العودة   شبكة الدفاع عن السنة > منتدى الدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم > الدفاع عن الآل والصحب > كتب ووثائق للدفاع عن الآل والصحب

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 05-10-12, 06:51 PM   رقم المشاركة : 21
بيارق النصر
عضو ماسي






بيارق النصر غير متصل

بيارق النصر is on a distinguished road


المبحث الخامس أهم الدروس والعبر والفوائد من فتوحات العراق والمشرق

أولاً: أثر الآيات والأحاديث في نفوس المجاهدين:

كان للآيات والأحاديث التي تتحدث عن فضل الجهاد أثرها في نفوس المجاهدين ، فقد بين المولى عز وجل أن حركات المجاهدين كلها يثاب عليها قال تعالى:} مَا كَانَ لأِهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلاَ يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ120 وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلاَ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمْ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا
يَعْمَلُونَ121 { التوبة،آية:120-121 ، وقد أيقن المسلمون الأوائل أن الجهاد تجارة رابحة قال تعالى: } يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ10 تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ11 يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ12 وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ { الصف،آية:10-13.

وقد تعلموا أن الجهاد أفضل من عمارة المسجد الحرام وسقاية الحجاج فيه قال تعالى: } أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الأخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ19 الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ20 يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ21 خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ
أَجْرٌ عَظِيمٌ22 { التوبة،آية:19-21، واعتقدوا أن الجهاد فوز على كل حال قال تعالى:} قُلْ هَلْ تَتَربَّصُونَ بِنَا إِلاَ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمْ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ52 { التوبة،آية:52، وأن الشهيد لا تنقطع حياته بل هو حي قال تعالى:} وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ169 فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ170 يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ171 { آل عمران:169-171 وكانوا يشعرون بسمو هدفهم الذي يقاتلون من أجله قال تعالى: } فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالأخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا74 وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا75 الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا76 { النساء، آية: 74-76.

وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم للمسلمين فضل الجهاد فألهبت تلك الأحاديث مشاعرهم وفجّرت طاقاتهم ومن هذه الأحاديث ما ورد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قيل يا رسول الله أي الناس أفضل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مؤمن يجاهد بنفسه وماله[1] ، وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم درجات المجاهدين قال صلى الله عليه وسلم: إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة[2]، وقد وضح صلى الله عليه وسلم فضل الشهداء وكرامتهم فقال: انتدب الله لمن خرج في سبيله لا يُخرجه إلا إيمان بي وتصديق برسلي أن أرجعه بما نال من أجر أو غنيمة أو أدخله الجنة ولولا أن أشق على أمتي ما قعدت خلفْ سرَّية ولوددتُ أني أقتل في سبيل الله ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا ثم أقتل[3] وقال صلى الله عليه وسلم: ما أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا وله ما على الأرض من شئ إلا الشهيد يتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيقتل عشر مرات لما يرى من الكرامة[4]، وغير ذلك من الأحاديث وقد تأثر المسلمون الأوائل ومن سار على نهجهم بهذه الآيات والأحاديث ـ فكان كبار الصحابة رضي الله عنهم يغزون وقد شاخوا فيشفق عليهم الناس وينصحونهم بالقعود عن الغزو لأنهم معذورون فيجيبونهم أن سورة التوبة تأبى عليهم القعود ويخافون على أنفسهم من النفاق إذا ما تخلفوا عن الغزو[5].

1- من ثمرات الجهاد في سبيل الله:

كان الصحابة والتابعون بإحسان في العهد الراشدي يرون أن الجهاد في سبيل الله ضرورة من ضرورات بقاء الأمة الإسلامية فقاموا بهذه الفريضة في فتوحات العراق وبلاد المشرق والشام ومصر والشمال الأفريقي وترتب على قيامهم لهذه الفريضة ثمرات كثيرة منها: تأهيل الأمة الإسلامية لقيادة البشرية ،القضاء على شوكة الكفار وإذلالهم وإنزال الرعب في قلوبهم ، ظهور صدق الدعوة للناس الأمر الذي جعلهم يدخلون في دين الله أفواجا فيزداد المسلمون بذلك عزاً والكفار ذلاً، وتوحدت صفوف المسلمين ضد أعدائهم واسعدوا الناس بنور الإسلام وعدله ورحمته[6].

ثالثاً: من سنن الله في فتوحات العراق وبلاد المشرق:

يلاحظ الباحث في دراسته لفتوحات العراق وبلاد المشرق بعض سنن الله في المجتمعات والشعوب والدول ومن هذه السنن :

1- سنة الأخذ بالأسباب:

قال تعالى:} وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ60 { الأنفال،آية:60.

وقد طبق الفاروق رضي الله عنه في عهده هذه الآية وأخذ بالأسباب المادية والمعنوية كما مرّ معنا.

2- سنة التدافع:

قال تعالى:} وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتْ الأرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ251 { البقرة،آية:251.

وقد تحققت هذه السنة في حركة الفتوحات عموماً وسنة التدافع من أهم سنن الله تعالى في كونه وخلقه وهي من أهم السنن المتعلقة بالتمكين للأمة الإسلامية ، وقد استوعب المسلمون الأوائل هذه السنة وعملوا بها وعلموا: أن الحق يحتاج إلى عزائم تنهض به وسواعد تمضي به وقلوب تحنو عليه وأعصاب ترتبط به ـ إنه يحتاج إلى جهد بشرى لأن هذه سنة الله في الحياة الدنيا وهي ماضية[7].

3- سنة الابتلاء:

قال تعالى: } أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمْ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ214 { البقرة،آية:214.

وقد وقع البلاء في فتوحات العراق في معركة جسر أبي عبيد على الخصوص حيث قتل الآلاف من المسلمين وهزم جيشهم ثم أعادوا صفوفهم وحققوا انتصارات عظيمة على الفرس وقد قال تعالى: } لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ...{
آل عمران،آية:186.

ومن الملاحظ من خلال الآيات الكريمة أن تقرير سنة الإبتلاء على الأمة الإسلامية جاء في أقوى صورة من الجزم والتأكيد[8]، وهذه سنة الله تعالى في العقائد والدعوات لا بد من بلاء ، ولا بد من أذى في الأموال والأنفس ولا بد من صبر ومقاومة واعتزام[9].

4- سنة الله في الظلم والظالمين:

قال تعالى: } ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ100 وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمْ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ101 وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ102 { هود،آية:100-102.

وسنة الله مطردة في هلاك الأمم الظالمة وقد مارست الدولة الفارسية الظلم على رعاياها وتمردت على منهج الله فمضت فيها سنة الله وسلط الله عليها المسلمين فأزالوها من الوجود[10].

5- سنة الله في المترفين:

قال تعالى: } وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا16 { الإسراء،آية:16.

وجاء في تفسيرها: وإذا دنا وقت هلاكها أمرنا بالطاعة مترفيها أي متنعميها
وجبّاريها وملوكها ففسقوا فيها فحق عليها القول فأهلكناها وإنما خص الله تعالى المترفين بالذكر مع توجه الأمر بالطاعة إلى الجميع لأنهم أئمة الفسق ورؤساء الضلال وما وقع من سواهم إنما وقع باتباعهم وإغوائهم ، فكان توجه الأمر إليهم آكد[11]، وقد مضت هذه السنة في زعماء الفرس وأئمتهم.

6- سنة الله في الطغيان والطغاة:

قال تعالى: } إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ14{ الفجر،آية:14. والآية وعيد للعصاة مطلقاً وقيل وعيد للكفرة وقيل وعيد للعصاة ووعيد لغيرهم[12].

وفي تفسير القرطبي: أي يرصد كل إنسان حتى يجازيه به[13].

وواضح من أقوال المفسرين في الآيات التي ذكرناها في الفقرة السابقة أن سنة الله في الطغاة إنزال العقاب بهم في الدنيا فهي سنة ماضية لا تتخلف جرت على الطغاة السابقين وستجري على الحاضرين والقادمين فلن يفلت أحد منهم من عقاب الله في الدنيا كما لا يفلت أحد منهم من عقاب الآخرة[14].

وسنة الله في الطغاة وما ينزله الله بهم من عقاب في الدنيا إنما يعتبر بها من يخشى الله جلّ جلاله ويخاف عقابه ويعلم أن سنة الله قانون ثابت لايحابي أحداً قال تعالى في بيان المعتبرين بسنته في الطغاة بعد أن ذكر ما حلّ بفرعون من سوء العقاب } فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الأخِرَةِ وَالأولَى25 إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى26 { النازعات،آية:25،26، فهؤلاء الطغاة من زعماء الفرس مضت فيهم سنة الله.

7- سنة التدرج:

خضعت فتوح العراق وبلاد المشرق لسنة التدرج ـ فكانت المرحلة الأولى في عهد الصديق حيث تم فتح الحيرة بقيادة خالد بن الوليد ، وأما المرحلة الثانية فتبدأ من تولي أبي عبيد الثقفي قيادة لجيوش العراق حتى معركة البويب ـ وأما المرحلة الثالثة فتبدأ منذ تأمير سعد بن أبي وقاص على الجهاد في العراق إلى ما قبل وقعة نهاوند ، وتبدأ المرحلة الرابعة من وقعة نهاوند وأما المرحلة الخامسة فهي مرحلة الإنسياح في بلاد الأعاجم.

إن حركة الفتوحات يتعلم منها أبناء المسلمين أهمية مراعاة سنة التدرج في العمل للتمكين لدين الله ، ومنطلق هذه السنة أن الطريق طويل ولذلك لا بد من فهم واستيعاب هذه السنة بالنسبة للعاملين في مجال الدعوة الإسلامية ، فالتمكين لدين الله في العراق وبلاد المشرق لم يتحقق بين عشية وضحاها ولكنه خضع بإرادة الله لهذه السنة.

8- سنة تغيير النفوس:

قال تعالى:} إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ...{ الرعد،آية:11

وقد قام الصحابة الكرام رضوان الله عليهم في فتوحات العراق وبلاد المشرق بالعمل بهذه السنة الربانية مع الشعوب التي أرادت أن تدخل في دين الله ـ فشرعوا في تربية الناس على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ـ فغرسوا في نفوسهم العقائد الصحيحة والأفكار السليمة والأخلاق الرفيعة.

9- سنة الله في الذنوب والسيئات:

قال تعالى: } أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الأنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ6 { الأنعام،آية: 6.

وقد أهلك الله تعالى أمة الفرس بسبب ذنوبهم التي اقترفوها والتي من أعظمها الكفر والشرك بالله وفي هذه الآية حقيقة ثابتة وسنة مطردة: أن الذنوب تهلك أصحابها وأن الله تعالى هو الذي يهلك المذنبين بذنوبهم[15]، وقد سلط الله أمة الإسلام على الفرس عندما حققت شروط التمكين وعملت بسننه وأخذت بأسبابه .

رابعاً: الأحنف بن قيس يغير مجرى التاريخ:

كان عمر متمسكاً برأيه في الاقتصار على ما فتح من فارس ومنع جيوشه من التوغل في المشرق ولا سيما بعد أن انكسر الهرمزان وفتح المسلمون الأهواز.

فقال عمر: حسبنا لأهل البصرة سوادهم والأهواز، وددت أن بيننا وبين فارس جبلاً من نار لا يصلون إلينا ولا نصل إليهم ،وقال لأهل الكوفة: وددت أن بينهم وبين الجبل جبلاً من نار لا يصلون إلينا ولا نصل إليهم .

وفاوض عمر الوفد في هذا الأمر فقال له الأحنف: يا أمير المؤمنين أخبرك إنك نهيتنا عن الإنسياح في البلاد وأمرتنا بالاقتصار على ما في أيدينا وإن ملك فارس حيَّ بين أظهرهم وإنهم لا يزالون يساحلوننا مادام ملكهم فيهم ولم يجتمع ملكان فاتفقا - أي التقيا - حتى يخرج أحدهما صاحبه ـ وقد رأيت أنا لم نأخذ شيئاً إلا بانبعاثهم وإن ملكهم هو الذي يبعثهم ولا يزال هذا دأبهم حتى تأذن لنا فلنسح في بلادهم حتى نزيله عن فارس ونخرجه من مملكته وغرامته ، فهنالك ينقطع رجاء أهل فارس ويُضربون جأشاً[16] .

فقال عمر للأحنف: صدقتني والله وشرحت لي الأمر على حقه.

وأذن عمر بالانسياح في بلاد فارس وانتهى في ذلك إلى رأي الأحنف،وعرف فضله وصدقه فساحوا في تلك البلاد ودفع لواء خراسان إلى الأحنف ، ووزع بقية الألوية إلى الأبطال من قادة المجاهدين ، ورسم لهم خطة الحرب والتقدم ، ثم جعل يمدهم بالجيوش من ورائهم[17].









 
قديم 05-10-12, 07:00 PM   رقم المشاركة : 22
بيارق النصر
عضو ماسي






بيارق النصر غير متصل

بيارق النصر is on a distinguished road


الفصل السابع فتوح الشام ومصر وليبيا

المبحث الأول : فتح بلاد الشام .

كان أول خطاب وصل إلى الشام من الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه يحمل نبأ وفاة أبي بكر الصديق رضي الله عنه وتولية أبي عبيدة على الشام وقد جاء فيه: أما بعد فإن أبا بكر الصديق خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توفي فإنا لله وإنا إليه راجعون، ورحمة الله وبركاته على أبي بكر الصديق العامل بالحق، والآخذ بالعرف، اللين الستير الوادع، السهل القريب الحكيم، ونحتسب مصيبتنا فيه ومصيبة المسلمين عامة عند الله تعالى، وأرغب إلى الله في العصمة بالتقى في مرحمته، والعمل بطاعته ما أحيانا، والحلول في جنته إذا توفانا، فإنه على كل شيء قدير، وقد بلغنا حصاركم لأهل دمشق، وقد وليتك جماعة المسلمين، فابثث سراياك في نواحي أهل حمص ودمشق وما سواها من أرض الشام، وانظر في ذلك برأيك ومن حضرك من المسلمين ولا يحملنك قولي هذا على أن تعري عسكرك فيطمع فيك عدوك ولكن من استغنيت عنه فسيره، ومن احتجت إليه في حصارك فاحتبسه، وليكن فيمن تحتبس خالد بن الوليد فإنه لا غنى بك عنه[1]، وعند وصول الكتاب دعا أبو عبيدة معاذ بن جبل، فأقرأه الكتاب، وقال حامل الرسالة: يا أبا عبيدة، إن عمر يقول لك أخبرني عن حال الناس، وعن خالد بن الوليد أي رجل هو؟ وأخبرني عن يزيد بن أبي سفيان، وعن عمرو بن العاص، وكيف هما في حالهما وهيئتهما ونصحهما للمسلمين وأجاب أبو عبيدة رسول عمر وكتب أبو عبيدة ومعاذ بن جبل كتاباً واحداً إلى عمر جاء فيه: … من أبي عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل إلى عمر بن الخطاب، سلام عليكم، فإنا نحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد، فإنا عهدناك وأمر نفسك لك مهم، وإنك يا عمر، أصبحت وقد وليت أمر أمة محمد، أحمرها وأسودها، يقعد بين يديك العدو والصديق، والشريف والوضيع، والشديد والضعيف، ولكل عليك حق وحقّه من العدل فانظر كيف تكون يا عمر، وإنا نذكِّرك يوماً تُبلى فيه السرائر، وتكشف فيه العورات، وتظهر فيه المُخبَّات، وتَعْنُو فيه الوجوه لملك قاهر، قهرهم بجبروته، والناس له داخرون، ينتظرون قضاءه، ويخافون عقابه، ويرجون رحمته، وإنه بلغنا أنه يكون في هذه الأمة رجال إخوان العلانية أعداء السريرة، وإنا نعوذ بالله من ذلك، فلا ينزل كتابنا من قلبك بغير المنزلة التي أنزلناها من أنفسنا والسلام عليك ورحمة الله[2].

حوار بين خالد وأبي عبيدة رضي الله عنهما:

علم خالد بأمر عزله فأقبل حتى دخل على أبي عبيدة فقال: يغفر الله لك، أتاك كتاب أمير المؤمنين بالولاية فلم تعلمني وأنت تصلي خلفي والسلطان سلطانك؟ فقال أبو عبيدة: وأنت يغفر الله لك ما كنت لأعلمك ذلك حتى تعلمه من عند غيري، وما كنت لأكسر عليك حربك حتى ينقضي ذلك كله، ثم قد كنت أعلمك إن شاء الله وما سلطان الدنيا أريد، وما للدنيا أعمل، وإن ما ترى سيصير إلى زوال وانقطاع وإنما نحن إخوان وُقوَّام بأمر الله عز وجل، وما يضر الرجل أن يلي عليه أخوه، في دينه ولا دنياه، بل يعلم الوالي أنه يكاد أن يكون أدناهما إلى الفتنة وأوقعهما في الخطيئة لما يعرض له من الهلكة، إلا من عصم الله عز وجل وقليل ما هم ودفع أبو عبيدة كتاب عمر إلى خالد[3].

عمر رضي الله عنه يرد على رسالة أبي عبيدة ومعاذ رضي الله عنهما:

عندما وصل كتاب أبي عبيدة ومعاذ بواسطة شداد بن أوس بن ثابت بن أخي حسان بن ثابت الأنصاري ردّ عمر رضي الله عنه على كتابهما وجاء فيه: … فإني أحمد إليكما الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد، فإني أوصيكما بتقوى الله، فإنه رضاء ربكما، وحظ أنفسكما، وغنيمة الأكياس[4] لأنفسهم عند تفريط العجزة، وقد بلغني كتابكما تذكران أنكما عهدتماني وأمر نفسي لي مُهمّ، فما يدريكما، وهذه تزكية منكما لي، وتذكران أني وليت أمر هذه الأمة، يقعد بين يديّ الشريف والوضيع والعدوّ والصديق، والقوي والضعيف، ولكلِّ حصته من العدل، وتسألانني كيف أنا عند ذلك، وإنه لا حول ولا قوة إلا بالله، وكتبتما تخوفاني يوماً هو آت، وذلك باختلاف الليل والنهار، فإنهما يبليان كل جديد، ويقربان كل بعيد، ويأتيان بكل موعود، حتى يأتيا بيوم القيامة، يوم تُبلى السرائر، وتكشف العورات، وتعنو فيه الوجوه لعزة ملك قهرهم بجبروته، فالناس له داخرون، يخافون عقابه، وينتظرون قضاءه، يرجون رحمته. وذكرتما أنه بلغكما أنه يكون في هذا الأمة رجال يكونون إخوان العلانية، أعداء السريرة، فليس هذا بزمان ذلك، فإن ذلك يكون في آخر الزمان إذا كانت الرغبة والرهبة، رغبة الناس ورهبتهم، بعضهم إلى بعض. والله عز وجل قد ولاني أمركم، وإني أسأل الله أن يعينني عليه وأن يحرسني عنه كما حرسني عن غيره، وإني امرؤ مسلم وعبد ضعيف، إلا ما أعان الله عز وجل، ولن يغير الذي وَليت من خلافتكم من خُلُقي شيئاً إن شاء الله، وإنما العظة لله عز وجل، وليس للعباد منها شيء، فلا يقولن أحد منكم إن عمر قد تغير منذ وَلي، وإني أعقلُ الحق من نفسي وأتقدم، وأُبيِّن لكم أمري، فأيما رجل كانت له حاجة، أو ظُلم مظلمة، ليس بيني وبين أحد من المسلمين هوادة، وأنا حبيب إليّ صلاحكم عزيز عليّ عتبكم، وأنا مسؤول عن أمانتي وما أنا فيه، ومطلع على ما يضيرني بنفسي إن شاء الله لا أكله إلى أحد، ولا أستطيع ما بعد ذلك إلا بالأمناء، وأهل النصح منكم للعامة، ولست أجعل أمانتي إلى أحد سواهم، إن شاء الله وأما سلطان الدنيا وإمارتها؛ فإن كل ما تريان يصير إلى زوال، وإنما نحن إخوان، فأينا أمَّ أخاه، أو كان عليه أميراً لم يَضُره ذلك في دينه ولا في دنياه، بل لعل الوالي أن يكون أقربهما إلى الفتنة وأوقعهما بالخطيئة إلا من عصم الله، وقليل ما هم[5].

أولاً: فتح دمشق:

تمثل الفتوحات في بلاد الشام في عهد عمر بن الخطاب المرحلة الثانية من الفتوحات في هذه الجبهة بعد الفتوح في عهد الصديق فبعد أن انتهت معركة اليرموك وانهزمت جموع الروم استخلف أبو عبيدة بن الجراح على اليرموك بشير بن كعب الحميري، وأتاه الخبر أن المنهزمين من الروم اجتمعوا بفحل، وأن المدد قد أتى أهل دمشق من حمص، فأصبح لا يدري أبدمشق يبدأ أم بفحل في بلاد الأردن، فكتب القائد أبو عبيدة بن الجراح إلى الخليفة الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه يستأمره فأجابه: أما بعد، فابدأوا بدمشق فانهدوا لها، فإنها حصن الشام وبيت مملكتهم، واشغلوا عنكم أهل فحل، بخيل تكون بإزائهم في نحورهم وأهل فلسطين وأهل حمص، فإن فتحها الله قبل دمشق فذاك الذي نحب، وإن تأخر فتحها حتى يفتح الله دمشق، فلينزل في دمشق من يمسك بها ودعوها، وانطلق أنت وسائر الأمراء حتى تغيروا على فحل فإن تم فتحها، فانصرف أنت وخالد إلى حمص وأمير كل بلد على جند حتى يخرجوا من أمارته[6].

ومن خلال أوامر الفاروق نلاحظ: أنه حدد مسؤولية قيادة العمليات، وبموجبه تم تطبيق مبدأ الاقتصاد بالجهد، فضلاً عن المرونة في التصرف إزاء الأهداف المطلوبة، كما يستنتج من هذه الأوامر أن الهدف الرئيس الأول هو دمشق مع توجيه قوة صغيرة لفحل، والهدف الرئيس الثاني هو فحل، لتوجيه الجيش كله لفتحها والهدف الثالث مدينة حمص، واستناداً إلى هذه التوجيهات أرسل أبو عبيدة بن الجراح وحدات قتالية إلى فحل وعلى قيادتها: أبو الأعور السلمي عامر بن حتمة، وعمرو بن كليب وعبد عمر بن يزيد بن عامر، وعمارة بن الصعق بن كعب، وصفي بن علية بن شامل، وعمر بن الحبيب بن عمر، ولبدة بن عامر، وبشير بن عصمة، عمارة بن مخشن وهو القائد لهذه المجموعات، وتوجهت إلى فحل[7]، وانطلق أبو عبيدة نحو دمشق، ولم يلق أية مقاومة ذات أهمية تذكر، إذ أن الروم قد اعتمدوا على أهل البلاد في المنطقة قبل دمشق لإعاقة تقدم قوات المسلمين، إلا أن هؤلاء لم تكن لهم الحماسة والاستماتة للدفاع ويعود ذلك لسوء معاملة الروم لهم وخاصة لأهل القرى الصغيرة[8]، ووصلت قوات المسلمين إلى غوطة دمشق التي فيها قصور الروم ومنازلهم، وشاهدوها خالية لأن أهلها هجروها إلى دمشق، وأرسل هرقل قوة من حمص لإمداد دمشق، وكانت تقدر بـ500 خمسمائة مقاتل[9]، وهي قوة قليلة مقارنة بما يتطلبه الموقف، إلا أن القوة الإسلامية التي وضعها أبو عبيدة بن الجراح شمال دمشق بقيادة ذي الكلاع تصدت لها، وجرى قتال عنيف بين الجانبين، انهزم فيه الروم[10]، وناشد أهل دمشق هرقل الخلاص، فأرسل إليهم كتاباً يدعوهم إلى الثبات ويحرضهم على القتال والمقاومة، ويعدهم بالمدد، فتقوت عزائمهم وجعلهم ذلك يصمدون للحصار وحركات القوات الإسلامية[11].

1- قوات الطرفين:

القوات الرومية:


- القائد العام، هرقل.

- أمير دمشق، نسطاس بن نسطورس.

- قائد قوات دمشق، باهان الذي اشترك باليرموك وهرب منها واسمه ورديان.

- القوات العمومية للقوات الرومية في دمشق 60000 ستون ألف مقاتل، مع احتمال وصول تعزيزات إضافية من حمص 20000 عشرين ألف مقاتل لخط الدفاع و40000 وأربعين ألف مقاتل للتعرض فالروم أقاموا في دمشق للاستفادة من الأبنية وحصونها وسورها وربما كانوا ينتظرون المدد ليقوموا بالتعرض.

- القوة الرومية في فحل تتألف من حاميتها ومن فلول جيش اليرموك الذي أثرت على معنوياتهم معركتها وفشلهم وهروبهم منها، فهم في فزع آخذ بنفوسهم.

قوات المسلمين:

- القائد العام للقوات الإسلامية، عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

- قائد مسارح العمليات في بلاد الشام، أبو عبيدة بن الجراح.

- بعث القائد أبو عبيدة بن الجراح بعشرة من قواده وفي مقدمتهم أبو الأعور السلمي مع حجم مناسب من القوات الإسلامية – لم تذكر المصادر تعداد هذه القوة – للسيطرة على طريق دمشق وحتى بيسان ومحلها معروف اليوم بخربة فحل[12].

- أرسل أبو عبيدة بن الجراح قوات بقيادة علقمة بن حكيم ومسروق كل واحد بمحل الآخر باتجاه فلسطين، فأمن محور الحركات من الغرب والجنوب[13].

- أرسل أبو عبيدة بن الجراح قوة بقيادة ذي الكلاع إلى شمال دمشق ليرابط على الطريق الذي يربطها مع حمص لحماية هذا الاتجاه ومنع وصول التعزيزات الرومية إلى دمشق[14].

- كان حجم القوات الإسلامية بعد اليرموك بحدود 40000 أربعين ألف مقاتل، وهذه القوات متماسكة التنظيم، وتمتاز بالروح المعنوية العالية بعد النصر في اليرموك[15].

- بلغ حجم القوات الإسلامية التي ضربت الحصار على دمشق بحدود 20000 عشرين ألف مقاتل، وباقي القوات أرسلت إلى فحل لتثبيت الجبهة هناك وبالإمكان عند الضرورة سحبها من فحل لتعزز قوة الحصار[16].

2- وصف مدينة دمشق:

كانت دمشق مدينة عظيمة سميت باسم بانيها دمشاق بن كنعان وقد خضعت لحكم مصر، الأسرة الثامنة عشر فهي أقدم المدن في التاريخ وكانت مركز عبادة الأوثان، ولما دخلت المسيحية جعلت من معبدها الوثني كنيسة لا يضاهيها بجمالها وجلالها إلا كنيسة إنطاكية وفي جنوب دمشق تقع أراضي البلقاء وشمالها الجولان، وهي أرض جبلية وأراضيها كلها زروع وغدران مياه، وهي مركز تجاري مهم يسكنها العرب، وكان المسلمون يعرفونها لأنهم يتاجرون معها، وقد كانت مدينة دمشق، مدينة محصنة، تمتاز بالمناعة، فلها سور يحيطها مبنى من الحجارة وارتفاعه ستة أمتار، وفيه أبواب منيعة، وعرض المبنى ثلاثة أمتار، وقد زاد هرقل من مناعته بعد الغزو الفارسي لها، والأبواب يحكم إغلاقها، ويحيط بالسور خندق عرضه ثلاثة أمتار، ونهر بردى يؤثر على الخندق بمياهه وطينه، فأصبحت دمشق قلعة حصينة ليس من السهل اقتحامها[17]، وبذلك تظهر لنا الدفاعات الرومية ذات المتانة، والقوة، لحماية مدينة دمشق، إذ أن هذه الاستحكامات تعطينا الدلائل الآتية:

- لم تنشأ الدفاعات الميدانية حول دمشق على عجل، فهي دفاعات كانت مهيأة منذ مدة ليست بالقصيرة، لما لدمشق من أهمية استراتيجية، وخوف الروم من فقدانها واستيلاء الفرس عليها، وهذا يعني أن الجهد الهندسي الميداني الرومي قد عمل في ترتيب وتنظيم هذه الدفاعات بحرية مطلقة وبموارد هندسية مناسبة غير مطلوبة باتجاهات أخرى فضلاً عن تيسر الإمكانيات الهندسية لدى جيش الروم في هذا المجال.

- برزت الإبداعات الهندسية الرومية من خلال الموانع حول مدينة دمشق، فقد استفادت عناصر الهندسة العسكرية من طبيعة الأرض في إنشاء هذه المنظومة، وعلى الأخص توظيف نهر بردى بما يخدم ملء الخندق الذي يحيط بالمدينة، فضلاً عن الاستفادة الأخرى منه بجعله مانعاً طبيعياً يعوق حركة القطعات المهاجِمة على المدينة من اتجاهها الشمالي والشمال الشرقي.

- كانت ثقة القيادة الرومية بتحصينات مدينة دمشق كبيرة جداً الأمر الذي جعلها تجمع قواتها هناك وتتخذ الدفاع الموضوعي فيها، ريثما تتمكن القوات الرومية في حمص من جمع شتات أمرها والتعرض لجيش المسلمين، وهذا يعني أن الدفاعات الهندسية الميدانية قد تدخلت في إجبار القيادة الرومية على اتخاذ هذا الموقف الدفاعي، وبذلك أصبحت السبب المباشر في صنع القرار، وهذا مهم جداً في التعرف على مدى أهمية الهندسة العسكرية في الميدان.

- وعلى عكسه أجبرت الدفاعات الهندسية الميدانية جيش المسلمين على عدم التعرض لمدينة دمشق واقتحامها، إذ وقفت منظومة المانع الرومية عائقاً بوجههم فصارت خطة الجيش الإسلامي تقتضي فرض الحصار على المدينة.

- تقول المصادر التاريخية أن مدة حصار مدينة دمشق استمرت 70 ليلة، وكان الحصار شديداً، استخدمت فيه أسلحة الحصار الثقيلة، كالمجانيق والدبابات[18].

3- سير المعركة:

سار أبو عبيدة بن الجراح قاصداً دمشق متخذا تشكيل المسير الآتي:

- القلب: خالد بن الوليد.

- المجنبات: عمرو بن العاص وأبو عبيدة.

- الخيل: عياض بن غنم.

- الرجالة: شرحبيل بن حسنة.

ولما كان لسور دمشق أبواب لا يمكن الخروج والدخول للبلدة إلا بواسطتها، فقد نظم المسلمون قوة الحصار على الشكل الآتي:

- قطاع الباب الشرقي بقيادة خالد بن الوليد.

- قطاع باب الجابية بقيادة أبي عبيدة بن الجراح.

- قطاع باب توما بقيادة عمرو بن العاص.

- قطاع باب الفراديس بقيادة شرحبيل بن حسنة.

- قطاع الباب الصغير بقيادة يزيد بن أبي سفيان.



وقد ظن الروم بأن المسلمين لا يستطيعون أن يصمدوا أمام طول الحصار وخاصة في أيام الشتاء، إلا أن المسلمين أصحاب العقيدة الراسخة والصبر الجميل، صمدوا أمام تغيرات الطقس، فقد عمل قادة المسلمين على إشغال الكنائس المتروكة بالغوطة والمنازل الخالية من أهلها ليرتاح فيها المجاهدون، على وفق أسلوب أسبوعي تتبادل قوات الجبهة التي على الأبواب، مع قوات من الخلف وبهذا التنظيم يستمر الحصار مهما طال الزمن[19].

ولم يقف المسلمون عند هذا الحد، وإنّما استمرت استطلاعاتهم الميدانية والهندسية، لمنظومة الموانع المعادية، وتمكن خالد بن الوليد من انتخاب منطقة عبور ملائمة في هذه المنظومة، يمكن من خلالها اقتحام مدينة دمشق، فوقع الاختيار على أحسن مكان يحيط بدمشق وأكثره ماء وأشده مدخلاً[20]، كما جهز حبالاً كهيئة السلاليم توضع على الجدران لتساعد على تسلق الأسوار، وقد علم خالد بن الوليد أن بطريق دمشق قد رزق بولد وجمع الناس في وليمة، فانشغل أفراد الروم بالأكل والشرب وأهملوا واجباتهم ومن ضمنها مراقبة الجبهة والأبواب فلما أمسى ذلك اليوم نهض خالد بن الوليد هو ومن معه من جنده الذي قدم عليهم، وتقدمهم هو والقعقاع بن عمرو ومذعور بن عدي وقالوا: إذا سمعتم تكبيراً على السور فارقوا إلينا واقصدوا الباب[21] وعبر خالد وجماعته الأولى الخندق المائي على عائمتين من القرب[22]، ووصلوا السور، ورموا عليه الحبال التي هي بهيئة السلاليم، فلما ثبت لهم وهقان[23] تسلق فيها القعقاع ومذعور، ثم لم يدعوا أحبولة إلا أثبتاها، والأوهاق الشرف حتى إذا ارتفعوا نظموا السلاليم لتستفيد منها الجماعة الثانية، ثم انحدرت الجماعة الأولى من السور ونزلوا قرب الباب، فكثر الأفراد الذين مع خالد، فكبر أولاً من أعلى السور، فتسلقت الجماعة الثانية السور وتقدموا نحو الباب، فاقتحموه بسيوفهم وهكذا دخلت على هذا النحو قوات المسلمين إلى مدينة دمشق[24].

أهم الفوائد والدروس والعبر:

- هل كان الفتح صلحاً أم عنوة؟

اختلف العلماء في دمشق هل فتحت صلحاً أو عنوة؟ فأكثر العلماء على أنه استقر أمرها على الصلح، لأنهم شكُّوا في المتقدم على الآخر، أفتِحَت عنوة ثم عَدَلَ الروم إلى المصالحة؟ أو فتحت صلحاً، أو اتفق الاستيلاء من الجانب الآخر قسراً؟ فلما شكُّوا في ذلك جعلوها صلحاً احتياطاً، وقيل بل جُعِلَ نصفها صلحاً، ونصفها عنوة، وهذا القول قد يظهر من صنع الصحابة في الكنيسة العظمى التي كانت أكبر معابدهم حين أخذوا نصفها وتركوا نصفها[25]، والله أعلم.

- تاريخ فتحها:

قال ابن كثير: وظاهر سياق سيف بن عمر، يقتضي أن فتح دمشق وقع في سنة ثلاث عشرة، ولكن نصَّ سيف على ما نصّ عليه الجمهور من أنها وقعت في نصف رجب سنة أربعة عشرة[26]، وقد ذكر خليفة بن خياط: أن أبا عبيدة حاصر الروم بدمشق في رجب وشعبان ورمضان وشوال وتم الصلح في ذي القعدة[27]، والمهم أن فتحها كان بعد معركة اليرموك[28].

تطبيقات لبعض مبادئ الحرب:

لم يخل فتح دمشق من تطبيقات مبادئ الحرب عند المسلمين فاشتملت على المباغتة، والمبادأة، وانتهاز الفرص وإبداعات القادة الميدانيين، وقد رأينا ما قام به خالد بن الوليد من استطلاع ومن انتخاب منطقة العبور الملائمة، كيف تغير الموقف، وانقلب من عملية حصار إلى عملية اقتحام وإذا ما قارنّا بين ما فعله خالد بن الوليد باستخدامه الحبال على هيئة سلاليم والاستفادة منها بتسلقه على سور دمشق، وبين ما فعله الجيش المصري في حرب تشرين عام 1973م على الجبهة المصرية عند عبوره خط بارليف الإسرائيلي واستخدامه الحبال على هيئة سلاليم أيضاً للوصول إلى المواضع الدفاعية المعادية، نجد أنه قد تم بالصيغة والأسلوب والأداة نفسها، والتي توضح لنا عبقرية المسلمين إبان الفتوحات الإسلامية، وما معاركنا الحديثة إلا امتداداً لهذا الإبداع والعبقرية[29].

- بعض ما قيل من الشعر في فتح دمشق:

قال القعقاع بن عمرو:

أقمنا على دار سليمان أشهراً



بخالد روما وقد حملنا بصارم[30]



قصصنا إلى الباب الشرقي عنوة



فدان لنا مستسلماً كل قائم[31]



أقول وقد دارت رحانا بدارهم



أقيموا لهم حر الورى بالغلاصم[32]



فلما زأدنا في دمشق نحورهم



وتدمر عضوا منهما بالأباهم[33]








تمهيد الفتح بعد دمشق:

بعد فتح دمشق أرسل أبو عبيدة خالد بن الوليد إلى البِقَاع[34]، ففتح بالسيف، وبعث سرية فالتقوا مع الروم بعين ميسنون، وعلى الروم رجل يقال له سنان تحدّر على المسلمين من عَقَبة بيروت، فقتل من المسلمين يومئذ جماعة من الشهداء فكانوا يسمون عين ميسنون عين الشهداء واستخلف أبو عبيدة على دمشق يزيد بن أبي سفيان وبعث يزيد دِحْيَة بن خليفة إلى تدمر في سرية ليمهدوا أمرها وبعث
أبا الزهراء القشيري إلى البثنّية وحوران فصالح أهلها، وافتتح شرحبيل بن حسنة الأردن كلها عنوة ما خلا طبريَّة فإن أهلها صالحوه، وغلب خالد على أرض البقَاع، وصالحه أهل بعلبك وكتب لهم كتاباً.

ثانياً: وقعة فِحْل:

تحركت القوات المكلفة بمهاجمة مدينة فحل نحو الجنوب وعندما وصلت مشارفها كانت قوة جيش الروم تقارب المائة ألف، تسلل أكثرهم من حمص وانضمت إليهم القرى التي هزمت في معارك سابقة عندما وصلت القوة المكلفة بمحاصرة فحل من جيش المسلمين بقيادة عمار بن مخشن جابهها جيش الروم بشق الترع من بحيرة طبرية وسلطوا مياهها على الأطيان المحيطة بفحل بقصد إعاقة جيش الإسلام وخاصة الفرسان وهذا ما يستخدم في وقتنا الحاضر ضد الدروع وبذلك أعاقوا حركة فرسان المسلمين، لقد جعل الرومان من هذه الأوحال خطاً دفاعياً منيعاً عن فحل رغم أنها تقع في سهل منبسط ولو كان هذا السهل يابساً لتمكن المسلمون بسهولة من اقتحام المدينة لأنهم أقدر الناس على مباشرة حرب الصحراء، وتوقف عمارة بن مخشن ووزع قواته لحصار فحل ولم يقتحمها وذلك للفارق العددي الكبير في القوة ولصعوبة التقدم وعدم التمكّن من اجتياز هذا المانع المائي الذي عمله الرومان واقتصر المسلمون على فرض الحصار على مدينة فحل التي يعتصم بها الروم إلى أن فرغ أبو عبيدة من فتح دمشق العاصمة وضم جيشه إلى جيش أبي الأعور السلمي وأعاد أبوعبيدة تنظيم قواته على النحو التالي:

- المقدمة بقيادة خالد بن الوليد.

- الميمنة بقيادة أبي عبيدة بن الجراح.

- الميسرة بقيادة عمرو بن العاص.

- الفرسان بقيادة ضرار بن الأزور.

- قيادة مجموعات المشاة عياض بن غنم.

- القيادة العامة لشرحبيل بن حسنة وذلك لأن موقع المعركة هو في حدود المنطقة التابعة له واستلم القيادة شرحبيل بن حسنة ثم نظم إقامة القوات وإمدادها ووضع مخططاً لاستنفار القوات وبقاء القوة جاهزة باستمرار لمواجهة الطوارئ وكان شرحبيل لا يبيت ولا يصبح إلا على تعبئة[35]، وطال حصار المسلمين لمدينة فحل وظن الروم أن باستطاعتهم تحقيق المباغتة والقيام بهجوم ليلي حاسم وعلى الروم سقلاب بن مخراق فهجموا على المسلمين فنهضوا عليهم نهضة رجل واحد لأ نهم كانوا على أهبة دائمة ودارت معركة حتى الصباح وذلك اليوم بكامله إلى الليل فلما أظلم الليل فر الروم وقتل أميرهم وركب المسلمون أكتافهم واسلمتهم هزيمتهم إلى ذلك الوحل المانع الذي أعدوه للمسلمين ونتيجة للإجراءات الأمنية والاستعداد الذي قام به شرحبيل على قواته، حدثت الفوضى في جيش الرومان المهاجم والتفرغ للهجوم المضاد الذي شنه المسلمون فوقع الرومان لدى انهزامهم في المانع المائي الذي صنعوه بأيديهم حول فحل فركب المسلمون أكتافهم ولم ينجو منهم إلا الشريد، ولقد تمت تصفية القوة المحاصرة في فحل وعندها توجه المسلمون نحو أهدافهم لمتابعة خطة العمليات الأساسية فتم توجيه:

- شرحبيل بن حسنة إلى الأردن.

- عمرو بن العاص إلى فلسطين.

انطلق أبو عبيدة بن الجراح وخالد بن الوليد إلى حمص وعند وصولهما إلى مرج الروم دارت معركة طاحنة حتى غطت جثث الموتى السهل وفي هذه المعركة تمكن المسلمون من تطبيق مبدأ مهم من مبادئ الحرب والعمليات التعرضية حيث اصطدمت مقدمة الروم بمقدمة المسلمين فعندما شعر توذرا باصطدام مقدمة جيشه بجيش المسلمين قام بحركة استدارة وانطلق في اتجاه دمشق وعلم المسلمون بالأمر ودرسوا الموقف فقرر
أبو عبيدة توجيه قوة بقيادة خالد بن الوليد لمطاردة توذرا والانقضاض عليه من الخلف وأبو عبيدة يبقى في مواجهة ومشاغلة جيش الروم في الوقت نفسه استطاعت استخبارات المسلمين من معرفة حركة واتجاه تقدم توذرا فتقدم جيش يزيد بن أبي سفيان للقائه واشتبك معه وما أن تم الاصطدام بين توذرا وجيش يزيد حتى باغت خالد بن الوليد الروم بضربهم من الخلف وتمت تصفية توذرا تصفية كاملة تقريباً[36].

- مما قاله القعقاع بن عمرو في يوم فحل:



وغداة فحل قد رأوني معلماً



والخيل تنحط والبلا أطوار



ما زالت الخيل العراب تدوسهم



في يوم فحل والقنا موار[37]



حتى رمين سراتهم عن أسرهم



في ردة ما بعدها استمرار[38]



يوم الرداغ فعند فحل ساعة



خر الرماح عليهم مدار؟



ولقد أبدنا في الرداغ جموعهم



طراً ونحوي تبسم الأبصار




وقال أيضاً:



وغداة فحل قد شهدنا مأقطاً



ينسى الكمي سلاحه في الدار[39]



ما زلت أرميهم بقرحة كامل



كر المبيح ريانة الأبسار[40]



حتى فضضنا جمعهم بترس



ينفي العدو إذا سما جرار[41]



نحن الأولى جسوا العراق بتردس



والشام جساً في ذرى الأسفار[42]






ثالثاً: فتح بيسان وطبريّة:

انصرف أبو عبيدة وخالد بمن معهما من الجيوش نحو حمص كما أمر أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، واستخلف أبو عبيدة على الأردن شرحبيل بن حسنة، فسار شرحبيل ومعه عمرو بن العاص، فحاصر بَيْسَان فخرجوا إليه فقتل منهم مقتلة عظيمة، ثم صالحوه على مثل ما صالحت عليه دمشق، وضرب عليهم الجزية، والخراج على أراضيهم، وكذلك فعل أبو الأعور السلمي بأهل طبرية سواء[43].

رابعاً: وقعة حِمْص سنة 15هـ:

واصل أبو عبيدة تتبعه للروم المنهزمين إلى حمص، ونزل حولها يحاصرها، ولحقه خالد بن الوليد، فحاصروها حصاراً شديداً، وذلك في زمن البرد الشديد، وصابر أهل البلد رجاء أن يصرف المسلمين عن المدينة شدة البرد، وَصَبَر الصحابة صبراً عظيماً بحيث إنه ذكر غير واحد أن من الروم من كان يرجع، وقد سقطت رجله وهي في الخف، والصحابة ليس في أرجلهم شيء سوى النعال، ومع هذا لم يصب منهم قدم ولا إصبع، ولم يزالوا كذلك حتى انسلخ فصل الشتاء فاشتد الحصار، وأشار بعض كبار أهل حمص عليهم بالمصالحة فأبوا عليه ذلك وقالوا: أنصالح والمَلِك منا قريب؟ فيقال إن الصحابة كبروا في بعض الأيام تكبيرة ارتجت منها المدينة ووقعت زلزلة تفطرت منها بعض الجدران ثم تكبيرة أخرى فسقطت بعض الدور، فجاءت عامتهم إلى خاصتهم فقالوا: ألا تنظرون إلى ما نزل بنا، وما نحن فيه؟ ألا تصالحون القوم عنا؟ قال: فصالحوهم على ما صالحوا عليه أهل دمشق، على نصف المنازل، وضرْبِ الخراج على الأراضي، وأخذ الجزية على الرقاب بحسب الغنى والفقر، وبعث أبو عبيدة بالأخماس والبشارة إلى عمر مع عبد الله بن مسعود وأنزل أبو عبيدة بحمص جيشاً كثيفاً يكون بها مع جماعة من الأمراء منهم بلال، والمقداد، وكتب أبو عبيدة إلى عمر يخبره بأن هرقل قد قطع الماء[44] عن الجزيرة وأنه يظهر تارة ويخفى أخرى فبعث إليه عمر يأمره بالمقام ببلده[45].

خامساً: وقعة قنَّسرين سنة 15هـ:

بعث أبو عبيدة خالد بن الوليد إلى قِنّسرين[46]، فلما جاءها ثار إليه أهلها ومن عندهم من نصارى العرب، فقاتلهم خالد فيها قتالاً شديداً وقتل منهم خلقاً كثيراً، فأما من هناك من الروم فأبادهم وقتل أميرهم ميناس، وأما الأعراب فإنهم اعتذروا إليه بأن هذا القتال لم يكن عن رأينا فقبل منهم خالد وكف عنهم، ثم خلص إلى البلد فتحصنوا فيه، فقال لهم خالد: إنكم لو كنتم في السحاب لحملنا الله إليكم أو لأنزلكم إلينا ولم يزل بهم حتى فتحها الله عليه، فلما بلغ عمر ما صنعه خالد في هذه الموقعة قال: يرحم الله أبا بكر، كان أعلم بالرجال مني، والله إني لم أعزله عن ريبة ولكن خشيت أن يوكل الناس إليه[47].

سادساً: وقعة قِيسارية سنة 15هـ:

وفي هذه السنة أمّر عمر معاوية بن أبي سفيان على قيْسارية[48] وكتب إليه: أما بعد فقد وليتك قيسارية فسر إليها واستنصر الله عليهم، وأكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، الله ربنا وثقتنا ورجاؤنا ومولانا فنعم المولى ونعم النصير، فسار إليها فحاصرها، وزاحفه أهلها مرات عديدة، وكان آخرها وَقْعَةَ أن قاتلوا قتالاً عظيماً، وصمم عليهم معاوية، واجتهد في القتال حتى فتح الله عليه فما انفصل الحال حتى قتل منهم نحوٌ من ثمانين ألفاً، وكمَّل المائة الألف من الذين انهزموا عن المعركة وبعث بالفتح والأخماس إلى أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه[49] هذا ويرى الدكتور عبد الرحمن الشجاع أن مدن الشام تساقطت تحت ضربات المجاهدين الواحدة تلو الأخرى، لأن الروم كانوا من الهزيمة بمكان لا تجعلهم يفكرون في المقاومة فتساقطت مدن بيروت، وصيدا، ونابلس، واللد، وحلب، وإنطاكية وكانت قيسارية آخر مدن الشام فتحاً على يد معاوية بن أبي سفيان وكان ذلك بعد فتح القدس[50].

سابعاً: فتح القدس: 16هـ:

كان على فلسطين قائدٌ رومانيٌ دعى الأرطبون أي القائد الكبير الذي يلي الإمبراطور وكان هذا أدهى الروم وأبعدها غوراً وأنكاها فعلاً، وكان قد وضع بالرملة جنداً عظيماً، وبإيلياء جنداً عظيماً[51]، وكتب عمرو بن العاص إلى عمر رضي الله عنهما، يخبره بذلك، ويستشيره ويستأمره، فقال عمر كلمته الشهيرة: قد رمينا أرطبون الروم بأرطبون العرب، فانظروا عما تنفرج [52] وكان يقصد بذلك، أن كلا القائدين أدهى الرجال في قومهما، وكانت معركة أجنادين الثانية 15هـ التي انتصر فيها عمرو على الروم قد مهدت الطريق إلى فلسطين[53]، وقد بدأت معركة القدس عملياً، قبل معركة أجنادين الثانية 15هـ ذلك أن أرطبون الروم كان قد وزع جنداً عظيماً له في كل من إيلياء والرملة كما سبق أن قدمنا وبين الرملة وإيلياء أي القدس، ثمانية عشر ميلاً، وذلك تحسباً لأي هجوم من قبل المسلمين، بقيادة عمرو بن العاص، على المدينتين اللتين كانتا أهم مدن كورة فلسطين، إذ كانت الرملة قصبة فلسطين، وكانت إيلياء أكبر مدنها[54]، وكان على الروم في إيليا حاكمها الأرطبون وهو الأرطبون نفسه الذي كان قد لجأ وفلول جيشه إليها بعد هزيمتهم في أجنادين، وكان عليهم في الرملة التذارق[55] وهذه أهم المراحل التي مرّ بها المسلمون عند فتحهم للقدس.

1- المشاغلة:

كانت خطة الخليفة عمر أن يشغل الروم عن عمرو في فلسطين ريثما يتم الانتصار على حشودهم في أجنادين، حتى يتفرغ المسلمون بعدها لفتح القدس وما تبقى من بلاد الشام، فأمر معاوية أن يتوجه بخيله إلى قيسارية ليشغل حاميتها عن عمرو وأما عمرو فكان قد اعتمد الخطة نفسها التي اعتمدها الخليفة، فأرسل كلاً من علقمة بن حكيم الفراسيّ، ومسروق بن فلان المكيّ على رأس قوة لمشاغلة حامية الروم في إيلياء، فصاروا بإزاء أهل إيلياء، فشغلوهم عن عمرو[56]، ثم أرسل أبا أيوب المالكي على رأس قوة أخرى لمشاغلة حاميتهم في الرملة، وما إن وصلت الإمدادات إلى عمرو حتى أرسل محمد بن عمرو مع مدد لقواته المرابطة في مواجهة حامية إيلياء، كما أرسل عمارة بن عمرو بن أمية الضمري مع مدد لقواته المرابطة في مواجهة حامية الرملة، أما هو فأقام في أجنادين بانتظار المعركة الحاسمة مع الأرطبون وفي هذه الأثناء كانت حامية إيلياء تصد المسلمين عن أسوارها، وكان القتال يستعر حول المدينة المقدسة بينما كان المسلمون والروم يحتشدون للقتال في أجنادين وكانت معركة أجنادين عنيفة[57]، إذ يقول الطبري فيها: اقتتلوا – أي المسلمون والروم – قتالاً شديداً كقتال اليرموك، حتى كثرت القتلى بينهم[58]، فقد نازل أرطبون العرب أرطبون الروم في أجنادين فهزمه، وارتدّ أرطبون الروم وجنده ليحتموا بأسوار المدينة المقدسة فأفرج له المسلمون حتى دخلها[59]، ويذكر الطبري أن كلاً من علقمة ومسروق ومحمد بن عمرو وأبي أيوب التحقوا بعمرو في أجنادين، وسار عمرو بجيشه جميعاً نحو إيلياء لمحاصرتها[60].

اجتمع المسلمون، بقيادة عمرو بن العاص حول إيلياء، وضرب عمرو على المدينة حصاراً شديداً، وكانت المدينة حصينة ومنيعة، ويصف الواقدي أسوار المدينة بأنها كانت محصنة بالمجانيق والطوارق والسيوف والدرق والجواشن والزرد الفاخرة ويذكر أن القتال بدأ بعد ثلاثة أيام من الحصار، حيث تقدم المسلمون نحو أسوار المدينة فأمطرتهم حاميتها بوابل من السهام والنبال التي كان المسلمون يتلقونها بدرقهم وكان القتال يمتد من الصباح إلى غروب الشمس واستمر على هذا المنوال عدة أيام، حتى كان اليوم الحادي عشر إذ أقبل أبو عبيدة على المسلمين ومعه خالد وعبد الرحمن بن أبي بكر، ومعهم فرسان المسلمين وأبطال الموحدين[61] مما ألقى الجزع في قلوب أهل إيلياء، واستمر الحصار أربعة اشهر، ما من يوم إلا وجرى فيه قتال شديد والمسلمون صابرون على البرد والثلج والمطر[62]، إلى أن يئس الروم من مقاومة حصار المسلمين لمدينتهم، فقرر بطريقهم البطريق صفرونيوس القيام بمحاولة أخيرة، وكتب إلى عمرو بن العاص، قائد جيش المسلمين، رسالة يغريه فيها بفك الحصار نظراً لاستحالة احتلال المدينة[63].

3- الاستسلام :

كتب أرطبون الروم إلى عمرو بن العاص يقول له: إنك صديقي ونظيري، أنت في قومك مثلي في قومي، والله لا تفتح من فلسطين شيئاً بعد أجنادين، فارجع ولاتُغرِه فتلقى ما لقي الذين قبلك من الهزيمة[64]، فكتب إليه عمرو كتاباً يقول فيه إنه صاحب فتح هذه البلاد، وأرسل الكتاب مع رسول وأمره أن ينقل إليه رد الأرطبون، فلما قرأ الأرطبون كتاب عمرو ضحك مما جاء فيه وقال إن صاحب فتح بيت المقدس هو رجل اسمه عمر، ونقل الرسول إلى عمرو ما سمعه من الأرطبون، فعرف عمرو أن الرجل الذي يعنيه الأرطبون هو الخليفة[65]، فكتب إلى الخليفة يخبره بما جاء على لسان الأرطبون أنه لا يفتح المدينة إلا هو، ويستمده، ويستشيره قائلاً إني أعالج حرباً كؤوداً صدوماً وبلاداً ادُّخرت لك، فرأيك[66]، فخرج الخليفة – بعد الاستشارة – في مدد من الجند، إلى الشام، بعد أن استخلف على المدينة علي بن أبي طالب رضي الله عنه ونزل بالجابية، فجاءه أهل إيلياء فصالحوه على الجزية، وفتحوها له [67].

4- اختلاف الروايات فيمن حاصر القدس والتحقيق فيها:

روى الطبري أكثر من رواية في حصار القدس وقد ذكرت أن الذي حاصرها هو عمرو بن العاص وذكر رواية أخرى قال فيها: كان سبب قدوم عمر إلى الشام، أن أبا عبيدة حضر بيت المقدس، فطلبت أهلها منه أن يصالحهم على صلح مدن أهل الشام، وأن يكون المتولي للعقد عمر بن الخطاب، فكتب إليه ذلك، فسار عن المدينة بعد أن استخلف عليها علياً، وخرج ممداً لهم أي لعسكر الشام ويروي ابن الأثير روايتين مماثلتين لروايتي الطبري، بل متشابهتين في النص إلى حد كبير[68]، وينسب الواقدي حصار القدس وما جرى خلاله من تشاور مع الخليفة عمر رضي الله عنه ومن تفاوض مع حاميتها الرومية، إلى أبي عبيدة، فيذكر أن أبا عبيدة سرّح إلى بيت المقدس خمسة وثلاثين ألف مقاتل بقيادة سبعة قادة، مع كل قائد خمسة آلاف، وهم: خالد بن الوليد، ويزيد بن أبي سفيان، وشرحبيل بن حسنة، والمرقال بن هاشم بن أبي وقاص، والمسيّب بن نجيه الفزاري، وقيس بن هبيرة المرادي، وعروة بن المهلل بن يزيد، سرّحهم في سبعة أيام، كل يوم قائد، ثم لحق بهم بعد أن نشب القتال، عدة أيام، بينهم وبين حامية المدينة[69]، ويستطرد الواقدي فيقول إن أهل إيلياء جاءوا إلى أبي عبيدة يعرضون عليه دخول المدينة صلحاً، على أن يتم الصلح على يدي خليفة المسلمين عمر، ثم يذكر رواية مشابهة لتلك التي رواها كل من الطبري وابن الأثير ويضيف أن أبا عبيدة كتب إلى الخليفة يخبره بما جرى، فسار الخليفة إلى بيت المقدس ونزل عند أسوار المدينة، فخرج إليه بطريقها وتعرف إليه وقال: هذا والله الذي نجد صفته ونعته في كتبنا ومن يكون فتح بلادنا على يديه[70]. ثم عاد إلى قومه يخبرهم فخرجوا مسرعين وكانوا قد ضاقت أنفسهم من الحصار، ففتحوا الباب، وخرجوا إلى عمر بن الخطاب يسألونه العهد والميثاق والذمة ويقرون له بالجزية[71]، ونحن نستبعد رواية الواقدي هذه، لاعتقادنا أنه، بينما كان عمرو بن العاص يحاصر القدس، كان رفاقه من قادة المسلمين، بعد اليرموك ودمشق وفحل، يجوبون أنحاء بلاد الشام غانمين منتصرين، فيحتل أبو عبيدة، ومعه خالد بن الوليد، حمص وحماة وقنسرين وحلب، ثم يسلك طريق الساحل الشامي جنوباً فيستولي على إنطاكية واللاذقية وعرقة. ويحتل يزيد بن
أبي سفيان الساحل، جنوباً من بيروت إلى صيدا، وشمالا من عسقلان إلى صور[72]، ولكن البلاذري يذكر، في رواية له، أن عمرو بن العاص هو الذي حاصر القدس، بعد أن فتح رفح، وأن أبا عبيدة قدم عليه.. بعد أن فتح قنسرين ونواحيها وذلك في سنة 16، وهو محاصر إيلياء، وإيلياء مدينة بيت المقدس[73]، وأن أهل إيلياء طلبوا من أبي عبيدة الأمان والصلح على مثل ما صولح عليه أهل مدن الشام على أن يتولى العقد لهم عمر بن الخطاب نفسه، وقد كتب أبو عبيدة إلى الخليفة بذلك، فقدم عمر فنزل الجابية من دمشق، ثم صار إلى إيلياء، فأنفذ صلح أهلها وكتب به، وكان فتح إيلياء في سنة 17هـ، ويضيف البلاذري بعد ذلك: وقد روي في فتح إيلياء وجه آخر[74]، ومع أننا نرجح الرواية الأولى التي أوردها الطبري وهي أن حصار القدس تمّ على يد عمرو بن العاص، وليس على يد
أبي عبيدة فنحن نرى أنه لم يكن صعباً على أبي عبيدة أن يلتحق بالخليفة عمر في الجابية للتشاور معه حول أمور الفتح باعتباره القائد العام لجيوش المسلمين في الشام، وخصوصاً عندما نعلم أن أبا عبيدة كان ثاني من لقي بعد الخليفة يزيد حين وصوله إلى الجابية واستدعائه لسائر أمراء الأجناد في الشام[75]، للتشاور، وأن
أبا عبيدة حضر، مع يزيد وشرحبيل وكبار قادة المسلمين في الشام، عقد الصلح والأمان، وتسليم المدينة[76]. إلا أنه لم يشهد على هذا العقد كما شهد عليه كل من عمرو بن العاص وعبد الرحمن بن عوف ومعاوية بن أبي سفيان وخالد بن الوليد كما يستدل من نص المعاهدة نفسها وليس لدينا أي تفسير لذلك سوى أن
أبا عبيدة لم يكن قائد الجيش الذي حاصر المدينة المستسلمة، بل هو عمرو[77].

5- نص المعاهدة:

وفيما يلي نص المعاهدة كما أوردها الطبري:


بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان، أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم، ولكنائسهم وصلبانهم، وسقيمها وبريئها وسائر ملتها، أنه لا تسكن كنائسهم ولا تُهدم، ولا ينتقص منها ولا من حيّزها ولا من صليبهم، ولا من شيء من أموالهم، ولا يُكرهون على دينهم ولا يُضارّ أحد منهم، ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود وعلى أهل إيلياء أن يُعطوا الجزية كما يعطي أهل المدائن، وعليهم أن يُخرجوا منها الروم واللصوت اللصوص فمن خرج منهم فإنه آمن على نفسه وماله حتى يبلغوا مأمنهم، ومن أقام منهم فهو آمن، وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية، ومن أحب من أهل إيلياء أن يسير بنفسه وماله مع الروم ويخلّي بِيَعهم وصُلُبهم فإنهم آمنون على أنفسهم وعلى بِيَعهم وصُلُبهم، حتى يبلغوا مأمنهم، ومن كان بها من أهل الأرض قبل مقتل فلان؛ فمن شاء منهم قعد، وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية، ومن شاء سار مع الروم، ومن شاء رجع إلى أهله، فإنه لا يؤخذ منهم شيء حتى يحصد حصادهم، وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله وذمة الخلفاء وذمة المؤمنين إذا أعطوا الذي عليهم من الجزية، شهد على ذلك خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعبد الرحمن بن عوف ومعاوية بن أبي سفيان وكتب وحضر سنة خمس عشر[78].

أهم الدروس والعبر والفوائد:

أ- موقف فدائي لواثلة بن الأسقع رضي الله عنه: قال واثلة: .. فأسمع صرير باب الجابية – وهو واحد من أبواب دمشق – فمكثت فإذا بخيل عظيمة فأمهلتها، ثم حملت عليهم وكبّرت فظنوا أنهم أحيط بهم، فانهزموا إلى البلد، وأسلموا عظيمهم – يعني قائدهم – فدعسته بالرمح وألقيته عن برذونه، وضربت يدي على عنان البرذون وركضت، والتفتوا فلما رأوني وحدي تبعوني فدعست فارساً بالرمح فقتلته، ثم دنا آخر فقتلته، ثم جئت خالد بن الوليد فأخبرته وإذا عنده عظيم من الروم يلتمس الأمان لأهل دمشق[79].

ب- سفارة معاذ بن جبل إلى الروم قبيل موقعة فحل:

بعد مناوشات بين المسلمين والروم، قبيل موقعة فحل، أرسل الروم إلى المسلمين أن ابعثوا إلينا رجلاً، نسأله عما تريدون وما تسألونه وما تدعون إليه ونخبره بما نريد. فأرسل إليهم أبو عبيدة معاذ بن جبل الأنصاري مفاوضاً وسفيراً عن المسلمين، فاستعد الروم لاستقباله، وأظهروا أجمل ما عندهم من الزينة، وأنفذ ما عندهم من الأسلحة: وفرشوا الأرض بأثمن البسط والنمارق التي تكاد تخطف الأبصار، ليفتنوا معاذا عما جاء له أو يرهبوه ويفتوا في عضده ففاجأهم بتعاليه عن زينتهم، ورفضه لكل أشكال المغريات، وبشدة تواضعه وزهده، بل اغتنم ذلك الموقف لاستخدامه سلاحاً ضد الروم، فأمسك بعنان فرسه، وأبى أن يعطيه لغلام من الروم،
وأبى الجلوس على ما أعدوه لاستقباله وقال لهم لا أجلس على هذه النمارق التي استأثرتم بها على ضعفائكم.. وجلس على الأرض.. وقال إنما أنا عبد من عباد الله أجلس على بساط الله، ولا أستأثر بشيء من مال الله على إخواني[80]، ودار بينهم حوار سألوه فيه عن الإسلام فأجابهم، وسألوه عن نبي الله عيسى عليه السلام فقرأ عليه قوله تعالى:} إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ59 { آل عمران،،آية:59.وأوضح لهم ما يريد منهم المسلمون، وقرأ عليهم قوله تعالى: } يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنْ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً { التوبة،آية:123. وقالوا له إن سبب انتصار المسلمين على الفرس هو موت ملكهم، وإن ملك الروم حي وجنوده لا تحصى، فقال لهم إن كان ملككم هرقل، فإن ملكنا الله وأميرنا رجل منا، إن عمل فينا بكتاب الله وسنة نبينا أقررناه، وإن غير عزلناه، ولا يحتجب عنا ولا يتكبر ولا يستأثر علينا[81]، وأما عن كثرتهم فقد قرأ عليهم قوله تعالى: } كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ249 { البقرة،آية:249. ولما فشل الروم في التأثير في معاذ أو النيل منه، فيما أعدوه من بهارج وخيلاء، عادوا إلى الواقع يعرضون عليه الصلح، وأن يعطوا المسلمين البلقاء وما والاها فأعلمهم معاذاً أنه ليس أمامهم إلا الإسلام أو الجزية، أو الحرب، فغضبوا وقالوا اذهب إلى أصحابك، إنا لنرجو أن نقرنكم في الحبال. فقال معاذ: أما الحبال فلا، ولكن والله لتقتلننا عن آخرنا أو لنخرجنكم منها أذلة وأنتم صاغرون، ثم انصرف[82]، وهكذا ظهر معاذ في هذه السفارة شخصية سياسية عسكرية، وداعية إلى الإسلام يواجه حجج خصومه، ويوجه إليهم النقد اللاذع، مظهراً عيوبهم واستئثارهم على رعيتهم، ويذكرهم بتعاليم دينهم، ويدعوهم إلى الإسلام، أما تهويلهم وحربهم النفسية فيرد عليها بالواقع
لا بالتهويل والتخويف، ثم يعود إلى قيادته التي أقرت كل ما قام به وما قاله للروم[83]، وقد كان المسلمون يدعون خصومهم للإسلام قبل القتال.

ج- موقف لعبادة بن الصامت في فتح قيسارِية:

كان عبادة بن الصامت على ميمنة جيش المسلمين في حصار قيسارية، فقام رضي الله عنه بوعظ جنده ودعاهم إلى تفقد أنفسهم، والحيطة من المعاصي ثم قاد هجوماً قتل فيه كثيراً من الروم، لكنه لم يتمكن من تحقيق هدفه، فعاد إلى موقعه الذي انطلق منه، فحرض أصحابه على القتال، وأبدى لهم استغرابه الشديد لعدم تحقيق أهداف ذلك الهجوم فقال: يا أهل الإسلام إني كنت من أحدث النقباء سناً وأبعدهم أجلاً وقد قضى الله أن أبقاني حتى قاتلت هذا العدو معكم.. والذي نفسي بيده ما حملت قط في جماعة من المؤمنين على جماعة من المشركين، إلا خلوا لنا الساحة وأعطانا الله عليهم الظفر فما بالكم حملتم على هؤلاء فلم تزيلوهم؟[84] ثم بين لهم ما يخشاه منهم فقال: إني والله لخائف عليكم خصلتين، أن تكونوا قد غُللتم، أولم تناصحوا الله في حملتكم عليهم[85]، وحث أصحابه على طلب الشهادة بصدق، وأعلمهم أنه سيكون في مقدمتهم وأنه لن يعود إلى مكانه، إلا أن يفتح الله عليه أو يرزقه الشهادة[86]، فلما التحم المسلمون والروم، ترجل عبادة عن جواده، وأخذ راجلاً فلما رآه عمير بن سعد الأنصاري نادى المسلمين يعلمهم بما فعل أميرهم ويدعوهم إلى الاقتداء به فقاتلوا الروم حتى هزموهم وأحجروهم في حصنهم [87].

د- أم حكيم بنت الحارث بن هشام في معركة مرج الصُّفر:

كانت أم حكيم بنت الحارث بن هشام تحت عكرمة بن أبي جهل فقتل عنها في معارك الشام[88]، فاعتدت أربعة أشهر وعشراً، وكان يزيد بن أبي سفيان يخطبها، وكان خالد بن سعيد يرسل إليها يعرض لها في خطبتها، فخطبت إلى خالد بن سعيد، فتزوجها، فلما نزل المسلمون مرج صفر–وكان خالد قد شهد أجنادين وفِحل ومرج الصفر– أراد أن يعرّس بأم حكيم فجعلت تقول: لو أخرت الدخول حتى يفضّى الله هذه الجموع، فقال خالد: إن نفسي تحدثني أني أصاب في جموعهم. قالت: فدونك، فأعرس بها عند القنطرة التي بالصفر، فبها سميت قنطرة أم حكيم، وأولم عليها، فدعا أصحابه إلى طعام، فما فرغوا من الطعام حتى صفت الروم صفوفها وبرز خالد بن سعيد فقاتل فقتل وشدت أم حكيم عليها ثيابها وتبدت، وإن عليها أثر الخلوق فاقتتلوا أشد القتال على النهر، وصبر الفريقان جميعاً، وأخذ السيوف بعضها بعضاً، وقتلت أم حكيم يومئذ سبعة بعمود الفسطاط الذي بات فيه خالد معرساً بها[89].

هـ- قيصر ملك الروم يودع الشام :

في السنة الخامسة عشرة تقهقر هرقل بجنوده، وارتحل عن الشام إلى بلاد الروم[90] وقيل في سنة ست عشرة[91]، وكان هرقل كلما حج إلى بيت المقدس وخرج منها يقول: عليك السلام يا سورية، تسليم مودع لم يقض منك وطراً وهو عائد؛ فلما عزم على الرحيل من الشام وبلغ الرُّها[92]، طلب من أهلها أن يصحبوه إلى الروم فقالوا: إن بقاءنا هاهنا أنفع لك من رحيلنا معك، فتركهم؛ فلما وصل إلى شِمْشَاط[93] وعلا على شرف هنالك التفت إلى نحو بيت المقدس وقال: عليك السلام يا سورية سلاماً لا اجتماع بعده[94]، ثم سار هرقل حتى نزل القسطنطينية واستقر بها ملكه، وقد سأل رجلاً ممن اتبعه، كان قد أُسِرَ مع المسلمين، فقال أخبرني عن هؤلاء القوم، فقال: أخبرك كأنك تنظر إليهم. هم فرسان بالنهار ورهبان بالليل، ما يأكلون في ذمتهم إلا بثمن، ولا يدخلون إلا بسلام، يقضون على من حاربوه حتى يأتوا عليه، فقال: لئن كنت صدقتني ليملكن موضع قدمي هاتين[95].

و- إن الله أعزَّكم بالإسلام:

لما قدم عمر رضي الله عنه الشام راكباً على حماره ورجلاه من جانب قال له أبو عبيدة: يا أمير المؤمنين، الآن يتلقاك عظماء الناس فقال عمر رضي الله عنه: إن الله أعزّكم بالإسلام، فمهما طلبتم العزّ في غيره أذلكم[96].

ز- من خطبته بالجابية لما وصل الشام:

خطب عمر رضي الله عنه بالجابية، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام في مثل مقامي هذا فقال: أحسنوا إلى أصحابي ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجئُ قوم يحلف أحدهم على اليمين قبل أن يُسْتَحْلَف عليها، ويشهد على الشهادة قبل أن يُستشهد، فمن أحب منكم أن ينال بُحْبُوحة الجنة، فليلزم الجماعة، فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد، ولا يخلون رجل بامرأة فإن ثالثهما الشيطان، ومن كان منكم تسرُّه حسنته وتسوؤه سيئته فهو مؤمن[97].

ح- غيرتنا الدنيا كلنا غيرك يا أبا عبيدة:

لما قدم عمر الشام قال لأبي عبيدة رضي الله عنه: اذهب بنا إلى منزلك، قال: وما تصنع عندي؟ ما تريد إلا أن تعصر عي************ عليّ، قال: فدخل فلم ير شيئاً، قال: أين متاعك؟ لا أرى إلا لَبَداً وصحفة وشناً[98]، وأنت أمير أعندك طعام؟ فقام أبو عبيدة إلى جونة[99]، فأخذ منها كسيرات، فبكى عمر، فقال له أبو عبيدة: قد قلت لك إنك ستعصر عي************ عليّ، يا أمير المؤمنين يكفيك ما يُبلغُك المقيل، قال عمر: غيَّرتنا الدنيا كلّنا غيرك يا أبا عبيدة[100] وعلق الذهبي على هذه الحادثة فقال: وهذا والله هو الزهد الخالص لا زهد من كان فقيراً معدماً[101]، وجاء في رواية عن هشام بن عروة عن أبيه قال: قدم عمر –رضي الله عنه- الشام، فتلقاه أمراء الأجناد، وعظماء أهل الأرض، فقال عمر: أين أخي؟ قالوا: من؟ قال: أبو عبيدة بن الجراح، قالوا: يأتيك الآن، فجاء على ناقة مخطومة بحبل فسلم، عليه، فسأله ثم قال للناس: انصرفوا عنا فسار معه حتى أتى منزله، فنزل عليه، فلم ير في بيته إلا سيفه، وترسه، ورحله[102]…

ط- تعليق على نص معاهدة أهل بيت المقدس:

إن كتاب الصلح الذي أبرمه عمر رضي الله عنه يشهد شهادة حق بأن الإسلام دين تسامح وليس دين إكراه وهو شاهد عدل بأن المسلمين عاملوا النصارى الموجودين في القدس معاملة لم تخطر على بالهم إن عمر وهو الفاتح كان يستطيع أن يفرض عليهم ما يشاء، وأن يجبرهم على ما يريد، ولكنه لم يفعل لأنه كان يمثل الإسلام، والإسلام لا يكره أحداً على الدخول فيه ولا يقبل من أحد إيماناً إلا عن طواعية وإذعان، إن الإيمان ليس شيئاً يجبر عليه الناس لأنه من عمل القلوب، والقلوب لا يعلم مخبآتها إلا الله سبحانه فقد يريك الإنسان أنه مؤمن وليس كذلك وتكون مضرته لأهل الإيمان أكثر ممن يجاهرون بالكفر والإلحاد ولهذا آثر المسلمون أن يعطوا الناس حرية العبادة، ويؤمنوهم على كل عزيز لديهم على أن يعيشوا في كنف المسلمين، ويؤدوا الجزية مقابل حمايتهم والذود عنهم، وفي ظلال الحياة الهادئة الوديعة وفي رحاب الصلات والجوار، وفي كنف المسلمين وعدالتهم سيرى غير المسلمين عن قرب جمال الإسلام وسماحته وإنصافه وعدالته وسَيَرون فيه الحقائق التي قد عميت عليهم لبعدهم عنه، وعندئذ يدخلون في دين الله أفواجاً كما حدث في كل البلاد التي فتحها المسلمون، وأعطوا أهلها مثل هذا الأمان[103].

ي- عمر رضي الله عنه يصلي في المسجد الأقصى:

قال أبو سلمة حدثني أبو سنان عن عبيد بن آدم قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول لكعب: أين ترى أن أصلي؟ فقال: إن اخذت عنّي، صليت خلف الصخرة فكانت القدس كلُّها بين يديك، فقال عمر: ضاهيت اليهودية،
لا ولكن أصلي حيث صلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتقدم إلى القبلة فصلّى، ثم جاء فبسط ردائه فكنس الكناسة في ردائه وكنس الناس[104] وقال ابن تيمية: المسجد الأقصى اسم لجميع المسجد.. وقد صار بعض الناس يسمي الأقصى المصلّى الذي بناه عمر بن الخطاب في مُقَدّمه، والصلاة في هذا المصلى الذي بناه عمر للمسلمين، أفضل من الصلاة في سائر المسجد، فإن عمر بن الخطاب لما فتح بيت المقدس، وكان على الصخرة زبالة عظيمة، لأنَّ النصارى كانوا يقصدون إهانتها، مقابلة لليهود الذي يصلّون إليها، فأمر عمر بإزالة النجاسة عنها. وقال كعب: أين ترى أن نبني مصلى للمسلمين؛ فقال: خَلْفَ الصخرة، فقال: يا ابن اليهودية: خالطت اليهودية بل أبنيه أمامها، فإنّ لنا صدور المساجد[105].

وهذا موقف آخر جليل وعظيم من مواقف أمير المؤمنين التي لا تحصى، والتي برهن فيها عملياً على أن الإسلام يحترم جميع الأديان السماوية ويجعل كل المقدسات محترمة ولا يختصر شيئاً منها، إن هذه الصخرة التي أزال عنها عمر التراب والأوساخ بيده وحملها في قبائه لينفيها عنها هي قبلة اليهود والصخرة المعظمة عندهم التي كلم الله عليها يعقوب عليه السلام كما يعتقدون، فكما كان موقف عمر من النصارى رائعاً وجليلاً حين منحهم حرية الاعتقاد وأمنهم على صلبانهم وكنائسهم لم يضن على اليهود مع ما ارتكبوه في حق المسلمين من الجرائم بمثل هذا الموقف الرائع الجليل، حيث رفع التراب عن الصخرة، وأظهر عنايته بها وحرصه على احترامها[106].

محاولة الرومان احتلال حمص من جديد:

قدمت عيون أبي عبيدة فأخبروه بجمع الروم وخطاب هرقل فيهم وسيرهم إليه، ورأى أبو عبيدة ألا يكتم جنوده الخبر، فدعا رؤوس المسلمين وذوي الهيئة والصلاح منهم ليستشيرهم ويسمع رأي جماعتهم[107]، فكان رأي معاذ بن جبل الأنصاري، عدم الانسحاب وقال: هل يلتمس الروم من عدوهم أمراً أضر لهم مما تريدون بأنفسكم تخلون لهم عن أرض قد فتحها الله عليكم، وقتل فيها صناديدهم وأهلك جنودهم.. أما والله لئن أردتم دخولها بعد الخروج منها لَتُكابدنَّ من ذلك مشقة فقال أبو عبيدة صدق والله وبرّ[108]، ولكن الأحداث سارت على غير هذا الاتجاه، فأعاد المسلمون ما جبوه من أهل حمص فقد أمر أبو عبيدة حبيب بن مسلمة وقال له: اردد على القوم الذين كنا صالحناهم من أهل البلد، ما كنا أخذنا منهم، فإنه لا ينبغي لنا إذ لم نمنعهم أن نأخذ منهم شيئاً، وقال لهم نحن على ما كنا عليه فيما بيننا وبينكم من الصلح لا نرجع فيه إلا أن ترجعوا عنه، وإنما رددنا عليكم أموالكم أنا كرهنا أن نأخذ بأموالكم ولا نمنع بلادكم، ولكنا نتنحى إلى بعض الأراضي ونبعث إلى إخواننا فيقدموا علينا ثم نلقي عدونا فنقاتلهم فإن أظفرنا الله بهم وفينا لكم بعهدكم إلا أن لا تطلبوا ذلك وأصبح الصباح فأمر أبو عبيدة برحيل جيش المسلمين إلى دمشق، واستدعى حبيب بن مسلمة القوم الذين كانوا أخذ منهم الجزية فرد عليهم مالهم وأخبرهم بما قال أبو عبيدة، وأخذ أهل حمص يقولون: ردكم الله إلينا ولعن الله الذين كانوا يملكوننا من الروم، ولكن والله لو كانوا هم ما ردوا علينا بل غصبونا وأخذوا ما قدروا عليه من أموالنا، لولايتكم وعدلكم أحب إلينا مما كنا فيه من الظلم والغشم[109].

وأرسل أبو عبيدة سفيان بن عوف إلى عمر ليلة غدا من حمص إلى دمشق، وقال إئت أمير المؤمنين فأبلغه عني السلام، وأخبره بما قد رأيت وعاينت وبما قد جاءتنا به العيون، وبما استقر عندك من كثرة العدو، وبالذي رأى المسلمون من التنحي عنهم، وكتب معه: أما بعد، فإن عيوني قدمت عليّ من أرض عدونا، من القرية التي فيها ملك الروم، فحدثوني بأن الروم قد توجهوا إلينا وجمعوا لنا من الجموع ما لم يجمعوه لأمة قط كانت قبلنا، وقد دعوت المسلمين وأخبرتهم الخبر واستشرتهم في الرأي، فأجمع رأيهم على أن يتنحوا عنهم حتى يأتينا رأيك، وقد بعثت إليك رجلاً عنده علم ما قبلنا فسله عما بدا لك فإنه بذلك عليم وهو عندنا أمين، ونستعين بالله العزيز العليم وهو حسبنا ونعم الوكيل[110].

الخطة الحربية البديعة التي رسمها عمر رضي الله عنه لنجدة أبي عبيدة رضي الله عنه:

لما بلغ الخبر عمر رضي الله عنه كتب إلى سعد بن ابي وقاص رضي الله عنه: أن اندب الناس مع القعقاع بن عمرو، وسرِّحهم من يومهم الذي يأتيك فيه كتابي إلى حمص، فإن أبا عبيدة قد أحيط به، وكان عمر قد أعد خيولاً احتياطية في كل بلد استعداداً للحروب المفاجئة، فكان في الكوفة أربعة آلاف فرس، فجهز سعد عليها الجيش الذي أرسله إلى الشام، وكتب عمر أيضاً إلى سعد: أن سرِّح سهيل بن عدي إلى الجزيرة في الجند، ولْيَأت الرَّقَّة، فإن أهل الجزيرة هم الذين استثاروا الروم على أهل حمص، وإن أهل قَرْقِيسياء لهم سلف، وسرّح عبد الله بن عبد الله بن عتبان إلى نصيبين فإن أهل قرقيسياء لهم سلف ثم لينْفُضا[111] حرَّان والرَّها، وسرِّح الوليد بن عقبة على عرب الجزيرة من ربيعة وتنوخ، وسرح عياضاً، فإن كان قتال فقد جعلت أمرهم جميعاً إلى عياض بن غَنْم، فمضى القعقاع في أربعة آلاف من يومهم الذي أتاهم فيه الكتاب نحو حمص، وخرج عياض بن غنم وأمراء الجزيرة فأخذوا طريقهم نحو الأهداف التي وجهوا إليها، وخرج أمير المؤمنين عمر من المدينة مغيثاً لأبي عبيدة يريد حمص حتى نزل الجابية وعلم أهل الجزيرة الذين اشتركوا مع الروم في حصار أهل حمص بخروج الجيوش من العراق، ولا يدرون هل مقصدهم حمص أم بلادهم في الجزيرة فتفرقوا إلى بلدانهم وإخوانهم، وتركوا الروم يواجهون المعركة وحدهم ولما رأى أبو عبيدة أن أنصار الروم من أهل الجزيرة قد انفضوا عنهم، استشار خالداً في الخروج إليهم وقتالهم فأشار عليه بذلك، فخرجوا إليهم وقاتلوهم وفتح الله عليهم، وقدم القعقاع بن عمرو ومن معه من أهل الكوفة بعد ثلاثة أيام من المعركة وقدم أمير المؤمنين بالجابية، فكتبوا إليه بالفتح وبقدوم المدد عليهم بعد ثلاثة أيام من الفتح وبالحكم في ذلك، فكتب إليهم أن شركوهم فإنهم قد نفروا لكم وقد تفرق لهم عدوكم[112]، وقال: جزى الله أهل الكوفة خيراً يكفون حوزتهم ويُمِدّون أهل الأمصار[113].

حينما نتأمل هذه الخطة الحربية البديعة التي رسمها عمر رضي الله عنه لإرباك الأعداء وتفريقهم نرى عبقرية الفاروق العسكرية، فقد أمر ببعث جيش سريع من الكوفة إلى حمص ليقوم بعملية الإنقاذ وخرج هو بجيش من المدينة، وهذا كله يبدو أمراً معتاداً، ولكن الأمر الذي يثير الإعجاب هو ما قام به من الأمر ببعث الجيوش إلى بلاد المحاربين ليضطرهم إلى ترك ميدان القتال والتفرق إلى بلادهم لحمايتها، وقد نجحت هذه الخطة حيث تفرقوا فهان على المسلمين القضاء على الروم[114].

فتح الجزيرة: 17هـ:

تقدم لنا أن الروم وأهل بلاد الجزيرة أغاروا على مدينة حمص وحصروا فيها
أبا عبيدة رضي الله عنه والمسلمين وأن عمر رضي الله عنه أرسل إلى سعد بن
أبي وقاص رضي الله عنه يأمره بإمداد أهل حمص بجيش يخرج من الكوفة إلى حمص، وجيوش تخرج إلى الجزيرة وقد أرسل سعد جيشاً من الكوفة بقيادة القعقاع بن عمرو التميمي، وأرسل جيوشاً إلى الجزيرة وكلها تحت قيادة عياض بن غنم رضي الله عنه، فخرجَت هذه الجيوش إلى الجزيرة فسلك سهيل بن عدي وجنده طريق الفراض حتى انتهى إلى الرَّقًّة فحاصرهم، فنظروا إلى أنفسهم بين قوتين للمسلمين في العراق والشام فصالحوهم، وسلك عبد الله بن عبد الله بن عِتْبان طريق دجلة حتى انتهى إلى نصيبين فلقيه أهلها بالصلح كما صنع أهل الرقة، ولما أعطى أهل الرقة ونصيبين الطاعة ضم عياض سهيلاً وعبد الله إليه وسار بالناس إلى حران فأخذ ما دونها، فلما انتهى إليهم اتقوه بالإجابة إلى الجزية فقبل منهم، ثمّ سرَّح عبدالله وسهيلاً إلى الرُّها فاتقوهما بالإجابة إلى الجزية وهكذا فتحت الجزيرة كلها على سعتها صلحاً، فكانت أسهل البلدان أمراً[115].









 
قديم 05-10-12, 07:06 PM   رقم المشاركة : 23
بيارق النصر
عضو ماسي






بيارق النصر غير متصل

بيارق النصر is on a distinguished road


الفصل السابع فتوح الشام ومصر وليبيا

المبحث الأول : فتح بلاد الشام .

كان أول خطاب وصل إلى الشام من الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه يحمل نبأ وفاة أبي بكر الصديق رضي الله عنه وتولية أبي عبيدة على الشام وقد جاء فيه: أما بعد فإن أبا بكر الصديق خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توفي فإنا لله وإنا إليه راجعون، ورحمة الله وبركاته على أبي بكر الصديق العامل بالحق، والآخذ بالعرف، اللين الستير الوادع، السهل القريب الحكيم، ونحتسب مصيبتنا فيه ومصيبة المسلمين عامة عند الله تعالى، وأرغب إلى الله في العصمة بالتقى في مرحمته، والعمل بطاعته ما أحيانا، والحلول في جنته إذا توفانا، فإنه على كل شيء قدير، وقد بلغنا حصاركم لأهل دمشق، وقد وليتك جماعة المسلمين، فابثث سراياك في نواحي أهل حمص ودمشق وما سواها من أرض الشام، وانظر في ذلك برأيك ومن حضرك من المسلمين ولا يحملنك قولي هذا على أن تعري عسكرك فيطمع فيك عدوك ولكن من استغنيت عنه فسيره، ومن احتجت إليه في حصارك فاحتبسه، وليكن فيمن تحتبس خالد بن الوليد فإنه لا غنى بك عنه[1]، وعند وصول الكتاب دعا أبو عبيدة معاذ بن جبل، فأقرأه الكتاب، وقال حامل الرسالة: يا أبا عبيدة، إن عمر يقول لك أخبرني عن حال الناس، وعن خالد بن الوليد أي رجل هو؟ وأخبرني عن يزيد بن أبي سفيان، وعن عمرو بن العاص، وكيف هما في حالهما وهيئتهما ونصحهما للمسلمين وأجاب أبو عبيدة رسول عمر وكتب أبو عبيدة ومعاذ بن جبل كتاباً واحداً إلى عمر جاء فيه: … من أبي عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل إلى عمر بن الخطاب، سلام عليكم، فإنا نحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد، فإنا عهدناك وأمر نفسك لك مهم، وإنك يا عمر، أصبحت وقد وليت أمر أمة محمد، أحمرها وأسودها، يقعد بين يديك العدو والصديق، والشريف والوضيع، والشديد والضعيف، ولكل عليك حق وحقّه من العدل فانظر كيف تكون يا عمر، وإنا نذكِّرك يوماً تُبلى فيه السرائر، وتكشف فيه العورات، وتظهر فيه المُخبَّات، وتَعْنُو فيه الوجوه لملك قاهر، قهرهم بجبروته، والناس له داخرون، ينتظرون قضاءه، ويخافون عقابه، ويرجون رحمته، وإنه بلغنا أنه يكون في هذه الأمة رجال إخوان العلانية أعداء السريرة، وإنا نعوذ بالله من ذلك، فلا ينزل كتابنا من قلبك بغير المنزلة التي أنزلناها من أنفسنا والسلام عليك ورحمة الله[2].

حوار بين خالد وأبي عبيدة رضي الله عنهما:

علم خالد بأمر عزله فأقبل حتى دخل على أبي عبيدة فقال: يغفر الله لك، أتاك كتاب أمير المؤمنين بالولاية فلم تعلمني وأنت تصلي خلفي والسلطان سلطانك؟ فقال أبو عبيدة: وأنت يغفر الله لك ما كنت لأعلمك ذلك حتى تعلمه من عند غيري، وما كنت لأكسر عليك حربك حتى ينقضي ذلك كله، ثم قد كنت أعلمك إن شاء الله وما سلطان الدنيا أريد، وما للدنيا أعمل، وإن ما ترى سيصير إلى زوال وانقطاع وإنما نحن إخوان وُقوَّام بأمر الله عز وجل، وما يضر الرجل أن يلي عليه أخوه، في دينه ولا دنياه، بل يعلم الوالي أنه يكاد أن يكون أدناهما إلى الفتنة وأوقعهما في الخطيئة لما يعرض له من الهلكة، إلا من عصم الله عز وجل وقليل ما هم ودفع أبو عبيدة كتاب عمر إلى خالد[3].

عمر رضي الله عنه يرد على رسالة أبي عبيدة ومعاذ رضي الله عنهما:

عندما وصل كتاب أبي عبيدة ومعاذ بواسطة شداد بن أوس بن ثابت بن أخي حسان بن ثابت الأنصاري ردّ عمر رضي الله عنه على كتابهما وجاء فيه: … فإني أحمد إليكما الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد، فإني أوصيكما بتقوى الله، فإنه رضاء ربكما، وحظ أنفسكما، وغنيمة الأكياس[4] لأنفسهم عند تفريط العجزة، وقد بلغني كتابكما تذكران أنكما عهدتماني وأمر نفسي لي مُهمّ، فما يدريكما، وهذه تزكية منكما لي، وتذكران أني وليت أمر هذه الأمة، يقعد بين يديّ الشريف والوضيع والعدوّ والصديق، والقوي والضعيف، ولكلِّ حصته من العدل، وتسألانني كيف أنا عند ذلك، وإنه لا حول ولا قوة إلا بالله، وكتبتما تخوفاني يوماً هو آت، وذلك باختلاف الليل والنهار، فإنهما يبليان كل جديد، ويقربان كل بعيد، ويأتيان بكل موعود، حتى يأتيا بيوم القيامة، يوم تُبلى السرائر، وتكشف العورات، وتعنو فيه الوجوه لعزة ملك قهرهم بجبروته، فالناس له داخرون، يخافون عقابه، وينتظرون قضاءه، يرجون رحمته. وذكرتما أنه بلغكما أنه يكون في هذا الأمة رجال يكونون إخوان العلانية، أعداء السريرة، فليس هذا بزمان ذلك، فإن ذلك يكون في آخر الزمان إذا كانت الرغبة والرهبة، رغبة الناس ورهبتهم، بعضهم إلى بعض. والله عز وجل قد ولاني أمركم، وإني أسأل الله أن يعينني عليه وأن يحرسني عنه كما حرسني عن غيره، وإني امرؤ مسلم وعبد ضعيف، إلا ما أعان الله عز وجل، ولن يغير الذي وَليت من خلافتكم من خُلُقي شيئاً إن شاء الله، وإنما العظة لله عز وجل، وليس للعباد منها شيء، فلا يقولن أحد منكم إن عمر قد تغير منذ وَلي، وإني أعقلُ الحق من نفسي وأتقدم، وأُبيِّن لكم أمري، فأيما رجل كانت له حاجة، أو ظُلم مظلمة، ليس بيني وبين أحد من المسلمين هوادة، وأنا حبيب إليّ صلاحكم عزيز عليّ عتبكم، وأنا مسؤول عن أمانتي وما أنا فيه، ومطلع على ما يضيرني بنفسي إن شاء الله لا أكله إلى أحد، ولا أستطيع ما بعد ذلك إلا بالأمناء، وأهل النصح منكم للعامة، ولست أجعل أمانتي إلى أحد سواهم، إن شاء الله وأما سلطان الدنيا وإمارتها؛ فإن كل ما تريان يصير إلى زوال، وإنما نحن إخوان، فأينا أمَّ أخاه، أو كان عليه أميراً لم يَضُره ذلك في دينه ولا في دنياه، بل لعل الوالي أن يكون أقربهما إلى الفتنة وأوقعهما بالخطيئة إلا من عصم الله، وقليل ما هم[5].

أولاً: فتح دمشق:

تمثل الفتوحات في بلاد الشام في عهد عمر بن الخطاب المرحلة الثانية من الفتوحات في هذه الجبهة بعد الفتوح في عهد الصديق فبعد أن انتهت معركة اليرموك وانهزمت جموع الروم استخلف أبو عبيدة بن الجراح على اليرموك بشير بن كعب الحميري، وأتاه الخبر أن المنهزمين من الروم اجتمعوا بفحل، وأن المدد قد أتى أهل دمشق من حمص، فأصبح لا يدري أبدمشق يبدأ أم بفحل في بلاد الأردن، فكتب القائد أبو عبيدة بن الجراح إلى الخليفة الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه يستأمره فأجابه: أما بعد، فابدأوا بدمشق فانهدوا لها، فإنها حصن الشام وبيت مملكتهم، واشغلوا عنكم أهل فحل، بخيل تكون بإزائهم في نحورهم وأهل فلسطين وأهل حمص، فإن فتحها الله قبل دمشق فذاك الذي نحب، وإن تأخر فتحها حتى يفتح الله دمشق، فلينزل في دمشق من يمسك بها ودعوها، وانطلق أنت وسائر الأمراء حتى تغيروا على فحل فإن تم فتحها، فانصرف أنت وخالد إلى حمص وأمير كل بلد على جند حتى يخرجوا من أمارته[6].

ومن خلال أوامر الفاروق نلاحظ: أنه حدد مسؤولية قيادة العمليات، وبموجبه تم تطبيق مبدأ الاقتصاد بالجهد، فضلاً عن المرونة في التصرف إزاء الأهداف المطلوبة، كما يستنتج من هذه الأوامر أن الهدف الرئيس الأول هو دمشق مع توجيه قوة صغيرة لفحل، والهدف الرئيس الثاني هو فحل، لتوجيه الجيش كله لفتحها والهدف الثالث مدينة حمص، واستناداً إلى هذه التوجيهات أرسل أبو عبيدة بن الجراح وحدات قتالية إلى فحل وعلى قيادتها: أبو الأعور السلمي عامر بن حتمة، وعمرو بن كليب وعبد عمر بن يزيد بن عامر، وعمارة بن الصعق بن كعب، وصفي بن علية بن شامل، وعمر بن الحبيب بن عمر، ولبدة بن عامر، وبشير بن عصمة، عمارة بن مخشن وهو القائد لهذه المجموعات، وتوجهت إلى فحل[7]، وانطلق أبو عبيدة نحو دمشق، ولم يلق أية مقاومة ذات أهمية تذكر، إذ أن الروم قد اعتمدوا على أهل البلاد في المنطقة قبل دمشق لإعاقة تقدم قوات المسلمين، إلا أن هؤلاء لم تكن لهم الحماسة والاستماتة للدفاع ويعود ذلك لسوء معاملة الروم لهم وخاصة لأهل القرى الصغيرة[8]، ووصلت قوات المسلمين إلى غوطة دمشق التي فيها قصور الروم ومنازلهم، وشاهدوها خالية لأن أهلها هجروها إلى دمشق، وأرسل هرقل قوة من حمص لإمداد دمشق، وكانت تقدر بـ500 خمسمائة مقاتل[9]، وهي قوة قليلة مقارنة بما يتطلبه الموقف، إلا أن القوة الإسلامية التي وضعها أبو عبيدة بن الجراح شمال دمشق بقيادة ذي الكلاع تصدت لها، وجرى قتال عنيف بين الجانبين، انهزم فيه الروم[10]، وناشد أهل دمشق هرقل الخلاص، فأرسل إليهم كتاباً يدعوهم إلى الثبات ويحرضهم على القتال والمقاومة، ويعدهم بالمدد، فتقوت عزائمهم وجعلهم ذلك يصمدون للحصار وحركات القوات الإسلامية[11].

1- قوات الطرفين:

القوات الرومية:


- القائد العام، هرقل.

- أمير دمشق، نسطاس بن نسطورس.

- قائد قوات دمشق، باهان الذي اشترك باليرموك وهرب منها واسمه ورديان.

- القوات العمومية للقوات الرومية في دمشق 60000 ستون ألف مقاتل، مع احتمال وصول تعزيزات إضافية من حمص 20000 عشرين ألف مقاتل لخط الدفاع و40000 وأربعين ألف مقاتل للتعرض فالروم أقاموا في دمشق للاستفادة من الأبنية وحصونها وسورها وربما كانوا ينتظرون المدد ليقوموا بالتعرض.

- القوة الرومية في فحل تتألف من حاميتها ومن فلول جيش اليرموك الذي أثرت على معنوياتهم معركتها وفشلهم وهروبهم منها، فهم في فزع آخذ بنفوسهم.

قوات المسلمين:

- القائد العام للقوات الإسلامية، عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

- قائد مسارح العمليات في بلاد الشام، أبو عبيدة بن الجراح.

- بعث القائد أبو عبيدة بن الجراح بعشرة من قواده وفي مقدمتهم أبو الأعور السلمي مع حجم مناسب من القوات الإسلامية – لم تذكر المصادر تعداد هذه القوة – للسيطرة على طريق دمشق وحتى بيسان ومحلها معروف اليوم بخربة فحل[12].

- أرسل أبو عبيدة بن الجراح قوات بقيادة علقمة بن حكيم ومسروق كل واحد بمحل الآخر باتجاه فلسطين، فأمن محور الحركات من الغرب والجنوب[13].

- أرسل أبو عبيدة بن الجراح قوة بقيادة ذي الكلاع إلى شمال دمشق ليرابط على الطريق الذي يربطها مع حمص لحماية هذا الاتجاه ومنع وصول التعزيزات الرومية إلى دمشق[14].

- كان حجم القوات الإسلامية بعد اليرموك بحدود 40000 أربعين ألف مقاتل، وهذه القوات متماسكة التنظيم، وتمتاز بالروح المعنوية العالية بعد النصر في اليرموك[15].

- بلغ حجم القوات الإسلامية التي ضربت الحصار على دمشق بحدود 20000 عشرين ألف مقاتل، وباقي القوات أرسلت إلى فحل لتثبيت الجبهة هناك وبالإمكان عند الضرورة سحبها من فحل لتعزز قوة الحصار[16].

2- وصف مدينة دمشق:

كانت دمشق مدينة عظيمة سميت باسم بانيها دمشاق بن كنعان وقد خضعت لحكم مصر، الأسرة الثامنة عشر فهي أقدم المدن في التاريخ وكانت مركز عبادة الأوثان، ولما دخلت المسيحية جعلت من معبدها الوثني كنيسة لا يضاهيها بجمالها وجلالها إلا كنيسة إنطاكية وفي جنوب دمشق تقع أراضي البلقاء وشمالها الجولان، وهي أرض جبلية وأراضيها كلها زروع وغدران مياه، وهي مركز تجاري مهم يسكنها العرب، وكان المسلمون يعرفونها لأنهم يتاجرون معها، وقد كانت مدينة دمشق، مدينة محصنة، تمتاز بالمناعة، فلها سور يحيطها مبنى من الحجارة وارتفاعه ستة أمتار، وفيه أبواب منيعة، وعرض المبنى ثلاثة أمتار، وقد زاد هرقل من مناعته بعد الغزو الفارسي لها، والأبواب يحكم إغلاقها، ويحيط بالسور خندق عرضه ثلاثة أمتار، ونهر بردى يؤثر على الخندق بمياهه وطينه، فأصبحت دمشق قلعة حصينة ليس من السهل اقتحامها[17]، وبذلك تظهر لنا الدفاعات الرومية ذات المتانة، والقوة، لحماية مدينة دمشق، إذ أن هذه الاستحكامات تعطينا الدلائل الآتية:

- لم تنشأ الدفاعات الميدانية حول دمشق على عجل، فهي دفاعات كانت مهيأة منذ مدة ليست بالقصيرة، لما لدمشق من أهمية استراتيجية، وخوف الروم من فقدانها واستيلاء الفرس عليها، وهذا يعني أن الجهد الهندسي الميداني الرومي قد عمل في ترتيب وتنظيم هذه الدفاعات بحرية مطلقة وبموارد هندسية مناسبة غير مطلوبة باتجاهات أخرى فضلاً عن تيسر الإمكانيات الهندسية لدى جيش الروم في هذا المجال.

- برزت الإبداعات الهندسية الرومية من خلال الموانع حول مدينة دمشق، فقد استفادت عناصر الهندسة العسكرية من طبيعة الأرض في إنشاء هذه المنظومة، وعلى الأخص توظيف نهر بردى بما يخدم ملء الخندق الذي يحيط بالمدينة، فضلاً عن الاستفادة الأخرى منه بجعله مانعاً طبيعياً يعوق حركة القطعات المهاجِمة على المدينة من اتجاهها الشمالي والشمال الشرقي.

- كانت ثقة القيادة الرومية بتحصينات مدينة دمشق كبيرة جداً الأمر الذي جعلها تجمع قواتها هناك وتتخذ الدفاع الموضوعي فيها، ريثما تتمكن القوات الرومية في حمص من جمع شتات أمرها والتعرض لجيش المسلمين، وهذا يعني أن الدفاعات الهندسية الميدانية قد تدخلت في إجبار القيادة الرومية على اتخاذ هذا الموقف الدفاعي، وبذلك أصبحت السبب المباشر في صنع القرار، وهذا مهم جداً في التعرف على مدى أهمية الهندسة العسكرية في الميدان.

- وعلى عكسه أجبرت الدفاعات الهندسية الميدانية جيش المسلمين على عدم التعرض لمدينة دمشق واقتحامها، إذ وقفت منظومة المانع الرومية عائقاً بوجههم فصارت خطة الجيش الإسلامي تقتضي فرض الحصار على المدينة.

- تقول المصادر التاريخية أن مدة حصار مدينة دمشق استمرت 70 ليلة، وكان الحصار شديداً، استخدمت فيه أسلحة الحصار الثقيلة، كالمجانيق والدبابات[18].

3- سير المعركة:

سار أبو عبيدة بن الجراح قاصداً دمشق متخذا تشكيل المسير الآتي:

- القلب: خالد بن الوليد.

- المجنبات: عمرو بن العاص وأبو عبيدة.

- الخيل: عياض بن غنم.

- الرجالة: شرحبيل بن حسنة.

ولما كان لسور دمشق أبواب لا يمكن الخروج والدخول للبلدة إلا بواسطتها، فقد نظم المسلمون قوة الحصار على الشكل الآتي:

- قطاع الباب الشرقي بقيادة خالد بن الوليد.

- قطاع باب الجابية بقيادة أبي عبيدة بن الجراح.

- قطاع باب توما بقيادة عمرو بن العاص.

- قطاع باب الفراديس بقيادة شرحبيل بن حسنة.

- قطاع الباب الصغير بقيادة يزيد بن أبي سفيان.



وقد ظن الروم بأن المسلمين لا يستطيعون أن يصمدوا أمام طول الحصار وخاصة في أيام الشتاء، إلا أن المسلمين أصحاب العقيدة الراسخة والصبر الجميل، صمدوا أمام تغيرات الطقس، فقد عمل قادة المسلمين على إشغال الكنائس المتروكة بالغوطة والمنازل الخالية من أهلها ليرتاح فيها المجاهدون، على وفق أسلوب أسبوعي تتبادل قوات الجبهة التي على الأبواب، مع قوات من الخلف وبهذا التنظيم يستمر الحصار مهما طال الزمن[19].

ولم يقف المسلمون عند هذا الحد، وإنّما استمرت استطلاعاتهم الميدانية والهندسية، لمنظومة الموانع المعادية، وتمكن خالد بن الوليد من انتخاب منطقة عبور ملائمة في هذه المنظومة، يمكن من خلالها اقتحام مدينة دمشق، فوقع الاختيار على أحسن مكان يحيط بدمشق وأكثره ماء وأشده مدخلاً[20]، كما جهز حبالاً كهيئة السلاليم توضع على الجدران لتساعد على تسلق الأسوار، وقد علم خالد بن الوليد أن بطريق دمشق قد رزق بولد وجمع الناس في وليمة، فانشغل أفراد الروم بالأكل والشرب وأهملوا واجباتهم ومن ضمنها مراقبة الجبهة والأبواب فلما أمسى ذلك اليوم نهض خالد بن الوليد هو ومن معه من جنده الذي قدم عليهم، وتقدمهم هو والقعقاع بن عمرو ومذعور بن عدي وقالوا: إذا سمعتم تكبيراً على السور فارقوا إلينا واقصدوا الباب[21] وعبر خالد وجماعته الأولى الخندق المائي على عائمتين من القرب[22]، ووصلوا السور، ورموا عليه الحبال التي هي بهيئة السلاليم، فلما ثبت لهم وهقان[23] تسلق فيها القعقاع ومذعور، ثم لم يدعوا أحبولة إلا أثبتاها، والأوهاق الشرف حتى إذا ارتفعوا نظموا السلاليم لتستفيد منها الجماعة الثانية، ثم انحدرت الجماعة الأولى من السور ونزلوا قرب الباب، فكثر الأفراد الذين مع خالد، فكبر أولاً من أعلى السور، فتسلقت الجماعة الثانية السور وتقدموا نحو الباب، فاقتحموه بسيوفهم وهكذا دخلت على هذا النحو قوات المسلمين إلى مدينة دمشق[24].

أهم الفوائد والدروس والعبر:

- هل كان الفتح صلحاً أم عنوة؟

اختلف العلماء في دمشق هل فتحت صلحاً أو عنوة؟ فأكثر العلماء على أنه استقر أمرها على الصلح، لأنهم شكُّوا في المتقدم على الآخر، أفتِحَت عنوة ثم عَدَلَ الروم إلى المصالحة؟ أو فتحت صلحاً، أو اتفق الاستيلاء من الجانب الآخر قسراً؟ فلما شكُّوا في ذلك جعلوها صلحاً احتياطاً، وقيل بل جُعِلَ نصفها صلحاً، ونصفها عنوة، وهذا القول قد يظهر من صنع الصحابة في الكنيسة العظمى التي كانت أكبر معابدهم حين أخذوا نصفها وتركوا نصفها[25]، والله أعلم.

- تاريخ فتحها:

قال ابن كثير: وظاهر سياق سيف بن عمر، يقتضي أن فتح دمشق وقع في سنة ثلاث عشرة، ولكن نصَّ سيف على ما نصّ عليه الجمهور من أنها وقعت في نصف رجب سنة أربعة عشرة[26]، وقد ذكر خليفة بن خياط: أن أبا عبيدة حاصر الروم بدمشق في رجب وشعبان ورمضان وشوال وتم الصلح في ذي القعدة[27]، والمهم أن فتحها كان بعد معركة اليرموك[28].

تطبيقات لبعض مبادئ الحرب:

لم يخل فتح دمشق من تطبيقات مبادئ الحرب عند المسلمين فاشتملت على المباغتة، والمبادأة، وانتهاز الفرص وإبداعات القادة الميدانيين، وقد رأينا ما قام به خالد بن الوليد من استطلاع ومن انتخاب منطقة العبور الملائمة، كيف تغير الموقف، وانقلب من عملية حصار إلى عملية اقتحام وإذا ما قارنّا بين ما فعله خالد بن الوليد باستخدامه الحبال على هيئة سلاليم والاستفادة منها بتسلقه على سور دمشق، وبين ما فعله الجيش المصري في حرب تشرين عام 1973م على الجبهة المصرية عند عبوره خط بارليف الإسرائيلي واستخدامه الحبال على هيئة سلاليم أيضاً للوصول إلى المواضع الدفاعية المعادية، نجد أنه قد تم بالصيغة والأسلوب والأداة نفسها، والتي توضح لنا عبقرية المسلمين إبان الفتوحات الإسلامية، وما معاركنا الحديثة إلا امتداداً لهذا الإبداع والعبقرية[29].

- بعض ما قيل من الشعر في فتح دمشق:

قال القعقاع بن عمرو:

أقمنا على دار سليمان أشهراً



بخالد روما وقد حملنا بصارم[30]



قصصنا إلى الباب الشرقي عنوة



فدان لنا مستسلماً كل قائم[31]



أقول وقد دارت رحانا بدارهم



أقيموا لهم حر الورى بالغلاصم[32]



فلما زأدنا في دمشق نحورهم



وتدمر عضوا منهما بالأباهم[33]








تمهيد الفتح بعد دمشق:

بعد فتح دمشق أرسل أبو عبيدة خالد بن الوليد إلى البِقَاع[34]، ففتح بالسيف، وبعث سرية فالتقوا مع الروم بعين ميسنون، وعلى الروم رجل يقال له سنان تحدّر على المسلمين من عَقَبة بيروت، فقتل من المسلمين يومئذ جماعة من الشهداء فكانوا يسمون عين ميسنون عين الشهداء واستخلف أبو عبيدة على دمشق يزيد بن أبي سفيان وبعث يزيد دِحْيَة بن خليفة إلى تدمر في سرية ليمهدوا أمرها وبعث
أبا الزهراء القشيري إلى البثنّية وحوران فصالح أهلها، وافتتح شرحبيل بن حسنة الأردن كلها عنوة ما خلا طبريَّة فإن أهلها صالحوه، وغلب خالد على أرض البقَاع، وصالحه أهل بعلبك وكتب لهم كتاباً.

ثانياً: وقعة فِحْل:

تحركت القوات المكلفة بمهاجمة مدينة فحل نحو الجنوب وعندما وصلت مشارفها كانت قوة جيش الروم تقارب المائة ألف، تسلل أكثرهم من حمص وانضمت إليهم القرى التي هزمت في معارك سابقة عندما وصلت القوة المكلفة بمحاصرة فحل من جيش المسلمين بقيادة عمار بن مخشن جابهها جيش الروم بشق الترع من بحيرة طبرية وسلطوا مياهها على الأطيان المحيطة بفحل بقصد إعاقة جيش الإسلام وخاصة الفرسان وهذا ما يستخدم في وقتنا الحاضر ضد الدروع وبذلك أعاقوا حركة فرسان المسلمين، لقد جعل الرومان من هذه الأوحال خطاً دفاعياً منيعاً عن فحل رغم أنها تقع في سهل منبسط ولو كان هذا السهل يابساً لتمكن المسلمون بسهولة من اقتحام المدينة لأنهم أقدر الناس على مباشرة حرب الصحراء، وتوقف عمارة بن مخشن ووزع قواته لحصار فحل ولم يقتحمها وذلك للفارق العددي الكبير في القوة ولصعوبة التقدم وعدم التمكّن من اجتياز هذا المانع المائي الذي عمله الرومان واقتصر المسلمون على فرض الحصار على مدينة فحل التي يعتصم بها الروم إلى أن فرغ أبو عبيدة من فتح دمشق العاصمة وضم جيشه إلى جيش أبي الأعور السلمي وأعاد أبوعبيدة تنظيم قواته على النحو التالي:

- المقدمة بقيادة خالد بن الوليد.

- الميمنة بقيادة أبي عبيدة بن الجراح.

- الميسرة بقيادة عمرو بن العاص.

- الفرسان بقيادة ضرار بن الأزور.

- قيادة مجموعات المشاة عياض بن غنم.

- القيادة العامة لشرحبيل بن حسنة وذلك لأن موقع المعركة هو في حدود المنطقة التابعة له واستلم القيادة شرحبيل بن حسنة ثم نظم إقامة القوات وإمدادها ووضع مخططاً لاستنفار القوات وبقاء القوة جاهزة باستمرار لمواجهة الطوارئ وكان شرحبيل لا يبيت ولا يصبح إلا على تعبئة[35]، وطال حصار المسلمين لمدينة فحل وظن الروم أن باستطاعتهم تحقيق المباغتة والقيام بهجوم ليلي حاسم وعلى الروم سقلاب بن مخراق فهجموا على المسلمين فنهضوا عليهم نهضة رجل واحد لأ نهم كانوا على أهبة دائمة ودارت معركة حتى الصباح وذلك اليوم بكامله إلى الليل فلما أظلم الليل فر الروم وقتل أميرهم وركب المسلمون أكتافهم واسلمتهم هزيمتهم إلى ذلك الوحل المانع الذي أعدوه للمسلمين ونتيجة للإجراءات الأمنية والاستعداد الذي قام به شرحبيل على قواته، حدثت الفوضى في جيش الرومان المهاجم والتفرغ للهجوم المضاد الذي شنه المسلمون فوقع الرومان لدى انهزامهم في المانع المائي الذي صنعوه بأيديهم حول فحل فركب المسلمون أكتافهم ولم ينجو منهم إلا الشريد، ولقد تمت تصفية القوة المحاصرة في فحل وعندها توجه المسلمون نحو أهدافهم لمتابعة خطة العمليات الأساسية فتم توجيه:

- شرحبيل بن حسنة إلى الأردن.

- عمرو بن العاص إلى فلسطين.

انطلق أبو عبيدة بن الجراح وخالد بن الوليد إلى حمص وعند وصولهما إلى مرج الروم دارت معركة طاحنة حتى غطت جثث الموتى السهل وفي هذه المعركة تمكن المسلمون من تطبيق مبدأ مهم من مبادئ الحرب والعمليات التعرضية حيث اصطدمت مقدمة الروم بمقدمة المسلمين فعندما شعر توذرا باصطدام مقدمة جيشه بجيش المسلمين قام بحركة استدارة وانطلق في اتجاه دمشق وعلم المسلمون بالأمر ودرسوا الموقف فقرر
أبو عبيدة توجيه قوة بقيادة خالد بن الوليد لمطاردة توذرا والانقضاض عليه من الخلف وأبو عبيدة يبقى في مواجهة ومشاغلة جيش الروم في الوقت نفسه استطاعت استخبارات المسلمين من معرفة حركة واتجاه تقدم توذرا فتقدم جيش يزيد بن أبي سفيان للقائه واشتبك معه وما أن تم الاصطدام بين توذرا وجيش يزيد حتى باغت خالد بن الوليد الروم بضربهم من الخلف وتمت تصفية توذرا تصفية كاملة تقريباً[36].

- مما قاله القعقاع بن عمرو في يوم فحل:



وغداة فحل قد رأوني معلماً



والخيل تنحط والبلا أطوار



ما زالت الخيل العراب تدوسهم



في يوم فحل والقنا موار[37]



حتى رمين سراتهم عن أسرهم



في ردة ما بعدها استمرار[38]



يوم الرداغ فعند فحل ساعة



خر الرماح عليهم مدار؟



ولقد أبدنا في الرداغ جموعهم



طراً ونحوي تبسم الأبصار




وقال أيضاً:



وغداة فحل قد شهدنا مأقطاً



ينسى الكمي سلاحه في الدار[39]



ما زلت أرميهم بقرحة كامل



كر المبيح ريانة الأبسار[40]



حتى فضضنا جمعهم بترس



ينفي العدو إذا سما جرار[41]



نحن الأولى جسوا العراق بتردس



والشام جساً في ذرى الأسفار[42]






ثالثاً: فتح بيسان وطبريّة:

انصرف أبو عبيدة وخالد بمن معهما من الجيوش نحو حمص كما أمر أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، واستخلف أبو عبيدة على الأردن شرحبيل بن حسنة، فسار شرحبيل ومعه عمرو بن العاص، فحاصر بَيْسَان فخرجوا إليه فقتل منهم مقتلة عظيمة، ثم صالحوه على مثل ما صالحت عليه دمشق، وضرب عليهم الجزية، والخراج على أراضيهم، وكذلك فعل أبو الأعور السلمي بأهل طبرية سواء[43].

رابعاً: وقعة حِمْص سنة 15هـ:

واصل أبو عبيدة تتبعه للروم المنهزمين إلى حمص، ونزل حولها يحاصرها، ولحقه خالد بن الوليد، فحاصروها حصاراً شديداً، وذلك في زمن البرد الشديد، وصابر أهل البلد رجاء أن يصرف المسلمين عن المدينة شدة البرد، وَصَبَر الصحابة صبراً عظيماً بحيث إنه ذكر غير واحد أن من الروم من كان يرجع، وقد سقطت رجله وهي في الخف، والصحابة ليس في أرجلهم شيء سوى النعال، ومع هذا لم يصب منهم قدم ولا إصبع، ولم يزالوا كذلك حتى انسلخ فصل الشتاء فاشتد الحصار، وأشار بعض كبار أهل حمص عليهم بالمصالحة فأبوا عليه ذلك وقالوا: أنصالح والمَلِك منا قريب؟ فيقال إن الصحابة كبروا في بعض الأيام تكبيرة ارتجت منها المدينة ووقعت زلزلة تفطرت منها بعض الجدران ثم تكبيرة أخرى فسقطت بعض الدور، فجاءت عامتهم إلى خاصتهم فقالوا: ألا تنظرون إلى ما نزل بنا، وما نحن فيه؟ ألا تصالحون القوم عنا؟ قال: فصالحوهم على ما صالحوا عليه أهل دمشق، على نصف المنازل، وضرْبِ الخراج على الأراضي، وأخذ الجزية على الرقاب بحسب الغنى والفقر، وبعث أبو عبيدة بالأخماس والبشارة إلى عمر مع عبد الله بن مسعود وأنزل أبو عبيدة بحمص جيشاً كثيفاً يكون بها مع جماعة من الأمراء منهم بلال، والمقداد، وكتب أبو عبيدة إلى عمر يخبره بأن هرقل قد قطع الماء[44] عن الجزيرة وأنه يظهر تارة ويخفى أخرى فبعث إليه عمر يأمره بالمقام ببلده[45].

خامساً: وقعة قنَّسرين سنة 15هـ:

بعث أبو عبيدة خالد بن الوليد إلى قِنّسرين[46]، فلما جاءها ثار إليه أهلها ومن عندهم من نصارى العرب، فقاتلهم خالد فيها قتالاً شديداً وقتل منهم خلقاً كثيراً، فأما من هناك من الروم فأبادهم وقتل أميرهم ميناس، وأما الأعراب فإنهم اعتذروا إليه بأن هذا القتال لم يكن عن رأينا فقبل منهم خالد وكف عنهم، ثم خلص إلى البلد فتحصنوا فيه، فقال لهم خالد: إنكم لو كنتم في السحاب لحملنا الله إليكم أو لأنزلكم إلينا ولم يزل بهم حتى فتحها الله عليه، فلما بلغ عمر ما صنعه خالد في هذه الموقعة قال: يرحم الله أبا بكر، كان أعلم بالرجال مني، والله إني لم أعزله عن ريبة ولكن خشيت أن يوكل الناس إليه[47].

سادساً: وقعة قِيسارية سنة 15هـ:

وفي هذه السنة أمّر عمر معاوية بن أبي سفيان على قيْسارية[48] وكتب إليه: أما بعد فقد وليتك قيسارية فسر إليها واستنصر الله عليهم، وأكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، الله ربنا وثقتنا ورجاؤنا ومولانا فنعم المولى ونعم النصير، فسار إليها فحاصرها، وزاحفه أهلها مرات عديدة، وكان آخرها وَقْعَةَ أن قاتلوا قتالاً عظيماً، وصمم عليهم معاوية، واجتهد في القتال حتى فتح الله عليه فما انفصل الحال حتى قتل منهم نحوٌ من ثمانين ألفاً، وكمَّل المائة الألف من الذين انهزموا عن المعركة وبعث بالفتح والأخماس إلى أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه[49] هذا ويرى الدكتور عبد الرحمن الشجاع أن مدن الشام تساقطت تحت ضربات المجاهدين الواحدة تلو الأخرى، لأن الروم كانوا من الهزيمة بمكان لا تجعلهم يفكرون في المقاومة فتساقطت مدن بيروت، وصيدا، ونابلس، واللد، وحلب، وإنطاكية وكانت قيسارية آخر مدن الشام فتحاً على يد معاوية بن أبي سفيان وكان ذلك بعد فتح القدس[50].

سابعاً: فتح القدس: 16هـ:

كان على فلسطين قائدٌ رومانيٌ دعى الأرطبون أي القائد الكبير الذي يلي الإمبراطور وكان هذا أدهى الروم وأبعدها غوراً وأنكاها فعلاً، وكان قد وضع بالرملة جنداً عظيماً، وبإيلياء جنداً عظيماً[51]، وكتب عمرو بن العاص إلى عمر رضي الله عنهما، يخبره بذلك، ويستشيره ويستأمره، فقال عمر كلمته الشهيرة: قد رمينا أرطبون الروم بأرطبون العرب، فانظروا عما تنفرج [52] وكان يقصد بذلك، أن كلا القائدين أدهى الرجال في قومهما، وكانت معركة أجنادين الثانية 15هـ التي انتصر فيها عمرو على الروم قد مهدت الطريق إلى فلسطين[53]، وقد بدأت معركة القدس عملياً، قبل معركة أجنادين الثانية 15هـ ذلك أن أرطبون الروم كان قد وزع جنداً عظيماً له في كل من إيلياء والرملة كما سبق أن قدمنا وبين الرملة وإيلياء أي القدس، ثمانية عشر ميلاً، وذلك تحسباً لأي هجوم من قبل المسلمين، بقيادة عمرو بن العاص، على المدينتين اللتين كانتا أهم مدن كورة فلسطين، إذ كانت الرملة قصبة فلسطين، وكانت إيلياء أكبر مدنها[54]، وكان على الروم في إيليا حاكمها الأرطبون وهو الأرطبون نفسه الذي كان قد لجأ وفلول جيشه إليها بعد هزيمتهم في أجنادين، وكان عليهم في الرملة التذارق[55] وهذه أهم المراحل التي مرّ بها المسلمون عند فتحهم للقدس.

1- المشاغلة:

كانت خطة الخليفة عمر أن يشغل الروم عن عمرو في فلسطين ريثما يتم الانتصار على حشودهم في أجنادين، حتى يتفرغ المسلمون بعدها لفتح القدس وما تبقى من بلاد الشام، فأمر معاوية أن يتوجه بخيله إلى قيسارية ليشغل حاميتها عن عمرو وأما عمرو فكان قد اعتمد الخطة نفسها التي اعتمدها الخليفة، فأرسل كلاً من علقمة بن حكيم الفراسيّ، ومسروق بن فلان المكيّ على رأس قوة لمشاغلة حامية الروم في إيلياء، فصاروا بإزاء أهل إيلياء، فشغلوهم عن عمرو[56]، ثم أرسل أبا أيوب المالكي على رأس قوة أخرى لمشاغلة حاميتهم في الرملة، وما إن وصلت الإمدادات إلى عمرو حتى أرسل محمد بن عمرو مع مدد لقواته المرابطة في مواجهة حامية إيلياء، كما أرسل عمارة بن عمرو بن أمية الضمري مع مدد لقواته المرابطة في مواجهة حامية الرملة، أما هو فأقام في أجنادين بانتظار المعركة الحاسمة مع الأرطبون وفي هذه الأثناء كانت حامية إيلياء تصد المسلمين عن أسوارها، وكان القتال يستعر حول المدينة المقدسة بينما كان المسلمون والروم يحتشدون للقتال في أجنادين وكانت معركة أجنادين عنيفة[57]، إذ يقول الطبري فيها: اقتتلوا – أي المسلمون والروم – قتالاً شديداً كقتال اليرموك، حتى كثرت القتلى بينهم[58]، فقد نازل أرطبون العرب أرطبون الروم في أجنادين فهزمه، وارتدّ أرطبون الروم وجنده ليحتموا بأسوار المدينة المقدسة فأفرج له المسلمون حتى دخلها[59]، ويذكر الطبري أن كلاً من علقمة ومسروق ومحمد بن عمرو وأبي أيوب التحقوا بعمرو في أجنادين، وسار عمرو بجيشه جميعاً نحو إيلياء لمحاصرتها[60].

اجتمع المسلمون، بقيادة عمرو بن العاص حول إيلياء، وضرب عمرو على المدينة حصاراً شديداً، وكانت المدينة حصينة ومنيعة، ويصف الواقدي أسوار المدينة بأنها كانت محصنة بالمجانيق والطوارق والسيوف والدرق والجواشن والزرد الفاخرة ويذكر أن القتال بدأ بعد ثلاثة أيام من الحصار، حيث تقدم المسلمون نحو أسوار المدينة فأمطرتهم حاميتها بوابل من السهام والنبال التي كان المسلمون يتلقونها بدرقهم وكان القتال يمتد من الصباح إلى غروب الشمس واستمر على هذا المنوال عدة أيام، حتى كان اليوم الحادي عشر إذ أقبل أبو عبيدة على المسلمين ومعه خالد وعبد الرحمن بن أبي بكر، ومعهم فرسان المسلمين وأبطال الموحدين[61] مما ألقى الجزع في قلوب أهل إيلياء، واستمر الحصار أربعة اشهر، ما من يوم إلا وجرى فيه قتال شديد والمسلمون صابرون على البرد والثلج والمطر[62]، إلى أن يئس الروم من مقاومة حصار المسلمين لمدينتهم، فقرر بطريقهم البطريق صفرونيوس القيام بمحاولة أخيرة، وكتب إلى عمرو بن العاص، قائد جيش المسلمين، رسالة يغريه فيها بفك الحصار نظراً لاستحالة احتلال المدينة[63].

3- الاستسلام :

كتب أرطبون الروم إلى عمرو بن العاص يقول له: إنك صديقي ونظيري، أنت في قومك مثلي في قومي، والله لا تفتح من فلسطين شيئاً بعد أجنادين، فارجع ولاتُغرِه فتلقى ما لقي الذين قبلك من الهزيمة[64]، فكتب إليه عمرو كتاباً يقول فيه إنه صاحب فتح هذه البلاد، وأرسل الكتاب مع رسول وأمره أن ينقل إليه رد الأرطبون، فلما قرأ الأرطبون كتاب عمرو ضحك مما جاء فيه وقال إن صاحب فتح بيت المقدس هو رجل اسمه عمر، ونقل الرسول إلى عمرو ما سمعه من الأرطبون، فعرف عمرو أن الرجل الذي يعنيه الأرطبون هو الخليفة[65]، فكتب إلى الخليفة يخبره بما جاء على لسان الأرطبون أنه لا يفتح المدينة إلا هو، ويستمده، ويستشيره قائلاً إني أعالج حرباً كؤوداً صدوماً وبلاداً ادُّخرت لك، فرأيك[66]، فخرج الخليفة – بعد الاستشارة – في مدد من الجند، إلى الشام، بعد أن استخلف على المدينة علي بن أبي طالب رضي الله عنه ونزل بالجابية، فجاءه أهل إيلياء فصالحوه على الجزية، وفتحوها له [67].

4- اختلاف الروايات فيمن حاصر القدس والتحقيق فيها:

روى الطبري أكثر من رواية في حصار القدس وقد ذكرت أن الذي حاصرها هو عمرو بن العاص وذكر رواية أخرى قال فيها: كان سبب قدوم عمر إلى الشام، أن أبا عبيدة حضر بيت المقدس، فطلبت أهلها منه أن يصالحهم على صلح مدن أهل الشام، وأن يكون المتولي للعقد عمر بن الخطاب، فكتب إليه ذلك، فسار عن المدينة بعد أن استخلف عليها علياً، وخرج ممداً لهم أي لعسكر الشام ويروي ابن الأثير روايتين مماثلتين لروايتي الطبري، بل متشابهتين في النص إلى حد كبير[68]، وينسب الواقدي حصار القدس وما جرى خلاله من تشاور مع الخليفة عمر رضي الله عنه ومن تفاوض مع حاميتها الرومية، إلى أبي عبيدة، فيذكر أن أبا عبيدة سرّح إلى بيت المقدس خمسة وثلاثين ألف مقاتل بقيادة سبعة قادة، مع كل قائد خمسة آلاف، وهم: خالد بن الوليد، ويزيد بن أبي سفيان، وشرحبيل بن حسنة، والمرقال بن هاشم بن أبي وقاص، والمسيّب بن نجيه الفزاري، وقيس بن هبيرة المرادي، وعروة بن المهلل بن يزيد، سرّحهم في سبعة أيام، كل يوم قائد، ثم لحق بهم بعد أن نشب القتال، عدة أيام، بينهم وبين حامية المدينة[69]، ويستطرد الواقدي فيقول إن أهل إيلياء جاءوا إلى أبي عبيدة يعرضون عليه دخول المدينة صلحاً، على أن يتم الصلح على يدي خليفة المسلمين عمر، ثم يذكر رواية مشابهة لتلك التي رواها كل من الطبري وابن الأثير ويضيف أن أبا عبيدة كتب إلى الخليفة يخبره بما جرى، فسار الخليفة إلى بيت المقدس ونزل عند أسوار المدينة، فخرج إليه بطريقها وتعرف إليه وقال: هذا والله الذي نجد صفته ونعته في كتبنا ومن يكون فتح بلادنا على يديه[70]. ثم عاد إلى قومه يخبرهم فخرجوا مسرعين وكانوا قد ضاقت أنفسهم من الحصار، ففتحوا الباب، وخرجوا إلى عمر بن الخطاب يسألونه العهد والميثاق والذمة ويقرون له بالجزية[71]، ونحن نستبعد رواية الواقدي هذه، لاعتقادنا أنه، بينما كان عمرو بن العاص يحاصر القدس، كان رفاقه من قادة المسلمين، بعد اليرموك ودمشق وفحل، يجوبون أنحاء بلاد الشام غانمين منتصرين، فيحتل أبو عبيدة، ومعه خالد بن الوليد، حمص وحماة وقنسرين وحلب، ثم يسلك طريق الساحل الشامي جنوباً فيستولي على إنطاكية واللاذقية وعرقة. ويحتل يزيد بن
أبي سفيان الساحل، جنوباً من بيروت إلى صيدا، وشمالا من عسقلان إلى صور[72]، ولكن البلاذري يذكر، في رواية له، أن عمرو بن العاص هو الذي حاصر القدس، بعد أن فتح رفح، وأن أبا عبيدة قدم عليه.. بعد أن فتح قنسرين ونواحيها وذلك في سنة 16، وهو محاصر إيلياء، وإيلياء مدينة بيت المقدس[73]، وأن أهل إيلياء طلبوا من أبي عبيدة الأمان والصلح على مثل ما صولح عليه أهل مدن الشام على أن يتولى العقد لهم عمر بن الخطاب نفسه، وقد كتب أبو عبيدة إلى الخليفة بذلك، فقدم عمر فنزل الجابية من دمشق، ثم صار إلى إيلياء، فأنفذ صلح أهلها وكتب به، وكان فتح إيلياء في سنة 17هـ، ويضيف البلاذري بعد ذلك: وقد روي في فتح إيلياء وجه آخر[74]، ومع أننا نرجح الرواية الأولى التي أوردها الطبري وهي أن حصار القدس تمّ على يد عمرو بن العاص، وليس على يد
أبي عبيدة فنحن نرى أنه لم يكن صعباً على أبي عبيدة أن يلتحق بالخليفة عمر في الجابية للتشاور معه حول أمور الفتح باعتباره القائد العام لجيوش المسلمين في الشام، وخصوصاً عندما نعلم أن أبا عبيدة كان ثاني من لقي بعد الخليفة يزيد حين وصوله إلى الجابية واستدعائه لسائر أمراء الأجناد في الشام[75]، للتشاور، وأن
أبا عبيدة حضر، مع يزيد وشرحبيل وكبار قادة المسلمين في الشام، عقد الصلح والأمان، وتسليم المدينة[76]. إلا أنه لم يشهد على هذا العقد كما شهد عليه كل من عمرو بن العاص وعبد الرحمن بن عوف ومعاوية بن أبي سفيان وخالد بن الوليد كما يستدل من نص المعاهدة نفسها وليس لدينا أي تفسير لذلك سوى أن
أبا عبيدة لم يكن قائد الجيش الذي حاصر المدينة المستسلمة، بل هو عمرو[77].

5- نص المعاهدة:

وفيما يلي نص المعاهدة كما أوردها الطبري:


بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان، أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم، ولكنائسهم وصلبانهم، وسقيمها وبريئها وسائر ملتها، أنه لا تسكن كنائسهم ولا تُهدم، ولا ينتقص منها ولا من حيّزها ولا من صليبهم، ولا من شيء من أموالهم، ولا يُكرهون على دينهم ولا يُضارّ أحد منهم، ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود وعلى أهل إيلياء أن يُعطوا الجزية كما يعطي أهل المدائن، وعليهم أن يُخرجوا منها الروم واللصوت اللصوص فمن خرج منهم فإنه آمن على نفسه وماله حتى يبلغوا مأمنهم، ومن أقام منهم فهو آمن، وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية، ومن أحب من أهل إيلياء أن يسير بنفسه وماله مع الروم ويخلّي بِيَعهم وصُلُبهم فإنهم آمنون على أنفسهم وعلى بِيَعهم وصُلُبهم، حتى يبلغوا مأمنهم، ومن كان بها من أهل الأرض قبل مقتل فلان؛ فمن شاء منهم قعد، وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية، ومن شاء سار مع الروم، ومن شاء رجع إلى أهله، فإنه لا يؤخذ منهم شيء حتى يحصد حصادهم، وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله وذمة الخلفاء وذمة المؤمنين إذا أعطوا الذي عليهم من الجزية، شهد على ذلك خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعبد الرحمن بن عوف ومعاوية بن أبي سفيان وكتب وحضر سنة خمس عشر[78].

أهم الدروس والعبر والفوائد:

أ- موقف فدائي لواثلة بن الأسقع رضي الله عنه: قال واثلة: .. فأسمع صرير باب الجابية – وهو واحد من أبواب دمشق – فمكثت فإذا بخيل عظيمة فأمهلتها، ثم حملت عليهم وكبّرت فظنوا أنهم أحيط بهم، فانهزموا إلى البلد، وأسلموا عظيمهم – يعني قائدهم – فدعسته بالرمح وألقيته عن برذونه، وضربت يدي على عنان البرذون وركضت، والتفتوا فلما رأوني وحدي تبعوني فدعست فارساً بالرمح فقتلته، ثم دنا آخر فقتلته، ثم جئت خالد بن الوليد فأخبرته وإذا عنده عظيم من الروم يلتمس الأمان لأهل دمشق[79].

ب- سفارة معاذ بن جبل إلى الروم قبيل موقعة فحل:

بعد مناوشات بين المسلمين والروم، قبيل موقعة فحل، أرسل الروم إلى المسلمين أن ابعثوا إلينا رجلاً، نسأله عما تريدون وما تسألونه وما تدعون إليه ونخبره بما نريد. فأرسل إليهم أبو عبيدة معاذ بن جبل الأنصاري مفاوضاً وسفيراً عن المسلمين، فاستعد الروم لاستقباله، وأظهروا أجمل ما عندهم من الزينة، وأنفذ ما عندهم من الأسلحة: وفرشوا الأرض بأثمن البسط والنمارق التي تكاد تخطف الأبصار، ليفتنوا معاذا عما جاء له أو يرهبوه ويفتوا في عضده ففاجأهم بتعاليه عن زينتهم، ورفضه لكل أشكال المغريات، وبشدة تواضعه وزهده، بل اغتنم ذلك الموقف لاستخدامه سلاحاً ضد الروم، فأمسك بعنان فرسه، وأبى أن يعطيه لغلام من الروم،
وأبى الجلوس على ما أعدوه لاستقباله وقال لهم لا أجلس على هذه النمارق التي استأثرتم بها على ضعفائكم.. وجلس على الأرض.. وقال إنما أنا عبد من عباد الله أجلس على بساط الله، ولا أستأثر بشيء من مال الله على إخواني[80]، ودار بينهم حوار سألوه فيه عن الإسلام فأجابهم، وسألوه عن نبي الله عيسى عليه السلام فقرأ عليه قوله تعالى:} إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ59 { آل عمران،،آية:59.وأوضح لهم ما يريد منهم المسلمون، وقرأ عليهم قوله تعالى: } يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنْ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً { التوبة،آية:123. وقالوا له إن سبب انتصار المسلمين على الفرس هو موت ملكهم، وإن ملك الروم حي وجنوده لا تحصى، فقال لهم إن كان ملككم هرقل، فإن ملكنا الله وأميرنا رجل منا، إن عمل فينا بكتاب الله وسنة نبينا أقررناه، وإن غير عزلناه، ولا يحتجب عنا ولا يتكبر ولا يستأثر علينا[81]، وأما عن كثرتهم فقد قرأ عليهم قوله تعالى: } كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ249 { البقرة،آية:249. ولما فشل الروم في التأثير في معاذ أو النيل منه، فيما أعدوه من بهارج وخيلاء، عادوا إلى الواقع يعرضون عليه الصلح، وأن يعطوا المسلمين البلقاء وما والاها فأعلمهم معاذاً أنه ليس أمامهم إلا الإسلام أو الجزية، أو الحرب، فغضبوا وقالوا اذهب إلى أصحابك، إنا لنرجو أن نقرنكم في الحبال. فقال معاذ: أما الحبال فلا، ولكن والله لتقتلننا عن آخرنا أو لنخرجنكم منها أذلة وأنتم صاغرون، ثم انصرف[82]، وهكذا ظهر معاذ في هذه السفارة شخصية سياسية عسكرية، وداعية إلى الإسلام يواجه حجج خصومه، ويوجه إليهم النقد اللاذع، مظهراً عيوبهم واستئثارهم على رعيتهم، ويذكرهم بتعاليم دينهم، ويدعوهم إلى الإسلام، أما تهويلهم وحربهم النفسية فيرد عليها بالواقع
لا بالتهويل والتخويف، ثم يعود إلى قيادته التي أقرت كل ما قام به وما قاله للروم[83]، وقد كان المسلمون يدعون خصومهم للإسلام قبل القتال.

ج- موقف لعبادة بن الصامت في فتح قيسارِية:

كان عبادة بن الصامت على ميمنة جيش المسلمين في حصار قيسارية، فقام رضي الله عنه بوعظ جنده ودعاهم إلى تفقد أنفسهم، والحيطة من المعاصي ثم قاد هجوماً قتل فيه كثيراً من الروم، لكنه لم يتمكن من تحقيق هدفه، فعاد إلى موقعه الذي انطلق منه، فحرض أصحابه على القتال، وأبدى لهم استغرابه الشديد لعدم تحقيق أهداف ذلك الهجوم فقال: يا أهل الإسلام إني كنت من أحدث النقباء سناً وأبعدهم أجلاً وقد قضى الله أن أبقاني حتى قاتلت هذا العدو معكم.. والذي نفسي بيده ما حملت قط في جماعة من المؤمنين على جماعة من المشركين، إلا خلوا لنا الساحة وأعطانا الله عليهم الظفر فما بالكم حملتم على هؤلاء فلم تزيلوهم؟[84] ثم بين لهم ما يخشاه منهم فقال: إني والله لخائف عليكم خصلتين، أن تكونوا قد غُللتم، أولم تناصحوا الله في حملتكم عليهم[85]، وحث أصحابه على طلب الشهادة بصدق، وأعلمهم أنه سيكون في مقدمتهم وأنه لن يعود إلى مكانه، إلا أن يفتح الله عليه أو يرزقه الشهادة[86]، فلما التحم المسلمون والروم، ترجل عبادة عن جواده، وأخذ راجلاً فلما رآه عمير بن سعد الأنصاري نادى المسلمين يعلمهم بما فعل أميرهم ويدعوهم إلى الاقتداء به فقاتلوا الروم حتى هزموهم وأحجروهم في حصنهم [87].

د- أم حكيم بنت الحارث بن هشام في معركة مرج الصُّفر:

كانت أم حكيم بنت الحارث بن هشام تحت عكرمة بن أبي جهل فقتل عنها في معارك الشام[88]، فاعتدت أربعة أشهر وعشراً، وكان يزيد بن أبي سفيان يخطبها، وكان خالد بن سعيد يرسل إليها يعرض لها في خطبتها، فخطبت إلى خالد بن سعيد، فتزوجها، فلما نزل المسلمون مرج صفر–وكان خالد قد شهد أجنادين وفِحل ومرج الصفر– أراد أن يعرّس بأم حكيم فجعلت تقول: لو أخرت الدخول حتى يفضّى الله هذه الجموع، فقال خالد: إن نفسي تحدثني أني أصاب في جموعهم. قالت: فدونك، فأعرس بها عند القنطرة التي بالصفر، فبها سميت قنطرة أم حكيم، وأولم عليها، فدعا أصحابه إلى طعام، فما فرغوا من الطعام حتى صفت الروم صفوفها وبرز خالد بن سعيد فقاتل فقتل وشدت أم حكيم عليها ثيابها وتبدت، وإن عليها أثر الخلوق فاقتتلوا أشد القتال على النهر، وصبر الفريقان جميعاً، وأخذ السيوف بعضها بعضاً، وقتلت أم حكيم يومئذ سبعة بعمود الفسطاط الذي بات فيه خالد معرساً بها[89].

هـ- قيصر ملك الروم يودع الشام :

في السنة الخامسة عشرة تقهقر هرقل بجنوده، وارتحل عن الشام إلى بلاد الروم[90] وقيل في سنة ست عشرة[91]، وكان هرقل كلما حج إلى بيت المقدس وخرج منها يقول: عليك السلام يا سورية، تسليم مودع لم يقض منك وطراً وهو عائد؛ فلما عزم على الرحيل من الشام وبلغ الرُّها[92]، طلب من أهلها أن يصحبوه إلى الروم فقالوا: إن بقاءنا هاهنا أنفع لك من رحيلنا معك، فتركهم؛ فلما وصل إلى شِمْشَاط[93] وعلا على شرف هنالك التفت إلى نحو بيت المقدس وقال: عليك السلام يا سورية سلاماً لا اجتماع بعده[94]، ثم سار هرقل حتى نزل القسطنطينية واستقر بها ملكه، وقد سأل رجلاً ممن اتبعه، كان قد أُسِرَ مع المسلمين، فقال أخبرني عن هؤلاء القوم، فقال: أخبرك كأنك تنظر إليهم. هم فرسان بالنهار ورهبان بالليل، ما يأكلون في ذمتهم إلا بثمن، ولا يدخلون إلا بسلام، يقضون على من حاربوه حتى يأتوا عليه، فقال: لئن كنت صدقتني ليملكن موضع قدمي هاتين[95].

و- إن الله أعزَّكم بالإسلام:

لما قدم عمر رضي الله عنه الشام راكباً على حماره ورجلاه من جانب قال له أبو عبيدة: يا أمير المؤمنين، الآن يتلقاك عظماء الناس فقال عمر رضي الله عنه: إن الله أعزّكم بالإسلام، فمهما طلبتم العزّ في غيره أذلكم[96].

ز- من خطبته بالجابية لما وصل الشام:

خطب عمر رضي الله عنه بالجابية، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام في مثل مقامي هذا فقال: أحسنوا إلى أصحابي ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجئُ قوم يحلف أحدهم على اليمين قبل أن يُسْتَحْلَف عليها، ويشهد على الشهادة قبل أن يُستشهد، فمن أحب منكم أن ينال بُحْبُوحة الجنة، فليلزم الجماعة، فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد، ولا يخلون رجل بامرأة فإن ثالثهما الشيطان، ومن كان منكم تسرُّه حسنته وتسوؤه سيئته فهو مؤمن[97].

ح- غيرتنا الدنيا كلنا غيرك يا أبا عبيدة:

لما قدم عمر الشام قال لأبي عبيدة رضي الله عنه: اذهب بنا إلى منزلك، قال: وما تصنع عندي؟ ما تريد إلا أن تعصر عي************ عليّ، قال: فدخل فلم ير شيئاً، قال: أين متاعك؟ لا أرى إلا لَبَداً وصحفة وشناً[98]، وأنت أمير أعندك طعام؟ فقام أبو عبيدة إلى جونة[99]، فأخذ منها كسيرات، فبكى عمر، فقال له أبو عبيدة: قد قلت لك إنك ستعصر عي************ عليّ، يا أمير المؤمنين يكفيك ما يُبلغُك المقيل، قال عمر: غيَّرتنا الدنيا كلّنا غيرك يا أبا عبيدة[100] وعلق الذهبي على هذه الحادثة فقال: وهذا والله هو الزهد الخالص لا زهد من كان فقيراً معدماً[101]، وجاء في رواية عن هشام بن عروة عن أبيه قال: قدم عمر –رضي الله عنه- الشام، فتلقاه أمراء الأجناد، وعظماء أهل الأرض، فقال عمر: أين أخي؟ قالوا: من؟ قال: أبو عبيدة بن الجراح، قالوا: يأتيك الآن، فجاء على ناقة مخطومة بحبل فسلم، عليه، فسأله ثم قال للناس: انصرفوا عنا فسار معه حتى أتى منزله، فنزل عليه، فلم ير في بيته إلا سيفه، وترسه، ورحله[102]…

ط- تعليق على نص معاهدة أهل بيت المقدس:

إن كتاب الصلح الذي أبرمه عمر رضي الله عنه يشهد شهادة حق بأن الإسلام دين تسامح وليس دين إكراه وهو شاهد عدل بأن المسلمين عاملوا النصارى الموجودين في القدس معاملة لم تخطر على بالهم إن عمر وهو الفاتح كان يستطيع أن يفرض عليهم ما يشاء، وأن يجبرهم على ما يريد، ولكنه لم يفعل لأنه كان يمثل الإسلام، والإسلام لا يكره أحداً على الدخول فيه ولا يقبل من أحد إيماناً إلا عن طواعية وإذعان، إن الإيمان ليس شيئاً يجبر عليه الناس لأنه من عمل القلوب، والقلوب لا يعلم مخبآتها إلا الله سبحانه فقد يريك الإنسان أنه مؤمن وليس كذلك وتكون مضرته لأهل الإيمان أكثر ممن يجاهرون بالكفر والإلحاد ولهذا آثر المسلمون أن يعطوا الناس حرية العبادة، ويؤمنوهم على كل عزيز لديهم على أن يعيشوا في كنف المسلمين، ويؤدوا الجزية مقابل حمايتهم والذود عنهم، وفي ظلال الحياة الهادئة الوديعة وفي رحاب الصلات والجوار، وفي كنف المسلمين وعدالتهم سيرى غير المسلمين عن قرب جمال الإسلام وسماحته وإنصافه وعدالته وسَيَرون فيه الحقائق التي قد عميت عليهم لبعدهم عنه، وعندئذ يدخلون في دين الله أفواجاً كما حدث في كل البلاد التي فتحها المسلمون، وأعطوا أهلها مثل هذا الأمان[103].

ي- عمر رضي الله عنه يصلي في المسجد الأقصى:

قال أبو سلمة حدثني أبو سنان عن عبيد بن آدم قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول لكعب: أين ترى أن أصلي؟ فقال: إن اخذت عنّي، صليت خلف الصخرة فكانت القدس كلُّها بين يديك، فقال عمر: ضاهيت اليهودية،
لا ولكن أصلي حيث صلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتقدم إلى القبلة فصلّى، ثم جاء فبسط ردائه فكنس الكناسة في ردائه وكنس الناس[104] وقال ابن تيمية: المسجد الأقصى اسم لجميع المسجد.. وقد صار بعض الناس يسمي الأقصى المصلّى الذي بناه عمر بن الخطاب في مُقَدّمه، والصلاة في هذا المصلى الذي بناه عمر للمسلمين، أفضل من الصلاة في سائر المسجد، فإن عمر بن الخطاب لما فتح بيت المقدس، وكان على الصخرة زبالة عظيمة، لأنَّ النصارى كانوا يقصدون إهانتها، مقابلة لليهود الذي يصلّون إليها، فأمر عمر بإزالة النجاسة عنها. وقال كعب: أين ترى أن نبني مصلى للمسلمين؛ فقال: خَلْفَ الصخرة، فقال: يا ابن اليهودية: خالطت اليهودية بل أبنيه أمامها، فإنّ لنا صدور المساجد[105].

وهذا موقف آخر جليل وعظيم من مواقف أمير المؤمنين التي لا تحصى، والتي برهن فيها عملياً على أن الإسلام يحترم جميع الأديان السماوية ويجعل كل المقدسات محترمة ولا يختصر شيئاً منها، إن هذه الصخرة التي أزال عنها عمر التراب والأوساخ بيده وحملها في قبائه لينفيها عنها هي قبلة اليهود والصخرة المعظمة عندهم التي كلم الله عليها يعقوب عليه السلام كما يعتقدون، فكما كان موقف عمر من النصارى رائعاً وجليلاً حين منحهم حرية الاعتقاد وأمنهم على صلبانهم وكنائسهم لم يضن على اليهود مع ما ارتكبوه في حق المسلمين من الجرائم بمثل هذا الموقف الرائع الجليل، حيث رفع التراب عن الصخرة، وأظهر عنايته بها وحرصه على احترامها[106].

محاولة الرومان احتلال حمص من جديد:

قدمت عيون أبي عبيدة فأخبروه بجمع الروم وخطاب هرقل فيهم وسيرهم إليه، ورأى أبو عبيدة ألا يكتم جنوده الخبر، فدعا رؤوس المسلمين وذوي الهيئة والصلاح منهم ليستشيرهم ويسمع رأي جماعتهم[107]، فكان رأي معاذ بن جبل الأنصاري، عدم الانسحاب وقال: هل يلتمس الروم من عدوهم أمراً أضر لهم مما تريدون بأنفسكم تخلون لهم عن أرض قد فتحها الله عليكم، وقتل فيها صناديدهم وأهلك جنودهم.. أما والله لئن أردتم دخولها بعد الخروج منها لَتُكابدنَّ من ذلك مشقة فقال أبو عبيدة صدق والله وبرّ[108]، ولكن الأحداث سارت على غير هذا الاتجاه، فأعاد المسلمون ما جبوه من أهل حمص فقد أمر أبو عبيدة حبيب بن مسلمة وقال له: اردد على القوم الذين كنا صالحناهم من أهل البلد، ما كنا أخذنا منهم، فإنه لا ينبغي لنا إذ لم نمنعهم أن نأخذ منهم شيئاً، وقال لهم نحن على ما كنا عليه فيما بيننا وبينكم من الصلح لا نرجع فيه إلا أن ترجعوا عنه، وإنما رددنا عليكم أموالكم أنا كرهنا أن نأخذ بأموالكم ولا نمنع بلادكم، ولكنا نتنحى إلى بعض الأراضي ونبعث إلى إخواننا فيقدموا علينا ثم نلقي عدونا فنقاتلهم فإن أظفرنا الله بهم وفينا لكم بعهدكم إلا أن لا تطلبوا ذلك وأصبح الصباح فأمر أبو عبيدة برحيل جيش المسلمين إلى دمشق، واستدعى حبيب بن مسلمة القوم الذين كانوا أخذ منهم الجزية فرد عليهم مالهم وأخبرهم بما قال أبو عبيدة، وأخذ أهل حمص يقولون: ردكم الله إلينا ولعن الله الذين كانوا يملكوننا من الروم، ولكن والله لو كانوا هم ما ردوا علينا بل غصبونا وأخذوا ما قدروا عليه من أموالنا، لولايتكم وعدلكم أحب إلينا مما كنا فيه من الظلم والغشم[109].

وأرسل أبو عبيدة سفيان بن عوف إلى عمر ليلة غدا من حمص إلى دمشق، وقال إئت أمير المؤمنين فأبلغه عني السلام، وأخبره بما قد رأيت وعاينت وبما قد جاءتنا به العيون، وبما استقر عندك من كثرة العدو، وبالذي رأى المسلمون من التنحي عنهم، وكتب معه: أما بعد، فإن عيوني قدمت عليّ من أرض عدونا، من القرية التي فيها ملك الروم، فحدثوني بأن الروم قد توجهوا إلينا وجمعوا لنا من الجموع ما لم يجمعوه لأمة قط كانت قبلنا، وقد دعوت المسلمين وأخبرتهم الخبر واستشرتهم في الرأي، فأجمع رأيهم على أن يتنحوا عنهم حتى يأتينا رأيك، وقد بعثت إليك رجلاً عنده علم ما قبلنا فسله عما بدا لك فإنه بذلك عليم وهو عندنا أمين، ونستعين بالله العزيز العليم وهو حسبنا ونعم الوكيل[110].

الخطة الحربية البديعة التي رسمها عمر رضي الله عنه لنجدة أبي عبيدة رضي الله عنه:

لما بلغ الخبر عمر رضي الله عنه كتب إلى سعد بن ابي وقاص رضي الله عنه: أن اندب الناس مع القعقاع بن عمرو، وسرِّحهم من يومهم الذي يأتيك فيه كتابي إلى حمص، فإن أبا عبيدة قد أحيط به، وكان عمر قد أعد خيولاً احتياطية في كل بلد استعداداً للحروب المفاجئة، فكان في الكوفة أربعة آلاف فرس، فجهز سعد عليها الجيش الذي أرسله إلى الشام، وكتب عمر أيضاً إلى سعد: أن سرِّح سهيل بن عدي إلى الجزيرة في الجند، ولْيَأت الرَّقَّة، فإن أهل الجزيرة هم الذين استثاروا الروم على أهل حمص، وإن أهل قَرْقِيسياء لهم سلف، وسرّح عبد الله بن عبد الله بن عتبان إلى نصيبين فإن أهل قرقيسياء لهم سلف ثم لينْفُضا[111] حرَّان والرَّها، وسرِّح الوليد بن عقبة على عرب الجزيرة من ربيعة وتنوخ، وسرح عياضاً، فإن كان قتال فقد جعلت أمرهم جميعاً إلى عياض بن غَنْم، فمضى القعقاع في أربعة آلاف من يومهم الذي أتاهم فيه الكتاب نحو حمص، وخرج عياض بن غنم وأمراء الجزيرة فأخذوا طريقهم نحو الأهداف التي وجهوا إليها، وخرج أمير المؤمنين عمر من المدينة مغيثاً لأبي عبيدة يريد حمص حتى نزل الجابية وعلم أهل الجزيرة الذين اشتركوا مع الروم في حصار أهل حمص بخروج الجيوش من العراق، ولا يدرون هل مقصدهم حمص أم بلادهم في الجزيرة فتفرقوا إلى بلدانهم وإخوانهم، وتركوا الروم يواجهون المعركة وحدهم ولما رأى أبو عبيدة أن أنصار الروم من أهل الجزيرة قد انفضوا عنهم، استشار خالداً في الخروج إليهم وقتالهم فأشار عليه بذلك، فخرجوا إليهم وقاتلوهم وفتح الله عليهم، وقدم القعقاع بن عمرو ومن معه من أهل الكوفة بعد ثلاثة أيام من المعركة وقدم أمير المؤمنين بالجابية، فكتبوا إليه بالفتح وبقدوم المدد عليهم بعد ثلاثة أيام من الفتح وبالحكم في ذلك، فكتب إليهم أن شركوهم فإنهم قد نفروا لكم وقد تفرق لهم عدوكم[112]، وقال: جزى الله أهل الكوفة خيراً يكفون حوزتهم ويُمِدّون أهل الأمصار[113].

حينما نتأمل هذه الخطة الحربية البديعة التي رسمها عمر رضي الله عنه لإرباك الأعداء وتفريقهم نرى عبقرية الفاروق العسكرية، فقد أمر ببعث جيش سريع من الكوفة إلى حمص ليقوم بعملية الإنقاذ وخرج هو بجيش من المدينة، وهذا كله يبدو أمراً معتاداً، ولكن الأمر الذي يثير الإعجاب هو ما قام به من الأمر ببعث الجيوش إلى بلاد المحاربين ليضطرهم إلى ترك ميدان القتال والتفرق إلى بلادهم لحمايتها، وقد نجحت هذه الخطة حيث تفرقوا فهان على المسلمين القضاء على الروم[114].

فتح الجزيرة: 17هـ:

تقدم لنا أن الروم وأهل بلاد الجزيرة أغاروا على مدينة حمص وحصروا فيها
أبا عبيدة رضي الله عنه والمسلمين وأن عمر رضي الله عنه أرسل إلى سعد بن
أبي وقاص رضي الله عنه يأمره بإمداد أهل حمص بجيش يخرج من الكوفة إلى حمص، وجيوش تخرج إلى الجزيرة وقد أرسل سعد جيشاً من الكوفة بقيادة القعقاع بن عمرو التميمي، وأرسل جيوشاً إلى الجزيرة وكلها تحت قيادة عياض بن غنم رضي الله عنه، فخرجَت هذه الجيوش إلى الجزيرة فسلك سهيل بن عدي وجنده طريق الفراض حتى انتهى إلى الرَّقًّة فحاصرهم، فنظروا إلى أنفسهم بين قوتين للمسلمين في العراق والشام فصالحوهم، وسلك عبد الله بن عبد الله بن عِتْبان طريق دجلة حتى انتهى إلى نصيبين فلقيه أهلها بالصلح كما صنع أهل الرقة، ولما أعطى أهل الرقة ونصيبين الطاعة ضم عياض سهيلاً وعبد الله إليه وسار بالناس إلى حران فأخذ ما دونها، فلما انتهى إليهم اتقوه بالإجابة إلى الجزية فقبل منهم، ثمّ سرَّح عبدالله وسهيلاً إلى الرُّها فاتقوهما بالإجابة إلى الجزية وهكذا فتحت الجزيرة كلها على سعتها صلحاً، فكانت أسهل البلدان أمراً[115].









 
قديم 05-10-12, 07:12 PM   رقم المشاركة : 24
بيارق النصر
عضو ماسي






بيارق النصر غير متصل

بيارق النصر is on a distinguished road


المبحث الثاني فتوحات مصر وليبيا

كانت دوافع فتح مصر عند المسلمين قوية، فهناك العقيدة التي يريدون التمكين لها في كل مكان، ومصر تتصل بفلسطين فمن الطبيعي بعد فتح فلسطين أن يتجه المسلمون إلى مصر، وقد قسم المسلمون الإمبراطورية البيزنطية إلى قسمين لا يصل بينهما سوى البحر وذلك باستيلائهم على الشام، وفي مصر وشمال أفريقية جيوش ومسالح رومية، ولبيزنطة أسطول قوي في البحر، ولن يأمن المسلمون في الشام ومصر تحت النفوذ الروماني، ومصر غنية، وهي مصدر لتموين القسطنطينية فإذا فتحها المسلمون ضعف نفوذ بيزنطية كثيراً وأمن المسلمون في الشام والحجاز حيث يسهل اتصال الروم بالحجاز عن طريق مصر[1]

ومن العوامل أيضاً أن القبط أنفسهم يعانون من اضطهاد الروم، وأن هؤلاء لا يعيشون في مصر إلا بمثابة حاميات عسكرية، فلماذا لا تنتهز هذه الفرصة خاصة أن عدل المسلمين لابد أن يكون قد سبقهم إلى مصر[2]، أما الحامية نفسها فإن الرعب[3] لابد أن يكون قد تملّكها حينما رأت ملكها هرقل يترك بلاد الشام لتصير جزءاً من الدولة الإسلامية كل هذا كان يدركه عمرو بن العاص وخلص إلى نتيجة وهي: أن الروم في مصر سيكونون عاجزين عن الوقوف في وجه المسلمين بينما لو تركت مصر دون فتح فستظل مصدر تهديد لهم، وهذا ما صرح به عمرو بن العاص نفسه[4] وبالرغم من تعدد الروايات حول أول من فكر في فتح مصر: عمرو بن العاص أم الخليفة نفسه دون تدخل من عمرو، أم أن الخليفة وافق تحت إلحاح عمرو[5]، بالرغم من ذلك الاختلاف فإن العوامل السابقة كلها تنفي أن تكون خطة فتح مصر هي مجرد خاطرة من عمرو وأن الخليفة غير راضٍ عن ذلك، أو أنهم لم يكن لديهم التصور الكامل عن مصر وأرضها وحجم قوة أعدائهم فيها وقد جاءت الروايات التاريخية تؤيد ما ذهبت إليه فقد بين ابن عبد الحكم: أن عمر بن الخطاب كتب إلى عمرو بن العاص بعد فتح الشام أن أندب الناس إلى المسير معك إلى مصر، فمن خف معك فسر به[6]، وجاء في الطبري: .. أقام عمر بإيلياء بعدما صالح أهلها ودخلها أياماً، فأمضى عمرو بن العاص إلى مصر، وأمّره عليها، إن فتح الله عليه، وبعث في إثره الزبير بن العوام مدداً له ويؤكد هذا تلك الإمدادات التي أرسلها عمر إلى مصر ووصل عددها إلى اثني عشر ألفاً، وكذلك أمره بفتح الإسكندرية دون خلاف في ذلك[7]، فهل من الممكن أن يتوغل عمرو في مصر دون رضاً من الخلافة؟ ونحن نعرف المسلمين قادة وجنوداً كانوا غاية في السمع والطاعة والالتزام ومن ثم نكرر أن فتح مصر لم يكن إلا استجابة لخطة مرسومة سلفاً عند الخليفة وقواده، ولم تكن استجابة لرغبة عابرة[8].

أولاً: مسير الفتح الإسلامي لمصر:

يعتبر فتح مصر المرحلة الثالثة من الفتوحات بالنسبة لمحور الدولة البيزنطية ولقد كانت مسيرة عمرو من فلسطين إلى مصر محاذياً البحر فسار من رفح إلى العريش إلى الفرما واستمر فتحه للقاهرة فالاسكندرية وهذا يدلنا على موهبة عمرو العسكرية حيث سار في هذا الخط ربما لأنه لم يكن للروم ثقل عسكري في هذا الخط كما كان في بلاد الشام وربما لأن الدرب كان معروفاً لعمرو بن العاص، فكان تسلسل الفتح كما هو مرتب فيما يلي مع بيان أوجه الاختلاف والاضطراب حيث لم يخل سير الفتح من اختلاف كما حدث في فتح بلاد الشام[9].

1- فتح الفرما:

تقدم عمرو غرباً ولم يلاق جيشاً رومانياً إلا في الفرما أما قبل ذلك فقد قابله المصريون بالترحاب والتهليل، فكان أول موضع قوتل فيه كان في الفرما فقد تحصن الروم في المدينة لمواجهة المسلمين، واثقين من قدراتهم على الذود عنها ورد المسلمين بعد أن علموا أن المسلمين الذين جاءوا مع عمرو قلة في العدد والعدة وليس معهم عدة للحصار، عرف عمرو عدد الروم، واستعداداتهم وأنهم يزيدون على جنده أضعافاً، فكانت خطته في الاستيلاء على الفرما هي المهاجمة وفتح الأبواب أو الصبر عليها إلى أن يضطر الجوع أهلها فينزلوا إليها، واشتد حصار المسلمين للمدينة واشتد عناد الروم ودام الحصار شهوراً، وكانت بعض القوات الرومانية تنزل إلى المسلمين بين الحين والآخر لقتالهم فيجهز عليهم المسلمون وكان عمرو يشد أزر المسلمين بكلماته القوية، فمن قوله لهم: يا أهل الإسلام والإيمان، يا حملة القرآن، يا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم اصبروا صبر الرجال واثبتوا بأقدامكم
ولا تزايلوا صفوفكم، واشرعوا الرماح واستتروا بالدرق، والزموا الصمت إلا من ذكر الله، ولا تحدثوا حدثاً حتى آمركم[10] وذات يوم خرجت فرقة من الرومان من القرية إلى المسلمين ليقاتلوهم وكانت الغلبة للمسلمين والدائرة على الروم فلاذوا بالفرار إلى القرية، وتبعهم المسلمون، وكانوا أسرع منهم، فملكوا الباب قبل أن يقتحمه الرومان، وكان أول من اقتحم المدينة من المسلمين هو أسميقع فكان الفتح المبين، ومما هو جدير بالذكر أن أقباط مصر الذين كانوا بالقرى عاونوا المسلمين ودلوهم على مناطق الضعف وتلقوا المسلمين في اتميدة بالترحاب، وبعد تمام احتلال الفرما قام المسلمون بهدم أسوارها وحصونها حتى لا يستفيد منها الروم لو رجعوا إليها لا قدر الله ثم خطب عمرو في الجيش قائلاً: أيها الناس، حمداً لله الذي جعل لجيش المسلمين الغلبة والظفر، والله عظيم حمى بالإسلام ظهورنا، وتكفل به طريق رجوعنا، ولكن إياكم أن تظنوا أن كل ما نرغب فيه قد تحقق، وأن تخدعوا بهذا النصر، فلا يزال الطريق أمامنا وعراً شاقاً والمهمة التي وكلها لنا أمير المؤمنين بعيدة المنال، وعليكم بالصبر والطاعة لرؤسائكم، فسيعلم القوم هنا أننا جنود السلام، لا نبغي فساداً في الأرض بل نصلحها وكونوا خير قدوة للرسول صلى الله عليه وسلم[11].

اطمأن عمرو إلى أن المدينة لم تعد صالحة لحماية جيش يأوي إليها، وتفقد جيشه وما فقده في المعركة وتألم لفقد رجال كانوا حريصين على فتح مصر فعاجلتهم المنية، وخشي إن استمرت المعارك على هذا النحو مع وقوع الخسائر في الجيش القليل العدد ألا يستطيع مواصلة الزحف، ولا يتمكن من بلوغ الغاية ولكن الله تعالى قد عوضه عمن فقده فانضم إلى جيشه كثير من رجال القبائل العربية من راشدة ولخم وكانوا يقيمون بجبل الحلال[12]، ومضى عمرو بجيشه لا يلقى شيئاً من المقاومة متجهاً غرباً حتى وصل القواصر القصاصين ومن هناك اتجه نحو الجنوب حتى أصبح في وادي الطمبلان بالقرب من التل الكبير ثم اتجه إلى الجنوب حتى نزل بلبيس. قال صاحب النجوم الزاهرة فتقدم عمرو لا يدافع إلا بالأمر الخفيف حتى أتى بلبيس[13].

2- فتح بلبيس:

وعند بلبيس برز الروم في قوة كبيرة قاصدين صدّ عمرو عن التوجه نحو حصن بابليون وأرادوا منازلة المسلمين، فقال لهم عمرو رضي الله عنه لا تعجلونا حتى نعذر إليكم وليبرز إليّ أبو مريم وأبو مريام، وعندئذ كفوا عن القتال، وخرج إليه الرجلان، فدعاهما إلى الإسلام أو الجزية، وأخبرهما بوصية النبي صلى الله عليه وسلم بأهل مصر، بسبب هاجر أم اسماعيل: روى مسلم في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إنّكم ستفتحون مصر، وهي أرض يسمى فيها القيراط[14]، فإذا فتحتموها فأحسنوا إلى أهلها، فإن لهم ذمّة ورحماً؛ أو قال: ذمة وصهراً[15]، فقالا: قرابة بعيدة لا يصل مثلها إلا الأنبياء، آمِنّا حتى نرجع إليك. فقال عمرو: مثلي لا يُخدع: ولكني أوجلكما ثلاثاً لتنظرا فقالا: زدنا، فزادهما يوماً، فرجعا إلى المقوقس عظيم القبط[16]، وأرطبون الوالي من قِبَل الروم، فأخبراهما خبر المسلمين، فأما أرطبون فأبى وعزم على الحرب، وبيّت المسلمين، فهزموه هو وجنده إلى الإسكندرية[17]، ومما هو جدير بالذكر، ما يدل على شهامة المسلمين ومروءتهم أنه لما فتح الله على المسلمين بلبيس وجدوا فيها ابنة المقوقس واسمها أرمانوسة وكانت مقربة من أبيها، وكانت في زيارة لمدينة بلبيس مع خادمتها بربارة هرباً من زواجها من قسطنطين ابن هرقل وهو فيما بعد والد قنسطتز صاحب موقعة ذات الصواري وكانت غير راغبة في الزواج منه، ولما تمكنت مجموعة من الجيش الإسلامي من أسر أرمانوسة جمع عمرو بن العاص الصحابة وذكرهم بقوله تعالى:} هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إِلاَّ الإحْسَانُ60 { الرحمن،آية:60. ثم قال: لقد أرسل المقوقس هدية إلى نبينا وأرى أن نبعث إليه بابنته وجميع من أسرناهم من جواريها وأتباعها، وما أخذنا من أموالهم، فاستصوبوا رأيه[18]، فأرسلها عمرو إلى أبيها معززة مكرمة ومعها كل مجوهراتها وجواريها ومماليكها وقالت لها خادمتها بربارة أثناء سفرهما: يا مولاتي إن العرب يحيطون بنا من كل جانب فقالت أرمانوسة: إني آمن على نفسي وعرضي في خيمة العربي، ولا آمن على نفسي في قصر أبي[19]، ولما وصلت إلى أبيها سُرَّ بها وبتصرف المسلمين معها[20].

3- معركة أم دنين:

ذكر ابن عبد الحكم في روايته أن عمراً مضى بجيشه حتى فتح بلبيس بعد قتال دام نحواً من شهر، ثم مضى حتى أتى أم دنين وتسمى المقسس وهي واقعة على النيل فقاتل المسلمون حولها قتالاً شديداً وأرسل عمرو إلى أمير المؤمنين يستمده فأمده أمير المؤمنين بأربعة آلاف رجل على كل ألف منهم رجل يقوم مقام الألف، وهم الزبير بن العوام، والمقداد بن الأسود، وعبادة بن الصامت، ومسلمة بن مُخلَّد، وقيل الرابع خارجة بن حذافة، وقال عمر في كتابه له: اعلم أن معك اثني عشر ألفاً، ولن تغلب اثنا عشر ألفاً من قلَّة[21]، وقد خرج الروم مع الأقباط لمواجهة المسلمين، وجرت بينهم معركة حامية استعمل فيها عمرو بن العاص دهاءه الحربي كما صنع خالد بن الوليد في حروب العراق، وذلك أنه جعل جيشه ثلاثة أقسام، حيث أقام كميناً للأعداء في الجبل الأحمر، وأقام كميناً آخر على النيل قريباً من أم دنين، وقابل أعداءه ببقية الجيش، ولما نشب القتال بين الفريقين خرج الكمين الذي في الجبل الأحمر وانقضَّ على الروم فاختل نظامهم وانهزموا إلى أم دنين فقابلهم الكمين الذي بقربها فأصبحوا بين جيوش المسلمين الثلاثة وانهزموا وتفرق جيشهم ولجأ بعضهم إلى حصن بابليون الحصين[22]، وهكذا كسب المسلمون هذه المعركة ووقاهم الله شر أعدائهم بفضله تعالى وذلك بتوفيق قائدهم المحنَّك إلى هذه الخطة المحكمة التي شتت بها قوات الأعداء[23].

4- معركة حصن بابليون:

تقدم عمرو وجيشه إلى حصن بابليون وحاصروه حصاراً محكماً ودام الحصار سبعة أشهر، وأرسل المقوقس خلال ذلك رسله إلى عمرو بن العاص للمصالحة فاستجاب عمرو بن العاص على الشروط: الإسلام أو الجزية أو الحرب فاختار المقوقس الجزية، وكتب المقوقس إلى هرقل يستأذنه في ذلك، فلم يقبل منه بل حنق عليه ولامه لوماً شديداً واستدعاه إلى القسطنطينية ثم نفاه، ولما أبطأ فتح حصن بابليون قال الزبير بن العوام: إني أهب نفسي لله وأرجو أن يفتح الله بذلك على المسلمين[24]، وراح عمرو بن العاص يحاصر حصن بابليون ثم تسوروا الحصن في الليل واشتبكوا مع الجنود في قتال عنيف وكان أول من تسور الحصن الزبير بن العوام فوضع سلماً من ناحية سوق الحمام ثم صعد وأمر المسلمين إذا سمعوا تكبيره أن يقتحموا الحصن، فما شعروا إلا والزبير بن العوام على رأس الحصن يكبر ومعه السيف، فكبر تكبيرة فأجابه المسلمون من خارج الحصن، ولم يشك أهل الحصن أن المسلمين قد اقتحموا جميعاً الحصن فهربوا، فعمد حواري رسول الله بأصحابه إلى باب حصن بابليون ففتحوه، واقتحم المسلمون الحصن وفتحوه عنوة، ولكن عمرو بن العاص أمضى الصلح على أن يخرج جند الروم ما يلزمهم من القوت لبضعة أيام، أما حصن بابليون وما فيه من الذخائر وآلات الحرب فتبقى غنيمة للمسلمين ثم خرب أبو عبد الله أبراج الحصن وأسواره[25].

ثانياً: فتح الإسكندرية:

رابط عمرو بن العاص ورجاله عدة أشهر في حصن بابليون ليستجمَّ الجنود ويصله الإذن من أمير المؤمنين عمر بالسير لفتح الإسكندرية، فلما تحقق ذلك ترك عمرو في الحصن مسلحة قوية من المسلمين، وفصل بجنوده من بابليون في مايو سنة 641م، الموافق جمادى الآخرة سنة 21هـ، وخرج معه جماعة من رؤساء القبط الذين اطمأنوا إلى أن مصلحتهم باتت في مساندة القوة الإسلامية المظفرة، وقد أصلحوا لهم الطرق، وأقاموا لهم الجسور والأسواق، وصارت لهم القبط أعواناً على ما أرادوا من قتال الروم[26]، وقد آثر عمرو السير على الضفة اليسرى للنيل حيث محافظة البحيرة لتتيح له الصحراء مجالاً واسعاً لحركة خيله وجنوده، وكي يتجنب ما كان سيعترضه من الترع الكثيرة لو سار في دلتا النيل، ولم يلق عمرو إلا قتالاً يسيراً عند مرفوط أو الطرانة كما يسميها المؤرخون العرب[27]، ثم عبر النهر إلى الضفة الشرقية حيث تقع مدينة نقيوس الحصينة[28]، وكانت ذات حصن منيع فتخوف عمرو أن يتركها على جانبه ويسير عنها، ولكن الروم بدل أن يتحصنوا من المسلمين في حصنهم ركبوا سفنهم ليحاربوا المسلمين فيها ويمنعوهم من الاقتراب من مدينتهم، فرماهم المسلمون بالنبال والسهام وطاردوهم في المياه، فولوا الأدبار في سفنهم نحو الإسكندرية، وسرعان ما استسلم من بقي في الحصن ودخله المسلمون ظافرين، وأمضوا عدة أيام يستبرئون ما حوله من أعدائهم[29]، وأرسل عمرو قائده شريك بن سُميَّ ليتعقب الروم الفارين، فالتقى بهم وليس معه إلا قوة معدودة، فطمع فيه الروم وأحاطوا به، فاعتصم بهم في نهد من الأرض عُرف فيما بعد بكوم شريك، فأرسل إلى عمرو يطلب الأمداد، وما إن علم الروم أن المدد في الطريق إلى المسلمين حتى لاذوا بالفرار[30]، وعند سُلْطَيْس على ستة أميال جنوبي دمنهور كان اللقاء التالي بين عمرو والروم، وجرى قتال شديد انهزموا فيه وولوا الأدبار[31]، ومما يؤسف له أن هذه المعارك التي خاضها المسلمون بقواتهم المحدودة ضد قوات تفوقهم عدة أضعاف من الروم عدداً وعدة، والتي استمر بعضها عدة أيام لم تظفر من مؤرخي المسلمين سوى بأسطر قليلة أو كلمات معدودة، في حين أفرد بعضهم عشرات الصفحات للحديث عن القادسية أو اليرموك أو نهاوند[32]، ومن هذه المعارك الكبرى التي لا تشفى فيها مصادرنا العربية غليلاً معركة كِرْيون وهي آخر تلك السلسلة من الحصون التي تمتد بين بابليون والإسكندرية وقد تحصن بها تيودرو قائد الجيش الرومي ودار قتال شديد استمر بضعة عشر يوماً، ورغم ذلك فلم يظفر من ابن عبد الحكم سوى بهذه الكلمات: ثم التقوا بكريون، فاقتتلوا بها بضعة عشر يوماً، وكان عبد الله بن عمرو على المقدمة، وحامل اللواء يومئذ وردان مولى عمرو، وصلى عمرو يومئذ صلاة الخوف، ثم فتح الله للمسلمين، وقتل منهم المسلمون مقتلة عظيمة واتبعوهم حتى بلغوا الإسكندرية، وفي أثناء ذلك أورد قصة عن بطولة عبد الله بن عمرو ووردان مولى أبيه[33]، وقد كانت الإسكندرية عند فتح المسلمين لها عاصمة البلاد وثانية حواضر الإمبراطورية البيزنطية بعد القسطنطينية، وأول مدينة تجارية في العالم، وكان البيزنطيون يدركون خطورة استيلاء المسلمين عليها ويحملون همّ ذلك، حتى قال هرقل: لئن ظهر العرب على الإسكندرية إن ذلك انقطاع ملك الروم وهلاكهم[34]، وقد زعم الرواة أنه تجهز ليخرج إلى الإسكندرية بنفسه ليباشر قتال المسلمين بها، فلما فرغ من جهازه صرعه الله فأماته، وكفى الله المسلمين مؤنته[35]، واضطربت أمور الدولة البيزنطية بعد موت هرقل إذ تولى الحكم إبناه قسطنطين وهرقل الثاني هرقليانوس وشاركتهما الإمبراطورة مارتينة أم هرقليانوس، لكن قسطنطين سرعان ما وافته منيته بعد مائة يوم من وفاة أبيه مما جعل أصابع الاتهام تتجه إلى الإمبراطورة التي كانت ترغب في أن ينفرد ولدها بالحكم، فاشتعلت الثورة ضدها، واستمرت الفتن ضاربة في البلاد عدة أشهر، حتى تولى كونستانس بن قسطنطين الحكم شريكاً لعمه هرقليانوس[36].

وكانت الإسكندرية فضلاً عن متانة أسوارها وضخامة ووفرة حماتها تمتاز بموقعها الدفاعي المميز فكان البحر يحميها من شمالها؛ حيث السيطرة آنذاك للروم، وكانت بحيرة مريوط تحميها من جنوبها، وكان اجتيازها عسيراً، بل غير مستطاع، وكانت إحدى تفريعات النيل قديماً واسمها نزعة الثعبان تدور حولها من الغرب، وبذلك لم يبق إلا طريق واحد من الشرق يصل إليها؛ وهو الطريق الواصل بينها وبين كرْيون[37].

وطال الحصار عدة أشهر مما أثار مخاوف عمرو من ملل جنوده أو شعورهم بالعجز أمام عدوهم، فقرر أن يبث كتائبه تجوس خلال بلاد الدلتا وقرى الصعيد، غير أن طول حصار الإسكندرية آثار حفيظة الخليفة عمر، وأثار في نفسه الهواجس والظنون حول استعداد جنوده للتضحية والمبادأة، ورأى أن ذلك ما كان إلا لما أحدثوا[38]، وشرح ذلك في رسالة إلى عمرو بن العاص يقول فيها: أما بعد، فقد عجبت لإبطائكم عن فتح مصر، إنكم تقاتلونهم منذ سنتين ذلك إلا لما أحدثتم، وأحببتم من الدنيا ما أحب عدوكم، وإن الله تبارك وتعالى لا ينصر قوماً إلا بصدق نيّاتهم، وقد كنت وجهت إليك أربعة نفر، يعني الزبير وصحبه، وأعلمتك أن الرجل منهم مقام ألف رجل على ما كنت أعرف، إلا أن يكون غيّرهم ما غيّر غيرهم، فإذا أتاك كتابي هذا فاخطب الناس وحُضَّهم على قتال عدوهم، ورغِّبهم في الصبر والنية، وقدِّم أولئك الأربعة في صدور الناس، ومُر الناس جميعاً أن يكون لهم صدمة كصدمة رجل واحد، وليكن ذلك عند الزوال يوم الجمعة، فإنها ساعة تنزل فيها الرحمة ووقت الإجابة، وليعجّ الناس إلى الله ويسألوه النصر على عدوهم، فلما أتى عمرو الكتاب جمع الناس وقرأه عليهم، ثم دعا أولئك النفر فقدّمهم أمام الناس، وأمر الناس أن يتطهروا ويصلوا ركعتين، ثم يرغبوا إلى الله ويسألوه النصر، ففعلوا ففتح الله عليهم[39]، ويروى أن عمرو بن العاص استشار مسلمة بن مخلد الأنصاري فقال: أشر علي في قتال هؤلاء فقال مسلمة: أرى أن تنظر إلى رجل له معرفة وتجارب من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فتعقد له على الناس، فيكون هو الذي يباشر القتال ويكفيه، فقال عمرو: ومن ذلك؟ قال: عبادة بن الصامت، فدعاه عمرو إليه، فلما دنا منه أراد النزول عن جواده؛ فقال له عمرو: عزمت عليك إن نزلت، ناولني سنان رمحك، فناوله إياه فنزع عمرو عمامته عن رأسه وعقد له وولاه قتال الروم، ففتح الله على يديه الإسكندرية في يومهم ذاك[40]، وقد جاء في رواية: إني فكرت في هذا الأمر فإذا هو لا يصلح آخره إلا من أصلح أوله يريد الأنصار، فدعا عبادة بن الصامت فعقد له ففتح الله على يديه[41]، ويروي ابن عبد الحكم أن حصار الإسكندرية استمر تسعة أشهر وأنها فتحت في مستهل المحرم سنة عشرين للهجرة[42]، وهي ما يوافق 21 ديسمبر سنة 640م بينما انتهى بتلر في دراسته عن فتح مصر إلى أن حصار المدينة قد بدأ في أواخر يونيو سنة 640م وأنها استسلمت في 8 نوفمبر سنة 641م وهو ما يوافق 7 ذي الحجة سنة 21هـ، وقد يرجح هذا القول ما ورد في رسالة عمر الفاروق إلى عمرو بن العاص: إنكم تقاتلونهم منذ سنتين، فما بين وصول عمرو العريش في ديسمبر سنة 639م وتسليم الإسكندرية في نوفمبر 641م ما يعادل سنتين هلاليتين واستبقى عمرو أهل الإسكندرية فلم يقتل ولم يَسْبِ وجعلهم أهل ذمة، كأهل بابليون… ثم ترك في الإسكندرية حامية من قواته بعد أن اطمأن إليها ونشر بقية كتائبه لتفتح بقية حصون الروم وجيوبهم في مصر، فاستكمل فتح ساحل البحر المتوسط ومدنه الكبرى مثل رشيد ودمياط وغيرها: وكذلك بسط سيطرته على كل دلتا مصر وصعيدها[43].

ثالثاً: فتح برقة وطرابلس:

وسار عمرو بعد أن استقر له فتح مصر ليؤمن فتوحه من ناحية الغرب إذ كانت للروم قوات في برقة وطرابلس تتحصن هناك، وربما واتتها الفرصة ساقها الإغراء إلى مهاجمة المسلمين بمصر، فاتجه في قواته إلى برقة سنة 22هـ وكان الطريق بينها وبين الإسكندرية آنذاك منزعاً بالخضرة والعمران، فلم يلق كيداً في طريقه إليها، فلما وصلها صالحه أهلها على أداء الجزية، وكان أهل برقة بعد فتحها يبعثون بخراجهم إلى والي مصر من غير أن يأتيهم حاث أو مستحث فكانوا أخصب قوم بالمغرب ولم يدخلها فتنة، ثم سار عمرو إثر ذلك إلى طرابلس ذات الحصون المنيعة، وبها جيش رومي كبير، فأغلقت أبوابها وصبرت على الحصار الذي استمر شهراً لا يقدر المسلمون منها على شيء وكان البحر من ورائها لاصقاً ببيوت المدينة، ولم يكن بين المدينة والبحر سور، فاستبانت جماعة من قوات المسلمين الأمر، فتسللت إلى المدينة من جهة البحر، وكبروا؛ فلم يكن للروم مفزع إلا سفنهم، إذ هاجمهم عمرو في قواته أيضاً فلم يفلت منهم إلا ما خفت بهم مراكبهم، وغنم المسلمون ما بالمدينة، وبث عمرو قواته فيما حولها وأراد عمرو أن يستكمل فتوحه في الغرب ويسير إلى تونس وأراضي إفريقية ليفتحها، فكتب بذلك إلى عمر بن الخطاب، غير أن الخليفة كان يخشى على جيوش المسلمين من الانسياح في جبهة جديدة ولم يطمئن بعد إلى ما فتحت في زحفها السريع من الشام إلى طرابلس، فأمر القوات الإسلامية بالتوقف عند طرابلس وبذلك امتدت دولة الإسلام في عصر عمر بن الخطاب رضي الله عنه لتشمل مساحة شاسعة من الأرض يحدها من الشرق نهر جيحون والسند ومن الغرب بلاد إفريقية وصحراؤها، ومن الشمال جبال آسيا الصغرى وأراضي أرمينية، ومن الجنوب المحيط الهادي وبلاد النوبة في دولة عالمية واحدة متعددة الأجناس والديانات والنحل والعادات، عاش أهلها في عدل الإسلام ورحمته، ذلك الدين الذي احتفظ لهم بحقهم في الحياة الكريمة وإن اختلفوا معه في عقائدهم؛ ومع أهله في عاداتهم وأعرافهم[44].








 
قديم 05-10-12, 07:16 PM   رقم المشاركة : 25
بيارق النصر
عضو ماسي






بيارق النصر غير متصل

بيارق النصر is on a distinguished road


المبحث الرابع أهم الدروس والعبر والفوائد في فتوحات الفاروق

أولاً: طبيعة الفتح الإسلامي:

حاول بعض المؤرخين من النصارى والمستشرقين تشويه الفتح الإسلامي في العصر الراشدي وزعموا أن الفتوحات كانت حروباً دينية وقالوا: إن المسلمين أصحاب عقيدة، ولكنهم توسلوا بالتعصب الأعمى، وأخضعوا الناس لمبادئهم بالقهر والإرغام، وخاضوا إلى ذلك بحار الدم والقسوة، وأنهم كانوا يحملون القرآن بإحدى يديهم، والسيف باليد الأخرى[1]، وممن ركز منهم على هذه الفكرة، سيديو وميور ونيبور. إذ ينقل ميور عن نيبور قوله: وكان من الضروري لدوام الإسلام أن يستمر في خطته العدوانية وأن ينفذ بحد السيف ما يطالب به من دخول الناس في الإسلام كافة، أو بسط سيطرته العالمية على الأقل، غير أنه لا مناص لأيّ من الأديان أن يجنح أتباعه للحرب في إحدى مراحل حياته، وكذلك كان الحال في الإسلام، ولكن الزعم أن المسلمين هدفوا إلى بث الدعوة بالقوة، أو أنهم كانوا أكثر عدواناً من غيرهم، زعم يجب إنكاره إنكاراً تاماً[2]، وقد ردّ بعض المستشرقين على هذه التهم ووصفوا الفتح الإسلامي بالمثل العالية والأخلاق الكريمة فهذا فون كريمر يقول: وكان العرب المسلمون في حروبهم مثال الخلق الكريم، فحرم عليهم الرسول[3]، قتل الرهبان، والنساء، والأطفال، والمكفوفين، كما حرم عليهم تدمير المزارع، وقطع الأشجار، وقد اتبع المسلمون في حروبهم هذه الأوامر بدقة متناهية، فلم ينتهكوا الحرمات، ولا أفسدوا الزروع، وبينما كان الروم يرمونهم بالسهام المسمومة، فإنهم لم يبادلوا أعداءهم جرماً بجرم، وكان نهب القرى وإشعال النار قد درجت عليها الجيوش الرومانية في تقدمها وتراجعها، أما المسلمون فقد احتفظوا بأخلاقهم المثلى فلم يحاولوا من هذا شيئاً[4]، وقال روزنتال: وقد نمت المدينة الإسلامية بالتوسع لا بالتعمق داعية إلى العقيدة، مناقشة لتلك الحركات الفكرية الموجودة وفوق كل ذلك تقدم الإسلام فتهاوت الحواجز القديمة من اللغة والعادات، وتوفرت فرصة نادرة لجميع الشعوب والمدنيات لتبدأ حياة فكرية جديدة على أساس المساواة المطلقة، وبروح المنافسة الحرة[5].

إن الحقيقة التاريخية تقول بأن المسلمين لم يكرهوا أحداً على اعتناق الإسلام لأنهم قد التزموا بقول الله تعالى: } لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ256 { البقرة،آية:256.

وأما إقبال الشعوب على الإسلام فكان بسبب ما لمسوه في الإسلام نفسه، فهو النعمة العظيمة، ولما لمسوه في المسلمين من التخلق بأخلاق الإسلام والالتزام بأحكامه وأوامره ونواهيه ولما لمسوه في القادة والجند الذين كانوا يقومون بالدعوة بالتطبيق العملي، فتميزت مواقفهم بأنبل المواقف التي عرفها التاريخ العالمي، فقد كان الخلفاء والقادة يوصون جندهم بالاستعانة بالله، والتقوى، وإيثار أمر الآخرة على الدنيا، والإخلاص في الجهاد، وإرادة الله في العمل، والابتعاد عن الذنوب، فكانت فيهم الرغبة الأكيدة الملحة لإنقاذ الأمم والإفراد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ونقلهم من ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، فكان قادة المسلمين على رأس جندهم يتلقون الصدمات الأولى في معارك الجهاد، واستشهد عدد كبير منهم، وقد كان القادة يسيرون خلف جندهم في وقت الأمن والعودة يرفقون بهم ويحملون الكلأ ويعينون الضعيف وكان القادة دعاة في المقام الأول، طبقوا مبادئ الحرب الإسلامي تماماً والحق أن المسلمين كانوا يخوضون جهاداً في سبيل الله، وليس حرباً كما كانت تفعل الدول الأخرى[6].

ثانياً: الطريقة العمرية في اختيار قادة الجيوش:

كانت للفاروق طريقة متميزة في اختيار قادة الفتح، فقد وضع عدة شروط وضوابط لاختيار قادة جنده وهي كالآتي:

1- أن يكون تقياً ورعاً عالماً بأحكام الشريعة:

وكان يقول ويردد: من استعمل فاجراً وهو يعلم أنه فاجر فهو مثله[7]، ولما أرسل إلى سعيد بن عامر ليستعمله على بعض الشام، فأبى عليه، فقال عمر: كلا والذي نفسي بيده لا تجعلونها في عنقي وتجلسون في بيوتكم[8].

2- أن يشتهر القائد بالتأني والتروي:

لما ولَّى عمر رضي الله عنه أبا عبيد الثقفي قال له: إنه لم يمنعني أن أؤمر سليطاً إلا سرعته إلى الحرب، وفي التسرع إلى الحرب ضياع إلا عن بيان والله لولا سرعته لأمرته ولكن الحرب لا يصلحها إلا المكيث[9].

3- أن يكون جريئاً، وشجاعاً ورامياً:

ولما أراد عمر أن يولي قائداً لجيوش المسلمين لفتح نهاوند[10] واستشار الناس فقالوا يا أمير المؤمنين أنت أعلم بأهل العراق وجندك قد وفدوا عليك، ورأيتهم وكلمتهم فقال: أما والله لأولين أمرهم رجلاً ليكوننّ أول الأسنّة[11] إذا لقيها غداً، فقيل من يا أمير المؤمنين؟ قال: النعمان بن مقرن المزنيِّ، فقالوا: هُوَ لها[12].

4- أن يكون ذا دهاء وفطنة وحنكة:

قال عمر رضي الله عنه: ولكم عليّ ألا ألقيكم في المهالك ولا أحجزكم في ثغوركم[13]. ولما نزل عمرو بن العاص وجنده على الروم بموقعة أجنادين لفتحها وكان قائد الروم الأرطبون وهو أدهى الروم، وأبعدها غوراً، وأنكاها فعلاً، ووضع جنداً عظيماً بإيلياء والرملة وكتب عمرو إلى عمر بالخبر، فلما جاءه كتاب عمر قال: رمينا أرطبون الروم بأرطبون العرب فانظروا عمّ تنفرج[14]، ولما أراد عمرو أن يجمع المعلومات عن الأرطبون وجيشه، حتى يضع خطته الحكيمة لمهاجمته، والانتصار عليه دخل بن العاص معسكر قائد الروم وكاد أن يقتل إلا أن الله نجاه وخدع عمرو بن العاص أرطبون الروم ولما وصل الأمر إلى عمر بن الخطاب. قال: غلبه عمرو لله عمرو[15].

5- أن يكون القائد لبقاً حاذقاً له رأي وبصر بالحروب:

يقول صاحب المغني ابن قدامة الحنبلي في كلامه عن أمير الحرب: .. ويكون ممن له رأي وعقل ونجدة وبصر بالحرب ومكايدة للعدو، ويكون فيه أمانة ورفق ونصح للمسلمين[16]. ولذلك اختار الفاروق سعد بن أبي وقاص لقيادة حرب العراق بعد أن استشار الناس.

6- الرغبة في العمل:

كان من خطة عمر رضي الله عنه أن لا يولِّي رجلاً عملاً لا رغبة له فيه ولا قناعة إلا إذا اضطر إلى ذلك ليكون العمل أكثر إتقاناً، فقد ندب الناس مرة وحثهم على قتال الفرس بالعراق، فلم يقم أحد ثم ندبهم في اليوم الثاني فلم يقم أحد، ثم ندبهم في اليوم الثالث وهكذا ثلاثة أيام، فلما كان اليوم الرابع كان أول من انتدب أبو عبيد بن مسعود الثقفي، ثم تتابع الناس، فأمّر على الجميع أبا عبيد – وهو لذلك أهلٌ – ولم يكن صحابياً فقيل لعمر: هلا أمّرت عليهم رجلاً من الصحابة؟ فقال: إنما أومر عليهم من استجاب[17]، وقد تجسدت هذه الصفات في كل من سعد بن أبي وقاص، وأبي عبيدة بن الجراح، وعمرو بن العاص رضي الله عنهم وغيرهم كثير.

ثالثاً: حقوق الله، والقادة والجند من خلال رسائل الفاروق:

· حقوق الله: كان الفاروق رضي الله عنه يرشد قادته وجنوده من خلال رسائله ووصاياه إلى أهمية التزامهم بحقوق الله والتي من أهمها:

1- مصابرة العدو: قال تعالى: } يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ200 { آل عمران،آية:200. وكان مما قاله عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الصبر لسعد بن أبي وقاص حين بعث به إلى العراق: واعلم أن لكل عادة عتاداً، فعتاد الخير الصبر، فالصبر على ما أصابك أو نابك، يجتمع لك خشية الله[18]، كما كتب إلى أبي عبيدة بن الجراح وهو بالشام قائلاً: لقد أثنى الله على قوم بصبرهم. فقال:} وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ146 وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ147 فَآتَاهُمْ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ148 { آل عمران،آية:146،147،148. فأما ثواب الدنيا فالغنيمة والفتح وأما ثواب الآخرة فالمغفرة والجنة واقرأ كتابي هذا على الناس ومرهم فليقاتلوا في سبيل الله وليصبروا كيما يؤتيهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة[19].

2- أن يقصدوا بقتالهم نصرة دين الله: فقد استوعب الفاروق رضي الله عنه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله[20]، فنجد حياته وتوصياته ورسائله يهيمن عليها هذا المعنى العظيم.

3- أداء الأمانة: قال تعالى: } وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ161 { آل عمران،آية:161. فمن وصايا الفاروق رضي الله عنه للقادة والعسكر في عدم الغلول قوله: إذا لقيتم العدو فلا تفروا، وإذا غنمتم فلا تغلوا[21].

4- عدم الممالأة والمحاباة في نصرة دين الله: ومن مشهور قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه في المحاباة والمودة: من استعمل رجلاً لمودة أو قرابة لا يستعمله إلا لذلك فقد خان الله ورسوله، ومن استعمل فاجراً وهو يعلم أنه فاجر فهو مثله[22].

· حقوق القائد: وبين الفاروق في رسائله وتوجيهاته حقوق القائد والتي منها.

1- إلتزام طاعته: فحين بعث الفاروق بأبي عبيد بن مسعود الثقفي على رأس جيش نحو العراق أرسل برفقته سلمة بن أسلم الخزرجي وسليط بن قيس الأنصاري رضي الله عنهما وأمره أن لا يقطع أمراً دونهما وأعلمه أنهما من أهل بدر ثم إن أبا عبيد حارب الفرس بموقعة الجسر وقد أشار عليه سليط أن لا يقطع الجسر
ولا يعبر إليهم فلم يسمع له مما أدى إلى هزيمة عسكر المسلمين فقال سليط في بعض قوله: لولا أني أكره خلاف الطاعة لأنحزت بالناس ولكني أسمع وأطيع وإن كنت قد أخطأت وأشركني عمر معك[23].

2- أن يفوضوا أمرهم إلى رأيه: قال تعالى: } وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأمْنِ أَوْ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمْ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً83 { النساء،آية:83. جعل الله تفويض الرعية الأمر إلى ولي الأمر سبباً لحصول العلم وسداد الرأي، فإن ظهر لهم صواب خفي عليه بينوه له وأشاروا به عليه ولذلك ندب إلى المشاورة ليرجع بها إلى الصواب[24]، وقد جعل عمر رضي الله عنه للعسكر أميراً واحداً يفوضون أمرهم إلى رأيه ويكلونه إلى تدبيره حتى
لا تختلف أراؤهم فتختلف كلمتهم[25] ففي السنة التي بعث فيها الفاروق بجيوش المسلمين إلى نهاوند وأمرهم بالتجمع هنالك كان الجيش يتألف من جند أهل المدينة المنورة من المهاجرين والأنصار وفيهم عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما وجند أهل البصرة بقيادة أبي موسى الأشعري رضي الله عنه وجند أهل الكوفة بقيادة حذيفة بن اليمان رضي الله عنه وبعد تجمعهم كتب إليهم الفاروق رضي الله عنه: إذا التقيتم فأميركم النعمان بن مقرن المزني[26].

3- المسارعة إلى امتثال أمره: وفي خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان أول عمل قام به هو ندب الناس إلى فارس حيث أخذ يدعوهم لمدة ثلاثة أيام ولم يستجب أحد وفي اليوم الرابع كان أول منتدب أبو عبيد بن مسعود الثقفي مما أدى بعمر رضي الله عنه أن يوليه ذلك البعث بالرغم من وجود صحابة رسول الله لأنه سارع إلى تلبية النداء[27]، وعندما وجه الفاروق عتبة بن غزوان إلى البصرة قال ناصحاً إياه ومذكراً له بقوله: اتق الله فيما وليت وإياك أن تنازعك نفسك إلى كبر يفسد عليك إخوتك وقد صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعززت به بعد الذلة، وقويت به بعد ضعف حتى صرت أميراً مسلطاً وملكاً مطاعاً تقول فيسمع منك وتأمر فيطاع أمرك فيا لها من نعمة إن لم ترفعك فوق قدرك وتبطرك عن من دونك[28].

4- عدم منازعته في شيء من قسمة الغنائم: ومما قاله عمر بن الخطاب حول قسمة الغنائم: اللهم إني أشهدك على أمراء الأمصار فإني إنما بعثتهم ليعلموا الناس دينهم وسنة نبيهم ويقسموا فيئهم ويعدلوا عليهم فمن أشكل عليه شيء رفعه إليّ[29]، فمن ذلك في فتح الأبلة[30] عندما تم تقسيم الغنائم بين الجند كان نصيب أحدهم قدراً من نحاس فلما صار بيده تبين أنه من ذهب وعرف ذلك الجند فشكوا إلى أمير الجند[31]، فأشكل ذلك عليه فكتب بدوره إلى عمر رضي الله عنه يخبره بذلك فأتاه الرد بقوله: أصر على يمينه بأنه لم يعلم أنها ذهب إلا بعد أن صارت إليه فإن حلف فأدفعها إليه وإن أبى فأقسمها بين المسلمين فحلف فدفعها إليه[32]، وعندما جمعت الغنائم في معركة جلولاء ذكر جرير بن عبد الله البجلي أن له ربع ذلك كله هو وقومه فكتب سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه بذلك إلى عمر بن الخطاب، فقال عمر: صدق جرير قد قلت له، فإن شاء أن يكون قاتل هو وقومه على جعل المؤلفة قلوبهم فأعطهم جعلهم، وإن كانوا إنما ما قاتلوا إلا لله ولدينه واحتسبوا ما عنده فهم من المسلمين لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، فلما قدم الكتاب على سعد أخبر جريراً بذلك، فقال جرير: صدق أمير المؤمنين وبر لا حاجة لنا إلى الربع بل نحن من المسلمين[33].

حقوق الجند: وقد بين الفاروق في رسائله ووصاياه حقوق الجند والتي منها:

1- إستعراضهم وتفقد أحوالهم: فقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في إدارته أنه قال: إني لأجهز جيشي وأنا في الصلاة فذاك لأن عمر كان مأموراً بالجهاد وهو أمير المؤمنين فهو أمير الجهاد فصار بذلك من بعض الوجوه بمنزلة المصلي الذي يصلي صلاة الخوف حال معاينة العدو[34]، وكان رضي الله عنه عندما يعقد الألوية لقادته وقبل سيرهم للغزو يستعرضهم ويوصيهم فمما كان يقول لهم: ائتزروا وارتدوا وانتعلوا واحتفوا وارموا الأغراض وألفوا الركب وانزوا على الخيل وعليكم بالمعدية – أو قال العربية – ودعوا التنعم وزي العجم ولن تخور قواكم ما نزوتم ونزعتم على ظهور الخيل ونزعتم بالقسي[35]، وهذا يظهر لنا مدى حرص الفاروق رضي الله عنه في الاستعداد وإظهار القوة واحتذى قادته حذوه في صف واستعراض العسكر وإبراز القوة للعدو سواء في المعارك الحربية أو أثناء الاستعداد لها، فكان عمرو بن العاص رضي الله عنه يخطب الجند بمصر في صلاة الجمعة ويحثهم على إسمان دوابهم ويتوعدهم إن لم يفعلوا ذلك بحط الفريضة عنهم يوم العرض فمن قوله: ولا أعلمن ما أتى رجل قد أسمن جسمه وأهزل فرسه واعلموا إني معرض الخيل كاعتراض الرجال فمن أهزل فرسه من غير علة حططت من فريضته قدر ذلك[36]، وعندما لقي معاوية عمر رضي الله عنهما عند قدومه الشام وجد أبهة الملك وزيه من العديد والعدة فاستنكر عليه ذلك وقال له: أكسروية يا معاوية؟ قال: يا أمير المؤمنين أنا في ثغر تجاه العدو وبنا إلى مباهاتهم بزينة الحرب والجهاد حاجة فسكت ولم يخطئه لما اجتمع عليه بمقصد من مقاصد الحق والدين[37].

2- الرفق بالجند في السير: وقد كتب الفاروق إلى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنهما قائلاً: وترفق بالمسلمين في مسيرهم ولا تجشمهم مسيراً يتعبهم ولا تقصر بهم عن منزل يرفق بهم، حتى يبلغوا عدوهم والسفر لم ينقص قوتهم، فإنهم سائرون إلى عدو مقيم حامي الأنفس والكراع، وأقم بمن معك في كل جمعة يوماً وليلة حتى تكون لهم راحة يحيون فيها أنفسهم ويرمون أسلحتهم وأمتعتهم ونح منازلهم عن قرى أهل الصلح[38]..، وحين بعث الخليفة عمر رضي الله عنه بمدد إلى جند الشام حمل ضعيفهم وزودهم وأمر عليهم سعيد بن عامر، وعندما هم بالمسير قال عمر على رسلك حتى أوصيك، ثم سار عمر نحو الجيش راجلاً وقال له: يا سعيد وليتك هذا الجيش ولست بخير رجل فيهم إلا أن تتقي الله، فإذا سرت فأرفق بهم ما استطعت ولا تشتم أعراضهم ولا تحتقر صغيرهم ولا تؤثر قويهم ولا تتبع سواك ولا تسلك بهم المغاور واقطع بهم السهل ولا ترقد بهم على جادة[39] الطريق والله تعالى خليفتي عليك وعلى من معك من المسلمين[40].

3- أن يتصفحهم عند مسيرهم: فقد كان الفاروق يتصفح الجيوش عند مسيرهم ويوصيهم بالأخلاق الرفيعة والقيم العظيمة، فقد أمر سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه بالوفاء مع الأعداء حين طلبهم للأمان وأن لا يغدروا وبين له أن الخطأ في الغدر هلكة ووهن له وقوة للأعداء وحذره أن يكون شيناً على المسلمين وسبباً لتوهينهم[41].

4- عدم التعرض عند اللقاء لمن خالفه منهم لئلا يحصل افتراق الكلمة والفشل:

ومن وصايا عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأمرائه وقادته في هذا الباب قوله: لا يجلدن أمير جيش ولا سرية أحداً الحد حتى يطلع الدرب لئلا تحمله حمية الشيطان أن يلحق بالكفار[42].

وعندما بعث عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالقائد سلمان بن ربيعة الباهلي على رأس جيش كان برفقته عمرو بن معديكرب وطليحة بن خويلد الأسدي وحدثت بين عمرو بن معديكرب وسلمان بن ربيعة أمور بلغت عمر رضي الله عنه فكتب إليه عمر قائلاً: أما بعد: فقد بلغني صنيعك بعمرو وإنك لم تحسن بذلك ولم تجمل فيه فإذا كنت بمثل مكانك في دار الحرب فانظر عمراً وطليحة وقربهما منك واسمع منهما فإن لهما بالحرب علماً وتجربة وإذا وصلت إلى دار السلم فأنزلهما منزلتهما التي أنزلا أنفسهما بها وقرب أهل الفقه والقرآن[43]، وكتب إلى عمرو بن معديكرب: أما بعد فقد بلغني إفحامك لأميرك وشتمك له، وإن لك لسيفاً تسميه الصمصامة وإن لي سيفاً أسميه المصمم وإني أحلف بالله لو قد وضعته على هامتك لا أرفعه حتى أقدك به، فلما جاء الكتاب لعمرو قال: والله إن هم ليفعلن[44]، يتجلى من النصين السابقين فقه الفاروق فيما ينبغي أن يتحلى به القائد في دار الحرب من الإتلاف للقلوب وخاصة وهم بإزاء العدو، وأن على القائد أن يستشير من له خبرة بالحرب وهذا لا يعني انقطاع العلاقة والمودة بينهما حين عودة العسكر إلى دار السلام، وفي فتح الرها[45] على يد عياض بن غنم قدم عليه مدد من الشام بقيادة بسر بن أبي أرطأة العامري وجه به يزيد بن أبي سفيان بأمر من عمر رضي الله عنه وحدث بينهما خلاف وهم في دار الحرب وكان عياض مستغنياً عن المدد فطلب إليه الرجوع إلى الشام فكتب عمر رضي الله عنه إلى عياض طالباً منه أن يوضح له سبب إرجاعهم وخاصة وهم ما قدموا إلا لمساندتك ولإعلام العدو أن الأمداد متواترة إليك فتنكسر قلوبهم ويسارعوا إلى طاعتك، فأجابه عياض قائلاً: خشيت أن يحصل شيء من التمرد وتختلف قلوب العساكر ولما كنت غنياً عن مدده اعتذرت إليه وأمرته بالعودة هذا هو السبب في إعادته[46]، عندها صوبه عمر رضي الله عنه ودعا له وخاصة وهم بإزاء العدو حتى لا تفترق الكلمة ويتناحروا فيما بينهم ويحصل الفشل[47].

5- حراستهم من غرة يظفر بها العدو في مقامهم ومسيرهم:

اهتم الفاروق بأمر الحراسة ولذلك أمر قادته بالحرص والحذر من بيان العدو وأخذهم على غرة وطلب منهم إقامة الحرس في حلهم وترحالهم، فمن ذلك قوله لسعد بن أبي وقاص: أذك حراسك على عسكرك وتيقظ من البيان جهدك
ولا تؤتى بأسير ليس له عقد إلا ضربت عنقه لترهب بذلك عدو الله وعدوك[48]، وكان رضي الله عنه يوصي قادته باتخاذ العيون وبث الطلائع عند بلوغ أرض العدو حتى يكونوا على علم ودراية بحالهم وبنواياهم، فمما كتبه إلى سعد بن أبي وقاص قوله: وإذا وطئت أرض العدو فأذك العيون بينك وبينهم ولا يخفى عليك أمرهم وليكن عندك من العرب أو من أهل الأرض من تثق به وتطمئن إلى نصحه وصدقه فإن الكذوب لا ينفعك خبره وإن صدقك في بعضه والغاش عين عليك ليس عيناً لك، وليكن منك عند دنوّك من أرض العدو أن تكثر الطلائع وتبث السرايا بينك وبينهم فتقطع السرايا أمدادهم ومرافقهم وتتبع الطلائع عوراتهم وانتق للطلائع أهل الرأي والبأس من أصحابك وتخير لهم سوابق الخيل، فإن لقوا عدوا كان أول ما تلقاهم القوة من رأيك[49]. ويتضح لنا من هذه الوصية القيمة أن الخليفة عمر رضي الله عنه لم تقتصر عنايته باتخاذ العيون على الأعداء بل اتخذها أيضاً في الجيوش الإسلامية في الرقابة الإدارية على الولاة والعمال والقادة والجند ليتعرف أحوالهم وسيرتهم ومعاملتهم وسير أعمالهم العسكرية، فقد كانت له عيون في كل جيش ومعسكر ترفع إليه تقريراً عما يدور فيه[50]، وعندما شكا عمير بن سعد الأنصاري إلى الخليفة عمر حين قدم عليه وكان على طائفة من أهل الشام قائلاً: يا أمير المؤمنين إن بيننا وبين الروم مدينة يقال لها عرب سوس[51]، وإنهم لا يخفون على عدونا من عوراتنا شيئاً ولا يظهروننا على عوراتهم، فقال له عمر: فإذا قدمت فخيرهم بين أن تعطيهم مكان كل شاة شاتين ومكان كل بعير بعيرين ومكان كل شيء شيئين فإن رضوا بذلك فأعطهم وخربها فإن أبوا فأنب إليهم وأجلهم سنة ثم خربها[52]. ثم لما قدم عليهم عمير بن سعد عرض عليهم ذلك فأبوا فأجلهم سنة ثم خربها[53].

6- اختيار موضع نزولهم لمحاربة العدو: فقد كان الفاروق يوصي سعد بن أبي وقاص بأن لا يقاتل حتى يتعرف على طبيعة أرض المعركة كلها مداخلها ومخارجها ووفرة الماء والكلأ بها وما يجري مجرى ذلك[54]، كما كتب إليه قبل القادسية بأن يكون أدنى حجر من أرضهم لأنهم أعرف بمسالكها من عدوهم فمتى كانت الهزيمة استطاع التمكن من الانسحاب بالجند فينجوا من القتل فلا يستطيع العدو اللحاق بهم لجبنه من اتباعهم وعدم معرفته بطرقها[55]، وبالإضافة إلى ذلك فقد ولى الفاروق سعد بن أبي وقاص وسلمان الفارسي وحذيفة بن اليمان ريادة الجيش في اختيار موقع وموضع نزوله وإقامته، فقد قام الفاروق بتوزيع المهام الإدارية بين القادة[56]، وكان الفاروق يشترط في إدارته العسكرية على قادته عند اختيارهم لموضع نزولهم وإقامة معسكراتهم الحربية أن لا يفصلهم عن مقر القيادة العسكرية العليا ماء وذلك لما لها من مركزية في التخطيط ولتسهيل الإمداد والتموين[57]، كما كتب عمر رضي الله عنه إلى أبي عبيدة بن الجراح قائلاً: ولا تنزلهم منزلاً قبل أن تستريده لهم وتعلم كيف مأتاه[58].

7- إعداد ما يحتاج إليه الجند من زاد وعلوفه: كان عمر رضي الله عنه يبعث لجند المسلمين بالعراق من المدينة المنورة بالتموين من الغنم والجزور[59]، وحمى النقيع والربذة[60]، للنعم التي يحمل عليها في سبيل الله، كما اتخذ في كل مصر على قدره خيولاً من فضول أموال المسلمين عدة لما يعرض فكان من ذلك بالكوفة أربعة آلاف فرس، وبالبصرة نحوُ منها، وفي كل مصر من الأمصار على قدره[61]، ثم حين قدم عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالشام لمصالحة أهل بيت المقدس أنشأ إدارة لتموين الجيش عرفت باسم الأهراء[62]، وكان عمرو بن عبسة أول موظف عين لإدارة تموين الجيش[63].

8- تحريضهم على القتال: كتب الفاروق إلى أبي عبيدة يحرضه على الجهاد قائلاً: بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله عمر بن الخطاب أمير المؤمنين إلى أمين الأمة أبي عبيدة عامر بن الجراح سلام عليك فإني أحمد الله عز وجل سراً وعلانية وأحذركم من معصية الله عز وجل وأحذركم وأنهاكم أن تكونوا ممن قال الله في حقهم } قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ24 { التوبة،آية:24. وصلى الله على خاتم النبيين وإمام المرسلين والحمد لله رب العالمين[64]، فلما وصل الكتاب إلى أبي عبيدة قرأه على المسلمين فعلموا أن أمير المؤمنين يحرضهم على القتال ولم يبق أحد من المسلمين إلا بكى من كتاب عمر بن الخطاب، كما كتب إلى سعد بن أبي وقاص بالعراق ومن معه من الأجناد يحرضهم على القتال ويمنيهم ويأمرهم الالتزام بالفضائل ويحذرهم من ارتكاب المعاصي[65]، هذا وكان من مهام أمراء الأعشار في إدارة الفاروق رضي الله عنه التحريض في القتال[66].

9- أن يذكرهم بثواب الله وفضل الشهادة: ففي عصر الفاروق قام سعد بن أبي وقاص في القادسية يذكر جنده بثواب الله تعالى وما أعد لهم في الآخرة من النعيم ورغبهم في الجهاد وأعلمهم ما وعد الله نبيه من النصر وإظهار الدين وبين لهم ما سوف يكون بأيديهم من النفل والغنائم والبلاد وأمر القراء أن يقرأوا سورة الجهاد الأنفال [67]، كما قام أبو عبيدة بن الجراح في جند الشام خطيباً ومذكراً إياهم بثواب الله تعالى ونعيمه ومخبراً إياهم أن الجهاد خير لهم من الدنيا وما فيها[68]، كما اشتهر عن عمرو بن العاص قوله لجند فلسطين: من قتل شهيداً ومن عاش كان سعيداً وأمر الجند أن يقرأوا القرآن وحثهم على الصبر ورغبهم في ثواب الله وجنته[69].

10- أن يلزمهم بما أوجبه الله من حقوق: فقد كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى سعد بن أبي وقاص ومن معه من الأجناد يوصيه بقوله: أما بعد فإني آمرك ومن معك من الأجناد بتقوى الله على كل حال فإن تقوى الله أفضل العدة على العدو وأقوى المكيدة في الحرب وآمرك ومن معك أن تكونوا أشد احتراساً من المعاصي من احتراسكم من عدوكم فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم وإنما ينصر المسلمون بمعصية عدوهم لله[70]…

11- أن ينهاهم عن الاشتغال بتجارة وزراعة ونحوها: فقد أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه مناديه أن يخرج إلى أمراء الأجناد في أن يبلغوا العسكر أن عطاءهم قائم وأن رزق عيالهم سائل وأن ينهوهم عن الزراعة حتى إنّه عاقب من لم يمتثل ذلك[71]، كل ذلك حرصاً من الفاروق رضي الله عنه بتفريغ الجند للجهاد ونشر الإسلام ولأن لا يلتصقوا بالأرض حين يزرعوا فيركنوا إلى ذلك ويصبح قلبهم منشغلاً، ولذلك استطاع عمر رضي الله عنه أن يوجد جنداً متفرغاً للقتال جاهزاً لوقت الحاجة والطلب وضمن عدم انتشارهم لجني الثمار والزراعة وما يتبعها من حصاد وحرث وتسويق[72].

رابعاً: اهتمامه بحدود الدولة:

كان عمر رضي الله عنه من خوفه على المسلمين وحدود الدولة الإسلامية لاتساعها وكرهه لقتال الروم يقول إذا ذكر الروم: والله لوددت أن الدرب جمرة بيننا وبينهم لنا ما دونه وللروم ما وراءه[73]. وقال الشيء نفسه حول حدود الدولة الإسلامية نحو الفرس: لوددت أن بين السواد وبين الجبل سداً لا يخلصون إلينا ولا نخلص إليهم، حسبنا من الريف السواد، وإني أوثر سلامة المسلمين على الأنفال[74]، فأمر بإقامة قواعد عسكرية إسلامية لها عدة وظائف ومهام والتي سبق وأشرنا إلى بعض منها بالإضافة إلى كونها مراكز حربية في مواقع استراتيجية متقدمة على الحدود بينها وبين البلاد المفتوحة لترد أي عدوان خارجي وكمراكز تجمع للجند ولنشر الإسلام وكان في طليعتها مدينتا البصرة والكوفة في مجاورة الدولة الفارسية والفسطاط بمصر[75]، وثغور أخرى بسواحلها وسواحل الشام لرد هجمات الروم من البحر، وجند أربعة أجناد فيما بعد فيقال جند حمص وجند دمشق وجند الأردن وجند فلسطين حيث كانت لاختصاصهم حتى عرفوا بها وصارت لهم علامة زائدة على النسب يتميزون بها عند أمرائهم لتسهيل عملية إدارتهم في المهمات العسكرية ولرعاية شؤونهم والتي كان منها العطاء[76]، هذا إلى جانب المعسكرات والتحصينات التي بالثغور والتي سبق إجلاء العدو عنها واستولى عليها المسلمون واتخذوها قواعد عسكرية لهم وأسكنوا بها جندهم لحماية حدود الدولة الإسلامية[77]، ثم صار المسلمون كلما تقدموا في الفتح أقاموا في نهاية توسعهم ثغراً يحرس الحدود يشحن بالجند المرابطين ويتولى أمره قائد من أكفأ القواد[78]، ومن أهم تلك الإجراءات التي اتخذها الفاروق رضي الله عنه بإقليم العراق والمشرق المسالح التي أقيمت بين المسلمين والفرس فحينما بلغ اجتماع الفرس على يزدجرد للقائد المثنى بن حارثة والمسلمين كتبوا إلى الخليفة عمر بذلك فجاءهم الرد بقوله: أما بعد فأخرجوا من بين ظهراني الأعاجم وتفرقوا في المياه التي تلي الأعاجم على حدود أرضكم وأرضهم.. فنفذ المثنى الأمر[79]، كما أوصى الخليفة عمر رضي الله عنه سعداً قبل القادسية بقوله: وإذا انتهيت إلى القادسية فتكون مسالحك على أنقابها[80]. وفي جلولاء كتب عمر رضي الله عنه إلى سعد: إن هزم الله الجندين، جند مهران وجند الأنطاق فقدم القعقاع بن عمرو بثغر حلوان بجنود المسلمين لحماية المنطقة والحفاظ عليها من تقدم الأعداء وحتى يكون ردءاً لإخوانه من جند المسلمين الغازي منهم والمقيم[81]، لذا كان القائد سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه بالعراق يطلب من الجند ويحثهم على التقدم نحو الفرس مخبراً إياهم أن الثغور والفروج قد سدت بقوله: ليس وراءكم شيء تخافون أن تؤتوا منه كفاكموهم أهل الأيام وعطلوا ثغورهم وأفنوا ذاتهم[82]، والملاحظ أن هذه المسالح في عهد الفاروق لا تنشأ إلا بأمر من القيادة العليا المركزية للإدارة العسكرية وذلك في قول الخليفة عمر لقادة المسالح: اشغلوا فارس عن إخوانكم وحوطوا بذلك أمتكم وأرضكم وأقيموا على حدود ما بين فارس والأهواز حتى يأتيكم أمري[83]، وقد بلغت ثغور الكوفة وحدها في عهد الفاروق أربعة ثغور هي: ثغور حلوان وعليه القعقاع بن عمرو التميمي، وثغر ماسبذان وعليه ضرار بن الخطاب الفهري، وثغر قرقيسيا[84] وعليه عمر بن مالك الزهري، وثغر الموصل وعليه عبد الله بن المعتم العبسي وكان لكل قائد من هؤلاء من ينوب عنه في ثغره لإدارته إذا توجه لمهمة ما، ومن الجدير بالذكر أن جند المسلمين لا يبنون الثغور حصناً ولا يمصرون مدينة إلا وأقاموا المسجد في المقدمة لما له من دور دعوي وتربوي وجهادي كما هو معروف[85]، وأما فيما يتعلق بحماية الحدود بين الروم والمسلمين في الجبهة الشامية في عهد عمر رضي الله عنه، فقد بدأت عنايته بها أيضاً منذ الفتح الإسلامي لبلاد الشام حيث اتخذ لذلك إجراءات دفاعية كثيرة ومتعددة لحماية المنطقة، منها بناء المناظر وإقامة الحرس واتخاذ المسالح به وتحصين المدن الساحلية إلى جانب الرباطات الدائمة بالإضافة إلى الحصون المفتوحة وترتيب المقاتلة فيها أي الجند الغازي وسياسة التهجير أو النواقل وجمعه الساحل الشامي كله تحت إدارة عسكرية موحدة ففي السنة التي سار فيها عمر بنفسه إلى بلاد الشام لتوقيع الصلح مع أهل بيت المقدس تفقد بعض الثغور الشامية ووضع بها الحاميات والمسالح ورتب بها أمراء الأخبار والقادة وسد فروجها ومسالحها وأخذ يدور بها ليرى احتياجاتها الدفاعية[86]، ثم رجع إلى المدينة وخطب الناس قبل رجوعه قائلاً: ألا قد وليت عليكم وقضيت الذي علي في الذي ولاني الله من أمركم إن شاء الله قسطنا بينكم فيئكم ومنازلكم ومغازيكم وأبلغنا ما لديكم فجندنا لكم الجنود وهيأنا لكم الفروج وبوأنا لكم ووسعنا عليكم
ما بلغ فيئكم وما قاتلتم عليه من شامكم وسمينا لكم أطماعكم وأمرنا لكم بأعطياتكم وأرزاقكم ومغانكم فمن علم علم شيء يينبغي العمل به فبلغنا نعمل به إن شاء الله ولا قوة إلا بالله[87]، وعندما فتح أبو عبيدة بن الجراح ثغر انطاكية بالحدود الشامية الشمالية كتب إليه الخليفة عمر رضي الله عنه قائلاً: أن رتب بإنطاكية جماعة من المسلمين أهل نيات وحسبة وأجعلهم بها مرابطة ولا تحبس عنهم العطاء[88]، فنقل أبو عبيدة قوماً من أهل حمص وبعلبك مرابطة بها لحماية حدود المنطقة من أي عدوان خارجي وعين على الثغر حبيب بن مسلمة الفهري الذي اتخذ من ثغر إنطاكية قاعدة لانطلاقه لغزو ما خلف الحدود الإسلامية فمنها كان يأتي المدد للخطوط الأمامية في الجبهة الرومية وكان منها غزوة للجرجومة[89] التي صالح أهلها على أن يكونوا أعواناً للمسلمين وعيوناً ومسالح في جبل اللكام ضد الروم[90]، وكذلك عندما سار أبو عبيدة إلى ثغر بالس[91] رتب به جماعة من المقاتلين وأسكنه قوماً من عرب الشام الذين أسلموا بعد قدوم المسلمين لحفظ الثغر وضبطه من هجمات الروم[92]، ومن التحصينات والوسائل الدفاعية التي اتخذها الوالي معاوية بن أبي سفيان لحماية الحدود الإسلامية لسواحل الشام في نهاية عهد عمر بن الخطاب بداية الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنهما هو قيامه ببناء عدة حصون مثل أطرسوس[93]، ومرقية[94]، وبلنياس[95]، وبيت سليمة، بالإضافة إلى قيامه بتطوير الحصون التي استولى عليها الجند المسلمين بسواحل الشام وشحنها جميعاً بالجند المقاتلة وأقطعهم القطائع بها وبنى المناظير ووضع بها الحرس لمراقبة اقتراب العدو فتقوم كل منظرة بإشعال النار لإخبار الأخرى التي تليها إلى أن يصل الخبر إلى المدينة والثغر والمسلحة في زمن قليل فيسرعون نحو الجبهة التي أقبل منها العدو للتصدي له ومنعه من التسلل[96]، وفيما يتعلق بحماية الحدود بين المسلمين والروم في الجبهة المصرية لإدارة عمر رضي الله عنه، فقد شملتها الرعاية والعناية كمثيلاتها من الجبهات الأخرى فقد أمر عمرو بن العاص ببناء الفسطاط كقاعدة عسكرية أولى لإيواء جند المسلمين بالمنطقة وجعل لكل قبيلة محرساً وعريفاً فمنها كان المنطلق في الفتوحات الإسلامية لشمال أفريقيا بالإضافة إلى كونها إحدى الحاميات الدفاعية المهمة للثغر المصري إلى ما هنالك من مهام تضطلع بها واشترط عمر رضي الله عنه في موقعها، كما اشترط في مواقع القواعد السابقة بأن لا يفصل بينها وبين القيادة العليا المركزية بالمدينة ماء حتى يكون الاتصال بينهما مستمراً وميسرا[97] وكان عمرو بن العاص يذكر جنوده بأن مقامهم بمصر عبارة عن رباط وذلك في قوله: اعلموا أنكم في رباط إلى يوم القيامة لكثرة الأعداء حولكم وتشوق قلوبهم إليكم وإلى داركم معدن الزرع والمال والخير الواسع والبركة النامية، وفي الفترة التي استولى فيها جند المسلمين على الحصون والمسالح التي بالثغر المصري قاموا بتجديدها وترميمها والاستفادة منها في مرابطتهم حيث شحنوها بالجنود وكان العريش أول مسالح مصر وأعمالها[98]، وقد أمر الفاروق بإقامة المسالح على سواحل مصر كلها[99]، وحينما فتح عمرو بن العاص ثغر الإسكندرية جعل به ألف رجل من أصحابه مسلحة به لحفظه وحمايته وكان عددهم لا يفي بالغرض المطلوب مما جعل الروم يعودون إليهم من البحر فقتلوا من قتلوا من أصحاب المسلحة وهرب من هرب فرجع إليهم عمرو بن العاص مرة أخرى وفتح الثغر وجعل من أصحابه لرباط الإسكندرية ربع الجيش كما جعل في السواحل الربع الآخر وأبقى معه بالفسطاط النصف الآخر[100]، وكان الفاروق يبعث في كل سنة غازية من أهل المدينة المنورة ترابط بثغر الإسكندرية ويكاتب الولاة بأن لا تغفل عنها وأن تكثف رابطتها، إضافة إلى من جعل بها عمرو بن العاص من المرابطين[101]، وبذلك استكمل عمر رضي الله عنه فقهه البعيد في حماية الحدود البرية وتحصينها في الجبهات الثلاث العراقية والشامية والمصرية[102]، ولم يقتصر الأمر على هذه الوسائل الدفاعية لحماية الحدود الإسلامية بل أنشأ عمر رضي الله عنه نظام الصوائف والشواتي وهي الحملات التي كانت تخرج بانتظام سنوياً كالدوريات المنظمة في فصل الصيف وفي فصل الشتاء[103]، ولم تقتصر حملات الشواتي والصوائف على ثغور بلاد الشام بل شملت كافة حدود الدولة الإسلامية حينئذ وكان يتولاها كبار القادة أمثال أبي عبيدة بن الجراح، ومعاوية بن أبي سفيان والنعمان بن مقرن وغيرهم كثير[104]، وكان الفاروق يزيد في الأرزاق والأعطيات للجنود الذين يبعثون إلى الثغور للمرابطة بها حتى تعينهم على تحمل بعدهم ويقطعهم القطائع بها[105]، ونرى قادة الفاروق رضي الله عنه في إدارتهم العسكرية للمعارك يقسمون لأهل المسالح من الفيء مثل الذي يقسم لهم لأنهم كانوا ردءاً للمسلمين لئلا يؤتوا من وجه من الوجوه[106]، وحين حضرت الخليفة عمر رضي الله عنه الوفاة قال موصياً الخليفة من بعده: وأوصي الخليفة من بعدي بأهل الأمصار خيراً فإنهم ردء الإسلام وجباة المال وغيظ العدو، وأن لا يأخذ منهم إلا فضلهم عن رضاهم[107].

خامساً: علاقة عمر مع الملوك:

كانت علاقة الفاروق مع ملك الفرس حربية فقد توفي وجيوشه تطارد يزدجرد في بلاده وتدوخ ملكه وأما علاقته مع ملك الروم فقد استقر الصلح بين الدولتين منذ أتم عمر رضي الله عنه فتح الشام والجزيرة وجرت بينه وبين ملك الروم المكاتبات، وذكر مؤرخو العرب أن هذه المكاتبات كانت مع هرقل ولكن لم يذكروا هل كانت مع هرقل الأول الذي انتزع منه عمر بلاد الشام أم مع ابنه هرقل الثاني المعروف بهرقل قسطنطين لأن هرقل الأول توفي سنة 641م الموافقة سنة 21هـ وتولى الملك ابنه المذكور في هذه السنة أي قبل وفاة عمر رضي الله عنه بسنتين وسواء كانت المكاتبة والمراسلة مع هرقل الأول أو الثاني، فقد كانت الرسل تتردد بينهما بالمكاتبة وأن
أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب رضي الله عنه وزوج عمر بن الخطاب أرسلت مرة مع رسول جاء المدينة من قبل ملك الروم هدية من الطاف المدينة إلى إمبراطورة الروم امرأة هرقل وأرسلت لها هذه في نظيرها عقداً نفيساً من الجواهر، فأخذه منها عمر ورده إلى بيت المال وقد جاء في كتب التاريخ أن أم كلثوم أرسلت تلك الهدية مع بريد عمر[108].

سادساً: من نتائج الفتوحات العمرية:

1- إزالة الدولة الفارسية الساسانية من الوجود وفي الجانب المقابل حجمت الدولة الرومية البيزنطية ومن ثم انتهى ذلك الصراع الجاهلي الذي كان ناشباً بين الفرس والروم والذي جرّ شعوب المنطقة إلى حروب دامية أنهكت الدولتين معاً، لا لشيء إلا للمحافظة على مصلحة الزعامات في كلتا الدولتين.

2- وجود قيادة عالمية واحدة للمنطقة التي تقع في وسط الكرة الأرضية كلها الممتدة من حدود الصين شرقاً إلى المغرب غرباً، ومن بحر العرب جنوباً حتى آسيا الصغرى شمالاً، قيادة جديدة بمؤهلات لم تعهدها البشرية، فهي محكومة مثلها مثل بقية أبناء شعوب المنطقة بقيم ومثل ونظام.

3- هيمنة المنهج الرباني على جميع الناس، دون ضغط عليهم في تغيير معتقداتهم وديانتهم، ودون تفريق بين الأسود والأحمر والأبيض والأصفر، بل الناس كلهم أمام شرع الله سواء، ولا تفاضل بينهم إلا بالتقوى، ولمس الناس ثمار تطبيق شرع الله في حياتهم من الأمن والتمكين، والبركات، والسعة في الأرزاق وغيرها.

4- ظهر في دنيا الناس أمة الإسلام التي جمعت بين أفرادها عقيدة التوحيد، وشريعة المولى عز وجل وترفعت عن آصرة الأعراق والأنساب والاعتبارات الأرضية الأخرى، وبرز في هذه الأمة قيادات من كل الأجناس العرقية، فكان لها المكانة العالية في وسط هذه الأمة، ولم يوجد ما يشينها أو يغير من مكانتها في الأمة، ولهذا كانوا يقولون لمن يقاتلونهم: فإن أجبتم إلى ديننا خلّفنا فيكم كتاب الله وأقمناكم عليه، على أن تحكموا بأحكامه، ونرجع عنكم وشأنكم بلادكم[109].

5- برزت حضارة ربانية متكاملة، ومتوازنة ومتناسقة ضمت بين أرجائها تفاعلات الأمم والشعوب المندرجة تحت شرع الله تعالى وقبلت في عضويتها العالم بأسره، أسوده وأصفره وأبيضه وفق المنهج الرباني، وأحكامه وأصبح الفاروق نموذجاً في قيادته الحضارية للبشرية في زمانه يعطينا صورة مشرقة للإنسان القوي المؤمن العالم، الذي يسخر كل إمكانات دولته وجنوده وأتباعه وعلومه ووسائله وأسبابه لتعزيز شرع الله وتمكين دينه وخدمة الإنسانية، وإعلاء كلمة الله، وإخراج الناس من الظلمات إلى النور، ومن عبادة الناس والمادة إلى عبادة الله، ونفذ قول الله تعالى: } الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ
الأمُورِ41 { الحج،آية:41.

لقد أنتجت الفتوحات الإسلامية حضارة إنسانية رفيعة في ظل دين الإسلام، وبذلك نستطيع أن نعرف الحضارة الربانية بأنها: تفاعل الأنشطة الإنسانية للجماعة الواحدة لخلافة الله في الأرض عبر الزمن، وضمن المفاهيم الإسلامية عن الحياة والكون والإنسان[110].









 
قديم 05-10-12, 07:18 PM   رقم المشاركة : 26
بيارق النصر
عضو ماسي






بيارق النصر غير متصل

بيارق النصر is on a distinguished road


المبحث الرابع أهم الدروس والعبر والفوائد في فتوحات الفاروق

أولاً: طبيعة الفتح الإسلامي:

حاول بعض المؤرخين من النصارى والمستشرقين تشويه الفتح الإسلامي في العصر الراشدي وزعموا أن الفتوحات كانت حروباً دينية وقالوا: إن المسلمين أصحاب عقيدة، ولكنهم توسلوا بالتعصب الأعمى، وأخضعوا الناس لمبادئهم بالقهر والإرغام، وخاضوا إلى ذلك بحار الدم والقسوة، وأنهم كانوا يحملون القرآن بإحدى يديهم، والسيف باليد الأخرى[1]، وممن ركز منهم على هذه الفكرة، سيديو وميور ونيبور. إذ ينقل ميور عن نيبور قوله: وكان من الضروري لدوام الإسلام أن يستمر في خطته العدوانية وأن ينفذ بحد السيف ما يطالب به من دخول الناس في الإسلام كافة، أو بسط سيطرته العالمية على الأقل، غير أنه لا مناص لأيّ من الأديان أن يجنح أتباعه للحرب في إحدى مراحل حياته، وكذلك كان الحال في الإسلام، ولكن الزعم أن المسلمين هدفوا إلى بث الدعوة بالقوة، أو أنهم كانوا أكثر عدواناً من غيرهم، زعم يجب إنكاره إنكاراً تاماً[2]، وقد ردّ بعض المستشرقين على هذه التهم ووصفوا الفتح الإسلامي بالمثل العالية والأخلاق الكريمة فهذا فون كريمر يقول: وكان العرب المسلمون في حروبهم مثال الخلق الكريم، فحرم عليهم الرسول[3]، قتل الرهبان، والنساء، والأطفال، والمكفوفين، كما حرم عليهم تدمير المزارع، وقطع الأشجار، وقد اتبع المسلمون في حروبهم هذه الأوامر بدقة متناهية، فلم ينتهكوا الحرمات، ولا أفسدوا الزروع، وبينما كان الروم يرمونهم بالسهام المسمومة، فإنهم لم يبادلوا أعداءهم جرماً بجرم، وكان نهب القرى وإشعال النار قد درجت عليها الجيوش الرومانية في تقدمها وتراجعها، أما المسلمون فقد احتفظوا بأخلاقهم المثلى فلم يحاولوا من هذا شيئاً[4]، وقال روزنتال: وقد نمت المدينة الإسلامية بالتوسع لا بالتعمق داعية إلى العقيدة، مناقشة لتلك الحركات الفكرية الموجودة وفوق كل ذلك تقدم الإسلام فتهاوت الحواجز القديمة من اللغة والعادات، وتوفرت فرصة نادرة لجميع الشعوب والمدنيات لتبدأ حياة فكرية جديدة على أساس المساواة المطلقة، وبروح المنافسة الحرة[5].

إن الحقيقة التاريخية تقول بأن المسلمين لم يكرهوا أحداً على اعتناق الإسلام لأنهم قد التزموا بقول الله تعالى: } لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ256 { البقرة،آية:256.

وأما إقبال الشعوب على الإسلام فكان بسبب ما لمسوه في الإسلام نفسه، فهو النعمة العظيمة، ولما لمسوه في المسلمين من التخلق بأخلاق الإسلام والالتزام بأحكامه وأوامره ونواهيه ولما لمسوه في القادة والجند الذين كانوا يقومون بالدعوة بالتطبيق العملي، فتميزت مواقفهم بأنبل المواقف التي عرفها التاريخ العالمي، فقد كان الخلفاء والقادة يوصون جندهم بالاستعانة بالله، والتقوى، وإيثار أمر الآخرة على الدنيا، والإخلاص في الجهاد، وإرادة الله في العمل، والابتعاد عن الذنوب، فكانت فيهم الرغبة الأكيدة الملحة لإنقاذ الأمم والإفراد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ونقلهم من ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، فكان قادة المسلمين على رأس جندهم يتلقون الصدمات الأولى في معارك الجهاد، واستشهد عدد كبير منهم، وقد كان القادة يسيرون خلف جندهم في وقت الأمن والعودة يرفقون بهم ويحملون الكلأ ويعينون الضعيف وكان القادة دعاة في المقام الأول، طبقوا مبادئ الحرب الإسلامي تماماً والحق أن المسلمين كانوا يخوضون جهاداً في سبيل الله، وليس حرباً كما كانت تفعل الدول الأخرى[6].

ثانياً: الطريقة العمرية في اختيار قادة الجيوش:

كانت للفاروق طريقة متميزة في اختيار قادة الفتح، فقد وضع عدة شروط وضوابط لاختيار قادة جنده وهي كالآتي:

1- أن يكون تقياً ورعاً عالماً بأحكام الشريعة:

وكان يقول ويردد: من استعمل فاجراً وهو يعلم أنه فاجر فهو مثله[7]، ولما أرسل إلى سعيد بن عامر ليستعمله على بعض الشام، فأبى عليه، فقال عمر: كلا والذي نفسي بيده لا تجعلونها في عنقي وتجلسون في بيوتكم[8].

2- أن يشتهر القائد بالتأني والتروي:

لما ولَّى عمر رضي الله عنه أبا عبيد الثقفي قال له: إنه لم يمنعني أن أؤمر سليطاً إلا سرعته إلى الحرب، وفي التسرع إلى الحرب ضياع إلا عن بيان والله لولا سرعته لأمرته ولكن الحرب لا يصلحها إلا المكيث[9].

3- أن يكون جريئاً، وشجاعاً ورامياً:

ولما أراد عمر أن يولي قائداً لجيوش المسلمين لفتح نهاوند[10] واستشار الناس فقالوا يا أمير المؤمنين أنت أعلم بأهل العراق وجندك قد وفدوا عليك، ورأيتهم وكلمتهم فقال: أما والله لأولين أمرهم رجلاً ليكوننّ أول الأسنّة[11] إذا لقيها غداً، فقيل من يا أمير المؤمنين؟ قال: النعمان بن مقرن المزنيِّ، فقالوا: هُوَ لها[12].

4- أن يكون ذا دهاء وفطنة وحنكة:

قال عمر رضي الله عنه: ولكم عليّ ألا ألقيكم في المهالك ولا أحجزكم في ثغوركم[13]. ولما نزل عمرو بن العاص وجنده على الروم بموقعة أجنادين لفتحها وكان قائد الروم الأرطبون وهو أدهى الروم، وأبعدها غوراً، وأنكاها فعلاً، ووضع جنداً عظيماً بإيلياء والرملة وكتب عمرو إلى عمر بالخبر، فلما جاءه كتاب عمر قال: رمينا أرطبون الروم بأرطبون العرب فانظروا عمّ تنفرج[14]، ولما أراد عمرو أن يجمع المعلومات عن الأرطبون وجيشه، حتى يضع خطته الحكيمة لمهاجمته، والانتصار عليه دخل بن العاص معسكر قائد الروم وكاد أن يقتل إلا أن الله نجاه وخدع عمرو بن العاص أرطبون الروم ولما وصل الأمر إلى عمر بن الخطاب. قال: غلبه عمرو لله عمرو[15].

5- أن يكون القائد لبقاً حاذقاً له رأي وبصر بالحروب:

يقول صاحب المغني ابن قدامة الحنبلي في كلامه عن أمير الحرب: .. ويكون ممن له رأي وعقل ونجدة وبصر بالحرب ومكايدة للعدو، ويكون فيه أمانة ورفق ونصح للمسلمين[16]. ولذلك اختار الفاروق سعد بن أبي وقاص لقيادة حرب العراق بعد أن استشار الناس.

6- الرغبة في العمل:

كان من خطة عمر رضي الله عنه أن لا يولِّي رجلاً عملاً لا رغبة له فيه ولا قناعة إلا إذا اضطر إلى ذلك ليكون العمل أكثر إتقاناً، فقد ندب الناس مرة وحثهم على قتال الفرس بالعراق، فلم يقم أحد ثم ندبهم في اليوم الثاني فلم يقم أحد، ثم ندبهم في اليوم الثالث وهكذا ثلاثة أيام، فلما كان اليوم الرابع كان أول من انتدب أبو عبيد بن مسعود الثقفي، ثم تتابع الناس، فأمّر على الجميع أبا عبيد – وهو لذلك أهلٌ – ولم يكن صحابياً فقيل لعمر: هلا أمّرت عليهم رجلاً من الصحابة؟ فقال: إنما أومر عليهم من استجاب[17]، وقد تجسدت هذه الصفات في كل من سعد بن أبي وقاص، وأبي عبيدة بن الجراح، وعمرو بن العاص رضي الله عنهم وغيرهم كثير.

ثالثاً: حقوق الله، والقادة والجند من خلال رسائل الفاروق:

· حقوق الله: كان الفاروق رضي الله عنه يرشد قادته وجنوده من خلال رسائله ووصاياه إلى أهمية التزامهم بحقوق الله والتي من أهمها:

1- مصابرة العدو: قال تعالى: } يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ200 { آل عمران،آية:200. وكان مما قاله عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الصبر لسعد بن أبي وقاص حين بعث به إلى العراق: واعلم أن لكل عادة عتاداً، فعتاد الخير الصبر، فالصبر على ما أصابك أو نابك، يجتمع لك خشية الله[18]، كما كتب إلى أبي عبيدة بن الجراح وهو بالشام قائلاً: لقد أثنى الله على قوم بصبرهم. فقال:} وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ146 وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ147 فَآتَاهُمْ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ148 { آل عمران،آية:146،147،148. فأما ثواب الدنيا فالغنيمة والفتح وأما ثواب الآخرة فالمغفرة والجنة واقرأ كتابي هذا على الناس ومرهم فليقاتلوا في سبيل الله وليصبروا كيما يؤتيهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة[19].

2- أن يقصدوا بقتالهم نصرة دين الله: فقد استوعب الفاروق رضي الله عنه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله[20]، فنجد حياته وتوصياته ورسائله يهيمن عليها هذا المعنى العظيم.

3- أداء الأمانة: قال تعالى: } وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ161 { آل عمران،آية:161. فمن وصايا الفاروق رضي الله عنه للقادة والعسكر في عدم الغلول قوله: إذا لقيتم العدو فلا تفروا، وإذا غنمتم فلا تغلوا[21].

4- عدم الممالأة والمحاباة في نصرة دين الله: ومن مشهور قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه في المحاباة والمودة: من استعمل رجلاً لمودة أو قرابة لا يستعمله إلا لذلك فقد خان الله ورسوله، ومن استعمل فاجراً وهو يعلم أنه فاجر فهو مثله[22].

· حقوق القائد: وبين الفاروق في رسائله وتوجيهاته حقوق القائد والتي منها.

1- إلتزام طاعته: فحين بعث الفاروق بأبي عبيد بن مسعود الثقفي على رأس جيش نحو العراق أرسل برفقته سلمة بن أسلم الخزرجي وسليط بن قيس الأنصاري رضي الله عنهما وأمره أن لا يقطع أمراً دونهما وأعلمه أنهما من أهل بدر ثم إن أبا عبيد حارب الفرس بموقعة الجسر وقد أشار عليه سليط أن لا يقطع الجسر
ولا يعبر إليهم فلم يسمع له مما أدى إلى هزيمة عسكر المسلمين فقال سليط في بعض قوله: لولا أني أكره خلاف الطاعة لأنحزت بالناس ولكني أسمع وأطيع وإن كنت قد أخطأت وأشركني عمر معك[23].

2- أن يفوضوا أمرهم إلى رأيه: قال تعالى: } وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأمْنِ أَوْ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمْ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً83 { النساء،آية:83. جعل الله تفويض الرعية الأمر إلى ولي الأمر سبباً لحصول العلم وسداد الرأي، فإن ظهر لهم صواب خفي عليه بينوه له وأشاروا به عليه ولذلك ندب إلى المشاورة ليرجع بها إلى الصواب[24]، وقد جعل عمر رضي الله عنه للعسكر أميراً واحداً يفوضون أمرهم إلى رأيه ويكلونه إلى تدبيره حتى
لا تختلف أراؤهم فتختلف كلمتهم[25] ففي السنة التي بعث فيها الفاروق بجيوش المسلمين إلى نهاوند وأمرهم بالتجمع هنالك كان الجيش يتألف من جند أهل المدينة المنورة من المهاجرين والأنصار وفيهم عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما وجند أهل البصرة بقيادة أبي موسى الأشعري رضي الله عنه وجند أهل الكوفة بقيادة حذيفة بن اليمان رضي الله عنه وبعد تجمعهم كتب إليهم الفاروق رضي الله عنه: إذا التقيتم فأميركم النعمان بن مقرن المزني[26].

3- المسارعة إلى امتثال أمره: وفي خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان أول عمل قام به هو ندب الناس إلى فارس حيث أخذ يدعوهم لمدة ثلاثة أيام ولم يستجب أحد وفي اليوم الرابع كان أول منتدب أبو عبيد بن مسعود الثقفي مما أدى بعمر رضي الله عنه أن يوليه ذلك البعث بالرغم من وجود صحابة رسول الله لأنه سارع إلى تلبية النداء[27]، وعندما وجه الفاروق عتبة بن غزوان إلى البصرة قال ناصحاً إياه ومذكراً له بقوله: اتق الله فيما وليت وإياك أن تنازعك نفسك إلى كبر يفسد عليك إخوتك وقد صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعززت به بعد الذلة، وقويت به بعد ضعف حتى صرت أميراً مسلطاً وملكاً مطاعاً تقول فيسمع منك وتأمر فيطاع أمرك فيا لها من نعمة إن لم ترفعك فوق قدرك وتبطرك عن من دونك[28].

4- عدم منازعته في شيء من قسمة الغنائم: ومما قاله عمر بن الخطاب حول قسمة الغنائم: اللهم إني أشهدك على أمراء الأمصار فإني إنما بعثتهم ليعلموا الناس دينهم وسنة نبيهم ويقسموا فيئهم ويعدلوا عليهم فمن أشكل عليه شيء رفعه إليّ[29]، فمن ذلك في فتح الأبلة[30] عندما تم تقسيم الغنائم بين الجند كان نصيب أحدهم قدراً من نحاس فلما صار بيده تبين أنه من ذهب وعرف ذلك الجند فشكوا إلى أمير الجند[31]، فأشكل ذلك عليه فكتب بدوره إلى عمر رضي الله عنه يخبره بذلك فأتاه الرد بقوله: أصر على يمينه بأنه لم يعلم أنها ذهب إلا بعد أن صارت إليه فإن حلف فأدفعها إليه وإن أبى فأقسمها بين المسلمين فحلف فدفعها إليه[32]، وعندما جمعت الغنائم في معركة جلولاء ذكر جرير بن عبد الله البجلي أن له ربع ذلك كله هو وقومه فكتب سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه بذلك إلى عمر بن الخطاب، فقال عمر: صدق جرير قد قلت له، فإن شاء أن يكون قاتل هو وقومه على جعل المؤلفة قلوبهم فأعطهم جعلهم، وإن كانوا إنما ما قاتلوا إلا لله ولدينه واحتسبوا ما عنده فهم من المسلمين لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، فلما قدم الكتاب على سعد أخبر جريراً بذلك، فقال جرير: صدق أمير المؤمنين وبر لا حاجة لنا إلى الربع بل نحن من المسلمين[33].

حقوق الجند: وقد بين الفاروق في رسائله ووصاياه حقوق الجند والتي منها:

1- إستعراضهم وتفقد أحوالهم: فقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في إدارته أنه قال: إني لأجهز جيشي وأنا في الصلاة فذاك لأن عمر كان مأموراً بالجهاد وهو أمير المؤمنين فهو أمير الجهاد فصار بذلك من بعض الوجوه بمنزلة المصلي الذي يصلي صلاة الخوف حال معاينة العدو[34]، وكان رضي الله عنه عندما يعقد الألوية لقادته وقبل سيرهم للغزو يستعرضهم ويوصيهم فمما كان يقول لهم: ائتزروا وارتدوا وانتعلوا واحتفوا وارموا الأغراض وألفوا الركب وانزوا على الخيل وعليكم بالمعدية – أو قال العربية – ودعوا التنعم وزي العجم ولن تخور قواكم ما نزوتم ونزعتم على ظهور الخيل ونزعتم بالقسي[35]، وهذا يظهر لنا مدى حرص الفاروق رضي الله عنه في الاستعداد وإظهار القوة واحتذى قادته حذوه في صف واستعراض العسكر وإبراز القوة للعدو سواء في المعارك الحربية أو أثناء الاستعداد لها، فكان عمرو بن العاص رضي الله عنه يخطب الجند بمصر في صلاة الجمعة ويحثهم على إسمان دوابهم ويتوعدهم إن لم يفعلوا ذلك بحط الفريضة عنهم يوم العرض فمن قوله: ولا أعلمن ما أتى رجل قد أسمن جسمه وأهزل فرسه واعلموا إني معرض الخيل كاعتراض الرجال فمن أهزل فرسه من غير علة حططت من فريضته قدر ذلك[36]، وعندما لقي معاوية عمر رضي الله عنهما عند قدومه الشام وجد أبهة الملك وزيه من العديد والعدة فاستنكر عليه ذلك وقال له: أكسروية يا معاوية؟ قال: يا أمير المؤمنين أنا في ثغر تجاه العدو وبنا إلى مباهاتهم بزينة الحرب والجهاد حاجة فسكت ولم يخطئه لما اجتمع عليه بمقصد من مقاصد الحق والدين[37].

2- الرفق بالجند في السير: وقد كتب الفاروق إلى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنهما قائلاً: وترفق بالمسلمين في مسيرهم ولا تجشمهم مسيراً يتعبهم ولا تقصر بهم عن منزل يرفق بهم، حتى يبلغوا عدوهم والسفر لم ينقص قوتهم، فإنهم سائرون إلى عدو مقيم حامي الأنفس والكراع، وأقم بمن معك في كل جمعة يوماً وليلة حتى تكون لهم راحة يحيون فيها أنفسهم ويرمون أسلحتهم وأمتعتهم ونح منازلهم عن قرى أهل الصلح[38]..، وحين بعث الخليفة عمر رضي الله عنه بمدد إلى جند الشام حمل ضعيفهم وزودهم وأمر عليهم سعيد بن عامر، وعندما هم بالمسير قال عمر على رسلك حتى أوصيك، ثم سار عمر نحو الجيش راجلاً وقال له: يا سعيد وليتك هذا الجيش ولست بخير رجل فيهم إلا أن تتقي الله، فإذا سرت فأرفق بهم ما استطعت ولا تشتم أعراضهم ولا تحتقر صغيرهم ولا تؤثر قويهم ولا تتبع سواك ولا تسلك بهم المغاور واقطع بهم السهل ولا ترقد بهم على جادة[39] الطريق والله تعالى خليفتي عليك وعلى من معك من المسلمين[40].

3- أن يتصفحهم عند مسيرهم: فقد كان الفاروق يتصفح الجيوش عند مسيرهم ويوصيهم بالأخلاق الرفيعة والقيم العظيمة، فقد أمر سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه بالوفاء مع الأعداء حين طلبهم للأمان وأن لا يغدروا وبين له أن الخطأ في الغدر هلكة ووهن له وقوة للأعداء وحذره أن يكون شيناً على المسلمين وسبباً لتوهينهم[41].

4- عدم التعرض عند اللقاء لمن خالفه منهم لئلا يحصل افتراق الكلمة والفشل:

ومن وصايا عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأمرائه وقادته في هذا الباب قوله: لا يجلدن أمير جيش ولا سرية أحداً الحد حتى يطلع الدرب لئلا تحمله حمية الشيطان أن يلحق بالكفار[42].

وعندما بعث عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالقائد سلمان بن ربيعة الباهلي على رأس جيش كان برفقته عمرو بن معديكرب وطليحة بن خويلد الأسدي وحدثت بين عمرو بن معديكرب وسلمان بن ربيعة أمور بلغت عمر رضي الله عنه فكتب إليه عمر قائلاً: أما بعد: فقد بلغني صنيعك بعمرو وإنك لم تحسن بذلك ولم تجمل فيه فإذا كنت بمثل مكانك في دار الحرب فانظر عمراً وطليحة وقربهما منك واسمع منهما فإن لهما بالحرب علماً وتجربة وإذا وصلت إلى دار السلم فأنزلهما منزلتهما التي أنزلا أنفسهما بها وقرب أهل الفقه والقرآن[43]، وكتب إلى عمرو بن معديكرب: أما بعد فقد بلغني إفحامك لأميرك وشتمك له، وإن لك لسيفاً تسميه الصمصامة وإن لي سيفاً أسميه المصمم وإني أحلف بالله لو قد وضعته على هامتك لا أرفعه حتى أقدك به، فلما جاء الكتاب لعمرو قال: والله إن هم ليفعلن[44]، يتجلى من النصين السابقين فقه الفاروق فيما ينبغي أن يتحلى به القائد في دار الحرب من الإتلاف للقلوب وخاصة وهم بإزاء العدو، وأن على القائد أن يستشير من له خبرة بالحرب وهذا لا يعني انقطاع العلاقة والمودة بينهما حين عودة العسكر إلى دار السلام، وفي فتح الرها[45] على يد عياض بن غنم قدم عليه مدد من الشام بقيادة بسر بن أبي أرطأة العامري وجه به يزيد بن أبي سفيان بأمر من عمر رضي الله عنه وحدث بينهما خلاف وهم في دار الحرب وكان عياض مستغنياً عن المدد فطلب إليه الرجوع إلى الشام فكتب عمر رضي الله عنه إلى عياض طالباً منه أن يوضح له سبب إرجاعهم وخاصة وهم ما قدموا إلا لمساندتك ولإعلام العدو أن الأمداد متواترة إليك فتنكسر قلوبهم ويسارعوا إلى طاعتك، فأجابه عياض قائلاً: خشيت أن يحصل شيء من التمرد وتختلف قلوب العساكر ولما كنت غنياً عن مدده اعتذرت إليه وأمرته بالعودة هذا هو السبب في إعادته[46]، عندها صوبه عمر رضي الله عنه ودعا له وخاصة وهم بإزاء العدو حتى لا تفترق الكلمة ويتناحروا فيما بينهم ويحصل الفشل[47].

5- حراستهم من غرة يظفر بها العدو في مقامهم ومسيرهم:

اهتم الفاروق بأمر الحراسة ولذلك أمر قادته بالحرص والحذر من بيان العدو وأخذهم على غرة وطلب منهم إقامة الحرس في حلهم وترحالهم، فمن ذلك قوله لسعد بن أبي وقاص: أذك حراسك على عسكرك وتيقظ من البيان جهدك
ولا تؤتى بأسير ليس له عقد إلا ضربت عنقه لترهب بذلك عدو الله وعدوك[48]، وكان رضي الله عنه يوصي قادته باتخاذ العيون وبث الطلائع عند بلوغ أرض العدو حتى يكونوا على علم ودراية بحالهم وبنواياهم، فمما كتبه إلى سعد بن أبي وقاص قوله: وإذا وطئت أرض العدو فأذك العيون بينك وبينهم ولا يخفى عليك أمرهم وليكن عندك من العرب أو من أهل الأرض من تثق به وتطمئن إلى نصحه وصدقه فإن الكذوب لا ينفعك خبره وإن صدقك في بعضه والغاش عين عليك ليس عيناً لك، وليكن منك عند دنوّك من أرض العدو أن تكثر الطلائع وتبث السرايا بينك وبينهم فتقطع السرايا أمدادهم ومرافقهم وتتبع الطلائع عوراتهم وانتق للطلائع أهل الرأي والبأس من أصحابك وتخير لهم سوابق الخيل، فإن لقوا عدوا كان أول ما تلقاهم القوة من رأيك[49]. ويتضح لنا من هذه الوصية القيمة أن الخليفة عمر رضي الله عنه لم تقتصر عنايته باتخاذ العيون على الأعداء بل اتخذها أيضاً في الجيوش الإسلامية في الرقابة الإدارية على الولاة والعمال والقادة والجند ليتعرف أحوالهم وسيرتهم ومعاملتهم وسير أعمالهم العسكرية، فقد كانت له عيون في كل جيش ومعسكر ترفع إليه تقريراً عما يدور فيه[50]، وعندما شكا عمير بن سعد الأنصاري إلى الخليفة عمر حين قدم عليه وكان على طائفة من أهل الشام قائلاً: يا أمير المؤمنين إن بيننا وبين الروم مدينة يقال لها عرب سوس[51]، وإنهم لا يخفون على عدونا من عوراتنا شيئاً ولا يظهروننا على عوراتهم، فقال له عمر: فإذا قدمت فخيرهم بين أن تعطيهم مكان كل شاة شاتين ومكان كل بعير بعيرين ومكان كل شيء شيئين فإن رضوا بذلك فأعطهم وخربها فإن أبوا فأنب إليهم وأجلهم سنة ثم خربها[52]. ثم لما قدم عليهم عمير بن سعد عرض عليهم ذلك فأبوا فأجلهم سنة ثم خربها[53].

6- اختيار موضع نزولهم لمحاربة العدو: فقد كان الفاروق يوصي سعد بن أبي وقاص بأن لا يقاتل حتى يتعرف على طبيعة أرض المعركة كلها مداخلها ومخارجها ووفرة الماء والكلأ بها وما يجري مجرى ذلك[54]، كما كتب إليه قبل القادسية بأن يكون أدنى حجر من أرضهم لأنهم أعرف بمسالكها من عدوهم فمتى كانت الهزيمة استطاع التمكن من الانسحاب بالجند فينجوا من القتل فلا يستطيع العدو اللحاق بهم لجبنه من اتباعهم وعدم معرفته بطرقها[55]، وبالإضافة إلى ذلك فقد ولى الفاروق سعد بن أبي وقاص وسلمان الفارسي وحذيفة بن اليمان ريادة الجيش في اختيار موقع وموضع نزوله وإقامته، فقد قام الفاروق بتوزيع المهام الإدارية بين القادة[56]، وكان الفاروق يشترط في إدارته العسكرية على قادته عند اختيارهم لموضع نزولهم وإقامة معسكراتهم الحربية أن لا يفصلهم عن مقر القيادة العسكرية العليا ماء وذلك لما لها من مركزية في التخطيط ولتسهيل الإمداد والتموين[57]، كما كتب عمر رضي الله عنه إلى أبي عبيدة بن الجراح قائلاً: ولا تنزلهم منزلاً قبل أن تستريده لهم وتعلم كيف مأتاه[58].

7- إعداد ما يحتاج إليه الجند من زاد وعلوفه: كان عمر رضي الله عنه يبعث لجند المسلمين بالعراق من المدينة المنورة بالتموين من الغنم والجزور[59]، وحمى النقيع والربذة[60]، للنعم التي يحمل عليها في سبيل الله، كما اتخذ في كل مصر على قدره خيولاً من فضول أموال المسلمين عدة لما يعرض فكان من ذلك بالكوفة أربعة آلاف فرس، وبالبصرة نحوُ منها، وفي كل مصر من الأمصار على قدره[61]، ثم حين قدم عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالشام لمصالحة أهل بيت المقدس أنشأ إدارة لتموين الجيش عرفت باسم الأهراء[62]، وكان عمرو بن عبسة أول موظف عين لإدارة تموين الجيش[63].

8- تحريضهم على القتال: كتب الفاروق إلى أبي عبيدة يحرضه على الجهاد قائلاً: بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله عمر بن الخطاب أمير المؤمنين إلى أمين الأمة أبي عبيدة عامر بن الجراح سلام عليك فإني أحمد الله عز وجل سراً وعلانية وأحذركم من معصية الله عز وجل وأحذركم وأنهاكم أن تكونوا ممن قال الله في حقهم } قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ24 { التوبة،آية:24. وصلى الله على خاتم النبيين وإمام المرسلين والحمد لله رب العالمين[64]، فلما وصل الكتاب إلى أبي عبيدة قرأه على المسلمين فعلموا أن أمير المؤمنين يحرضهم على القتال ولم يبق أحد من المسلمين إلا بكى من كتاب عمر بن الخطاب، كما كتب إلى سعد بن أبي وقاص بالعراق ومن معه من الأجناد يحرضهم على القتال ويمنيهم ويأمرهم الالتزام بالفضائل ويحذرهم من ارتكاب المعاصي[65]، هذا وكان من مهام أمراء الأعشار في إدارة الفاروق رضي الله عنه التحريض في القتال[66].

9- أن يذكرهم بثواب الله وفضل الشهادة: ففي عصر الفاروق قام سعد بن أبي وقاص في القادسية يذكر جنده بثواب الله تعالى وما أعد لهم في الآخرة من النعيم ورغبهم في الجهاد وأعلمهم ما وعد الله نبيه من النصر وإظهار الدين وبين لهم ما سوف يكون بأيديهم من النفل والغنائم والبلاد وأمر القراء أن يقرأوا سورة الجهاد الأنفال [67]، كما قام أبو عبيدة بن الجراح في جند الشام خطيباً ومذكراً إياهم بثواب الله تعالى ونعيمه ومخبراً إياهم أن الجهاد خير لهم من الدنيا وما فيها[68]، كما اشتهر عن عمرو بن العاص قوله لجند فلسطين: من قتل شهيداً ومن عاش كان سعيداً وأمر الجند أن يقرأوا القرآن وحثهم على الصبر ورغبهم في ثواب الله وجنته[69].

10- أن يلزمهم بما أوجبه الله من حقوق: فقد كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى سعد بن أبي وقاص ومن معه من الأجناد يوصيه بقوله: أما بعد فإني آمرك ومن معك من الأجناد بتقوى الله على كل حال فإن تقوى الله أفضل العدة على العدو وأقوى المكيدة في الحرب وآمرك ومن معك أن تكونوا أشد احتراساً من المعاصي من احتراسكم من عدوكم فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم وإنما ينصر المسلمون بمعصية عدوهم لله[70]…

11- أن ينهاهم عن الاشتغال بتجارة وزراعة ونحوها: فقد أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه مناديه أن يخرج إلى أمراء الأجناد في أن يبلغوا العسكر أن عطاءهم قائم وأن رزق عيالهم سائل وأن ينهوهم عن الزراعة حتى إنّه عاقب من لم يمتثل ذلك[71]، كل ذلك حرصاً من الفاروق رضي الله عنه بتفريغ الجند للجهاد ونشر الإسلام ولأن لا يلتصقوا بالأرض حين يزرعوا فيركنوا إلى ذلك ويصبح قلبهم منشغلاً، ولذلك استطاع عمر رضي الله عنه أن يوجد جنداً متفرغاً للقتال جاهزاً لوقت الحاجة والطلب وضمن عدم انتشارهم لجني الثمار والزراعة وما يتبعها من حصاد وحرث وتسويق[72].

رابعاً: اهتمامه بحدود الدولة:

كان عمر رضي الله عنه من خوفه على المسلمين وحدود الدولة الإسلامية لاتساعها وكرهه لقتال الروم يقول إذا ذكر الروم: والله لوددت أن الدرب جمرة بيننا وبينهم لنا ما دونه وللروم ما وراءه[73]. وقال الشيء نفسه حول حدود الدولة الإسلامية نحو الفرس: لوددت أن بين السواد وبين الجبل سداً لا يخلصون إلينا ولا نخلص إليهم، حسبنا من الريف السواد، وإني أوثر سلامة المسلمين على الأنفال[74]، فأمر بإقامة قواعد عسكرية إسلامية لها عدة وظائف ومهام والتي سبق وأشرنا إلى بعض منها بالإضافة إلى كونها مراكز حربية في مواقع استراتيجية متقدمة على الحدود بينها وبين البلاد المفتوحة لترد أي عدوان خارجي وكمراكز تجمع للجند ولنشر الإسلام وكان في طليعتها مدينتا البصرة والكوفة في مجاورة الدولة الفارسية والفسطاط بمصر[75]، وثغور أخرى بسواحلها وسواحل الشام لرد هجمات الروم من البحر، وجند أربعة أجناد فيما بعد فيقال جند حمص وجند دمشق وجند الأردن وجند فلسطين حيث كانت لاختصاصهم حتى عرفوا بها وصارت لهم علامة زائدة على النسب يتميزون بها عند أمرائهم لتسهيل عملية إدارتهم في المهمات العسكرية ولرعاية شؤونهم والتي كان منها العطاء[76]، هذا إلى جانب المعسكرات والتحصينات التي بالثغور والتي سبق إجلاء العدو عنها واستولى عليها المسلمون واتخذوها قواعد عسكرية لهم وأسكنوا بها جندهم لحماية حدود الدولة الإسلامية[77]، ثم صار المسلمون كلما تقدموا في الفتح أقاموا في نهاية توسعهم ثغراً يحرس الحدود يشحن بالجند المرابطين ويتولى أمره قائد من أكفأ القواد[78]، ومن أهم تلك الإجراءات التي اتخذها الفاروق رضي الله عنه بإقليم العراق والمشرق المسالح التي أقيمت بين المسلمين والفرس فحينما بلغ اجتماع الفرس على يزدجرد للقائد المثنى بن حارثة والمسلمين كتبوا إلى الخليفة عمر بذلك فجاءهم الرد بقوله: أما بعد فأخرجوا من بين ظهراني الأعاجم وتفرقوا في المياه التي تلي الأعاجم على حدود أرضكم وأرضهم.. فنفذ المثنى الأمر[79]، كما أوصى الخليفة عمر رضي الله عنه سعداً قبل القادسية بقوله: وإذا انتهيت إلى القادسية فتكون مسالحك على أنقابها[80]. وفي جلولاء كتب عمر رضي الله عنه إلى سعد: إن هزم الله الجندين، جند مهران وجند الأنطاق فقدم القعقاع بن عمرو بثغر حلوان بجنود المسلمين لحماية المنطقة والحفاظ عليها من تقدم الأعداء وحتى يكون ردءاً لإخوانه من جند المسلمين الغازي منهم والمقيم[81]، لذا كان القائد سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه بالعراق يطلب من الجند ويحثهم على التقدم نحو الفرس مخبراً إياهم أن الثغور والفروج قد سدت بقوله: ليس وراءكم شيء تخافون أن تؤتوا منه كفاكموهم أهل الأيام وعطلوا ثغورهم وأفنوا ذاتهم[82]، والملاحظ أن هذه المسالح في عهد الفاروق لا تنشأ إلا بأمر من القيادة العليا المركزية للإدارة العسكرية وذلك في قول الخليفة عمر لقادة المسالح: اشغلوا فارس عن إخوانكم وحوطوا بذلك أمتكم وأرضكم وأقيموا على حدود ما بين فارس والأهواز حتى يأتيكم أمري[83]، وقد بلغت ثغور الكوفة وحدها في عهد الفاروق أربعة ثغور هي: ثغور حلوان وعليه القعقاع بن عمرو التميمي، وثغر ماسبذان وعليه ضرار بن الخطاب الفهري، وثغر قرقيسيا[84] وعليه عمر بن مالك الزهري، وثغر الموصل وعليه عبد الله بن المعتم العبسي وكان لكل قائد من هؤلاء من ينوب عنه في ثغره لإدارته إذا توجه لمهمة ما، ومن الجدير بالذكر أن جند المسلمين لا يبنون الثغور حصناً ولا يمصرون مدينة إلا وأقاموا المسجد في المقدمة لما له من دور دعوي وتربوي وجهادي كما هو معروف[85]، وأما فيما يتعلق بحماية الحدود بين الروم والمسلمين في الجبهة الشامية في عهد عمر رضي الله عنه، فقد بدأت عنايته بها أيضاً منذ الفتح الإسلامي لبلاد الشام حيث اتخذ لذلك إجراءات دفاعية كثيرة ومتعددة لحماية المنطقة، منها بناء المناظر وإقامة الحرس واتخاذ المسالح به وتحصين المدن الساحلية إلى جانب الرباطات الدائمة بالإضافة إلى الحصون المفتوحة وترتيب المقاتلة فيها أي الجند الغازي وسياسة التهجير أو النواقل وجمعه الساحل الشامي كله تحت إدارة عسكرية موحدة ففي السنة التي سار فيها عمر بنفسه إلى بلاد الشام لتوقيع الصلح مع أهل بيت المقدس تفقد بعض الثغور الشامية ووضع بها الحاميات والمسالح ورتب بها أمراء الأخبار والقادة وسد فروجها ومسالحها وأخذ يدور بها ليرى احتياجاتها الدفاعية[86]، ثم رجع إلى المدينة وخطب الناس قبل رجوعه قائلاً: ألا قد وليت عليكم وقضيت الذي علي في الذي ولاني الله من أمركم إن شاء الله قسطنا بينكم فيئكم ومنازلكم ومغازيكم وأبلغنا ما لديكم فجندنا لكم الجنود وهيأنا لكم الفروج وبوأنا لكم ووسعنا عليكم
ما بلغ فيئكم وما قاتلتم عليه من شامكم وسمينا لكم أطماعكم وأمرنا لكم بأعطياتكم وأرزاقكم ومغانكم فمن علم علم شيء يينبغي العمل به فبلغنا نعمل به إن شاء الله ولا قوة إلا بالله[87]، وعندما فتح أبو عبيدة بن الجراح ثغر انطاكية بالحدود الشامية الشمالية كتب إليه الخليفة عمر رضي الله عنه قائلاً: أن رتب بإنطاكية جماعة من المسلمين أهل نيات وحسبة وأجعلهم بها مرابطة ولا تحبس عنهم العطاء[88]، فنقل أبو عبيدة قوماً من أهل حمص وبعلبك مرابطة بها لحماية حدود المنطقة من أي عدوان خارجي وعين على الثغر حبيب بن مسلمة الفهري الذي اتخذ من ثغر إنطاكية قاعدة لانطلاقه لغزو ما خلف الحدود الإسلامية فمنها كان يأتي المدد للخطوط الأمامية في الجبهة الرومية وكان منها غزوة للجرجومة[89] التي صالح أهلها على أن يكونوا أعواناً للمسلمين وعيوناً ومسالح في جبل اللكام ضد الروم[90]، وكذلك عندما سار أبو عبيدة إلى ثغر بالس[91] رتب به جماعة من المقاتلين وأسكنه قوماً من عرب الشام الذين أسلموا بعد قدوم المسلمين لحفظ الثغر وضبطه من هجمات الروم[92]، ومن التحصينات والوسائل الدفاعية التي اتخذها الوالي معاوية بن أبي سفيان لحماية الحدود الإسلامية لسواحل الشام في نهاية عهد عمر بن الخطاب بداية الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنهما هو قيامه ببناء عدة حصون مثل أطرسوس[93]، ومرقية[94]، وبلنياس[95]، وبيت سليمة، بالإضافة إلى قيامه بتطوير الحصون التي استولى عليها الجند المسلمين بسواحل الشام وشحنها جميعاً بالجند المقاتلة وأقطعهم القطائع بها وبنى المناظير ووضع بها الحرس لمراقبة اقتراب العدو فتقوم كل منظرة بإشعال النار لإخبار الأخرى التي تليها إلى أن يصل الخبر إلى المدينة والثغر والمسلحة في زمن قليل فيسرعون نحو الجبهة التي أقبل منها العدو للتصدي له ومنعه من التسلل[96]، وفيما يتعلق بحماية الحدود بين المسلمين والروم في الجبهة المصرية لإدارة عمر رضي الله عنه، فقد شملتها الرعاية والعناية كمثيلاتها من الجبهات الأخرى فقد أمر عمرو بن العاص ببناء الفسطاط كقاعدة عسكرية أولى لإيواء جند المسلمين بالمنطقة وجعل لكل قبيلة محرساً وعريفاً فمنها كان المنطلق في الفتوحات الإسلامية لشمال أفريقيا بالإضافة إلى كونها إحدى الحاميات الدفاعية المهمة للثغر المصري إلى ما هنالك من مهام تضطلع بها واشترط عمر رضي الله عنه في موقعها، كما اشترط في مواقع القواعد السابقة بأن لا يفصل بينها وبين القيادة العليا المركزية بالمدينة ماء حتى يكون الاتصال بينهما مستمراً وميسرا[97] وكان عمرو بن العاص يذكر جنوده بأن مقامهم بمصر عبارة عن رباط وذلك في قوله: اعلموا أنكم في رباط إلى يوم القيامة لكثرة الأعداء حولكم وتشوق قلوبهم إليكم وإلى داركم معدن الزرع والمال والخير الواسع والبركة النامية، وفي الفترة التي استولى فيها جند المسلمين على الحصون والمسالح التي بالثغر المصري قاموا بتجديدها وترميمها والاستفادة منها في مرابطتهم حيث شحنوها بالجنود وكان العريش أول مسالح مصر وأعمالها[98]، وقد أمر الفاروق بإقامة المسالح على سواحل مصر كلها[99]، وحينما فتح عمرو بن العاص ثغر الإسكندرية جعل به ألف رجل من أصحابه مسلحة به لحفظه وحمايته وكان عددهم لا يفي بالغرض المطلوب مما جعل الروم يعودون إليهم من البحر فقتلوا من قتلوا من أصحاب المسلحة وهرب من هرب فرجع إليهم عمرو بن العاص مرة أخرى وفتح الثغر وجعل من أصحابه لرباط الإسكندرية ربع الجيش كما جعل في السواحل الربع الآخر وأبقى معه بالفسطاط النصف الآخر[100]، وكان الفاروق يبعث في كل سنة غازية من أهل المدينة المنورة ترابط بثغر الإسكندرية ويكاتب الولاة بأن لا تغفل عنها وأن تكثف رابطتها، إضافة إلى من جعل بها عمرو بن العاص من المرابطين[101]، وبذلك استكمل عمر رضي الله عنه فقهه البعيد في حماية الحدود البرية وتحصينها في الجبهات الثلاث العراقية والشامية والمصرية[102]، ولم يقتصر الأمر على هذه الوسائل الدفاعية لحماية الحدود الإسلامية بل أنشأ عمر رضي الله عنه نظام الصوائف والشواتي وهي الحملات التي كانت تخرج بانتظام سنوياً كالدوريات المنظمة في فصل الصيف وفي فصل الشتاء[103]، ولم تقتصر حملات الشواتي والصوائف على ثغور بلاد الشام بل شملت كافة حدود الدولة الإسلامية حينئذ وكان يتولاها كبار القادة أمثال أبي عبيدة بن الجراح، ومعاوية بن أبي سفيان والنعمان بن مقرن وغيرهم كثير[104]، وكان الفاروق يزيد في الأرزاق والأعطيات للجنود الذين يبعثون إلى الثغور للمرابطة بها حتى تعينهم على تحمل بعدهم ويقطعهم القطائع بها[105]، ونرى قادة الفاروق رضي الله عنه في إدارتهم العسكرية للمعارك يقسمون لأهل المسالح من الفيء مثل الذي يقسم لهم لأنهم كانوا ردءاً للمسلمين لئلا يؤتوا من وجه من الوجوه[106]، وحين حضرت الخليفة عمر رضي الله عنه الوفاة قال موصياً الخليفة من بعده: وأوصي الخليفة من بعدي بأهل الأمصار خيراً فإنهم ردء الإسلام وجباة المال وغيظ العدو، وأن لا يأخذ منهم إلا فضلهم عن رضاهم[107].

خامساً: علاقة عمر مع الملوك:

كانت علاقة الفاروق مع ملك الفرس حربية فقد توفي وجيوشه تطارد يزدجرد في بلاده وتدوخ ملكه وأما علاقته مع ملك الروم فقد استقر الصلح بين الدولتين منذ أتم عمر رضي الله عنه فتح الشام والجزيرة وجرت بينه وبين ملك الروم المكاتبات، وذكر مؤرخو العرب أن هذه المكاتبات كانت مع هرقل ولكن لم يذكروا هل كانت مع هرقل الأول الذي انتزع منه عمر بلاد الشام أم مع ابنه هرقل الثاني المعروف بهرقل قسطنطين لأن هرقل الأول توفي سنة 641م الموافقة سنة 21هـ وتولى الملك ابنه المذكور في هذه السنة أي قبل وفاة عمر رضي الله عنه بسنتين وسواء كانت المكاتبة والمراسلة مع هرقل الأول أو الثاني، فقد كانت الرسل تتردد بينهما بالمكاتبة وأن
أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب رضي الله عنه وزوج عمر بن الخطاب أرسلت مرة مع رسول جاء المدينة من قبل ملك الروم هدية من الطاف المدينة إلى إمبراطورة الروم امرأة هرقل وأرسلت لها هذه في نظيرها عقداً نفيساً من الجواهر، فأخذه منها عمر ورده إلى بيت المال وقد جاء في كتب التاريخ أن أم كلثوم أرسلت تلك الهدية مع بريد عمر[108].

سادساً: من نتائج الفتوحات العمرية:

1- إزالة الدولة الفارسية الساسانية من الوجود وفي الجانب المقابل حجمت الدولة الرومية البيزنطية ومن ثم انتهى ذلك الصراع الجاهلي الذي كان ناشباً بين الفرس والروم والذي جرّ شعوب المنطقة إلى حروب دامية أنهكت الدولتين معاً، لا لشيء إلا للمحافظة على مصلحة الزعامات في كلتا الدولتين.

2- وجود قيادة عالمية واحدة للمنطقة التي تقع في وسط الكرة الأرضية كلها الممتدة من حدود الصين شرقاً إلى المغرب غرباً، ومن بحر العرب جنوباً حتى آسيا الصغرى شمالاً، قيادة جديدة بمؤهلات لم تعهدها البشرية، فهي محكومة مثلها مثل بقية أبناء شعوب المنطقة بقيم ومثل ونظام.

3- هيمنة المنهج الرباني على جميع الناس، دون ضغط عليهم في تغيير معتقداتهم وديانتهم، ودون تفريق بين الأسود والأحمر والأبيض والأصفر، بل الناس كلهم أمام شرع الله سواء، ولا تفاضل بينهم إلا بالتقوى، ولمس الناس ثمار تطبيق شرع الله في حياتهم من الأمن والتمكين، والبركات، والسعة في الأرزاق وغيرها.

4- ظهر في دنيا الناس أمة الإسلام التي جمعت بين أفرادها عقيدة التوحيد، وشريعة المولى عز وجل وترفعت عن آصرة الأعراق والأنساب والاعتبارات الأرضية الأخرى، وبرز في هذه الأمة قيادات من كل الأجناس العرقية، فكان لها المكانة العالية في وسط هذه الأمة، ولم يوجد ما يشينها أو يغير من مكانتها في الأمة، ولهذا كانوا يقولون لمن يقاتلونهم: فإن أجبتم إلى ديننا خلّفنا فيكم كتاب الله وأقمناكم عليه، على أن تحكموا بأحكامه، ونرجع عنكم وشأنكم بلادكم[109].

5- برزت حضارة ربانية متكاملة، ومتوازنة ومتناسقة ضمت بين أرجائها تفاعلات الأمم والشعوب المندرجة تحت شرع الله تعالى وقبلت في عضويتها العالم بأسره، أسوده وأصفره وأبيضه وفق المنهج الرباني، وأحكامه وأصبح الفاروق نموذجاً في قيادته الحضارية للبشرية في زمانه يعطينا صورة مشرقة للإنسان القوي المؤمن العالم، الذي يسخر كل إمكانات دولته وجنوده وأتباعه وعلومه ووسائله وأسبابه لتعزيز شرع الله وتمكين دينه وخدمة الإنسانية، وإعلاء كلمة الله، وإخراج الناس من الظلمات إلى النور، ومن عبادة الناس والمادة إلى عبادة الله، ونفذ قول الله تعالى: } الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ
الأمُورِ41 { الحج،آية:41.

لقد أنتجت الفتوحات الإسلامية حضارة إنسانية رفيعة في ظل دين الإسلام، وبذلك نستطيع أن نعرف الحضارة الربانية بأنها: تفاعل الأنشطة الإنسانية للجماعة الواحدة لخلافة الله في الأرض عبر الزمن، وضمن المفاهيم الإسلامية عن الحياة والكون والإنسان[110].









 
قديم 05-10-12, 07:34 PM   رقم المشاركة : 27
بيارق النصر
عضو ماسي






بيارق النصر غير متصل

بيارق النصر is on a distinguished road


المبحث الخامس الأيام الأخيرة في حياة الفاروق

كان أمير المؤمنين الفاروق رضي الله عنه مثالاً للخليفة العادل المؤمن، المجاهد النقي الورع، القوي الأمين، الحصن المنيع للأمة وعقيدتها، قضى رضي الله عنه خلافته كلها في خدمة دينه وعقيدته وأمته التي تولى أمر قيادتها

فكان القائد الأعلى للجيش والفقيه المجتهد الذي يرجع الجميع إلى رأيه، والقاضي العادل النزيه، والأب الحنون الرحيم بالرعية، صغيرها وكبيرها، ضعيفها وقويها، فقيرها وغنيها، الصادق المؤمن بالله ورسوله، السياسي المحنك المجرب والإداري الحكيم الحازم، أحكم بقيادته صرح الأمة، وتوطدت في عهده دعائم الدولة الإسلامية، وتحققت بقيادته أعظم الانتصارات على الفرس في معارك الفتوح، فكانت القادسية والمدائن وجلولاء ونهاوند، وتمّ فتح بلاد الشام ومصر من سيطرة الروم البيزنطيين[1]، ودخل الإسلام في معظم البلاد المحيطة بالجزيرة العربية، وكانت خلافته سداً منيعاً أمام الفتن، وكان عمر نفسه باباً مغلقاً لا يقدر أصحاب الفتن الدخول إلى المسلمين في حياته، ولا تقدر الفتن أن تطل برأسها في عهده[2].

أولاً: حوار بين عمر وحذيفة حول الفتن واقتراب كسر الباب:

قال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: كنّا عند بن الخطاب رضي الله عنه. فقال أيكم يحفظ حديث رسول الله في الفتنة؟ فقلت: أنا أحفظه كما قال! قال: هات، لله أبوك، إنك لجريء. قلت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: فتنة الرجل في أهله وماله ونفسه وولده وجاره، يكفرها الصيام والصلاة والصدقة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. قال عمر: ليس هذا أريد. إنما أريد الفتن التي تموج كموج البحر! قلت: مالك ولها
يا أمير المؤمنين؟ إنّ بينك وبينها باباً مغلقاً!! قال: فيكسر الباب أو يفتح؟ قلت: لا. بل يُكسر!! قال: ذاك أحرى أن لا يغلق أبداً، حتى قيام الساعة!!! قال أبو وائل الراوي عن حذيفة: هل كان عمر يعلم من الباب؟ قال حذيفة: نعم. كما يعلم أن دون غد الليلة! إني حدثته حديثاً ليس بالأغاليط. قال أبو وائل: فهبنا أن نسأل حذيفة: من الباب؟ فقلنا لمسروق: سل حذيفة من الباب؟ فقال مسروق لحذيفة: من الباب؟ قال حذيفة: هو عمر[3]!!! إن حذيفة قدّم العلم لعمر رضي الله عنهم، بأن الباب المنيع هو الذي يمنع تدفق الفتن على المسلمين، ويحجرُها عنهم، إنَّ هذا سيُكسر كسراً، وسيتحطم تحطيماً، وهذا معناه أنه لن يغلق بعد هذا حتى قيام الساعة، وهذا ما فهمه عمر، أي أن الفتن ستبقى منتشرة ذائعة بين المسلمين، ولن يتمكَّنوا من إزالتها أو توقُّفها أو القضاء عليها، وحذيفة رضي الله عنه لا يقرر هذا من عنده، ولا يتوقعه توقعاً، فهو لا يعلم الغيب وإنما سمع هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ووعاه وحفظه كما سمعه، ولهذا يعلق على كلامه لعمر قائلاً:إني حدثته حديثاً ليس بالأغاليط. أي حدثته حديثاً صحيحاً صادقاً، لا أغاليط ولا أكاذيب فيه، لأنني سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم . ثم إن عمر رضي الله عنه يعلم الحقيقة التي أخبره بها حذيفة، فهو يعلم أن خلافته باب منيع يمنع تدفق الفتن على المسلمين، وأن الفتن لن تغزو المسلمين أثناء خلافته وعهده وحياته[4]،وكان عمر رضي الله عنه يعلم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه سيقتل قتلاً، وسيلقى الله شهيداً، قال أنس بن مالك رضي الله عنه: صعد رسول الله جبل أحد، ومعه
أبو بكر و عمر وعثمان، فرجف الجبل بهم. فضربه رسول الله صلى الله عليه وسلم برجله، وقال له: اثبت أُحُد: فإنما عليك نبيّ، وصديق، وشهيدان[5].

1- دعاء عمر في آخر حجة له سنة 23:

عن سعيد بن المسيب: أن عمر رضي الله عنه لما نفر من منى أناخ بالأبطح فكوم كومة من بطحاء، فألقى عليها طرف ثوبه، ثم استلقى عليها، ورفع يديه إلى السماء فقال: اللهم كُبرت سني، وضعفت قوتي، وانتشرت رعيّتي، فأقبضني غير مضيِّع، ولا مفرط، ثم قدم المدينة[6].

2- طلب الفاروق للشهادة:

عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر قال: اللهم ارزقني شهادة في سبيلك، واجعل موتي في بلد نبيك وجاء في رواية: اللهم قتلاً في سبيلك ووفاة في بلد نبيك. فقال عمر رضي الله عنه: وأنى يكون ذلك؟ قال: يأتي به الله إذا شاء[7] وقد علق الشيخ يوسف بن الحسن بن عبد الهادي على طلب عمر للشهادة فقال: وتمني الشهادة مستحب، وهو مخالف لتمني الموت فإن قيل: ما الفرق بينهما؟ قيل: تمني الموت، طلب تعجيل الموت قبل وقته، ولا يزيد الإنسان عمره إلا خيراً، وتمني الشهادة هو أن يطلب أن يموت عند انتهاء أجله شهيداً، فليس فيه طلب تقديم الموت عن وقته، وإنما فيه طلب فضيلة فيه[8].

3- رؤيا عوف بن مالك الأشجعي:

قال عوف بن مالك الأشجعي: رأيت سبباً[9] تدلى من السماء، وذلك في إمارة
أبي بكر رضي الله عنه وأن الناس تطاولوا له، وأن عمر فضلهم بثلاثة أذرع، قلت: وما ذاك؟ قال: لأنه خليفة من خلفاء الله تعالى في الأرض، وأنه لا يخاف لومة لائم وأنه يقتل شهيداً قال: فغدوت على أبي بكر فقصصتها عليه فقال: يا غلام انطلق إلى أبي حفص فادعه لي، فلما جاء قال: يا عوف اقصصها عليه كما رأيتها، فلما أتيت أنه خليفة من خلفاء الله تعالى قال عمر: أكل هذا يرى النائم؟ قال فقصها[10] عليه فلما ولي عمر أتى الجابية، وإنه ليخطب فدعاني فأجلسني، فلما فرغ من الخطبة قال: قص علي رؤياك. فقلت له: ألست قد جبهتني[11] عنها؟ قال: قد خدعتك أيها الرجل[12] وجاء في رواية: قال أولم تكذب بها؟ قال: لا ولكني استحييت من أبي بكر، فقصها علي[13]. فلما قصصتها، قال: أما الخلافة فقد أوتيت ما ترى، وأما أن لا أخاف في الله لومة لائم، فإني أرجو أن يكون قد علم ذلك مني، وأما أن أقتل شهيداً، فأنى لي بالشهادة وأنا في جزيرة العرب[14].

4- رؤيا أبي موسى الأشعري حول وفاة عمر:

قال أبو موسى الأشعري قال: رأيت كأني أخذت جواداً كثيراً فجعلت تضمحل حتى بقيت واحدة، فأخذتها فانتهيت إلى جبل زلق، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنبه أبو بكر، وإذا هو يومئ إلى عمر أن تعال، فقلت: ألا تكتب بها إلى عمر؟ فقال: ما كنت لأنعي له نفسه[15].

5- آخر خطبة جمعة لعمر في المدينة:

وقد ذكر عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه بعض ما قاله عمر في خطبة الجمعة 21 ذي الحجة 23هـ وهي آخر خطبة له. وقد ذكرت ما قاله عبد الرحمن بن عوف من الخطبة عند حديثي عن كيفية استخلاف أبي بكر الصديق في كتابي الانشراح ورفع الضيق بسير أبي بكر الصديق. وقد أخبر عمر نفسه المسلمين عن رؤيا رآها، وعبّرها لهم. قال في نفس الخطبة: إني رأيت رؤيا، لا أراها إلا حضور أجلي. رأيت كأن ديكاً نقرني نقرتين!!! وإن قوماً يأمرونني أن أستخلف وأعين الخليفة من بعدي!! وإن الله لم يكن ليضيع دينه ولا خلافته، ولا الذي بعث به نبيّه، فإن عجل بي أمر فالخلافة شورى بين هؤلاء الستة الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض[16]!

6- اجتماع عمر مع حذيفة قبل طعنه:

قبل استشهاد الفاروق بأربعة أيام أي يوم الأحد 23 ذي الحجة قابل الصحابيين حذيفة بن اليمان وسهل بن حنيف رضي الله عنهما، وكان قد وظَّفَ حذيفة ليقدِّرَ خراج الأرض التي تُسقى بماء نهر دجلة، ووظَّفَ سهل بن حنيف ليقدِّر خراج الأرض التي تسقى بماء نهر الفرات. وقال لهما: كيف فعلتما؟ أخاف أن تكونا قد حمَّلتما الأرض ما لا تطيق. قالا: حمّلناها أمراً هي له مطيقة. فقال عمر: لئن سلّمني الله، لأدعنَّ أرامل أهل العراق لا يحتَجْنَ إلى رجل بعدي أبداً، ولكنه طعن في اليوم الرابع من هذه المحاروة بينه وبينهما[17].

7- منع الفاروق للسبايا من الإقامة في المدينة:

كان عمر رضي الله عنه لا يأذن للسبايا في الأقطار المفتوحة بدخول المدينة المنورة، عاصمة دولة الخلافة، فكان يمنع مجوس العراق وفارس، ونصارى الشام ومصر من الإقامة في المدينة إلا إذا أسلموا ودخلوا في هذا الدين، وهذا الموقف يدل على حكمته وبعد نظره، لأن هؤلاء القوم المغلوبين المنهزمين حاقدون على الإسلام، مبغضون له، مهيئون للتآمر والكيد ضد الإسلام والمسلمين ولذلك منعهم من الإقامة فيها لدفع الشرِّ عن المسلمين ولكنّ بعض الصحابة رضي الله عنهم كان لهم عبيد ورقيق من هؤلاء السبايا النصارى أو المجوس، وكان بعضهم يلحُّ على عمر أن يأذن لبعض عبيده ورقيقه من هؤلاء المغلوبين بالإقامة في المدينة، ليستعين بهم في أموره وأعماله، فأذن عمر لبعضهم بالإقامة في المدينة، على كره منه ووقع ما توقَّعه عمر، وما كان حذّر منه[18].

ثانياً: مقتل عمر وقصة الشورى:

1- مقتل عمر رضي الله عنه:


قال عمرو بن ميمون: إني لقائم[19]، ما بيني، وبينه إلا عبد الله بن عباس، غداة أصيب وكان إذا مرّ بين الصفين، قال استووا، فإذا استووا ، تقدّم فكبّر، وربما قرأ سورة يوسف أو النحل أو نحو ذلك في الركعة الأولى، حتى يجتمع الناس، فما هو إلا أن كبَّر، فسمعته يقول: قتلني – أو أكلني – الكلب، حين طعنه، فطار العلج بسكين ذات طرفين، لا يمرُّ على أحد يميناً ولا شمالاً إلا طعنه، حتى طعن ثلاثة عشر رجلاً، مات منهم سبعة، فلما رأى ذلك رجل من المسلمين طرح عليه بُرْنساً، فلما ظنّ العلج أنه مأخوذ نحر نفسه، وتناول عمر يد عبد الرحمن بن عوف فقدّمه – للصلاة بالناس – فمن يلي عمر، فقد رأى الذي أرى، وأما نواحي المسجد فإنهم لا يدرُون، غير أنهم قد فقدوا صوت عمر وهم يقولون: سبحان الله، فصلى بهم عبد الرحمن صلاة خفيفة، فلما انصرفوا قال عمر: يا ابن عباس، انظر من قتلني، فجال ساعة، ثم جاء فقال: غلام المغيرة، قال: الصَّنَع[20]، قال: نعم، قال: قاتله الله لقد أمرت به معروفاً، الحمد لله الذي لم يجعل منيّتي بيد رجل يدّعي الإسلام قد كنت أنت وأبوك يريد العباس، وابنه عبد الله تحبّان أن تكثر العلوج بالمدينة، وكان العباس أكثرهم رقيقاً، فقال عبد الله إن شئت، فعلت، أي: إن شئت قَتَلنا. قال: كذبت - أي: أخطأت – بعدما تكلموا بلسانكم، وصلّوا قبلتكم، وحجوا حجّكم. فاحتمل إلى بيته فانطلقنا معه، وكأن الناس لم تصبهم مصيبة قبل يومئذ، فأُتي بنبيذ[21] فشربه، فخرج من جوفه، ثمّ أتي بلبن فشربه فخرج من جُرْحه، فعلموا أنه ميت، فدخلنا عليه، وجاء الناس فجعلوا يثنون عليه.. وقال: يا عبد الله بن عمر انظر، ما عليّ من الدَّين، فحسبوه فوجدوه ستة وثمانين ألفاً أو نحوه، قال: إن وفى له مال آل عمر، فأدّه من أموالهم، وإلا فسل في بني عدي بن كعب فإن لم تف أموالهم، فسل في قريش، ولا تعدهم إلى غيرهم، فأدّ عني هذا المال، وانطلق إلى عائشة أم المؤمنين فقل، يقرأ عليك عمر السلام، ولا تقل أمير المؤمنين، فإني لست اليوم للمؤمنين أميراً، وقل يستأذن عمر بن الخطاب أن يبقى مع صاحبيه.. فسلّم عبد الله بن عمر، واستأذن ثم دخل عليها فوجدها قاعدة تبكي، فقال: يقرأ عليك عمر بن الخطاب السَّلام، ويستأذن أن يدفن مع صاحبيه، فقالت: كنت أريده لنفسي، ولأوثرنّه به اليوم على نفسي، فلما أقبل، قيل: هذا عبد الله بن عمر قد جاء، قال: ارفعوني، فأسنده رجل إليه فقال: ما لديك؟ قال: الذي تحب يا أمير المؤمنين، أذنت، قال: الحمد لله، ما كان من شيء أهمُّ إليّ من ذلك.. فإذا أنا قضيت فاحملني ثم سلم فقل: يستأذن عمر بن الخطاب فإن أذن لي فأدخلوني، وإن ردتني ردوني إلى مقابر المسلمين. قال: فلما قبض خرجنا به، فانطلقنا نمشي، فسلّم عبد الله بن عمر، قال: يستأذن عمر بن الخطاب، قالت عائشة: أدخلوه، فأدخل، فوضع هنالك مع صاحبيه[22]، وجاءت روايات أخرى فصلت بعض الأحداث التي لم تذكرها رواية عمرو بن ميمون قال ابن عباس رضي الله عنهما: إن عمر رضي الله عنه طُعن في السحر، طعنه أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة، وكان مجوسياً[23]. وقال أبو رافع رضي الله عنه: كان أبو لؤلؤة عبداً للمغيرة بن شعبة وكان يصنع الأرحاء[24]، وكان المغيرة يستغله كل يوم أربعة دراهم، فلقي أبو لؤلؤة عمر، فقال: يا أمير المؤمنين، إن المغيرة قد أثقل عليَّ غلتي، فكلِّمه أن يخفف عني. فقال عمر: اتق الله، وأحسن إلى مولاك، ومن نية عمر أن يلقى المغيرة فيكلمه يخفف عنه، فغضب العبد، وقال: وسع كلهم عدله غيري؟‍‍! فأضمر على قتله، فاصطنع خنجراً له رأسان، وشحذه، وسمّه، ثم أتى به الهُرْمُزان، فقال: كيف ترى هذا؟ قال: أرى أنك لا تضرب به أحداً إلا قتلته. قال: فتحين أبو لؤلؤة عمر، فجاءه في صلاة الغداة حتى قام وراء عمر، وكان عمر إذا أقيمت الصلاة يتكلم يقول: أقيموا صفوفكم، فقال كما كان يقول: فلما كبَّر، وجأه[25]، أبو لؤلؤة وجأةً في كتفه، ووجأة في خاصرته، فسقط عمر[26]، قال عمرو بن ميمون رحمه الله: سمعته لما طعن يقول: } وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا { الأحزاب،آية:38.

2- ابتكاره طريقة جديدة في اختيار الخليفة من بعده:

استمر اهتمام الفاروق عمر رضي الله عنه بوحدة الأمة ومستقبلها، حتى اللحظات الأخيرة من حياته، رغم ما كان يعانيه من آلام جراحاته البالغة، وهي بلا شك لحظات خالدة، تجلى فيها إيمان الفاروق العميق وإخلاصه وإيثاره[27]، وقد استطاع الفاروق في تلك اللحظات الحرجة أن يبتكر طريقة جديدة لم يسبق إليها في اختيار الخليفة الجديد وكانت دليلاً ملموساً، ومعلماً واضحاً على فقهه في سياسة الدولة الإسلامية. لقد مضى قبله الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يستخلف بعده أحداً بنص صريح، ولقد مضى أبو بكر الصديق واستخلف الفاروق بعد مشاورة كبار الصحابة ولما طلب من الفاروق أن يستخلف وهو على فراش الموت، فكر في الأمر ملياً وقرر أن يسلك مسلكاً آخر يتناسب مع المقام؛ فرسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الناس وكلهم مقر بأفضلية أبي بكر وأسبقيته عليهم فاحتمال الخلاف كان نادراً وخصوصاً أن النبي صلى الله عليه وسلم وجه الأمة قولاً وفعلاً إلى أن أبا بكر أولى بالأمر من بعده، والصدّيق لما استخلف عمر كان يعلم أن عند الصحابة أجمعين قناعة بأن عمر أقوى وأقدر وأفضل من يحمل المسؤولية بعده، فاستخلفه بعد مشاورة كبار الصحابة ولم يخالف رأيه أحد منهم، وحصل الإجماع على بيعة عمر[28]، وأما طريقة انتخاب الخليفة الجديد تعتمد على جعل الشورى في عدد محصور، فقد حصر ستة من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم بدريون وكلهم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض وكلهم يصلحون لتولي الأمر ولو أنهم يتفاوتون وحدد لهم طريقة الانتخاب ومدته، وعدد الأصوات الكافية لانتخاب الخليفة وحدد الحكم في المجلس والمرجح إن تعادلت الأصوات وأمر مجموعة من جنود الله لمراقبة سير الانتخابات في المجلس وعقاب من يخالف أمر الجماعة ومنع الفوضى بحيث لا يسمحون لأحد يدخل أو يسمع ما يدور في مجلس أهل الحل والعقد[29]، وهذا بيان ما أجمل في الفقرات السابقة:

أ- العدد الذي حدده للشورى وأسماؤهم:

أما العدد فهو ستة وهم؛ علي بن أبي طالب، وعثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله رضي الله عنهم جميعاً. وترك سعيد بن زيد بن نفيل وهو من العشرة المبشرين بالجنة ولعله تركه لأنه من قبيلته بني عدي[30].

ب- طريقة انتخاب الخليفة:

أمرهم أن يجتمعوا في بيت أحدهم ويتشاوروا وفيهم عبد الله بن عمر يحضرهم مشيراً فقط وليس له من الأمر شيء ويصلي بالناس أثناء التشاور صهيب الرومي وأمر المقداد بن الأسود وأبا طلحة الأنصاري أن يرقبا سير الانتخابات[31].

جـ- مدة الانتخابات أو المشاورة:

حددها الفاروق رضي الله عنه بثلاثة أيام وهي فترة كافية وإن زادوا عليها فمعنى ذلك أن شقة الخلاف ستتسع ولذلك قال لهم: لا يأتي اليوم الرابع إلا وعليكم أمير[32].

د- عدد الأصوات الكافية لاختيار الخليفة:

لقد أمرهم بالاجتماع والتشاور وحدّد لهم أنه إذا اجتمع خمسة منهم على رجل وأبى أحدهم فليضرب رأسه بالسيف وإن اجتمع أربعة وفرضوا رجلاً منهم وأبى اثنان فاضرب رؤوسهما[33].

وهذه من الروايات التي لا تصح سنداً فهي من الغرائب التي ساقها أبو مخنف مخالفاً فيها النصوص الصحيحة وما عرف من سير الصحابة رضي الله عنهم، فما ذكره أبو مخنف من قول عمر لصهيب: وقم على رؤوسهم أي أهل الشورى فإن اجتمع خمسة ورضوا رجلاً وأبى واحد فاشدخ رأسه بالسيف، وإن اتفق أربعة فرضوا رجلاً منهم وأبى اثنان، فاضرب رؤوسهما[34]: فهذا قول منكر وكيف يقول عمر رضي الله عنه هذا وهو يعلم أنهم هم الصفوة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الذي اختارهم لهذا الأمر لعلمه بفضلهم وقدرهم[35]، وقد ورد عن ابن سعد أن عمر قال للأنصار: أدخلوهم بيتاً ثلاثة أيام فإن استقاموا وإلا فادخلوا عليهم فاضربوا أعناقهم[36]، وهذه الرواية منقطعة وفي إسنادها سماك بن حرب وهو ضعيف وقد تغير بآخره[37].

والصحيح في هذا ما أخرجه ابن سعد بإسنادٍ رجاله ثقات أن عمر رضي الله عنه قال لصهيب: صل بالناس ثلاثاً وليخل هؤلاء الرهط في بيت فإذا اجتمعوا على رجل فمن خالفهم فاضربوا رأسه[38]، فعمر رضي الله عنه أمر بقتل من يريد أن يخالف هؤلاء الرهط ويشق عصا المسلمين ويفرق بينهم، عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم: من أتاكم وأمركم جميع، على رجل واحد منكم، يريد أن يشق عصاكم، أو يفرق جماعتكم فاقتلوه[39].

هـ- الحكم في حال الاختلاف:

لقد أوصى بأن يحضر عبد الله بن عمر معهم في المجلس وأن ليس له من الأمر شيء، ولكن قال لهم: فإن رضي ثلاثة رجلاً منهم وثلاثة رجلاً منهم فحكّموا عبد الله بن عمر فأي الفريقين حكم له، فليختاروا رجلاً منهم، فإن لم يرضوا بحكم عبد الله بن عمر فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف، ووصف عبد الرحمن بن عوف بأنه مسدد رشيد فقال عنه: ونعم ذو الرأي عبد الرحمن بن عوف مسدد رشيد له من الله حافظ فاسمعوا منه[40].

و- جماعة من جنود الله تراقب الانتخابات وتمنع الفوضى:

طلب عمر أبا طلحة الأنصاري وقال له: يا أبا طلحة إن الله عز وجل أعز الإسلام بكم فاختر خمسين رجلاً من الأنصار فاستحث هؤلاء الرهط حتى يختاروا رجلاً منهم[41]، وقال للمقداد بن الأسود: إذا وضعتموني في حفرتي فاجمع هؤلاء الرهط في بيت حتى يختاروا رجلاً منهم[42].

هكذا ختم حياته –رضي الله عنه- ولم يشغله ما نزل به من البلاء ولا سكرات الموت عن تدبير أمر المسلمين، وأرسى نظاماً صالحاً للشورى لم يسبقه إليه أحد، ولا يشك أن أصل الشورى مقرر في القرآن والسنة القولية والفعلية وقد عمل بها رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر ولم يكن عمر مبتدعاً بالنسبة للأصل ولكن الذي عمله عمر هو تعيين الطريقة التي يختار بها الخليفة وحصر عدد معين جعلها فيهم وهذا لم يفعله الرسول صلى الله عليه وسلم ولا الصديق -رضي الله عنه- بل أول من فعل ذلك عمر ونعم ما فعل فقد كانت أفضل الطرق المناسبة لحال الصحابة في ذلك الوقت[43].

ثالثاً: وصية عمر رضي الله عنه للخليفة الذي بعده:

أوصى الفاروق عمر -رضي الله عنه- الخليفة الذي سيخلفه في قيادة الأمة بوصية مهمة قال فيها: أوصيك بتقوى الله وحده لا شريك له، وأوصيك بالمهاجرين الأولين خيراً أن تعرف لهم سابقتهم وأوصيك بالأنصار خيراً، فاقبل من محسنهم، وتجاوز عن مسيئهم، وأوصيك بأهل الأمصار خيراً، فإنهم ردء العدو، وجباة الفيء، لا تحمل منهم إلا عن فضل منهم وأوصيك بأهل البادية خيراً، فإنهم أصل العرب، ومادة الإسلام أن تأخذ من حواشي أموالهم فترد على فقرائهم، وأوصيك بأهل الذمة خيراً، أن تقاتل من وراءهم، ولا تكلفهم فوق طاقتهم إذا أدّوا ما عليهم للمؤمنين طوعاً، أو عن يد وهم صاغرون، وأوصيك بتقوى الله، والحذر منه، ومخافة مقته أن يطلع منك على ريبة وأوصيك أن تخشى الله في الناس، ولا تخشى الناس في الله وأوصيك بالعدل في الرعية، والتفرغ لحوائجهم وثغورك، ولا تؤثر غنيهم على فقيرهم، فإن في ذلك بإذن الله سلامة قلبك، وحطاً لوزرك، وخيراً في عاقبة أمرك حتى تفضي في ذلك إلى من يعرف سريرتك ويحول بينك وبين قلبك وآمرك أن تشتد في أمر الله، وفي حدوده ومعاصيه على قريب الناس وبعيدهم، ثم لا تأخذك في أحد الرأفة، حتى تنتهك منه مثل جرمه، واجعل الناس عندك سواء، لا تبال على من وجب الحق، ولا تأخذك في الله لومة لائم، وإياك والمحاباة فيما ولاك الله مما أفاء على المؤمنين، فتجور وتظلم، وتحرم نفسك من ذلك ما قد وسعه الله عليك، وقد أصبحت بمنزلة من منازل الدنيا والآخرة، فإن اقترفت لدنياك عدلاً وعفة عما بسط لك اقترفت به إيماناً ورضواناً، وإن غلبك الهوى اقترفت به غضب الله، وأوصيك ألا ترخص لنفسك ولا لغيرك في ظلم أهل الذّمة، وقد أوصيتك، وخصصتك ونصحتك فابتغ بذلك وجه الله والدار الآخرة، واخترت من دلالتك ما كنت دالاً عليه نفسي وولدي، فإن علمت بالذي وعظتك، وانتهيت إلى الذي أمرتك أخذت منه نصيباً وافراً وحظاً وافياً، وإن لم تقبل ذلك، ولم يهمك، ولم تترك معاظم الأمور عند الذي يرضى به الله عنك، يكن ذلك بك انتقاصاً، ورأيك فيه مدخولاً، لأن الأهواء مشتركة، ورأس الخطيئة إبليس داع إلى كل مهلكة، وقد أضل القرون السالفة قبلك، فأوردهم النار وبئس المورود، وبئس الثمن أن يكون حظ امرئ موالاة لعدو الله، الداعي إلى معاصيه، ثم اركب الحق، وخض إليه الغمرات، وكن واعظاً لنفسك، وأناشدك الله إلا ترحمت على جماعة المسلمين، وأجللت كبيرهم، ورحمت صغيرهم، ووقرت عالمهم، ولا تضربهم فيذلوا، ولا تستأئر عليهم بالفيء فتغضبهم، ولا تحرمهم عطاياهم عند محلّها فتفقرهم، ولا تجمّرهم في البعوث فينقطع نسلهم ولا يجعل المال دُولة بين الأغنياء منهم، ولا تغلق بابك دونهم، فيأكل قويهم ضعيفهم هذه وصيتي إليك، وأشهد الله عليك، وأقرأ عليك السلام[44].

هذه الوصية تدل على بعد نظر عمر في مسائل الحكم والإدارة، وتفصح عن نهج ونظام حكم وإدارة متكامل[45]، فقد تضمنت الوصية أموراً غاية في الأهمية، فحق أن تكون وثيقة نفيسة، لما احتوته من قواعد ومبادئ أساسية للحكم متكاملة الجوانب الدينية والسياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية يأتي في مقدمتها:

1- الناحية الدينية، وتضمنت:

‌أ- الوصية بالحرص الشديد، على تقوى الله، والخشية منه في السر والعلن في القول والعمل، لأن من اتقى الله وقاه ومن خشيه صانه وحماه أوصيك بتقوى الله وحده لا شريك له وأوصيك بتقوى الله والحذر منه.. وأوصيك أن تخشى الله.

‌ب- إقامة حدود الله على القريب والبعيد لا تبال على من وجب الحق ولا تأخذك في الله لومة لائم لأن حدود الله نصت عليها الشريعة فهي من الدين، ولأن الشريعة حجة على الناس، وأعمالهم وأفعالهم تقاس بمقتضاها، وأن التغافل عنها إفساد للدين والمجتمع.

‌ج- الاستقامة استقم كما أمرت وهي من الضرورات الدينية والدنيوية التي يجب على الحاكم التحلي بها قولاً وعملاً أولاً ثم الرعية كن واعظاً لنفسك وابتغ بذلك وجه الله والدار الآخرة.

2- الناحية السياسية، وتضمنت:

أ‌- الالتزام بالعدل، لأنه أساس الحكم، وإن إقامته بين الرعية، تحقيق للحكم قوة وهيبة ومتانة سياسية واجتماعية، وتزيد من هيبة واحترام الحاكم في نفوس الناس وأوصيك بالعدل واجعل الناس عندك سواء.

ب‌- العناية بالمسلمين الأوائل من المهاجرين والأنصار لسابقتهم في الإسلام، ولأن العقيدة وما أفرزته من نظام سياسي، قام على أكتافهم، فهم أهله وحملته وحماته وأوصيك بالمهاجرين الأولين خيراً، أن تعرف لهم سابقتهم، وأوصيك بالأنصار خيراً، فاقبل من محسنهم وتجاوز عن مسيئهم.

3- الناحية العسكرية، وتضمنت:

‌أ- الاهتمام بالجيش وإعداده إعداداً يتناسب وعظم المسؤولية الملقاة على عاتقه لضمان أمن الدولة وسلامتها، والعناية بسد حاجات المقاتلين التفرغ لحوائجهم وثغورهم.

‌ب- تجنب إبقاء المقاتلين لمدة طويلة في الثغور بعيداً عن عوائلهم وتلافياً لما قد يسببه ذلك من ملل وقلق وهبوط في المعنويات، فمن الضروري منحهم إجازات معلومة في أوقات معلومة يستريحون فيها ويجددون نشاطهم خلالها، من جهة، ويعودون إلى عوائلهم لكي لا ينقطع نسلهم من جهة ثانية ولا تجمرهم في الثغور فينقطع نسلهم وأوصيك بأهل الأمصار خيراً، فإنهم ردء العدو.

‌ج- إعطاء كل مقاتل ما يستحقه من فيء وعطاء، وذلك لضمان مورد ثابت له ولعائلته يدفعه إلى الجهاد، ويصرف عنه التفكير في شؤونه المالية ولا تستأثر عليهم بالفيء فتغضبهم ولا تحرمهم عطاياهم عند محلها فتفقرهم.

4- الناحية الاقتصادية والمالية، وتضمنت:

‌أ- العناية بتوزيع الأموال بين الناس بالعدل والقسطاس المستقيم، وتلافي كل ما من شأنه تجميع الأموال عند طبقة منهم دون أخرى ولا تجعل الأموال دولة بين الأغنياء منهم.

‌ب- عدم تكليف أهل الذمة فوق طاقتهم إن هم أدوا ما عليهم من التزامات مالية للدولة ولا تكلفهم فوق طاقتهم إذا أدّوا ما عليهم للمؤمنين.

‌ج- ضمان الحقوق المالية للناس وعدم التفريط بها، وتجنب فرض ما لا طاقة لهم به ولا تحمل منهم إلا عن فضل منهم أن تأخذ حواشي أموالهم فترد على فقرائهم [46].

5- الناحية الاجتماعية، وتضمنت:

‌أ- الاهتمام بالرعية، والعمل على تفقد أمورهم وسد احتياجاتهم وإعطاء حقوقهم من فيء وعطاء ولا تحرمهم عطاياهم عند محلها.

‌ب- اجتناب الأثرة والمحاباة واتباع الهوى، لما فيها من مخاطر تقود إلى انحراف الراعي، وتؤدي إلى فساد المجتمع واضطراب علاقاته الإنسانية وإياك والأثرة والمحاباة فيما ولاك الله ولا تؤثر غنيهم على فقيرهم.

‌ج- احترام الرعية وتوقيرها والتواضع لها، صغيرها وكبيرها، لما في ذلك من سمو في العلاقات الاجتماعية، تؤدي إلى زيادة تلاحم الرعية بقائدها وحبها له وأناشدك الله إلا ترحمت على جماعة المسلمين، وأجللت كبيرهم، ورحمت صغيرهم ووقرت عالمهم.

‌د- الانفتاح على الرعية، وذلك بسماع شكاواهم، وإنصاف بعضهم من بعض وبعكسه تضطرب العلاقات بينهم ويعم الارتباك في المجتمع ولا تغلق بابك دونهم، فيأكل قويهم ضعيفهم.

‌ه- اتباع الحق، والحرص على تحقيقه في المجتمع، وفي كل الظروف والأحوال، لكونه ضرورة اجتماعية لابد من تحقيقها بين الناس، ثم اركب الحق، وخض إليه الغمرات واجعل الناس عندك سواء، لا تبال على من وجب الحق.

‌و- اجتناب الظلم بكل صوره وأشكاله، خاصة مع أهل الذمة، لأن العدل مطلوب إقامته بين جميع رعايا الدولة مسلمين وذميين، لينعم الجميع بعدل الإسلام وأوصيك ألا ترخص لنفسك ولا لغيرك في ظلم أهل الذمة.

‌ز- الاهتمام بأهل البادية ورعايتهم والعناية بهم وأوصيك بأهل البادية خيراً، فإنهم أصل العرب، ومادة الإسلام [47].

‌ح- وكان من ضمن وصية عمر لمن بعده: ألا يقر لي عاملاً أكثر من سنة، وأقروا الأشعري أربع سنين[48].

رابعاً: اللحظات الأخيرة:

هذا ابن عباس رضي الله عنه يصف لنا اللحظات الأخيرة في حياة الفاروق حيث يقول: دخلت على عمر حين طُعنْ، فقلت: أبشر بالجنة، يا أمير المؤمنين، أسلمت حين كفر الناس، وجاهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خذله الناس، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنك راضٍ، ولم يختلف في خلافتك اثنان، وقُتلت شهيداً فقال عمر: أعد عليَّ، فأعدت عليه، فقال: والله الذي لا إله إلا هو، لو أن لي ما في الأرض من صفراء وبيضاء لافتديت به من هول المطلع[49]، وجاء في رواية البخاري، أما ما ذكرت من صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضاه فإن ذلك من الله جل ذكره منَّ به علي، وأما ما ترى من جزعي فهو من أجلك وأجل أصحابك، والله لو أن لي طِلاع الأرض ذهباً لافتديت به من عذاب الله عز وجل قبل أن أراه[50].

لقد كان عمر رضي الله عنه يخاف هذا الخوف العظيم من عذاب الله تعالى مع أن النبي صلى الله عليه وسلم شهد له بالجنة، ومع ما كان يبذل من جهد كبير في إقامة حكم الله والعدل والزهد والجهاد وغير ذلك من الأعمال الصالحة، وإن في هذا لدرساً بليغاً للمسلمين عامة في تذكر عذاب الله الشديد وأهوال يوم القيامة[51].

وهذا عثمان رضي الله عنه يحدثنا عن اللحظات الأخيرة في حياة الفاروق فيقول: أنا آخركم عهداً بعمر، دخلت عليه، ورأسه في حجر ابنه عبد الله بن عمر فقال له: ضع خدي بالأرض، قال: فهل فخذي والأرض إلا سواء؟ قال ضع خدي بالأرض لا أم لك، في الثانية أو في الثالثة، ثم شبك بين رجليه، فسمعته يقول: ويلي، وويل أمي إن لم يغفر الله لي حتى فاضت[52] روحه، فهذا مثل مما كان يتصف به أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه من خشية الله تعالى، حتى كان آخر كلامه الدعاء على نفسه بالويل إن لم يغفر الله جل وعلا له، مع أنه أحد العشرة المبشرين بالجنة، ولكن من كان بالله أعرف كان من الله أخوف، وإصراره على أن يضع ابنه خده على الأرض من باب إذلال النفس في سبيل تعظيم الله عز وجل، ليكون ذلك أقرب لاستجابة دعائه، وهذه صورة تبين لنا قوة حضور قلبه مع الله جل وعلا[53].

1- تاريخ موته ومبلغ سنه:

قال الذهبي: استشهد يوم الأربعاء لأربع أو ثلاث بقين من ذي الحجة، سنة ثلاث وعشرين من الهجرة، وهو ابن ثلاث وستين سنة على الصحيح[54]، وكانت خلافته عشر سنين ونصفاً وأياماً[55]، وجاء في تاريخ أبي زرعة عن جرير البجلي قال: كنت عند معاوية فقال: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاث وستين، وتوفي أبو بكر –رضي الله عنه- وهو ابن ثلاث وستين وقتل عمر –رضي الله عنه- وهو ابن ثلاث وستين[56].

2- في غسله والصلاة عليه ودفنه:

عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنه- غسل وكُفِّن، وصلي عليه، وكان شهيداً[57]، وقد اختلف العلماء فيمن قتل مظلوماً هل هو كالشهيد لا يغسل أم لا؟ على قولين:

أحدهما: أنه يغسل، وهذا حجة لأصحاب هذا القول[58].

والثاني: لا يغسل ولا يصلى عليه، والجواب عن قصة عمر أن عمر عاش بعد أن ضرب وأقام مدة، والشهيد حتى شهيد المعركة لو عاش بعد أن ضرب حتى أكل وشرب أو طال مقامه فإنه يغسل، ويصلى عليه، وعمر طال مقامه حتى شرب الماء، وما أعطاه الطبيب، فلهذا غسل وصلي عليه رضي الله عنه[59].

3- من صلى عليه؟

قال الذهبي: صلى عليه صهيب بن سنان[60]، وقال ابن سعد: وسأل علي بن الحسين سعيد بن المسيب: من صلى على عمر؟ قال: صهيب، قال كم كبر عليه؟ قال: أربعاً، قال: أين صُلي عليه؟ قال: بين القبر والمنبر[61]، وقال ابن المسيب: نظر المسلمون فإذا صهيب يصلي لهم المكتوبات بأمر عمر رضي الله عنه فقدموه، فصلى على عمر[62]، ولم يقدم عمر رضي الله عنه أحداً من الستة المرشحين للخلافة حتى لا يظن تقديمه للصلاة ترشيحاً له من عمر، كما أن صهيباً كانت له مكانته الكبيرة عند عمر والصحابة رضي الله عنهم وقد قال في حقه الفاروق: نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه[63].

4- في دفنه رضي الله عنه:

قال الذهبي: دفن في الحجرة النبوية[64]، وذكر ابن الجوزي عن جابر قال: نزل في قبر عمر عثمان وسعيد بن زيد، وصهيب، وعبد الله بن عمر[65]، وعن هشام بن عروة قال: لما سقط عنهم –يعني قبر النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- في زمن الوليد بن عبد الملك[66] أخذوا في بنائه، فبدت لهم قدمٌ، ففزعوا، وظنوا أنها قدم النبي صلى الله عليه وسلم فما وجدوا أحداً يعلم ذلك، حتى قال لهم عروة: لا والله ما هي قدم النبي صلى الله عليه وسلم ما هي إلا قدم عمر -رضي الله عنه[67]- وقد مرّ معنا: أن عمر أرسل إلى عائشة –رضي الله عنهما- ائذني لي أن أُدفن مع صاحبي، فقالت: أي والله وقال هشام بن عروة بن الزبير: وكان الرجل إذا أرسل إليها -أي عائشة- من الصحابة قالت: لا والله لا أؤثرهم بأحد أبداً[68]، ولا خلاف بين أهل العلم أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر -رضي الله عنهما- في هذا المكان من المسجد النبوي على صاحبه أفضل الصلاة والسلام[69].

5- ما قاله علي بن أبي طالب رضي الله عنه في الفاروق:

قال ابن عباس: وضع عمر على سريره فتكنفه الناس يدعون ويصلون، قبل أن يرفع، وأنا فيهم، فلم يَرُعني إلا رجل آخذ منكبي، فإذا علي بن أبي طالب، فترحم على عمر وقال: ما خلفت أحداً أحبّ إليَّ أن ألقى الله بمثل عمله منك، وأيم الله إن كنت لأظن أن يجعلك الله مع صاحبيك وحسبت أني كنت كثيراً أسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ذهبت أنا وأبو بكر وعمر، ودخلت أنا وأبو بكر وعمر وخرجت أنا وأبو بكر وعمر[70].

6- أثر مقتله على المسلمين:

كان هول الفاجعة عظيماً على المسلمين، فلم تكن الحادثة بعد مرض ألمَّ بعمر، كما كان يزيد من هولها في المسجد وعمر يؤم الناس لصلاة الصبح، ومعرفة حال المسلمين بعد وقوع الحدث يطلعنا على أثر الحادث في نفوسهم، يقول عمرو بن ميمون: .. وكأن الناس لم تصبهم مصيبة قبل يومئذ، ويذهب ابن عباس ليستطلع الخبر بعد مقتل عمر ليقول له: إنه ما مرّ بملأ إلا وهم يبكون وكأنهم فقدوا أبكار أولادهم[71]، لقد كان عمر -رضي الله عنه- معلماً من معالم الهدى، وفارقا بين الحق والباطل فكان من الطبيعي أن يتأثر الناس لفقده[72]، وهذا الأثر يوضح شدة تأثر الناس عليه، فعن الأحنف بن قيس: قال… فلما طعن عمر أمر صهيباً أن يصلي بالناس، ويطعمهم ثلاثة أيام حتى يجتمعوا على رجل، فلما وضعت الموائد كف الناس عن الطعام، فقال العباس: يا أيها الناس إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات، فأكلنا بعده، وشربنا ومات أبو بكر -رضي الله عنه-، فأكلنا، وإنه لا بد للناس من الأكل والشرب، فمد يده فأكل الناس[73].

وكان عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- عندما يذكر له عمر يبكي حتى تبتل الحصى من دموعه ثم يقول: إن عمر كان حصناً للإسلام يدخلون فيه ولا يخرجون منه، فلما مات انثلم الحصن فالناس يخرجون من الإسلام[74].

وأما أبو عبيدة بن الجراح، فقد كان يقول قبل أن يقتل عمر: إن مات عمر رق الإسلام، ما أحب أن لي ما تطلع عليه الشمس أو تغرب وأن أبقى بعد عمر، فقيل له: لم؟ قال: سترون ما أقول إن بقيتم، وأما هو فإن ولي وال بعد فأخذهم بما كان عمر يأخذهم به لم يطع له الناس بذلك ولم يحملوه، وإن ضعف عنهم قتلوه[75].

خامساً: أهم الفوائد والدروس والعبر:

1- التنبيه على الحقد الذي انطوت عليه قلوب الكافرين ضد المؤمنين:


ويدل على ذلك قتل المجوسي أبي لؤلؤة لعمر رضي الله عنه، وتلك هي طبيعة الكفار في كل زمان ومكان، قلوب لا تضمر للمسلمين إلا الحقد والحسد والبغضاء، ونفوس لا تكن للمؤمنين إلا الشر والهلاك والتلف، ولا يتمنون شيئاً أكثر من ردة المسلمين عن دينهم وكفرهم بعد إسلامهم[76]، وإن الذي ينظر جيداً في قصة مقتل عمر -رضي الله عنه- وما فعله المجوسي الحاقد أبو لؤلؤة يستنبط منها أمرين مهمين، يكشفان الحقد الذي أضمره هذا الكافر في قلبه تجاه عمر، وتجاه المسلمين، وهما:

أ‌- أنه قد ثبت في الطبقات الكبرى لابن سعد بسند صحيح إلى الزهري[77]، أن عمر رضي الله عنه قال لهذا المجوسي ذات يوم: ألم أُحدّث أنك تقول: لو أشاء لصنعت رحى تطحن بالريح، فالتفت إليه المجوسي عابساً، لأصنعن لك رحى يتحدث الناس بها، فأقبل عمر على من معه، فقال: توعدني العبد.

ب‌- الأمر الثاني الذي يدل على الحقد الذي امتلأ به صدر هذا المجوسي أنه لمّا طعن عمر رضي الله عنه، طعن معه ثلاثة عشر صحابياً استشهد منهم سبعة جاء في رواية الإمام البخاري قوله: فطار العلج[78] بسكين ذات طرفين لا يمر على أحد يميناً ولا شمالاً إلا طعنه، حتى طعن ثلاثة عشر رجلاً، مات منهم سبعة[79]، ولو كان عمر -رضي الله عنه- ظالماً له فما ذنب بقية الصحابة الذين اعتدى عليهم؟!، ومعاذ الله تعالى أن يكون عمر ظالماً له، إذ قد ثبت في رواية البخاري أنه لما طعن رضي الله عنه قال: يا ابن عباس، انظر من قتلني، فجال ساعة ثم جاء فقال: غلام المغيرة، قال: الصَنَع؟ أي: الصانع، قال: نعم، قال: قاتله الله، لقد أمرت به معروفاً، الحمد لله الذي لم يجعل منيتي بيد رجل يدعي الإسلام[80]، وهذا المجوسي أبو لؤلؤة قام أحبابه أعداء الإسلام ببناء مشهد تذكاري له على غرار الجندي المجهول في إيران يقول السيد حسين الموسوي من علماء النجف: واعلم أن في مدينة كاشان الإيرانية، في منطقة تسمى باغي فين مشهداً على غرار الجندي المجهول، فيه قبر وهمي لأبي لؤلؤة فيروز الفارسي المجوسي، قاتل الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، حيث أطلقوا عليه ما معناه بالعربية مرقد بابا شجاع الدين، وبابا شجاع الدين هو لقب أطلقوه على أبي لؤلؤة لقتله عمر بن الخطاب، وقد كتب على جدران هذا المشهد بالفارسي: مرك بر أبو بكر، مرك بر عمر، مرك بر عثمان ومعناه بالعربية: الموت لأبي بكر، الموت لعمر، الموت لعثمان وهذا المشهد يُزار من قبل الشيعة الإيرانيين، وتُلقى فيه الأموال، والتبرعات، وقد رأيت هذا المشهد بنفسي، وكانت وزارة الإرشاد الإيرانية قد باشرت بتوسيعه وتجديده، وفوق ذلك قاموا بطبع صورة على المشهد على كارتات تستخدم لإرسال الرسائل والمكاتيب[81].

2- بيان الانكسار والخشية والخوف الذي تميز به عمر رضي الله عنه:

ومما يدل على هذا الخوف الذي سيطر على قلب عمر رضي الله عنه قبيل استشهاده قوله لما عَلِمَ أن الذي طعنه هو المجوسي أبو لؤلؤة: الحمد لله الذي لم يجعل منيتي بيد رجل يدعي الإسلام[82]، فإنه رغم العدل الذي اتصف به عمر رضي الله عنه، والذي اعترف به القاصي والداني، والعربي والعجمي، إلا أنه كان خائفاً أن يكون قد ظلم أحداً من المسلمين، فانتقم منه بقتله، فيُحاجَّه عند الله تعالى، كما تدل على ذلك رواية ابن شهاب: أن عمر قال: الحمد لله الذي لم يجعل قاتلي يحاجني عند الله بسجدة سجدها له قط، وكما تدل عليه كذلك رواية مبارك بن فضالة، يحاجني بقول: لا إله إلا الله[83]، وهذه عجيبة من عجائب هذا الإمام الرباني، ينبغي أن يتربى عليها الدعاة والمصلحون وأن يكون الانكسار علامة من أكبر علاماتهم حتى ينفع الله تعالى بهم، كما نفع بأسلافهم كعمر
-رضي الله عنه- وليكن مقال الجميع قول القائل:



واحسرتي، واشقوتي
واطُول حزني إن أكن
وإذا سُئلتُ عن الخطا
واحرّ قلبي أن يكون
كلا ولا قدّمتُ لي
بل إنني لشقاوتي
بارزت بالزلات في
من ليس يخفى عنه من



مِنْ يوم نشر كتابيه
أوتيته بشماليه
ماذا يكون جوابيه؟
مع القلوب القاسية
عملاً ليوم حسابيه
وقساوتي وعذابيه
أيام دهر خالية
قبح المعاصي خافية[84]







- التواضع الكبير عند الفاروق والإيثار العظيم عند السيدة عائشة:

التواضع الكبير عند الفاروق رضي الله عنه:3


وقد دل عليه من قصة استشهاده قوله لابنه عبد الله: انطلق إلى عائشة أم المؤمنين، فقل: يقرأ عليك عمر السلام، ولا تقل: أمير المؤمنين، فإني لست اليوم للمؤمنين أميراً[85]، ويدل عليه كذلك قوله لابنه لما أذنت عائشة بدفنه إلى جنب صاحبيه: فإذا أنا قضيت فاحملوني، ثم سلِّمْ، فقل: يستأذن عمر بن الخطاب، فإن أذنت لي فأدخلوني، وإن ردتني فردوني إلى مقابر المسلمين[86]، فرحم الله عمر -رضي الله عنه-، ورزقنا خُلُقاً من خُلُقه، وتواضعاً من تواضعه، وجزاه خير ما يجزي به الأتقياء المتواضعين، إن ربي قريب مجيب[87].

أ‌- الإيثار العظيم عند السيدة عائشة رضي الله عنها:

ومما يدل على الإيثار عند السيدة عائشة أنها رضي الله عنها كانت تتمنى أن تدفن بجوار زوجها صلى الله عليه وسلم، وأبيها أبي بكر، فلما استأذنها عمر لذلك أذنت وآثرته على نفسها وقالت: كنت أريده لنفسي، ولأوثرنه اليوم على نفسي[88].

4 - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو على فراش الموت:

إن اهتمام الفاروق بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لم يتخل عنه حتى وهو يواجه الموت بكل آلامه وشدائده، ذلك أن شاباً دخل عليه لما طُعن، فواساه، وقال: أبشر يا أمير المؤمنين ببشرى الله لك، من صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقَدَم في الإسلام ما قد علمت، ثم وُلِّيت فعدلت، ثم شهادة، قال -أي عمر- ودِدْت أن ذلك كفاف، لا عليّ ولا لي، فلما أدبر إذا إزاره يَمسُّ الأرض، قال رُدُّوا عليّ الغلام، قال: يا ابن أخي، ارفع ثوبك فإنه أنقَى لثوبك وأتقى لربك[89]، وهكذا لم يمنعه -رضي الله عنه- ما هو فيه من الموت عن الأمر بالمعروف ولذا، قال ابن مسعود -رضي الله عنه- فيما رواه عُمر بن شبة: يرحم الله عمر لم يمنعه ما كان فيه من قول الحق[90]، ومن عنايته الفائقة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في هذه الحالة أيضاً، لما دخلت عليه حفصة -رضي الله عنها- فقالت: يا صاحب رسول الله، ويا صهر رسول الله، ويا أمير المؤمنين، فقال عمر لابن عمر رضي الله عنهما: يا عبد الله: أجلسني فلا صبر لي على ما أسمع، فأسنده إلى صدره، فقال لها: إنّي أحرج عليك[91] بمالي عليك من الحق أن تندبيني[92]، بعد مجلسك هذا، فأما عينك فلن أملكها[93]، وعن أنس بن مالك قال: لما طُعن عمر صرخت حفصة فقال عمر: يا حفصة أما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن المعول عليه يعذب؟ وجاء صُهَيب فقال: واعمراه فقال: ويلك يا صهيب أما بلغك أن المعول عليه يعذب[94]، ومن شدته في الحق رضي الله عنه حتى بعد طعنه وسيلان الدم منه فعندما قال له رجل: استخلف عبد الله بن عمر، قال: والله ما أردت الله بهذا[95].

5- جواز الثناء على الرجل بما فيه إذا لم تُخْشَ عليه الفتنة:

كما هو الحال هنا مع عمر -رضي الله عنه-، إذ أُثني عليه من قِبل بعض الصحابة لأنهم كانوا يعلمون أن الثناء عليه لا يفتنه، قال ابن عباس رضي الله عنهما وهو العالم الرباني والفقيه الكبير: أليس قد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعز بك الدين والمسلمين؛ إذ يخافون بمكة، فلما أسلمت كان إسلامك عزاً وظهر بك الإسلام..، وأدخل الله بك على كل أهل بيت من توسعتهم في دينهم، وتوسعتهم في أرزاقهم، ثم ختم لك بالشهادة، فهنيئاً لك وهكذا لم تؤثر هذه الكلمات في قلب عمر شيئاً، ولم يفرح بها، ولذا ردّ على ابن عباس قائلاً: والله إن المغرور من تغرونه[96].

6- حقيقة موقف كعب الأحبار من مقتل عمر رضي الله عنه:

كعب الأحبار هو كعب بن مانع الحميري، كنيته أبو إسحاق، واشتهر بكعب الأحبار، أدرك النبي صلى الله عليه وسلم وهو رجل وأسلم في خلافة عمر، سنة اثنتي عشرة[97]، وقد اشتهر قبل إسلامه بأنه كان من كبار علماء اليهود في اليمن، وبعد إسلامه أخذ عن الصحابة الكتاب والسنة، وأخذوا وغيرهم عنه أخبار الأمم الغابرة خرج إلى الشام، وسكن حمص وتوفي فيها[98]، وقد اتهم كعب الأحبار في مؤامرة قتل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب فقد جاءت رواية في الطبري عن المسور بن مخرمة رضي الله عنه تشير إلى اتهامه في مقتل عمر جاء في تلك الرواية: .. ثم انصرف عمر إلى منزله، فلما كان من الغد جاءه كعب الأحبار فقال له: يا أمير المؤمنين، إعهد فإنك ميت في ثلاثة أيام، قال وما يدريك؟ قال: أجده في كتاب الله عز وجل التوراة، قال عمر: آلله إنك لتجد عمر بن الخطاب في التوراة؟ قال: اللهم لا ولكني أجد صفتك وحليتك وأنه قد فني أجلك قال: وعمر لا يحس وجعاً ولا ألماً فلما كان من الغد جاءه كعب، فقال: يا أمير المؤمنين ذهب يوم وبقي يوم وليلة؛ وهي لك إلى صبيحتها، قال: فلما كان الصبح، خرج إلى الصلاة، وكان يوكل بالصفوف رجالاً، فإذا استوت، جاء هو فكبر، قال: ودخل أبو لؤلؤة في الناس، في يده خنجر له رأسان نصابه في وسطه، فضرب عمر ست ضربات، إحداهن تحت سرته، وهي التي قتلته[99]، وقد بنى بعض المفكرين المحدثين على هذه الرواية نتيجة، مفادها: اشتراك كعب الأحبار، في مؤامرة قتل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه مثل د. جميل عبد الله المصري في كتابه: أثر أهل الكتاب في الفتن والحروب الأهلية في القرن الأول الهجري، وعبد الوهاب النجار في كتابه: الخلفاء الراشدون، والأستاذ غازي محمد فريج في كتابه: النشاط السري اليهودي في الفكر والممارسة[100]، وقد ردّ الدكتور أحمد بن عبد الله بن إبراهيم الزّغيبي على الاتهام الموجه لكعب الأحبار فقال: والذي أراه في هذه القصة المعقدة: أن تلك الرواية، التي رواها الإمام الطبري رحمه الله تعالى غير صحيحة، لأمور كثيرة من أهمها:

أ- أن هذه القصة لو صحت لكان من المنتظر من عمر رضي الله عنه أن لا يكتفي بقول كعب، ولكن لجمع طائفة ممن أسلم من اليهود وله إحاطة بـالتوراة مثل عبد الله بن سلام، ويسألهم عن هذه القصة، وهو لو فعل لافتضح أمر كعب، وظهر للناس كذبه، ولتبين لعمر رضي الله عنه أنه شريك في مؤامرة دبرت لقتله، أو أنه على علم بها، وحينئذ يعمل عمر رضي الله عنه على الكشف عنها بشتى الوسائل، وينكل بمدبريها، ومنهم كعب، هذا هو المنتظر من أي حاكم، فضلاً عن عمر رضي الله عنه المعروف بكمال الفطنة، وحدة الذهن، وتمحيص الأخبار لكن شيئاً من ذلك لم يحصل، فكان ذلك دليلاً على اختلاقها[101].

ب- أن هذه القصة لو كانت في التوراة، لما اختص بعلمها كعب رحمه الله تعالى وحده، ولشاركه العلم بها كل من له علم بـالتوراة من أمثال عبد الله بن سلام رضي الله عنه[102].

جـ- أن هذه القصة لو صحت أيضاً لكان معناها أن كعباً له يد في المؤامرة وأنه يكشف عن نفسه بنفسه، وذلك باطل لمخالفته طباع الناس، إذ المعروف أنه من اشترك في مؤامرة، يبالغ في كتمانها بعد وقوعها، تفادياً من تحمل تبعاتها، فالكشف عنها قبل وقوعها لا يكون إلا من مغفل أبله، وهذا خلاف ما كان عليه كعب، من حدة الذهن، ووفرة الذكاء[103].

د- ثم ما لـالتوراة وتحديد أعمار الناس؟ إن الله تعالى إنما أنزل كتبه هدى للناس، لا لمثل هذه الأخبار التي لا تعدو أصحابها[104].

و- ثم أيضاً هذه التوراة بين أيدينا ليس فيها شيء من ذلك مطلقاً وبعد أن أورد الشيخ محمد محمد أبو زهو[105] تلك الاعتراضات الأربعة الأولى، عقب عليها، بقوله: ومن ذلك كله، يتبين لك أن هذه القصة مفتراة، بدون أدنى اشتباه، وأن رمي كعب بالكيد للإسلام في شخص عمر، والكذب في النقل عن التوراة اتهام باطل، لا يستند على دليل أو برهان[106].

ويقول الدكتور محمد السيد حسين الذهبي رحمه الله: ورواية ابن جرير الطبري للقصة لا تدل على صحتها، لأن ابن جرير كما هو معروف عنه لم يلتزم الصحة في كل ما يرويه، والذي ينظر في تفسيره يجد فيه مما لا يصح شيئاً كثيراً[107]، كما أن ما يرويه في تاريخه لا يعدو أن يكون من قبل الأخبار التي تحتمل الصدق والكذب، ولم يقل أحد بأن كل ما يروى في كتب التاريخ[108]، ثابت وصحيح[109]، ثم يتابع قائلاً: ثم إن ما يعرف عن كعب الأحبار من دينه، وخلقه، وأمانته، وتوثيق أكثر أصحاب الصحاح[110] له، يجعلنا نحكم بأن هذه القصة موضوعة عليه، ونحن ننزه كعباً عن أن يكون شريكاً في قتل عمر، أو يعلم من يدبر أمر قتله ثم لا يكشف لعمر عنه، كما ننزهه أن يكون كذاباً وضاعاً، يحتال على تأكيد ما يخبر به من مقتل عمر نسبته إلى التوراة وصوغه في قالب إسرائيلي[111]. إلى أن يقول: اللهم إن كعباً مظلوم من متهميه، ولا أقول عنه: إلا أنه ثقة مأمون، وعالم استغل اسمه، فنسب إليه روايات معظمها خرافات وأباطيل، لتروج بذلك على العامة، ويتقبلها الأغمار من الجهلة[112].

وأما الدكتور محمد السيد الوكيل فيقول: إن أول ما يواجه الباحث هذا هو موقف عبيد الله بن عمر الذي لم يكد يسمع بما حدث لأبيه حتى يحمل سيفه، ويهيج كالسبع الحرب، ويقتل الهرمزان وجفينة وابنة صغيرة لأبي لؤلؤة؛ أفترى عبيد الله هذا يترك كعب الأحبار والشبهة تحوم حوله، ويقتل ابنة أبي لؤلؤة الصغيرة؟ إن أحداً يبحث الموضوع بحثاً علمياً لا يمكن أن يقبل ذلك، ويضاف إلى ذلك أن جمهور المؤرخين لم يذكروا القصة، بل لم يشيروا إليها، فابن سعد في الطبقات وقد فصل الحادث تفصيلاً دقيقاً لم يشر قط إلى الحادثة، بل كل ما ذكر عن كعب الأحبار أنه كان واقفاً بباب عمر يبكي ويقول: والله لو أن أمير المؤمنين يقسم على الله أن يؤخره لأخره[113]، وأنه دخل على عمر بعد أن أخبره الطبيب بدنوا أجله فقال: ألم أقل لك إنك لا تموت إلا شهيداً، وأنت تقول: من أين وأنا في جزيرة العرب[114]، ويأتي بعد ابن سعد ابن عبد البر في الاستيعاب فلا يذكر شيئاً قط عن قصة كعب الأحبار[115]، وأما ابن كثير فيقول: إن وعيد أبي لؤلؤة كان عشية يوم الثلاثاء، وأنه طعنه صبيحة يوم الأربعاء لأربع بقين من ذي الحجة[116]، لم يكن إذن بين التهديد والتنفيذ سوى ساعات معدودات، فكيف ذهب كعب الأحبار إلى عمر، وقال له ما قال: اعهد فإنك ميت في ثلاثة أيام، ثم يقول: مضى يوم وبقي يومان، ثم مضى يومان وبقي يوم وليلة، من أين لكعب هذه الأيام الثلاثة إذا كان التهديد في الليل والتنفيذ صبيحة اليوم التالي؟ ويتوالى المؤرخون، فيأتي السيوطي في تاريخ الخلفاء، والعصامي في سمط النجوم العوالي، والشيخ محمد بن عبد الوهاب، وابنه عبد الله في كتابيهما مختصرة سيرة الرسول، وحسن إبراهيم حسن في تاريخ الإسلام السياسي وغيرهم فلا نجد واحداً منهم يذكر القصة من قريب أو بعيد. أليس هذا دليلاً على أن القصة لم تثبت بصورة تجعل المحقق يطمئن إلى ذكرها هذا إذا لم تكن منتحلة مصنوعة كاد بها بعض الناس لكعب لينفروا منه المسلمين، وهذا ما تطمئن إليه النفس ويميل إليه القلب، وبخاصة بعد ما عرفنا أن كعباً كان حسن الإٍسلام، وكان محل ثقة كثير من الصحابة حتى رووا عنه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم[117].

7- ثناء الصحابة والسلف على الفاروق:

أ- في تعظيم عائشة رضي الله عنها له بعد دفنه:


عن عائشة رضي الله عنها قالت: كنت أدخل بيتي الذي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلم وأبي، فلما دفن عمر معهما فوالله ما دخلته إلا وأنا مشدودة علي ثيابي حياء من عمر[118]، وعن القاسم بن محمد عن عائشة رضي الله عنها قالت: من رأى ابن الخطاب، علم أنه خلق غناء للإسلام، كان والله أحوذياً[119]، نسيج وحده، قد أعد للأمور أقرانها[120]، وعن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: إذا ذكرتم عمر طاب المجلس[121].

ب- سعيد بن زيد رضي الله عنه:

روي عن سعيد بن زيد أنه بكى عند موت عمر فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: على الإسلام، إن موت عمر ثَلَم الإسلام ثلمة لا ترتق إلى يوم القيامة[122].

ت- عبد الله بن مسعود رضي الله عنه:

قال عبد الله بن مسعود: لو أن علم عمر بن الخطاب وضع في كفة الميزان، ووضع علم الأرض في كفة لرجح علم عمر[123]، وقال أيضاً: إني لأحسب عمر قد ذهب بتسعة أعشار العلم[124]. وقال عبد الله بن مسعود: كان إسلام عمر فتحاً وكانت هجرته نصراً وكانت إمارته رحمة[125].

ث- قال أبو طلحة الأنصاري: والله ما من أهل بيت من المسلمين إلا وقد دخل عليهم في موت عمر نقص في دينهم وفي دنياهم[126].

ج- قال حذيفة بن اليمان: إنما كان مثل الإسلام أيام عمر مثل مقبل لم يزل في إقبال، فلما قتل أدبر فلم يزل في إدبار[127].

ح- عبد الله بن سلام: جاء عبد الله بن سلام رضي الله عنه بعدما صلى على عمر رضي الله عنه فقال: إن كنتم سبقتموني بالصلاة عليه، فلن تسبقوني بالثناء عليه، ثم قال، نعم أخو الإسلام كنت يا عمر جواداً بالحق، بخيلاً بالباطل، ترضى من الرضى وتسخط من السخط، لم تكن مداحاً ولا معياباً، طيب العَرْف[128]، عفيف الطرف[129].

خ- العباس بن عبد المطلب: قال العباس بن عبد المطلب: كنت جاراً لعمر بن الخطاب رضي الله عنه فما رأيت أحداً من الناس كان أفضل من عمر، إن ليله صلاة، ونهاره صيام، وفي حاجات الناس، فلما توفي عمر سألت الله تعالى: أن يرينه في النوم فرأيته في النوم مقبلاً متشحاً من سوق المدينة، فسلمت عليه وسلم عليَّ، ثم قلت له: كيف أنت؟ قال بخير. قلت له: ما وجدت؟ قال: الآن حين فرغت من الحساب، ولقد كاد عرشي يهوي لولا أني وجدت رباً رحيماً[130].

د- معاوية بن أبي سفيان: قال معاوية: أما أبو بكر فلم يرد الدنيا ولم تُرِده، وأما عمر فأرادته الدنيا ولم يُرِدْها، وأمّا نحن فتمرغنا فيها ظهْراً لبطن[131].

ذ- علي بن الحسين: عن ابن أبي حازم عن أبيه قال: سئل علي بن الحسين عن
أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ومنزلتهما من رسول الله قال: كمنزلتهما اليوم، وهما ضجيعاه[132].

ر- قبيصة بن جابر: عن الشعبي قال: سمعت قبيصة بن جابر يقول: صحبت عمر بن الخطاب رضي الله عنه فما رأيت أقرأ لكتاب الله ولا أفقه في دين الله، ولا أحسن مدارسة منه[133].

ز- الحسن البصري: قال الحسن البصري إذا أردتم أن يطيب المجلس فأفيضوا في ذكر عمر[134]، وقال أيضاً: أي أهل بيت لم يجدوا فقده فهم أهل بيت سوء[135].

س- علي بن عبد الله بن عباس: قال: دخلت في يوم شديد البرد على عبد الملك بن مروان فإذا هو في قبة باطنها فُوهِيُّ[136] معصفر، وظاهرها خزاعيز[137]، وحوله أربعة كوانين[138]، قال فرأى البرد في تقفْقُفي[139]، فقال: ما أظن يومنا هذا إلا بارداً. قلت: أصلح الله الأمير ما يظن أهل الشام أنه أتى عليهم يوم أبرد منه، فذكر الدنيا، وذمها، ونال منها، وقال: هذا معاوية عاش أربعين سنة عشرين أميراً، وعشرين خليفة، لله در ابن حنتمة ما كان أعلمه بالدنيا يعني عمر رضي الله عنه[140].

8- آراء بعض العلماء والكتّاب المعاصرين:

أ- قال الدكتور محمد محمد الفحام شيخ الأزهر السابق: لقد كشفت أعمال عمر عن تفوقه السياسي، وبيّنت مواهبه العديدة التي ملكها، وعن عبقريته الخالدة، التي لا تزال تضيء أمامنا الطريق في العديد من مشكلات الحياة المختلفة في معالجة القضايا والمشاكل التي واجهته أثناء خلافته[141].

ب- قال عباس محمود العقاد: إن هذا الرجل العظيم أصعب من عرفت من عظماء الرجال نقداً ومؤاخذة ومن مزيد مزاياه أن فرط التمحيص وفرط الإعجاب في الحكم له أو عليه يلتقيان، وكتابي عبقرية عمر ليس بسيرة لعمر ولا بتاريخ لعصره على نمط التواريخ التي تقصد بها الحوادث والأنباء، ولكنه وصف له ودراسة لأطواره، ودلالة على خصائص عظمته واستفادة من هذه الخصائص لعلم النفس وعلم الأخلاق وحقائق الحياة.. وعمر يعد رجل المناسبة الحاضرة في العصر الذي نحن فيه، لأنه العصر الذي شاعت فيه عبادة القوة الطاغية وزعم الهاتفون بدينها أن البأس والحق نقيضان؛ فإذا فهمنا عظيماً واحداً كعمر بن الخطاب، فقد هدمنا دين القوة الطاغية على أساسه، لأننا سنفهم رجلاً كان غاية في البأس، وغاية في العدل، وغاية في الرحمة.. وهذا الفهم ترياق داء العصر يشفى به من ليس بميئوس الشفاء[142].

ت- قال الدكتور أحمد شلبي: .. وكان الاجتهاد من أبرز الجوانب في حياة عمر خلال حقبة خلافته الحافلة بالأحداث، فحفظ الدين، ورفع راية الجهاد، وفتح البلاد، ونشر العدل بين العباد، وأنشأ أول وزارة مالية في الإسلام، وكون جيشاً نظامياً للدفاع وحماية الحدود، ونظم المرتبات والأرزاق، ودون الدواوين، وعين الولاة والعمال والقضاة، وأقر النقود للتداول الحياتي، ورتب البريد، وأنشأ نظام الحسبة، وثبت التأريخ الهجري، وأبقى الأرض المفتوحة دون قسمة، وخطط المدن الإسلامية وبناها، فهو بحق أمير المؤمنين وباني الدولة الإسلامية[143].

ث- قال المستشار علي علي منصور: إن رسالة عمر في القضاء إلى أبي موسى الأشعري قبل أربعة عشر قرناً من الزمن دستور للقضاء والمتقاضين، وهي أكمل ما وصلت إليه قوانين المرافعات الوضعية وقوانين استقلال القضاء[144].

جـ- اللواء الركن محمود شيت خطاب: وإذا كانت أسباب الفتح الإسلامي كثيرة، فإن على رأس تلك الأسباب ما كان يتمتع به عمر بن الخطاب من سجايا قيادية فذة لا تتكرر في غيره على مر السنين والعصور إلا نادراً[145].

ح- الدكتور صبحي المحمصاني: بانقضاء عهد الخليفة الراشد عمر، ينقضي عهد مؤسس الدولة الإسلامية التي وسع رقاعها، وثبت دعائمها، فكان مثال القائد الموجه، والأمير الحازم الحكيم، والراعي المسؤول، والحاكم القوي العادل والرفيق الرؤوف، ثم مات ضحية الواجب، وشهيد الصدق والصلاح، فكان مع الصديقين والصالحين من أولياء الله تعالى وسيبقى اسم عمر بن الخطاب مخلداً ولامعاً في تاريخ الحضارة والفقه[146].

س- الشيخ علي طنطاوي: أنا كلما ازددت اطلاعاً على أخبار عمر، زاد إكباري وإعجابي به، ولقد قرأت سير آلاف العظماء من المسلمين وغير المسلمين، فوجدت فيهم من هو عظيم بفكره، ومن هو عظيم ببيانه، ومن هو عظيم بخلقه، ومن هو عظيم بآثاره، ووجدت عمر قد جمع العظمة من أطرافها، فكان عظيم الفكر والخُلق والبيان، فإذا أحصيت عظماء الفقهاء والعلماء، ألفيت عمر في الطليعة، فلو لم يكن له إلا فقهه لكان به عظيماً، وإن عددت الخطباء والبلغاء كان اسم عمر من أوائل الأسماء، وإن ذكرت عباقرة المشرعين، أو نوابغ القواد العسكريين، أو كبار الإداريين الناجحين، وجدت عمر إماماً في كل جماعة، وعظيماً في كل طائفة، وإن استقريت العظماء الذين بنوا دولاً، وتركوا في الأرض أثراً، لم تكد تجد فيهم أجلّ من عمر. وهو فوق ذلك عظيم في أخلاقه عظيم في نفسه[147].

9- آراء بعض المستشرقين في عمر رضي الله عنه:

أ- قال موير في كتابه الخلافة: كانت البساطة والقيام بالواجب من أهم مبادئ عمر وأظهر ما اتصفت به إدارته عدم التحيز والتعبد وكان يقدر المسؤولية حق قدرها وكان شعوره بالعدل قوياً ولم يحاب أحداً في اختيار عماله، ومع أنه كان يحمل عصاه ويعاقب المذنب في الحال حتى قيل إن دِرة عمر أشد من سيف غيره إلا أنه كان رقيق القلب وكانت له أعمال سجلت له شفقته، ومن ذلك شفقته على الأرامل والأيتام[148].

ب- وقالت عنه دائرة المعارف البريطانية: كان عمر حاكماً عاقلاً، بعيد النظر، وقد أدى للإسلام خدمة عظيمة[149].

ت- وقال الأستاذ واشنجتون إيرفنج في كتابه محمد وخلفاؤه: إن حياة عمر من أولها إلى آخرها تدل على أنه كان رجلاً ذا مواهب عقلية عظيمة، وكان شديد التمسك بالاستقامة والعدالة، وهو الذي وضع أساس الدولة الإسلامية ونفذ رغبات النبي صلى الله عليه وسلم وثبتها، وآزر أبا بكر بنصائحه في أثناء خلافته القصيرة، ووضع قواعد متينة للإدارة الحازمة في جميع البلدان التي فتحها المسلمون، وإن اليد القوية التي وضعها على أعظم قواده المحبوبين لدى الجيش في البلاد النائية وقت انتصاراتهم، لأكبر دليل على كفاءته الخارقة لإدارة الحكم وكان ببساطة أخلاقه واحتقاره للأبهة والترف، مقتدياً بالنبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، وقد سار على أثرهما في كتبه وتعليماته للقواد[150].

جـ- وقال الدكتور مايكل هارت: إن مآثر عمر مؤثرة حقاً، فقد كان الشخصية الرئيسية في انتشار الإسلام بعد محمد صلى الله عليه وسلم[151]، وبدون فتوحاته السريعة من المشكوك به أن ينتشر الإسلام بهذا الشكل الذي هو عليه الآن، زد على ذلك أن معظم الأراضي التي فتحها في زمنه بقيت عربية[152] منذ ذلك العهد حتى الآن، ومن الواضح أن محمد صلى الله عليه وسلم له الفضل الأكبر في هذا المضمار، ولكن من الخطأ الفادح أن نتجاهل دور عمر وقيادته الواعية[153].

10- ما قيل من الشعر في رثاء الفاروق رضي الله عنه:

قالت عاتكة بنت زيد بن عمرو بن الخطاب رضي الله عنها:

فجَّعَني فيروز لا در دره



بأبيض تالٍ للكتاب مُنيب



رؤوف على الأدنى غليظ على العدا



أخي ثقة في النائبات مجيب



متى ما يَقُل لا يُكذب القول فعله



سريع إلى الخيرات غير قطوب[154]




وقالت أيضاً:

عين جودي بعبرة ونحيب



لا تَمَلِّي على الإمام النجيب



فجعتني المنون بالفارس



المعلم يوم الهياج والتلبيب[155]



عصمة الناس والمعين على



الدهر وغيث المنتاب والمحروب



قل لأهل السراء والبؤس موتوا



قد سقته المنون كأس شَعوب[156]






هذا وقد طويت بوفاة الخليفة الراشد العادل عمر بن الخطاب رضي الله عنه صفحة من أنصع صفحات التاريخ وأنقاها فقد عرف فيه التاريخ رجلاً فذاً من طراز فريد، لم يكن همه جمع المال، ولم تستهوه زخرفة السلطان، ولم تمل به عن جادة الحق سطوة الحكم، ولم يحمل أقاربه ولا أبناءه على رقاب الناس، بل كان كل همه انتصار الإسلام، وأعظم أمانيه سيادة الشريعة وأقصى غايته تحقيق العدالة بين أفراد رعيته، وقد حقق ذلك كله بعون الله عز وجل في تلك الفترة الوجيزة التي لا تعد في عمر الدول شيئاً مذكوراً[157].

إن دراسة هذه السيرة العطرة تمد أبناء الجيل بالعزائم العمرية التي تعيد إلى الحياة روعة الأيام الجميلة الماضية، وبهجتها وبهاءها، وترشد الأجيال بأنه لن يصلح أواخر هذا الأمر إلا بما صلحت به أوائله وتساعد الدعاة والعلماء على الاقتداء بذلك العصر الراشدي ومعرفة معالمه وصفاته ومنهجه في السير في دنيا الناس وذلك يساعد أبناء الأمة على إعادة دورها الحضاري من جديد.

هذا وقد انتهيت من هذا الكتاب يوم الأربعاء الساعة السابعة وخمس دقائق صباحاً بتاريخ 13 رمضان 1422هـ الموافق 28 نوفمبر 2001م والفضل لله من قبل ومن بعد، وأسأله سبحانه وتعالى أن يتقبل هذا العمل ويشرح صدور العباد للانتفاع به ويبارك فيه بمنه وكرمه وجوده قال تعالى:} مَا يَفْتَحْ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ2 { فاطر،آية:2.

ولا يسعني في نهاية هذا الكتاب إلا أن أقف بقلب خاشع منيب بين يدي الله عز وجل، معترفاً بفضله وكرمه وجوده فهو المتفضِّلُ وهو المكرم وهو المعين وهو الموفِّقُ، فله الحمد على ما منَّ به عليَّ أولاً وآخراً، وأسأله سبحانه بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعل عملي لوجهه خالصاً ولعباده نافعاً، وأن يثيبني على كل حرف كتبته ويجعله في ميزان حسناتي، وأن يثيب إخواني الذين أعانوني بكافة ما يملكون من أجل إتمام هذا الجهد المتواضع، ونرجو من كل مسلم يطلع على هذا الكتاب أن لا ينسى العبد الفقير إلى عفو ربه ومغفرته ورحمته ورضوانه من دعائه. قال تعالى: } رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي
عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ19 { النمل،آية:19.

سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.



الفقير إلى عفو ربه ومغفرته ورحمته ورضوانه





علي محمد محمد الصَّلاَّبي



=-=-=-=-=-=-=-

ملاحظه :: جميع ماسبق مختاراتي من المواضيع وليس جميع الكتاب , من اراد الزيادة فليطلع على الرابط في بدايات الصفحة .








 
قديم 20-01-13, 08:25 AM   رقم المشاركة : 28
من أتباع محمد
مشترك جديد






من أتباع محمد غير متصل

من أتباع محمد is on a distinguished road


الحمد لله الذي أعز الإسلام بعمر







 
قديم 10-09-13, 11:01 PM   رقم المشاركة : 29
بيارق النصر
عضو ماسي






بيارق النصر غير متصل

بيارق النصر is on a distinguished road


مُبكيه .. نسأل الله أن يجعلنا بحبنا اياكم في زمرتكم يوم القيامة مع خير البريه عليه الصلاة والسلام
نسأل الله ان تكونوا جيرانًا لنا في الجنة وأصحابنا في الجنة وما ذالك على الله بعزيز ..







 
قديم 14-12-15, 03:31 AM   رقم المشاركة : 30
محمد السباعى
عضو ماسي






محمد السباعى غير متصل

محمد السباعى is on a distinguished road


جزاك الله خيرا







 
 

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 12:09 PM.


Powered by vBulletin® , Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir
" ما ينشر في المنتديات يعبر عن رأي كاتبه "