَنْ لَمْ يَزُلْ وَهُوَ الرَّبُّ تَعَالَى. وَالْمُرَادُ فَنَاؤُهَا فِي شُهُودِ الْعَبْدِ وَذِكْرِهِ، وَفَنَاؤُهُ عَنْ أَنْ يُدْرِكَهَا أَوْ يَشْهَدَهَا.
وَإِذَا قَوِيَ هَذَا ضَعُفَ الْمُحِبُّ حَتَّى اضْطَرَبَ فِي تَمْيِيزِهِ فَقَدْ يَظُنُّ أَنَّهُ هُوَ مَحْبُوبُهُ، كَمَا يُذْكَرُ: أَنَّ رَجُلًا أَلْقَى نَفْسَهُ فِي الْيَمِّ فَأَلْقَى مُحِبُّهُ نَفْسَهُ خَلْفَهُ، فَقَالَ: أَنَا وَقَعْتُ فَمَا أَوْقَعَكَ خَلْفِي قَالَ: غِبْتُ بِكَ عَنِّي، فَظَنَنْتَ أَنَّكَ أَنِّي.
" وَهَذَا الْمَوْضِعُ " يَزِلُّ فِيهِ أَقْوَامٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ اتِّحَادٌ، وَأَنَّ الْمُحِبَّ يَتَّحِدُ بِالْمَحْبُوبِ حَتَّى لَا يَكُونَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ فِي نَفْسِ وُجُودِهِمَا، وَهَذَا غَلَطٌ؛ فَإِنَّ الْخَالِقَ لَا يَتَّحِدُ بِهِ شَيْءٌ أَصْلًا، بَلْ لَا يَتَّحِدُ شَيْءٌ بِشَيْءٍ إلَّا إذَا اسْتَحَالَا وَفَسَدَا وَحَصَلَ مِنْ اتِّحَادِهِمَا أَمْرٌ
(5/206)
________________________________________
ثَالِثٌ لَا هُوَ هَذَا وَلَا هَذَا، كَمَا إذَا اتَّحَدَ الْمَاءُ وَاللَّبَنُ، وَالْمَاءُ وَالْخَمْرُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ.
وَلَكِنْ يَتَّحِدُ الْمُرَادُ وَالْمَحْبُوبُ وَالْمَكْرُوهُ وَيَتَّفِقَانِ فِي نَوْعِ الْإِرَادَةِ وَالْكَرَاهَةِ، فَيُحِبُّ هَذَا مَا يُحِبُّ هَذَا.
وَيَبْغُضُ هَذَا مَا يَبْغُضُ هَذَا، وَيَرْضَى مَا يَرْضَى وَيَسْخَطُ مَا يَسْخَطُ وَيَكْرَهُ مَا يَكْرَهُ، وَيُوَالِي مَنْ يُوَالِي وَيُعَادِي مَنْ يُعَادِي وَهَذَا الْفَنَاءُ كُلُّهُ فِيهِ نَقْصٌ.
وَأَكَابِرُ الْأَوْلِيَاءِ كَأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَالسَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ: لَمْ يَقَعُوا فِي هَذَا الْفَنَاءِ، فَضْلًا عَمَّنْ هُوَ فَوْقَهُمْ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَإِنَّمَا وَقَعَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا بَعْدَ الصَّحَابَةِ.
وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا كَانَ مِنْ هَذَا النَّمَطِ مِمَّا فِيهِ غَيْبَةُ الْعَقْلِ وَالتَّمْيِيزُ لِمَا يَرِدُ عَلَى الْقَلْبِ مِنْ أَحْوَالِ الْإِيمَانِ؛ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كَانُوا أَكْمَلَ وَأَقْوَى وَأَثْبَتَ فِي الْأَحْوَالِ الْإِيمَانِيَّةِ مِنْ أَنْ تَغِيبَ عُقُولُهُمْ.
أَوْ يَحْصُلَ لَهُمْ غَشْيٌ أَوْ صَعْقٌ أَوْ سُكْرٌ أَوْ فَنَاءٌ أَوْ وَلَهٌ أَوْ جُنُونٌ.
وَإِنَّمَا كَانَ مَبَادِئُ هَذِهِ الْأُمُورِ فِي التَّابِعِينَ مِنْ عُبَّادِ الْبَصْرَةِ، فَإِنَّهُ كَانَ فِيهِمْ مَنْ يُغْشَى عَلَيْهِ إذَا سَمِعَ الْقُرْآنَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُوتُ: كَأَبِي جَهِيرٍ الضَّرِيرِ وَزُرَارَةَ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَاضِي الْبَصْرَةِ.
وَكَذَلِكَ صَارَ فِي شُيُوخِ الصُّوفِيَّةِ مَنْ يَعْرِضُ لَهُ مِنْ الْفَنَاءِ وَالسُّكْرِ مَا يَضْعُفُ مَعَهُ تَمْيِيزُهُ، حَتَّى يَقُولَ فِي تِلْكَ الْحَالِ مِنْ الْأَقْوَالِ مَا إذَا صَحَا عَرَفَ أَنَّهُ غَالِطٌ فِيهِ، كَمَا يُحْكَى نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ مِثْلِ أَبِي يَزِيدَ، وَأَبِي الْحَسَنِ الثَّوْرِيِّ، وَأَبِي بَكْرٍ الشِّبْلِيِّ، وَأَمْثَالِهِمْ.
بِخِلَافِ أَبِي سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيِّ، وَمَعْرُوفٍ الْكَرْخِيِّ، وَالْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ بَلْ وَبِخِلَافِ الْجُنَيْدِ وَأَمْثَالِهِمْ مِمَّنْ كَانَتْ عُقُولُهُمْ وَتَمْيِيزُهُمْ يَصْحَبُهُمْ فِي أَحْوَالِهِمْ فَلَا يَقَعُونَ فِي مِثْلِ هَذَا الْفَنَاءِ وَالسُّكْرِ وَنَحْوِهِ، بَلْ الْكُمَّلُ تَكُونُ قُلُوبُهُمْ لَيْسَ فِيهَا سِوَى مَحَبَّةِ اللَّهِ وَإِرَادَتِهِ وَعِبَادَتِهِ، وَعِنْدَهُمْ مِنْ سَعَةِ الْعِلْمِ وَالتَّمْيِيزِ مَا يَشْهَدُونَ الْأُمُورَ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ، بَلْ يَشْهَدُونَ الْمَخْلُوقَاتِ قَائِمَةً بِأَمْرِ اللَّهِ مُدَبَّرَةً بِمَشِيئَتِهِ بَلْ مُسْتَجِيبَةً لَهُ قَانِتَةً لَهُ، فَيَكُونُ لَهُمْ فِيهَا تَبْصِرَةٌ وَذِكْرَى، وَيَكُونُ مَا يَشْهَدُونَهُ مِنْ ذَلِكَ مُؤَيِّدًا وَمُمِدًّا لِمَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ إخْلَاصِ الدِّينِ، وَتَجْرِيدِ التَّوْحِيدِ لَهُ، وَالْعِبَادَةِ لَهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ.
وَهَذِهِ " الْحَقِيقَةُ " الَّتِي دَعَا إلَيْهَا الْقُرْآنُ، وَقَامَ بِهَا أَهْلُ تَحْقِيقِ الْإِيمَانِ، وَالْكُمَّلُ مِنْ أَهْلِ الْعِرْفَانِ.
وَنَبِيُّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إمَامُ هَؤُلَاءِ وَأَكْمَلُهُمْ؛ وَلِهَذَا لَمَّا عُرِجَ بِهِ إلَى السَّمَوَاتِ وَعَايَنَ مَا هُنَالِكَ مِنْ الْآيَاتِ وَأَوْحَى إلَيْهِ مَا أَوْحَى مِنْ أَنْوَاعِ الْمُنَاجَاةِ أَصْبَحَ فِيهِمْ وَهُوَ لَمْ
(5/207)
________________________________________
يَتَغَيَّرْ حَالُهُ، وَلَا ظَهَرَ عَلَيْهِ ذَلِكَ، بِخِلَافِ مَا كَانَ يَظْهَرُ عَلَى مُوسَى مِنْ التَّغَشِّي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَجْمَعِينَ.

وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّالِثُ: مِمَّا قَدْ يُسَمَّى فَنَاءً: فَهُوَ أَنْ يَشْهَدَ أَنْ لَا مَوْجُودَ إلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ وُجُودَ الْخَالِقِ هُوَ وُجُودُ الْمَخْلُوقِ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الرَّبِّ وَالْعَبْدِ فَهَذَا فَنَاءُ أَهْلِ الضَّلَالِ وَالْإِلْحَادِ الْوَاقِعِينَ فِي الْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ.
وَالْمَشَايِخُ الْمُسْتَقِيمُونَ إذَا قَالَ أَحَدُهُمْ: مَا أَرَى غَيْرَ اللَّهِ، أَوْ لَا أَنْظُرُ إلَى غَيْرِ اللَّهِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ فَمُرَادُهُمْ بِذَلِكَ مَا أَرَى رَبًّا غَيْرَهُ، وَلَا خَالِقًا غَيْرَهُ وَلَا مُدَبِّرًا غَيْرَهُ، وَلَا إلَهًا غَيْرَهُ وَلَا أَنْظُرُ إلَى غَيْرِهِ مَحَبَّةً لَهُ أَوْ خَوْفًا مِنْهُ أَوْ رَجَاءً لَهُ، فَإِنَّ الْعَيْنَ تَنْظُرُ إلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْقَلْبُ، فَمَنْ أَحَبَّ شَيْئًا أَوْ رَجَاهُ أَوْ خَافَهُ الْتَفَتَ إلَيْهِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْقَلْبِ مَحَبَّةٌ لَهُ وَلَا رَجَاءٌ لَهُ وَلَا خَوْفٌ مِنْهُ وَلَا بُغْضٌ لَهُ وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ تَعَلُّقِ الْقَلْبِ لَهُ لَمْ يَقْصِدْ الْقَلْبُ أَنْ يَلْتَفِتَ إلَيْهِ وَلَا أَنْ يَنْظُرَ إلَيْهِ وَلَا أَنْ يَرَاهُ وَإِنْ رَآهُ اتِّفَاقًا رُؤْيَةً مُجَرَّدَةً كَانَ كَمَا لَوْ رَأَى حَائِطًا وَنَحْوَهُ مِمَّا لَيْسَ فِي قَلْبِهِ تَعَلُّقٌ بِهِ.
وَالْمَشَايِخُ الصَّالِحُونَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - يَذْكُرُونَ شَيْئًا مِنْ تَجْرِيدِ التَّوْحِيدِ وَتَحْقِيقِ إخْلَاصِ الدِّينِ كُلِّهِ بِحَيْثُ لَا يَكُونُ الْعَبْدُ مُلْتَفِتًا إلَى غَيْرِ اللَّهِ وَلَا نَاظِرًا إلَى مَا سِوَاهُ: لَا حُبًّا لَهُ، وَلَا خَوْفًا مِنْهُ، وَلَا رَجَاءً لَهُ بَلْ يَكُونُ الْقَلْبُ فَارِغًا مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ خَالِيًا مِنْهَا لَا يَنْظُرُ إلَيْهَا إلَّا بِنُورِ اللَّهِ، فَبِالْحَقِّ يَسْمَعُ وَبِالْحَقِّ يُبْصِرُ وَبِالْحَقِّ يَبْطِشُ وَبِالْحَقِّ يَمْشِي، فَيُحِبُّ مِنْهَا مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ، وَيَبْغُضُ مِنْهَا مَا يَبْغُضُهُ اللَّهُ، وَيُوَالِي مِنْهَا مَا وَالَاهُ اللَّهُ، وَيُعَادِي مِنْهَا مَا عَادَاهُ اللَّهُ، وَيَخَافُ اللَّهَ فِيهَا وَلَا يَخَافُهَا فِي اللَّهِ، وَيَرْجُو اللَّهَ فِيهَا وَلَا يَرْجُوهَا فِي اللَّهِ، فَهَذَا هُوَ الْقَلْبُ السَّلِيمُ الْحَنِيفُ الْمُوَحِّدُ الْمُسْلِمُ الْمُؤْمِنُ الْعَارِفُ الْمُحَقِّقُ الْمُوَحِّدُ بِمَعْرِفَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، وَبِحَقِيقَتِهِمْ وَتَوْحِيدِهِمْ.
وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّالِثُ: وَهُوَ الْفَنَاءُ فِي الْمَوْجُودِ: فَهُوَ تَحْقِيقُ آلِ فِرْعَوْنَ وَمَعْرِفَتُهُمْ وَتَوْحِيدُهُمْ كَالْقَرَامِطَةِ وَأَمْثَالِهِمْ.
وَهَذَا النَّوْعُ الَّذِي عَلَيْهِ اتِّبَاعُ الْأَنْبِيَاءِ هُوَ " الْفَنَاءُ الْمَحْمُودُ " الَّذِي يَكُونُ صَاحِبُهُ بِهِ مِمَّنْ أَثْنَى اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ أَوْلِيَائِهِ الْمُتَّقِينَ، وَحِزْبِهِ الْمُفْلِحِينَ، وَجُنْدِهِ الْغَالِبِينَ.
وَلَيْسَ مُرَادُ الْمَشَايِخِ وَالصَّالِحِينَ بِهَذَا الْقَوْلِ أَنَّ الَّذِي أَرَاهُ بِعَيْنِي مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ
(5/208)
________________________________________
هُوَ رَبُّ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتِ، فَإِنَّ هَذَا لَا يَقُولُهُ إلَّا مَنْ هُوَ فِي غَايَةِ الضَّلَالِ وَالْفَسَادِ؟ إمَّا فَسَادُ الْعَقْلِ؛ وَإِمَّا فَسَادُ الِاعْتِقَادِ. فَهُوَ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الْجُنُونِ وَالْإِلْحَادِ.
وَكُلُّ الْمَشَايِخِ الَّذِينَ يُقْتَدَى بِهِمْ فِي الدِّينِ مُتَّفِقُونَ عَلَى مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا مِنْ أَنَّ الْخَالِقَ سُبْحَانَهُ مُبَايِنٌ لِلْمَخْلُوقَاتِ، وَلَيْسَ فِي مَخْلُوقَاتِهِ شَيْءٌ مِنْ ذَاتِهِ وَلَا فِي ذَاتِهِ شَيْءٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ، وَأَنَّهُ يَجِبُ إفْرَادُ الْقَدِيمِ عَنْ الْحَادِثِ؛ وَتَمْيِيزُ الْخَالِقِ عَنْ الْمَخْلُوقِ. وَهَذَا فِي كَلَامِهِمْ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُمْكِنَ ذِكْرُهُ هُنَا.
وَهُمْ قَدْ تَكَلَّمُوا عَلَى مَا يَعْرِضُ لِلْقُلُوبِ مِنْ الْأَمْرَاضِ وَالشُّبُهَاتِ؛ وَأَنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَدْ يَشْهَدُ وُجُودَ الْمَخْلُوقَاتِ فَيَظُنُّهُ خَالِقَ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتِ لِعَدَمِ التَّمْيِيزِ وَالْفُرْقَانِ فِي قَلْبِهِ: بِمَنْزِلَةِ مَنْ رَأَى شُعَاعَ الشَّمْسِ فَظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الشَّمْسُ الَّتِي فِي السَّمَاءِ.
وَهُمْ قَدْ يَتَكَلَّمُونَ فِي " الْفَرْقِ وَالْجَمْعِ " وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مِنْ الْعِبَارَاتِ الْمُتْلِفَةِ نَظِيرُ مَا دَخَلَ فِي الْفَنَاءِ فَإِنَّ الْعَبْدَ إذَا شَهِدَ التَّفْرِقَةَ وَالْكَثْرَةَ فِي الْمَخْلُوقَاتِ يَبْقَى قَلْبُهُ مُتَعَلِّقًا بِهَا، مُتَشَتِّتًا نَاظِرًا إلَيْهَا مُتَعَلِّقًا بِهَا: إمَّا مَحَبَّةً وَإِمَّا خَوْفًا وَإِمَّا رَجَاءً؛ فَإِذَا انْتَقَلَ إلَى الْجَمْعِ اجْتَمَعَ قَلْبُهُ عَلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ فَالْتَفَتَ قَلْبُهُ إلَى اللَّهِ بَعْدَ الْتِفَاتِهِ إلَى الْمَخْلُوقِينَ فَصَارَتْ مَحَبَّتُهُ لِرَبِّهِ وَخَوْفُهُ مِنْ رَبِّهِ وَرَجَاؤُهُ لِرَبِّهِ وَاسْتِعَانَتُهُ بِرَبِّهِ، وَهُوَ فِي هَذَا الْحَالِ قَدْ لَا يَسَعُ قَلْبَهُ النَّظَرُ إلَى الْمَخْلُوقِ لِيُفَرِّقَ بَيْنَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ.
فَقَدْ يَكُونُ مُجْتَمِعًا عَلَى الْحَقِّ مُعْرِضًا عَنْ الْخَلْقِ نَظَرًا وَقَصْدًا وَهُوَ نَظِيرُ النَّوْعِ الثَّانِي مِنْ الْفَنَاءِ.
وَلَكِنْ بَعْدَ ذَلِكَ، " الْفَرْقُ الثَّانِي " وَهُوَ: أَنْ يَشْهَدَ أَنَّ الْمَخْلُوقَاتِ قَائِمَةٌ بِاَللَّهِ مُدَبَّرَةٌ بِأَمْرِهِ وَيَشْهَدَ كَثْرَتَهَا مَعْدُومَةً بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ رَبُّ الْمَصْنُوعَاتِ وَإِلَهُهَا وَخَالِقُهَا وَمَالِكُهَا فَيَكُونُ مَعَ اجْتِمَاعِ قَلْبِهِ عَلَى اللَّهِ - إخْلَاصًا لَهُ وَمَحَبَّةً وَخَوْفًا وَرَجَاءً وَاسْتِعَانَةً وَتَوَكُّلًا عَلَى اللَّهِ وَمُوَالَاةً فِيهِ وَمُعَادَاةً فِيهِ وَأَمْثَالَ ذَلِكَ - نَاظِرًا إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ مُمَيِّزًا بَيْنَ هَذَا وَهَذَا يَشْهَدُ تَفَرُّقَ الْمَخْلُوقَاتِ وَكَثْرَتَهَا مَعَ شَهَادَتِهِ أَنَّ اللَّهَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكُهُ، وَخَالِقُهُ، وَأَنَّهُ هُوَ اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ وَهَذَا هُوَ الشُّهُودُ الصَّحِيحُ الْمُسْتَقِيمُ وَذَلِكَ وَاجِبٌ فِي عِلْمِ الْقَلْبِ وَشَهَادَتِهِ وَذِكْرِهِ وَمَعْرِفَتِهِ: فِي حَالِ الْقَلْبِ وَعِبَادَتِهِ وَقَصْدِهِ وَإِرَادَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَمُوَالَاتِهِ وَطَاعَتِهِ.
وَذَلِكَ تَحْقِيقُ " شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " فَإِنَّهُ يَنْفِي عَنْ قَلْبِهِ أُلُوهِيَّةَ مَا سِوَى الْحَقِّ
(5/209)
________________________________________
وَيَثْبُتُ فِي قَلْبِهِ أُلُوهِيَّةُ الْحَقِّ فَيَكُونُ نَافِيًا لِأُلُوهِيَّةِ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ مُثْبِتًا لِأُلُوهِيَّةِ رَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتِ، وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ اجْتِمَاعَ الْقَلْبِ عَلَى اللَّهِ وَعَلَى مُفَارَقَةِ مَا سِوَاهُ، فَيَكُونُ مُفَرِّقًا: فِي عِلْمِهِ وَقَصْدِهِ فِي شَهَادَتِهِ وَإِرَادَتِهِ فِي مَعْرِفَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ بَيْنَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ، بِحَيْثُ يَكُونُ عَالِمًا بِاَللَّهِ تَعَالَى ذَاكِرًا لَهُ عَارِفًا بِهِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ عَالِمٌ بِمُبَايَنَتِهِ لِخَلْقِهِ وَانْفِرَادِهِ عَنْهُمْ وَتَوَحُّدِهِ دُونَهُمْ، وَيَكُونُ مُحِبًّا لِلَّهِ مُعَظِّمًا لَهُ عَابِدًا لَهُ رَاجِيًا لَهُ خَائِفًا مِنْهُ مُوَالِيًا فِيهِ مُعَادِيًا فِيهِ مُسْتَعِينًا بِهِ مُتَوَكِّلًا عَلَيْهِ، مُمْتَنِعًا عَنْ عِبَادَةِ غَيْرِهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَالِاسْتِعَانَةِ بِهِ وَالْخَوْفِ مِنْهُ وَالرَّجَاءِ لَهُ وَالْمُوَالَاةِ فِيهِ وَالْمُعَادَاةِ فِيهِ وَالطَّاعَةِ لِأَمْرِهِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مِنْ خَصَائِصِ إلَهِيَّةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
وَإِقْرَارُهُ بِأُلُوهِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى دُونَ مَا سِوَاهُ يَتَضَمَّنُ إقْرَارَهُ بِرُبُوبِيَّتِهِ، وَهُوَ أَنَّهُ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكُهُ وَخَالِقُهُ وَمُدَبِّرُهُ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ مُوَحِّدًا لِلَّهِ.
وَيُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ أَفْضَلَ الذِّكْرِ " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " كَمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَغَيْرُهُمَا مَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَفْضَلُ الذِّكْرِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَأَفْضَلُ الدُّعَاءِ الْحَمْدُ لِلَّهِ» وَفِي الْمُوَطَّإِ وَغَيْرِهِ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَثِيرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَفْضَلُ مَا قُلْت أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» .
وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ هَذَا ذِكْرُ الْعَامَّةِ، وَأَنَّ ذِكْرَ الْخَاصَّةِ هُوَ الِاسْمُ الْمُفْرَدُ، وَذِكْرَ خَاصَّةِ الْخَاصَّةِ هُوَ الِاسْمُ الْمُضْمَرُ، فَهُمْ ضَالُّونَ غَالِطُونَ، وَاحْتِجَاجُ بَعْضِهِمْ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} [الأنعام: 91] مِنْ أَبْيَنِ غَلَطِ هَؤُلَاءِ، فَإِنَّ الِاسْمَ هُوَ مَذْكُورٌ فِي الْأَمْرِ بِجَوَابِ الِاسْتِفْهَامِ.
وَهُوَ قَوْلُهُ: {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ} [الأنعام: 91] إلَى قَوْلِهِ: {قُلِ اللَّهُ} [الأنعام: 91] أَيْ اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى، فَالِاسْمُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ قَدْ دَلَّ عَلَيْهِ الِاسْتِفْهَامُ.
كَمَا فِي نَظَائِرِ ذَلِكَ تَقُولُ: مَنْ جَارُهُ فَيَقُولُ زَيْدٌ
(5/210)
________________________________________
وَأَمَّا الِاسْمُ الْمُفْرَدُ مُظْهَرًا أَوْ مُضْمَرًا فَلَيْسَ بِكَلَامٍ تَامٍّ، وَلَا جُمْلَةً مُفِيدَةً وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ إيمَانٌ وَلَا كُفْرٌ وَلَا أَمْرٌ وَلَا نَهْيٌ، وَلَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ، وَلَا شَرَعَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ، وَلَا يُعْطِي الْقَلْبَ بِنَفْسِهِ مَعْرِفَةً مُفِيدَةً وَلَا حَالًا نَافِعًا.
وَإِنَّمَا يُعْطِيهِ تَصَوُّرًا مُطْلَقًا لَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِنَفْيٍ وَلَا إثْبَاتٍ، فَإِنْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ مِنْ مَعْرِفَةِ الْقَلْبِ وَحَالِهِ مَا يُفِيدُ بِنَفْسِهِ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَائِدَةٌ.
وَالشَّرِيعَةُ إنَّمَا تُشَرِّعُ مِنْ الْأَذْكَارِ مَا يُفِيدُ بِنَفْسِهِ لَا مَا تَكُونُ الْفَائِدَةُ حَاصِلَةً بِغَيْرِهِ.
وَقَدْ وَقَعَ بَعْضُ مَنْ وَاظَبَ عَلَى هَذَا الذِّكْرِ فِي فُنُونٍ مِنْ الْإِلْحَادِ وَأَنْوَاعٍ مِنْ الِاتِّحَادِ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَمَا يُذْكَرُ عَنْ بَعْضِ الشُّيُوخِ مِنْ أَنَّهُ قَالَ: أَخَافُ أَنْ أَمُوتَ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ.
حَالٌ لَا يُقْتَدَى فِيهَا بِصَاحِبِهَا، فَإِنَّ فِي ذَلِكَ مِنْ الْغَلَطِ مَا لَا خَفَاءَ بِهِ؛ إذْ لَوْ مَاتَ الْعَبْدُ فِي هَذِهِ الْحَالِ لَمْ يَمُتْ إلَّا عَلَى مَا قَصَدَهُ وَنَوَاهُ، إذْ الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَمَرَ بِتَلْقِينِ الْمَيِّتِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَقَالَ: مَنْ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ» وَلَوْ كَانَ مَا ذَكَرَهُ مَحْذُورًا لَمْ يُلَقَّنْ الْمَيِّتُ كَلِمَةً يُخَافُ أَنْ يَمُوتَ فِي أَثْنَائِهَا مَوْتًا غَيْرَ مَحْمُودٍ بَلْ كَانَ يُلَقَّنُ مَا اخْتَارَهُ مِنْ ذِكْرِ الِاسْمِ الْمُفْرَدِ.
وَالذِّكْرُ بِالِاسْمِ الْمُضْمَرِ الْمُفْرَدِ أَبْعَدُ عَنْ السُّنَّةِ، وَأَدْخَلُ فِي الْبِدْعَةِ وَأَقْرَبُ إلَى إضْلَالِ الشَّيْطَانِ، فَإِنَّ مَنْ قَالَ: يَا هُوَ يَا هُوَ، أَوْ: هُوَ هُوَ.
وَنَحْوَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ الضَّمِيرُ عَائِدًا إلَّا إلَى مَا يُصَوِّرُهُ قَلْبُهُ، وَالْقَلْبُ قَدْ يَهْتَدِي وَقَدْ يَضِلُّ، وَقَدْ صَنَّفَ صَاحِبُ الْفُصُوصِ كِتَابًا سَمَّاهُ " كِتَابَ الْهُوَ " وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ قَوْلَهُ: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ} [آل عمران: 7] مَعْنَاهُ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَ هَذَا الِاسْمِ الَّذِي هُوَ " الْهُوَ ".
وَقِيلَ هَذَا وَإِنْ كَانَ مِمَّا اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ بَلْ الْعُقَلَاءُ عَلَى أَنَّهُ مِنْ أَبْيَنِ الْبَاطِلِ، فَقَدْ يَظُنُّ ذَلِكَ مَنْ يَظُنُّهُ مِنْ هَؤُلَاءِ، حَتَّى قُلْتُ مَرَّةً لِبَعْضِ مَنْ قَالَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لَوْ كَانَ هَذَا كَمَا قُلْتَهُ لَكُتِبَتْ (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَ هُوَ) مُنْفَصِلَةً.
ثُمَّ كَثِيرًا مَا يَذْكُرُ بَعْضُ الشُّيُوخِ أَنَّهُ يَحْتَجُّ عَلَى قَوْلِ الْقَائِلِ: " اللَّهُ " بِقَوْلِهِ: {قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ} [الأنعام: 91] وَيَظُنُّ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ نَبِيَّهُ بِأَنْ يَقُولَ الِاسْمَ الْمُفْرَدَ، وَهَذَا غَلَطٌ
(5/211)
________________________________________
بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: {قُلِ اللَّهُ} [الأنعام: 91] مَعْنَاهُ اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى.
وَهُوَ جَوَابٌ لِقَوْلِهِ: {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ} [الأنعام: 91] أَيْ اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى.
رَدَّ بِذَلِكَ قَوْلَ مَنْ قَالَ: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ، فَقَالَ: {مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى} [الأنعام: 91] ثُمَّ قَالَ: {قُلِ اللَّهُ} [الأنعام: 91] أَنْزَلَهُ {ثُمَّ ذَرْهُمْ} [الأنعام: 91] هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبِينَ {فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} [الأنعام: 91] .
وَمِمَّا يُبَيِّنُ مَا تَقَدَّمَ: مَا ذَكَرَهُ سِيبَوَيْهِ وَغَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ النَّحْوِ أَنَّ الْعَرَبَ يَحْكُونَ بِالْقَوْلِ مَا كَانَ كَلَامًا، لَا يَحْكُونَ بِهِ مَا كَانَ قَوْلًا، فَالْقَوْلُ لَا يُحْكَى بِهِ إلَّا كَلَامٌ تَامٌّ، أَوْ جُمْلَةٌ اسْمِيَّةٌ أَوْ فِعْلِيَّةٌ، وَلِهَذَا يَكْسِرُونَ إنَّ إذَا جَاءَتْ بَعْدَ الْقَوْلِ، فَالْقَوْلُ لَا يُحْكَى بِهِ اسْمٌ، وَاَللَّهُ تَعَالَى لَا يَأْمُرُ أَحَدًا بِذِكْرِ اسْمٍ مُفْرَدٍ، وَلَا شَرَعَ لِلْمُسْلِمِينَ اسْمًا مُفْرَدًا مُجَرَّدًا، وَالِاسْمُ الْمُجَرَّدُ لَا يُفِيدُ الْإِيمَانَ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَلَا يُؤْمَرُ بِهِ فِي شَيْءٍ مِنْ الْعِبَادَاتِ، وَلَا فِي شَيْءٍ مِنْ الْمُخَاطَبَاتِ.
وَنَظِيرُ مَنْ اقْتَصَرَ عَلَى الِاسْمِ الْمُفْرَدِ مَا يُذْكَرُ أَنَّ بَعْضَ الْأَعْرَابِ مَرَّ بِمُؤَذِّنٍ يَقُولُ: " أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولَ اللَّهِ " بِالنَّصْبِ فَقَالَ: مَاذَا يَقُولُ هَذَا؟ هَذَا الِاسْمُ فَأَيْنَ الْخَبَرُ عَنْهُ الَّذِي يَتِمُّ بِهِ الْكَلَامُ؟ وَمَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ قَوْلِهِ: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا} [المزمل: 8] وَقَوْلِهِ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى: 1] وَقَوْلِهِ: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى: 14] {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 15] وَقَوْلِهِ: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 74] وَنَحْوُ ذَلِكَ لَا يَقْتَضِي ذِكْرَهُ مُفْرَدًا بَلْ فِي السُّنَنِ «أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 74] قَالَ اجْعَلُوهَا فِي رُكُوعِكُمْ وَلَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى: 1] قَالَ اجْعَلُوهَا فِي سُجُودِكُمْ»
(5/212)
________________________________________
فَشَرَعَ لَهُمْ أَنْ يَقُولُوا فِي الرُّكُوعِ سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ، وَفِي السُّجُودِ سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى.
وَفِي الصَّحِيحِ: «أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ: سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ، وَفِي سُجُودِهِ: سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى» وَهَذَا هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: «اجْعَلُوهَا فِي رُكُوعِكُمْ وَسُجُودِكُمْ» بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ.
فَتَسْبِيحُ اسْمِ رَبِّهِ الْأَعْلَى وَذِكْرُ اسْمِ رَبِّهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ هُوَ بِالْكَلَامِ التَّامِّ الْمُفِيدِ، كَمَا فِي الصَّحِيحِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أَفْضَلُ الْكَلَامِ بَعْدَ الْقُرْآنِ أَرْبَعٌ - وَهُنَّ مِنْ الْقُرْآنِ - سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ. وَاَللَّهُ أَكْبَرُ» .
وَفِي الصَّحِيحِ: عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ، حَبِيبَتَانِ إلَى الرَّحْمَنِ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ» .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ قَالَ فِي يَوْمِهِ مِائَةَ مَرَّةٍ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ. وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، كَتَبَ اللَّهُ لَهُ حِرْزًا مِنْ الشَّيْطَانِ يَوْمَهُ ذَلِكَ حَتَّى يُمْسِيَ. وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ، إلَّا رَجُلٌ قَالَ مِثْلَ مَا قَالَ أَوْ زَادَ عَلَيْهِ» .
«وَمَنْ قَالَ فِي يَوْمِهِ مِائَةَ مَرَّةٍ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ، حُطَّتْ عَنْهُ خَطَايَاهُ وَلَوْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ» .
وَفِي الْمُوَطَّإِ وَغَيْرِهِ: عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أَفْضَلُ مَا قُلْتُهُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» . وَفِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ وَغَيْرِهِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أَفْضَلُ الذِّكْرِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَأَفْضَلُ الدُّعَاءِ الْحَمْدُ لِلَّهِ» .
وَمِثْلُ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ كَثِيرَةٌ فِي أَنْوَاعِ مَا يُقَالُ مِنْ الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ.
وَكَذَلِكَ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121]
(5/213)
________________________________________
وَقَوْلِهِ: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} [المائدة: 4] إنَّمَا هُوَ قَوْلُهُ: بِسْمِ اللَّهِ.
وَهَذَا جُمْلَةٌ تَامَّةٌ إمَّا اسْمِيَّةٌ عَلَى أَظْهَرِ قَوْلَيْ النُّحَاةِ؛ أَوْ فِعْلِيَّةٌ؛ وَالتَّقْدِيرُ ذَبْحِي بِاسْمِ اللَّهِ، أَوْ اذْبَحْ بِاسْمِ اللَّهِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُ الْقَارِئِ فَتَقْدِيرُهُ: قِرَاءَتِي بِسْمِ اللَّهِ؛ أَوْ اقْرَأْ بِسْمِ اللَّهِ.
وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُضْمِرُ فِي مِثْلِ هَذَا ابْتِدَائِي بِسْمِ اللَّهِ؛ أَوْ ابْتَدَأْتُ بِسْمِ اللَّهِ، وَالْأَوَّلُ أَحْسَنُ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ كُلَّهُ مَفْعُولُ بِسْمِ اللَّهِ، لَيْسَ مُجَرَّدُ ابْتِدَائِهِ كَمَا أَظْهَرَ الْمُضْمَرَ فِي قَوْلِهِ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1] وَفِي قَوْلِهِ: {بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} [هود: 41] .
وَفِي قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ كَانَ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَلْيَذْبَحْ مَكَانَهَا أُخْرَى. وَمَنْ لَمْ يَكُنْ ذَبَحَ فَلْيَذْبَحْ بِسْمِ اللَّهِ» .
وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ لِرَبِيبِهِ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ: «سَمِّ اللَّهَ وَكُلْ بِيَمِينِك؛ وَكُلْ مِمَّا يَلِيك» فَالْمُرَادُ أَنْ يَقُولَ بِسْمِ اللَّهِ. لَيْسَ الْمُرَادُ أَنْ يَذْكُرَ الِاسْمَ مُجَرَّدًا.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ «إذَا أَرْسَلْت كَلْبَكَ الْمُعَلَّمَ وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ فَكُلْ» وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا دَخَلَ الرَّجُلُ مَنْزِلَهُ فَذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ عِنْدَ دُخُولِهِ؛ وَعِنْدَ خُرُوجِهِ، وَعِنْدَ طَعَامِهِ. قَالَ الشَّيْطَانُ لَا مَبِيتَ لَكُمْ وَلَا عَشَاءَ» وَأَمْثَالُ ذَلِكَ كَثِيرٌ.
(5/214)
________________________________________
وَكَذَلِكَ مَا شَرَعَ لِلْمُسْلِمِينَ فِي صَلَاتِهِمْ وَآذَانِهِمْ وَحَجِّهِمْ وَأَعْيَادِهِمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى إنَّمَا هُوَ بِالْجُمْلَةِ التَّامَّةِ كَقَوْلِ الْمُؤَذِّنِ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ.
أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ؛ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَقَوْلِ الْمُصَلِّي: اللَّهُ أَكْبَرُ. سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ. سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى. سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ. التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ. وَقَوْلِ الْمُلَبِّي: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ. وَأَمْثَالِ ذَلِكَ.
فَجَمِيعُ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ مِنْ الذِّكْرِ إنَّمَا هُوَ كَلَامٌ تَامٌّ لَا اسْمٌ مُفْرَدٌ لَا مُظْهَرٌ وَلَا مُضْمَرٌ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يُسَمَّى فِي اللُّغَةِ كَلِمَةً، كَقَوْلِهِ: «كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ. ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ. حَبِيبَتَانِ إلَى الرَّحْمَنِ؛ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ»
وَقَوْلِهِ: «أَفْضَلُ كَلِمَةٍ قَالَهَا الشَّاعِرُ كَلِمَةُ لَبِيدٍ: أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلٌ» وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} [الكهف: 5] الْآيَةَ وَقَوْلِهِ: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلا} [الأنعام: 115] وَأَمْثَالِ ذَلِكَ مِمَّا اُسْتُعْمِلَ فِيهِ لَفْظُ الْكَلِمَةِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، بَلْ وَسَائِرِ كَلَامِ الْعَرَبِ فَإِنَّمَا يُرَادُ بِهِ الْجُمْلَةُ التَّامَّةُ، كَمَا كَانُوا يَسْتَعْمِلُونَ الْحَرْفَ فِي الِاسْمِ، فَيَقُولُونَ: هَذَا حَرْفٌ غَرِيبٌ أَيْ لَفْظُ الِاسْمِ غَرِيبٌ.
وَقَسَّمَ سِيبَوَيْهِ الْكَلَامَ إلَى اسْمٍ وَفِعْلٍ وَحَرْفٍ جَاءَ لِمَعْنًى، لَيْسَ بِاسْمٍ وَفِعْلٍ.
وَكُلٌّ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ يُسَمَّى حَرْفًا لَكِنَّ خَاصَّةَ الثَّالِثِ أَنَّهُ حَرْفٌ جَاءَ لِمَعْنًى لَيْسَ بِاسْمٍ وَلَا فِعْلٍ؛ وَسُمِّيَ حُرُوفُ الْهِجَاءِ بِاسْمِ الْحَرْفِ وَهِيَ أَسْمَاءٌ، وَلَفْظُ الْحَرْفِ يَتَنَاوَلُ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ وَغَيْرَهَا؛ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فَأَعْرَبَهُ فَلَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ عَشْرُ حَسَنَاتٍ: أَمَا إنِّي لَا أَقُولُ: {الم} [البقرة: 1] حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ، وَلَامٌ حَرْفٌ، وَمِيمٌ حَرْفٌ» وَقَدْ سَأَلَ الْخَلِيلُ أَصْحَابَهُ عَنْ النُّطْقِ بِحَرْفِ الزَّايِ مِنْ زَيْدٍ فَقَالُوا: زَايٌ، فَقَالَ: جِئْتُمْ بِالِاسْمِ، وَإِنَّمَا الْحَرْفُ " ز ".
ثُمَّ إنَّ النُّحَاةَ اصْطَلَحُوا عَلَى أَنَّ هَذَا الْمُسَمَّى فِي اللُّغَةِ بِالْحَرْفِ يُسَمَّى كَلِمَةً، وَأَنَّ لَفْظَ الْحَرْفِ يُخَصُّ لِمَا جَاءَ لِمَعْنًى، لَيْسَ بِاسْمٍ وَلَا فِعْلٍ، كَحُرُوفِ الْجَرِّ وَنَحْوِهَا، وَأَمَّا أَلْفَاظُ حُرُوفِ الْهِجَاءِ فَيُعَبَّرُ تَارَةً بِالْحَرْفِ عَنْ نَفْسِ الْحَرْفِ مِنْ اللَّفْظِ، وَتَارَةً بِاسْمِ
(5/215)
________________________________________
ذَلِكَ الْحَرْفِ، وَلَمَّا غَلَبَ هَذَا الِاصْطِلَاحُ صَارَ يَتَوَهَّمُ مَنْ اعْتَادَهُ أَنَّهُ هَكَذَا فِي لُغَةِ الْعَرَبِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُ لَفْظَ الْكَلِمَةِ فِي اللُّغَةِ لَفْظًا مُشْتَرَكًا بَيْنَ الِاسْمِ مَثَلًا وَبَيْنَ الْجُمْلَةِ، وَلَا يَعْرِفُ فِي صَرِيحِ اللُّغَةِ مِنْ لَفْظِ الْكَلِمَةِ إلَّا الْجُمْلَةَ التَّامَّةَ.
وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ الْمَشْرُوعَ فِي ذِكْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ هُوَ ذِكْرُهُ " بِجُمْلَةٍ تَامَّةٍ " وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْكَلَامِ، وَالْوَاحِدُ مِنْهُ بِالْكَلِمَةِ، وَهُوَ الَّذِي يَنْفَعُ الْقُلُوبَ، وَيَحْصُلُ بِهِ الثَّوَابُ وَالْأَجْرُ، وَالْقُرْبُ إلَى اللَّهِ وَمَعْرِفَتُهُ وَمَحَبَّتُهُ وَخَشْيَتُهُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْمَطَالِبِ الْعَالِيَةِ وَالْمَقَاصِدِ السَّامِيَةِ.
وَأَمَّا الِاقْتِصَارُ عَلَى " الِاسْمِ الْمُفْرَدِ " مُظْهَرًا أَوْ مُضْمَرًا فَلَا أَصْلَ لَهُ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ ذِكْرِ الْخَاصَّةِ وَالْعَارِفِينَ، بَلْ هُوَ وَسِيلَةٌ إلَى أَنْوَاعٍ مِنْ الْبِدَعِ وَالضَّلَالَاتِ وَذَرِيعَةٌ إلَى تَصَوُّرَاتِ أَحْوَالٍ فَاسِدَةٍ مِنْ أَحْوَالِ أَهْلِ الْإِلْحَادِ، وَأَهْلِ الِاتِّحَادِ، كَمَا قَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.
وَجِمَاعُ الدِّينِ " أَصْلَانِ " أَنْ لَا نَعْبُدَ إلَّا اللَّهَ، وَلَا نَعْبُدَهُ إلَّا بِمَا شَرَعَ، لَا نَعْبُدَهُ بِالْبِدَعِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110] .
وَذَلِكَ تَحْقِيقُ " الشَّهَادَتَيْنِ ": شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَشَهَادَةِ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ.
فَفِي الْأُولَى أَنْ لَا نَعْبُدَ إلَّا إيَّاهُ، وَفِي الثَّانِيَةِ أَنَّ مُحَمَّدًا هُوَ رَسُولُهُ الْمُبَلِّغُ عَنْهُ.
فَعَلَيْنَا أَنْ نُصَدِّقَ خَبَرَهُ وَنُطِيعَ أَمْرَهُ، وَقَدْ بَيَّنَ لَنَا مَا نَعْبُدُ اللَّهَ بِهِ، وَنَهَانَا عَنْ مُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ، وَأَخْبَرَ أَنَّهَا ضَلَالَةٌ.
قَالَ تَعَالَى: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 112] .
كَمَا أَنَّا مَأْمُورُونَ أَنْ لَا نَخَافَ إلَّا اللَّهَ وَلَا نَتَوَكَّلُ إلَّا عَلَى اللَّهِ، وَلَا نَرْغَبُ إلَّا إلَى اللَّهِ، وَلَا نَسْتَعِينُ إلَّا بِاَللَّهِ: وَأَنْ لَا تَكُونَ عِبَادَتُنَا إلَّا لِلَّهِ، فَكَذَلِكَ نَحْنُ مَأْمُورُونَ أَنْ نَتَّبِعَ الرَّسُولَ وَنُطِيعَهُ وَنَتَأَسَّى بِهِ، فَالْحَلَالُ مَا حَلَّلَهُ وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَهُ، وَالدِّينُ مَا شَرَعَهُ، قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} [التوبة: 59] فَجَعَلَ الْإِيتَاءَ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ، كَمَا قَالَ:
(5/216)
________________________________________
{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] وَجَعَلَ التَّوَكُّلَ عَلَى اللَّهِ وَحْدَهُ بِقَوْلِهِ: {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ} [آل عمران: 173] وَلَمْ يَقُلْ وَرَسُولُهُ، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173] وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 64] أَيْ حَسْبُكَ وَحَسْبُ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا قَالَ: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر: 36] .
ثُمَّ قَالَ: {سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ} [التوبة: 59] فَجَعَلَ الْإِيتَاءَ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ، وَقَدَّمَ ذِكْرَ الْفَضْلِ؛ لِأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاَللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ، وَلَهُ الْفَضْلُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَقَالَ: {إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} [التوبة: 59] فَجَعَلَ الرَّغْبَةَ إلَى اللَّهِ وَحْدَهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ} [الشرح: 7] {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح: 8] وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِابْنِ عَبَّاسٍ: «إذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ» .
وَالْقُرْآنُ يَدُلُّ عَلَى مِثْلِ هَذَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ.
فَجَعَلَ الْعِبَادَةَ وَالْخَشْيَةَ وَالتَّقْوَى لِلَّهِ، وَجَعَلَ الطَّاعَةَ وَالْمَحَبَّةَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، كَمَا فِي قَوْلِ نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} [نوح: 3] وَقَوْلِهِ: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور: 52] وَأَمْثَالِ ذَلِكَ فَالرُّسُلُ أُمِرُوا بِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ وَالرَّغْبَةِ إلَيْهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، وَالطَّاعَةِ لَهُمْ.
فَأَضَلَّ الشَّيْطَانُ النَّصَارَى وَأَشْبَاهَهُمْ فَأَشْرَكُوا بِاَللَّهِ وَعَصَوْا الرَّسُولَ فَاتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ
(5/217)
________________________________________
أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ، فَجَعَلُوا يَرْغَبُونَ إلَيْهِمْ وَيَتَوَكَّلُونَ عَلَيْهِمْ وَيَسْأَلُونَهُمْ، مَعَ مَعْصِيَتِهِمْ لِأَمْرِهِمْ وَمُخَالَفَاتِهِمْ لِسُنَّتِهِمْ، وَهَدَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْمُخْلِصِينَ لِلَّهِ أَهْلَ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، الَّذِينَ عَرَفُوا الْحَقَّ وَاتَّبَعُوهُ فَلَمْ يَكُونُوا مِنْ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ، فَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ، وَأَسْلَمُوا وُجُوهَهُمْ لِلَّهِ، وَأَنَابُوا إلَى رَبِّهِمْ، وَأَحَبُّوهُ وَرَجَوْهُ وَخَافُوهُ وَسَأَلُوهُ وَرَغِبُوا إلَيْهِ وَفَوَّضُوا أُمُورَهُمْ إلَيْهِ وَتَوَكَّلُوا عَلَيْهِ، وَأَطَاعُوا رُسُلَهُ وَعَزَّرُوهُمْ وَوَقَّرُوهُمْ وَأَحَبُّوهُمْ وَوَالُوهُمْ وَاتَّبَعُوهُمْ، وَاقْتَفَوْا آثَارَهُمْ وَاهْتَدَوْا بِمَنَارِهِمْ.
وَذَلِكَ هُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ مِنْ الرُّسُلِ وَهُوَ الدِّينُ الَّذِي لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْ أَحَدٍ دِينًا إلَّا إيَّاهُ، وَهُوَ حَقِيقَةُ الْعِبَادَةِ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ.
فَنَسْأَلُ اللَّهَ الْعَظِيمَ أَنْ يُثَبِّتَنَا عَلَيْهِ، وَيُكْمِلَهُ لَنَا وَيُمِيتَنَا عَلَيْهِ وَسَائِرَ إخْوَانِنَا الْمُسْلِمِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

(5/218)
________________________________________



انتـهى .







التوقيع :

{وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا (53)}
[الإسراء: 53]


إن كانت الأحداث المعاصرة أصابتك بالحيرة ، فاقرأ هذا الكتاب فكأنه يتكلم عن اليوم :
مدارك النَّظر في السّياسة بين التطبيقات الشّرعية والانفعالات الحَمَاسية
http://www.dd-sunnah.net/forum/showthread.php?t=174056

من مواضيعي في المنتدى
»» رأي الشيخ أبو بكر آداب في المملكة العربية السعودية
»» نفخر حينما ننتمي للسلف الصالح / العلامة الالباني
»» فيديو / تركيا تسجن شابة محجبة لأنها قالت : ( أتاتورك ليس إلهاً ) .. !
»» تعليق على خبر السعودية وإحتفالها بالمولد النبوي ؟؟!!!! الشيخ أبوبكر آداب حفظه الله
»» هل تجد مشقة في القيام بالطاعات ؟! .. إليك الحل .. ! / الشيخ عبد الرزاق البدر
 
 

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 04:43 PM.


Powered by vBulletin® , Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir
" ما ينشر في المنتديات يعبر عن رأي كاتبه "