الفصل الخامس فقه عمر رضي الله عنه في التعامل مع الولاة
لما اتسعت رقعة الدولة الإسلامية في عهد عمر، قسم الدولة أقساماً إدارية كبيرة، ليسهل حكمها والإشراف على مواردها، وقد كانت الفتوحات سبباً رئيساً في تطوير عمر لمؤسسات الدولة ومن بينها مؤسسة الولاة.
المبحث الأول: أقاليم الدولة
يعتبر تقسيم الولايات في عهد عمر امتداداً في بعض نواحيه لما كانت عليه في عهد أبي بكر إقليمياً، مع وجود تغيرات في المناصب القيادية لهذه الولايات في كثير من الأحيان وإليك نبذة مختصرة عن هذه الولايات.
أولاً: مكة المكرمة:
تولى ولاية مكة في عهد عمر رضي الله عنه مُحرز بن حارثة بن ربيعة بن عبد شمس ثم ولي مكة لعمر فُنقُذ بن عمير بن جدعان التميمي، وشأنه شأن من سبقه فلم تذكر أخبار عن مدة ولايته لمكة أو أحداثها وبعده تولى مكة لعمر نافع بن الحارث الخزاعي وقد توفي عمر رضي الله عنه وهو على مكة وذكرت المصادر بعض الأحداث عن ولايته مكة منها شراؤه داراً من صفوان بن أمية بغرض جعلها سجناً وذلك فيما رواه البخاري[1] وقد ورد أيضاً أن نافعاً لقي عمر بـ عُسْفَان أثناء قدومه للحج فقال له عمر من استعملت على الوادي يعني مكة؟ قال نافع: ابن أبْزى قال: ومن ابن أبْزى؟ قال: مولى من موالينا، فقال: استعملت عليهم مولى؟ فقال: إنه قارئ لكتاب الله عالم بالفرائض قال عمر: أما إن نبيكم قال: الله يرفع بهذا الكتاب قوماً ويضع به آخرين[2]، وفي عهد عمر كانت أبرز الأعمال لولاية مكة هي توسعة الحرم المكي حيث قام عمر بشراء بعض الدور المجاورة للحرم وأمر بهدمها وإدخالها ضمن حرم المسجد وبنى حوله جدراناً قصيرة كانت مكة ملتقى الأمراء والولاة في مختلف الأصقاع بالخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه في موسم الحج وبالتالي كان لمكة دور أساسي كبير كإحدى الولايات الرئيسية للدولة الإسلامية في عهد عمر رضي الله عنه.
ثانياً: المدينة النبوية:
يعتبر الخليفة هو الوالي المباشر للمدينة، نظراً لأنه كان يقيم فيها وبالتالي كان يتولى شؤونها ويسوس أمورها، وخلال غياب الخليفة عمر عن المدينة كان يولي عليها من يقوم مقامه في إدارة شؤون المدينة المختلفة، فكان عمر أحيانا يولي على المدينة خلال بعض أسفاره أو حجه زيد بن ثابت رضي الله عنه[3] كما ولى عمر علي بن
أبي طالب على المدينة عدة مرات أثناء غيابه[4] وهكذا فإن عمر رضي الله عنه سار على سياسة الرسول صلى الله عليه وسلم وأبي بكر في الاستخلاف على المدينة في حال غيابه، وتكتسب ولاية المدينة المنورة أهمية سياسية متميزة بين الولايات المختلفة في تلك الأيام لعدة أسباب على رأسها أنها مقر الخليفة عمر، ومصدر الأوامر إلى مختلف الأقاليم الإسلامية ومنها تنطلق الجيوش المجاهدة، يضاف لذلك أنها مقر إقامة الكثير من الصحابة رضوان الله عليهم، والذين كان عمر يمنعهم من الانتشار في الأمصار[5]، ولذلك كان يفد إليها الكثير من طلاب العلم الذين يريدون أن يأخذوا القرآن وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم وفقههما من أفواه الصحابة رضوان الله عليهم[6].
ثالثاً: الطائف:
تعتبر الطائف إحدى أهم المدن الإسلامية في عهد عمر رضي الله عنه، وكانت تمد حركة الجهاد بالمقاتلين الأشداء، وكان واليها منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم عثمان بن أبي العاص وأقره أبو بكر على ما كان عليه، واستمرت ولايته على الطائف لمدة سنتين من خلافة عمر، وقد تاقت نفس عثمان بن أبي العاص إلى الجهاد، فكتب إلى عمر يستأذنه في الغزو فقال له عمر: أما أنا فلا أعزلك، ولكن استخلف من شئت فاستخلف رجلاً من أهل الطائف مكانه، وعين عمر عثمان على عُمان والبحرين[7] وقد ورد أن والي عمر على الطائف حين وفاته هو سفيان بن عبد الله الثقفي [8]، وقد كان بينه وبين عمر بن الخطاب مكاتبات تتعلق بأخذ الزكاة من الخضار والفواكه أو من العسل[9]، وكلها تدل على كثرة المزارع ووفرة الإنتاج الزراعي في الطائف أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقد ظلت مدينة الطائف وما جاورها تنعم بالاستقرار في عهد عمر رضي الله عنه، وقد كانت لأهل مكة متنفساً يقدمون إليه في الصيف[10]، واعتبرت الطائف أحد الأمصار الرئيسية التابعة للدولة الإسلامية في عهد عمر[11].
رابعاً: اليمن:
عندما تولى عمر رضي الله عنه الخلافة كانت اليمن تنعم بالاستقرار، وقد ضبطت أمورها عن طريق ولاة موزعين في أنحاء اليمن، وقد أقر عمر عمال أبي بكر على اليمن[12]، وكان يعلى بن أمية أحد ولاة أبي بكر على اليمن، وقد لمع اسمه في خلافة عمر بن الخطاب، وذكر المؤرخون بأنه والي بعد ذلك على أنه والي عمر على اليمن واشتهر بذلك حتى وفاة عمر رضي الله عنه[13] وقد أوردت المصادر العديد من الحوادث التي وقعت لوالي اليمن يعلى بن أمية مع بعض الأهالي من اليمن، إضافة إلى حديثها عن بعض القضايا التي قدم أصحابها شكاوى ضد يعلى أمام عمر بن الخطاب، مما استلزم استدعاء يعلى إلى المدينة المنورة عدة مرات حقق خلالها عمر معه في هذه القضايا[14]،وفي أثناء غياب يعلى كان عمر أحياناً يعين مكانه من يقوم بعمله، وقد كانت بين يعلى وعمر عدة مكاتبات تتعلق بقضايا الزكاة[15]، كما ذكر يعلى نفسه ضمن الولاة الذين قاسمهم عمر أموالهم في أواخر خلافته[16] وقد ذكر من ولاة اليمن لعمر عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي، ولعله كان على منطقة محددة من اليمن وهي الجَنَد كما صرح بذلك الطبري حيث ذكره ضمن ولاته حين وفاته إذ كان والياً لعمر على الجند بجانب ذكر ليعلى كوالٍ لليمن[17] وقد لعب أهل اليمن دوراً رئيسياً في حركة الفتوح أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فاشتركوا في فتوح الشام وفي فتوح العراق ومصر[18]، وعندما اختطت الأمصار الإسلامية الجديدة في العراق كالبصرة والكوفة نزلتها الكثير من القبائل اليمنية وعلى رأسها كنده التي نزلت الكوفة[19]، كما استقرت أعداد أخرى من القبائل اليمنية بالشام، وكان لهم دور كبير في فتوحاتها، كما سكنت مجموعة منهم في مصر بعد إنشاء الفسطاط[20]، ولا شك أن هذه الهجرات المنظمة من القبائل اليمنية في عهد عمر قد خطط لها، وقد يكون لأمراء البلدان على اليمن دور كبير في هذا التخطيط وفي عملية توزيع القبائل على الأمصار، ومن هنا كانت اليمن من أهم الولايات الإسلامية على عهد عمر، وكان دورها وتأثيرها واضحاً بالنسبة لمختلف الولايات[21].
خامساً: البحرين:
عندما تولى عمر أمر المسلمين كان العلاء بن الحضرمي والياً على البحرين، فأقره عمر في بداية خلافته والياً عليها واستمر عليها حتى سنة أربع عشرة على أرجح الأقوال[22]، وقد اشترك العلاء رضي الله عنه في الجهاد المبكر في نواحي بلاد الفرس، وكان له دور رئيس فيه، وفي أواخر فترة ولاية العلاء على البحرين أصدر عمر رضي الله عنه قراراً بعزله العلاء عن الولاية، ونقله إلى ولاية البصرة وقد كره العلاء ذلك فتوفي قبل أن يصل البصرة ودفن في البحرين وقد قيل في سبب عزله إنه غزا فارس عن طريق البحرين دون إذن من عمر وكان عمر يكره أن يحمل المسلمين في البحر، وبعد وفاة العلاء تولى على البحرين عثمان بن أبي العاص، فأخذ يجاهد ما يليه من نواحي بلاد فارس، حتى وصل في بعض فتوحه إلى نواحي السند، وقد صدرت أوامر عمر رضي الله عنه إلى عثمان بن أبي العاص تأمره بالتعاون في فتوحه مع والي البصرة أبي موسى الأشعري فأصبحت جيوشهما تتعاون في غزو فارس عن طريق البصرة[23].
وقد اشتهر عن عثمان بن أبي العاص ورعه وبعده عن الوقوع في الحرام[24]، وقد تولى عثمان ولاية البحرين لعمر مرتين على الأقل إذ أنه ولاه للمرة الأولى في السنة الخامسة عشرة ثم احتاج إليه لقيادة بعض الجيوش في نواحي البصرة، ليشترك في فتوحاتها، وقد تولى عيّاش بن أبي ثور [25] البحرين بعد عثمان بن أبي العاص، ويبدو أن فترته لم تطل، ثم ولى عمر على البحرين قدامة بن مظعون رضي الله عنه الذي صحبه أبو هريرة ووليَ له أمر القضاء في البحرين بالإضافة إلى بعض المهام الأخرى، وخلال فترة ولاية قدامة للبحرين امتدحه الناس، إلا أنه حدث في آخر ولايته أن اتهم رضي الله عنه بشرب الخمر، وبعد التحقيق ثبتت التهمة، فأقام الفاروق عليه الحد وعثمان بن مظعون خال أولاد عمر بن الخطاب، عبد الله وأم المؤمنين حفصة[26]، وقد غضب عثمان على عمر إلا أن عمر أصر علي إرضائه وكان يقول: إني رأيت رؤيا أنه قد أتاني آت في منامي فقال لي: صالح قدامة فإنه أخوك[27] وقيل إن عزل قدامة عن ولاية البحرين كان في سنة عشرين[28] للهجرة، وقد تولى على البحرين بعد قدامة الصحابي المعروف أبو هريرة رضي الله عنه وقد كان أبو هريرة يتولى بعض المسؤوليات في البحرين أثناء ولاية قدامة بن مظعون السابقة وكان ضمن الشهود الذين شهدوا على قدامة في الخمر، وقد أصدر عمر رضي الله عنه أمراً بتولية أبي هريرة على البحرين بعد عزله لقدامة[29] وقد ولى البحرين لعمر فيما بعد عثمان بن أبي العاص الثقفي مرة أخرى واستمر والياً عليها حتى توفي عمر[30]، وقد وردت في كثير من النصوص ولاية البحرين مضافة إليها عمان، ووردت روايات عند تولية عثمان بن أبي العاص أنه ولي البحرين واليمامة[31] وهذه الروايات تعطينا دلالة قوية على مدى ارتباط البحرين بكل من عمان واليمامة، وأن هذين القسمين ربما اعتبرا جزءاً من ولاية البحرين خلال عصر عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولا يخفى مدى الارتباط الجغرافي والبشري بين هذين الإقليمين وبين البحرين، وقد يفيد تعبير البحرين وما والاها الذي يردده المؤرخون ووجود توابع للبحرين ربما كان المقصود بها عمان واليمامة، وقد كانت البحرين مصدراً رئيسياً للخراج والجزية، وهذا يدل على ثراء هذه الولاية في تلك الأيام، وقد شاركت قبائل البحرين المسلمة وأمراؤها في بلاد فارس والمشرق، وكان لهم دور مهم في تلك الفتوح[32].
سادساً: مصر:
كان عمرو بن العاص رضي الله عنه هو الذي تولى فتح مصر وسيأتي تفصيل ذلك بإذن الله عند حديثنا عن الفتوحات وأقره عمر والياً عليها، واستمر في ولايته حتى توفي عمر بن الخطاب رغم اختلافه مع عمر في بعض الأحيان مما كان يدفع عمر إلى التهديد بتأديبه وكان عمرو هو والي مصر الرئيسي، مما كان يرد من وجود بعض الولاة الصغار الآخرين في مصر مثل ما ورد عن ولاية عبد الله بن أبي السرح على الصعيد إبان وفاة الخليفة عمر[33]، ومن الملاحظ في فترة ولاية عمرو بن العاص لمصر في عصر عمر كثرة تدخل الخليفة عمر في شؤون الولاية المختلفة[34]، وقد استفاد عمرو بن العاص من خبرة الأقباط في قضايا الخراج والجزية فاستخدمهم في هذا العمل[35]، وقد اشتهر عن عمرو منعه لجنوده من الزراعة والاشتغال بها ومعاقبة من يخالف ذلك بناءً على أوامر عمر بن الخطاب[36] وكان هذا بالطبع لتفريغ الجنود لأمور الجهاد، وعدم الركون إلى الدعة، أو الارتباط بالأرض، وقد كان للجند من الأرزاق التي تصرف من بيت المال ما يغنيهم عن ذلك، وقد استطاع عمرو بن العاص بمتابعة من الخليفة عمر تنظيم أمورها في سنوات قليلة حتى أخذت مكانتها كولاية كبرى من ولايات الدولة، وجرى فيها من الأحداث مما يدل على استقرار أوضاع الولاية، بالرغم من المخاطر التي كانت تحدق بها من جراء محاولة الروم المستمرة استعادتها عن طريق غزو الإسكندرية من ناحية البحر، وقد كانت هذه الولاية أرضاً خصبة لانتشار الإسلام فيها في عهد الخليفة عمر نظراً لما ظهر فيها من عدل بين الناس ورحمة، لم يعهدهما أهلها من قبل بالإضافة إلى اقتناعهم بحقائق الإسلام وتعاليمه السمحة فأصبحوا جنداً من جنوده، وكانت الأمور الإدارية في مصر تمضي بطريقة بسيطة إذ كان عمرو وهو الوالي وهو المسؤول عن الخراج، ولا يمنع هذا من استعانة عمرو ببعض الولاة على مناطق أخرى تابعة له كما مرّ، ولكن الوالي الرئيسي والمسؤول أمام الخليفة هو عمرو بن العاص طوال فترة حكم عمر بن الخطاب، وقد استفاد عمرو من بعض أهل البلاد في ترتيب أمور الخراج وتنظيم شؤونها المالية[37].
سابعاً: ولايات الشام:
حينما توفي أبو بكر الصديق رضي الله عنه كان المسؤول عن جيوش الشام وبلادها هو خالد بن الوليد رضي الله عنه، ولما تولى عمر رضي الله عنه الخلافة أصدر أمراً بعزل خالد بن الوليد عن ولاية الشام وتعيين أبي عبيدة بن الجراح مكانه أميراً لأمراء الشام، ومسؤولاً مباشراً عنهم ووالياً على الجماعة فيها[38]، وحينما تولى أبو عبيدة على الشام أخذ ينظم أمورها، ويعين الأمراء من قبله على المناطق المختلفة فيها، وأخذ يعيد تنظيمها حيث كان على بعضها أمراء سابقون فمنهم من أقره أبو عبيدة ومنهم من عزله، يقول خليفة بن خياط: فولى أبو عبيدة حين فتح الشامات يزيد بن أبي سفيان على فلسطين وناحيتها، وشرحبيل بن حسنة على الأردن، وخالد بن الوليد على دمشق وحبيب بن مسلمة على حمص ثم عزله، وولى عبد الله بن قرط الثمالي[39]، ثم عزله، وولى عبادة بن الصامت ثم عزله ورد عبد الله بن قرط[40]، وكان يبعث أحياناً بعض أصحابه لتولي مناطق من الشام لفترة معينة، ذلك أن أبا عبيدة بعث معاذ بن جبل على الأردن[41]، ومن ذلك إنابته لبعض الناس مكانه حين كان يسافر للجهاد فقد أناب سعيد بن زيد بن عمر بن نفيل[42]، على دمشق حين خروجه إلى بيت المقدس،وكان أبو عبيدة رحمه الله طوال فترة ولايته على الشام مثالاً للرجل الصالح الورع الذي يقتدي به بقية أمرائه ويقتدي به العامة، وقد استشهد كما مرّ معنا في طاعون عمواس ثم تولى بعده معاذ، فاستشهد بعده بأيام وحينما علم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، بوفاة أبي عبيدة ووفاة معاذ من بعده عين على أجناد الشام يزيد بن أبي سفيان رضي الله عنه وفرق أمراء آخرين على الشام، وقد كان يزيد صاحب خبرة في إمارة الأجناد، إذ كان على رأس أحد الجيوش التي بعثها أبو بكر إلى الشام للفتح، كما أن أبا عبيدة قد استخلفه عدة مرات على دمشق أثناء غزواته[43]، وقد ذكر المؤرخون أن عمر حينما ولّى يزيد على أجناد الشام حدد أمراء آخرين وزعهم على المناطق واختص يزيد بفلسطين والأردن[44]، وتعتبر فترة يزيد على الشام قصيرة لذلك يقل الحديث عنها في المصادر التاريخية وقد توفي يزيد في السنة الثامنة عشرة، وقبيل وفاته استخلف أخاه معاوية بن أبي سفيان على ما كان يتولاه وكتب إلى عمر كتاباً في ذلك، وكانت مدة ولاية يزيد قريباً من السنة[45]، وأقرّ عمر رضي الله عنه ولاية معاوية وأجرى تعديلات في إدارة الشام بعد وفاة يزيد، وقد حدد لمعاوية جند دمشق وخراجها، وحدّ من سلطات معاوية في القضاء والصلاة حيث بعث إليه برجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعلهما على القضاء والصلاة[46]، وهذا فيه تحديد لسطات معاوية خصوصاً أن الصلاة وكلت إلى غيره وكان الأمير في العادة هو أمير الصلاة، ولعل هناك أسباباً دفعت عمر إلى هذه السياسة الجديدة التي بدأت تظهر في الأقاليم الأخرى وبالأسلوب نفسه الذي نهجه مع معاوية تقريباً، وقد اشتهر معاوية بالحلم والبذل مما جعل مجموعات من الناس تلحق بولايته من العراق وغيرها[47]، وقد قام عمر بتعيين بعض الأمراء في الشام، وجعل ولايتهم من قبل معاوية، وخلال ولاية معاوية على بلاد الشام كان في بعض الأحيان يقوم ببعض الغزوات ضد الروم في شمال الشام وهي ما عرفت بالصوائف[48]، وقد استمر معاوية والياً على الشام بقية عصر عمر حتى وفاته رضي الله عنه، مع وجود أمراء آخرين في مناطق معينة من الشام لهم اتصالهم المباشر بالخليفة في المدينة المنورة، إلا أن معاوية يعتبر أشهرهم، حيث كان والياً على البلقاء والأردن وفلسطين وانطاكية وقلقيلية ومعرة مصرين وغيرها من مدن الشام[49]، وقد سماه بعض المؤرخين والي الشام بينما تحفط بعضهم فقالوا حين ذكروا ولاة عمر ومعاوية بن أبي سفيان على بعض الشام ولكن بعضهم ذكر أنه قبل موت عمر جمع الشام كلها لمعاوية بن أبي سفيان[50]، ولابد من التنبيه على أن الولايات كانت تجري فيها تغييرات مستمرة تبعاً للظروف العسكرية والظروف العامة للدولة في تلك الأيام، فكانت الأردن أحياناً تستقل وأحياناً تضم لها أقاليم وأحياناً تنزع منها أقاليم وتضم إلى الشام أو إلى فلسطين إلى غير ذلك مما لا يتسع المقام لذكره[51].
ثامناً: ولايات العراق وفارس:
كانت الفتوحات قد بدأت في العراق أيام أبي بكر رضي الله عنه وكانت في البداية تحت إمارة المثنى بن حارثة الشيباني إلى أن قدم خالد بن الوليد إلى العراق، فجعل الولاية له، فلما أمره بالمسير إلى الشام أعاد أبو بكر الولاية مرة أخرى إلى المثنى بن حارثة، وحينما تولى الخلافة عمر بن الخطاب عزل المثنى وعين أبا عبيدة بن مسعود الثقفي، وكان عزل المثنى في الوقت نفسه الذي عزل فيه خالداً، مما أثار استغراب الناس فقال عمر: إني لم أعزلهما في ريبة ولكن الناس عظموهما فخشيت أن يوكلوا إليهما[52]، ومع عزل المثنى فقد كان جندياً مخلصاً اشترك مع أبي عبيد في معظم معاركه وأبلى بلاء حسناً[53] وبعد استشهاد أبي عبيد عاد المثنى إلى القيادة ثم تولى قيادة جيوش العراق سعد بن أبي وقاص، وقد انتقضت على المثنى جراحه التي أصابته يوم الجسر فمرض منها ومات قبل أن يصل سعد بن أبي وقاص للعراق[54] فقد كانت البصرة قد بدأت بالظهور على مسرح الأحداث كولاية قبيل معركة القادسية، إلا أن انتصار القادسية وسقوط المدائن في يد المسلمين يعتبر بداية مرحلة جديدة وقوية في بلاد العراق، بدأ فيها تنظيم الولايات يأخذ شكلاً معيناً وبارزاً تتضح فيه الملامح العامة سواء في ولاية البصرة أو ولاية الكوفة، وما ألحق بكل منهما من المدن والقرى التي كانت تتبع كلاً منهما من أقاليم فارس والعراق، أو ما استقل عنهما من الولايات في بلاد فارس[55].
ولاية البصرة:
وجه عمر بن الخطاب إلى نواحي البصرة قبل إنشائها شريح بن عامر، أحد
بني سعد بن بكر مدداً لقطبة بن قتادة ثم ولاه عمر في نواحي البصرة، وقتل في إحدى المعارك[56]، ثم قام عمر بن الخطاب بإرسال عتبة بن غزوان إلى نواحي البصرة مع مجموعة من الجند وولاه عليها، وذلك في السنة الرابعة عشر وليس في السادسة عشر كما يرجح ذلك صالح أحمد العلي إذ يقول: ويزعم بعض المؤرخين أن عتبة أرسل سنة 16هـ بعد معركة القادسية أو جلولا ولكن الأغلبية المطلقة من المؤرخين يؤكدون أنه أرسل سنة 14هـ مما يجعلنا نرجح روايتهم[57]، وقد كانت مرحلة ولاية عتبة على البصرة مرحلة تأسيسية وهامة في حياة هذه الولاية، فقد كانت حافلة بالعديد من الأعمال الجليلة، ومنها مجموعة من الفتوح قام بها في بلاد الفرس القريبة منه على ضفتي دجلة والفرات[58]، وقد استعفى عتبة من عمر فأبى عمر أن يعفيه وكان ذلك في موسم الحج وعزم عليه عمر ليرجعن إلى عمله ثم انصرف فمات في الطريق إلى البصرة، فلما بلغ عمر موته قال أنا قتلته، لولا أنه أجل معلوم، وأثنى عليه خيراً وكانت وفاته في السنة السابعة عشرة[59] ثم تولى من بعده المغيرة بن شعبة وهو أول من وضع ديوان البصرة واستمر والياً على البصرة إلى أن عزله عمر رضي الله عنه في السنة السابعة عشرة من الهجرة بعد التهمة الموجهة إلى المغيرة بالزنا وقد قام عمر بالتحقيق وثبتت براءة المغيرة وجلد الشهود الثلاثة وقام عمر بعزل المغيرة، من باب الاحتياط والمصلحة، وولاه عمر فيما بعد على أماكن أخرى[60]، وبعد عزل المغيرة بن شعبة ولّى عمر على البصرة أبا موسى الأشعري رضي الله عنه، ويعتبر أبو موسى – بحق – أشهر ولاة البصرة أيام عمر بن الخطاب، فقد فتحت في أيامه المواقع العديدة في فارس، فكان يجاهد بنفسه ويرسل القواد للجهات المختلفة من البصرة، ففي أيامه تمكن البصريون من فتح الأهواز وما حولها وفتحوا العديد من المواضع المهمة وكانت فترة ولايته حافلة بالجهاد، وقد تعاون أبو موسى مع الولاة المجاورين له في كثير من الحروب والفتوحات، وقد قام بجهود كبيرة لتنظيم المناطق المفتوحة وتعيين العمال عليها وتأمينها وترتيب مختلف شؤونها، وقد جرت العديد من المراسلات بين أبي موسى وعمر بن الخطاب في مختلف القضايا منها توجيهه لأبي موسى في كيفية استقباله للناس في مجلس الإمارة ومنها نصيحته لأبي موسى بالورع ومحاولة إسعاد الرعية، وهي قيّمة قال فيها عمر: أما بعد فإن أسعد الناس من سعدت به رعيته، وإن أشقى الناس من شقيت به رعيته، إياك أن ترتع فيرتع عمالك، فيكون مثلك عند ذلك مثل البهيمة نظرت إلى خضرة من الأرض فرتعت فيها تبغي السمن وإنما حتفها في سمنها[61]، وهناك العديد من الرسائل بين عمر وأبي موسى تدل على نواحٍ إدارية وتنفيذية مختلفة كان يقوم بها أبو موسى بتوجيه من عمر، وقد جمع معظم هذه المراسلات محمد حميد الله في كتابة القيم عن الوثائق السياسية[62]، وتعتبر فترة ولاية أبي موسى على البصرة من أفضل الفترات حتى لقد عبر عنها أحد أحفاد البصريين فيما بعد، وهو الحسن البصري رحمه الله فقال: ما قدمها راكب خير لأهلها من أبي موسى[63]، إذ أن أبا موسى رحمه الله كان بالاضافة إلى إمارته خير معلم لأهلها، حيث علّمهم القرآن وأمور الدين المختلفة[64]، وفي عهد عمر بن الخطاب كان العديد من المدن في فارس، والتي فتحت في زمنه تخضع للبصرة وتدار من قبل والي البصرة الذي يعين عليها العمال من قبله، ويرتبطون به ارتباطاً مباشراً وهكذا اعتبرا أبو موسى من أعظم ولاة عمر اعتبر مراسلات عمر مع أبي موسى من أعظم المصادر التي كشفت سيرة عمر مع ولاته، وبيّنَت ملامح أسلوبه في التعامل معهم[65].
ولاية الكوفة:
يعد سعد بن أبي وقاص أول ولاة الكوفة بعد إنشائها بل إنه هو الذي أنشأها بأمر عمر، وكان له الولاية عليها وعلى المناطق المجاورة لها قبل بناء الكوفة، وقد استمر سعد والياً على الكوفة وقام بدوره على أكمل وجه، وكانت لسعد فتوحات عظيمة بعد استقراره بالكوفة في نواحي بلاد فارس[66]، كما كان لسعد مجموعة من الإصلاحات الزراعية في ولايته، منها أن مجموعة من الدهاقين سألوا سعداً أن يحفر لهم نهراً لصالح المزارعين في مناطقهم، فكتب سعد إلى عامله في المنطقة يأمره بحفر النهر لهم فجمع العمال وحفر النهر، وقد كان سعد ينظم أمور المناطق التابعة للكوفة ويعين عليها الولاة من قبله بعد التشاور مع عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، وقد أعجب عقلاء أهل الكوفة بسعد بن أبي وقاص وامتدحوه، فحين سأل عمر بن الخطاب أحد مشاهير الكوفة عن سعد أجاب: أنه متواضع في جبايته عربي في نمرته أسد في تأمُّرِه يعدل في القضية ويقسم بالسوية، ويبعد بالسرية ويعطف عليها عطف البرة وينقل علينا خفياً نقل الذرة[67]، كما سأل عمر جرير بن عبد الله عن سعد بن أبي وقاص وولايته فقال جرير: تركته في ولايته أكرم الناس مقدرة وأقلهم قسوة هو لهم كالأم البرة يجمع لهم كما تجمع الذرة أشد الناس عند البأس وأحب قريش إلى الناس[68]، ومع اقتناع خيار أهل الكوفة وعقلائها بسعد وامتداحهم له فقد وقعت بعض الشكاوي ضده من قبل بعض عوام الناس فتم عزله وسيتم بإذن الله بيان ذلك عند حديثنا عن الشكاوى ضد الولاة، وبعد عزل سعد بن أبي وقاص عن الكوفة أصدر عمر قراراً بتعيين عمار بن ياسر على صلاة الكوفة، ويلاحظ أن عماراً رضي الله عنه كان ضمن القادة الذي كانوا في الكوفة، وكان سعد بن أبي وقاص يستعين بهم أثناء ولايته على الكوفة ولذلك كانت لدى عمار خبرة سابقة وشبه كاملة عن الولاية قبل أن يتولى عليها، وتختلف ولاية عمار هذه عن ولاية سعد، إذ أن عمر جعل مع عمَّار أناساً آخرين يشتركون معه في المسؤولية ويتقاسمون المهام، فكان عمار على الصلاة وابن مسعود على بيت المال وعثمان بن حنيف على مساحة الأرض، لذلك اختلف الوضع إلى حد ما في الولاية في هذه المرحلة عما كانت عليه أيام سعد، ولا يمكننا تجاهل هذا التوزيع الجديد للمسؤولية في الولاية، وقد قام كل منهم بما نيط به من أمور، فكان عمار يقوم بالصلاة، وينظم أمور الولاية وشؤونها ويقود الجيوش، فقام ببعض الفتوح، واشترك أهل الكوفة في أيامه في عدد من المعارك ضد الفرس الذين جمعوا الجموع ضد المسلمين، فكان عمار يدبر ولايته بمقتضى تلك الظروف الحربية حسب توجيهات عمر بن الخطاب، وقد استمر عمار يؤدي مهمته في ولاية الكوفة مع ابن مسعود إضافة إلى قيامه بالشؤون المالية للولاية يقوم بتعليم الناس القرآن وأمور الدين[69]، وكانت ولاية عمار لأهل الكوفة قرابة سنة وتسعة أشهر، وعزله عمر بناء على عدة شكاوى من أهل الكوفة ضده وقد قال عمر لعمّار أساءك العزل؟ فقال عمّار ما سرني حين استعملت ولقد ساءني حين عزلت، وقيل إنه قال ما فرحت حين وليتني ولا حزنت حين عزلتني[70]، كما ذكر أنه استعفى عمر حين أحس بكراهية أهل الكوفة له فأعفاه عمر ولم يعزله[71] ثم عين عمر جبير بن مطعم على الكوفة ثم عزله قبل أن يتجه إلى الكوفة، نظراً لأن عمر أمره بكتمان خبر التعيين، ولكن الخبر انتشر بين الناس فغضب عمر وعزله ثم تولى ولاية الكوفة المغيرة بن شعبة واستمر يؤدي واجبه والياً للكوفة إلى أن توفي عمر بن الخطاب[72].
المدائن:
كانت المدائن عاصمة كسرى، قد تم فتحها من قبل سعد بن أبي وقاص، واستقر بها سعد فترة من الوقت ثم انتقل منها إلى الكوفة بعد تمصيرها، وقد كان ضمن جيش سعد سلمان الفارسي رضي الله عنه، وهو الذي اشترك في العديد من المعارك ضد الفرس، وكان له دور كبير في دعوتهم إلى الإسلام قبل القتال وقد ولاه عمر بن الخطاب على المدائن فسار في أهلها سيرة حسنة، فقد كان مثالاً حياً لتطبيق تعاليم الإسلام، وقد ذكر أنه كان يرفض الولاية لولا أن عمر أجبره على قبولها، فكان يكتب إلى عمر يطلب الإعفاء فيرفض عمر ذلك، وقد اشتهر عن سلمان رضي الله عنه زهده، فكان يلبس الصوف، ويركب الحمار ببرذعته بغير اكاف ويأكل خبز الشعير وكان ناسكاً زاهداً[73] وقد استمر سلمان يعيش في المدائن إلى أن توفي على أرجح الأقوال سنة 32هـ في خلافة عثمان بن عفان، ويبدو أن سلمان لم يكن والي المدائن في أواخر أيام عمر رضي الله عنه إذ أن عمر قد عين حذيفة بن اليمان على المدائن ولم يذكر المؤرخون عزل عمر لسلمان، فلعله استعفى عمر فوافقه بعد أن كان يمانع في إعفائه وولى بعده حذيفة بن اليمان، وقد ورد العديد من الأخبار عن ولاية حذيفة على المدائن منها كتاب عمر إلى أهل المدائن بتعيين حذيفة والياً عليهم، وأمر عمر أهل المدائن بالسمع والطاعة لحذيفة، وقد استمر حذيفة والياً على المدائن بقية أيام عمر وكذلك طيلة خلافة عثمان[74].
أذربيجان:
كان حذيفة بن اليمان أول الولاة على أذربيجان ثم تولى بعد ما نقل إلى المدائن عتبة بن فرقد السلمي وفي أثناء ولايته حدثت بينه وبين عمر العديد من المراسلات، من ذلك أن عتبة بن فرقد حين جاء إلى أذربيجان وجد عندهم نوعاً من الحلوى الطبية تسمى الخبيص ففكر أن يصنع منها لعمر بن الخطاب، وبالفعل وضع منها وغلفها بما يحفظها من الجلود وغيرها وبعث بها إلى عمر بن الخطاب في المدينة، فلما تسلمها ذاق الخبيص فأعجبه، فقال عمر: أكل المهاجرين أكل منه شبعه؟ قال الرسول: لا إنما هو شيء خصك بك، فأمر عمر بردها على عتبة في أذربيجان، وكتب إليه يا عتبة إنه ليس من كدك ولا كد أبيك، فأشبع المسلمين في رحالهم مما تشبع في رحلك، وإياك والتنعم وزي أهل الشرك ولبوس الحرير فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لبوس الحرير[75]، وقد رويت الحادثة بروايات مختلفة يؤكد بعضها بعضاً، وقد استمر عتبة والياً على أذربيجان بقية خلافة عمر رضي الله عنه وجزءاً من خلافة عثمان، وقد وجد العديد في ولاة عمر في مناطق مختلفة في العراق وفارس، منهم من كان مستقلاً بولايته، ومنهم من كانت ولايته مرتبطة بإحدى الولايتين الكبيرتين في العراق اللتين هما محورا الإدارة، والقيادة لبلاد العراق وفارس الكوفة، أو البصرة، ومن هذه البلدان التي اختصت بولاة، الموصل، حلوان، كسكر[76]،