قال الإمام ابن دقيق العيد الشافعي رحمه الله "وَالْحَقُّ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - فِي هَذَا الْبَابِ -
أَعْنِي مَا وَرَدَ فِيهِ أَحَادِيثُ بِالنِّسْبَةِ إلَى التَّطَوُّعَاتِ وَالنَّوَافِلِ الْمُرْسَلَةِ - أَنَّ كُلَّ حَدِيثٍ صَحِيحٍ دَلَّ عَلَى اسْتِحْبَابِ عَدَدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَعْدَادِ ، أَوْ هَيْئَةٍ مِنْ الْهَيْئَاتِ ، أَوْ نَافِلَةٍ مِنْ النَّوَافِلِ : يُعْمَلُ بِهِ فِي اسْتِحْبَابِهِ ثُمَّ تَخْتَلِفُ مَرَاتِبُ ذَلِكَ الْمُسْتَحَبِّ . فَمَا كَانَ الدَّلِيلُ دَالًّا عَلَى تَأَكُّدِهِ - إمَّا بِمُلَازَمَتِهِ فِعْلًا ،
أَوْ بِكَثْرَةِ فِعْلِهِ ، وَإِمَّا بِقُوَّةِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ عَلَى تَأَكُّدِ حُكْمِهِ ، وَإِمَّا بِمُعَاضَدَةِ حَدِيثٍ آخَرَ لَهُ ، أَوْ أَحَادِيثَ فِيهِ - تَعْلُو مَرْتَبَتُهُ فِي الِاسْتِحْبَابِ .
وَمَا يَقْصُرُ عَنْ ذَلِكَ كَانَ بَعْدَهُ فِي الْمَرْتَبَةِ ، وَمَا وَرَدَ فِيهِ حَدِيثٌ لَا يَنْتَهِي إلَى الصِّحَّةِ ، فَإِنْ كَانَ حَسَنًا عُمِلَ بِهِ إنْ لَمْ يُعَارِضْهُ صَحِيحٌ أَقْوَى مِنْهُ
. وَكَانَتْ مَرْتَبَتُهُ نَاقِصَةً عَنْ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ الثَّانِيَةِ ، أَعْنِي الصَّحِيحَ الَّذِي لَمْ يَدُمْ عَلَيْهِ ، أَوْ لَمْ يُؤَكَّدْ اللَّفْظُ فِي طَلَبِهِ . وَمَا كَانَ ضَعِيفًا لَا يَدْخُلُ فِي حَيِّزِ الْمَوْضُوعِ ، فَإِنْ أَحْدَثَ شِعَارًا فِي الدِّينِ : مُنِعَ مِنْهُ . وَإِنْ لَمْ يُحْدِثْ فَهُوَ مَحَلُّ نَظَرٍ . يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالُ : إنَّهُ مُسْتَحَبٌّ لِدُخُولِهِ تَحْتَ الْعُمُومَاتِ الْمُقْتَضِيَةِ لِفِعْلِ الْخَيْرِ ، وَاسْتِحْبَابِ الصَّلَاةِ . وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ : إنَّ هَذِهِ الْخُصُوصِيَّاتِ بِالْوَقْتِ أَوْ بِالْحَالِ وَالْهَيْئَةِ ، وَالْفِعْلُ الْمَخْصُوصُ : يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ خَاصٍّ يَقْتَضِي اسْتِحْبَابَهُ بِخُصُوصِهِ . وَهَذَا أَقْرَبُ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
. وَهَهُنَا تَنْبِيهَاتٌ .
الْأُولَى : أَنَّا حَيْثُ قُلْنَا فِي الْحَدِيثِ الضَّعِيفِ : إنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُعْمَلَ بِهِ لِدُخُولِهِ تَحْتَ الْعُمُومَاتِ ، فَشَرْطُهُ : أَنْ لَا يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى الْمَنْعِ مِنْهُ أَخَصُّ مِنْ تِلْكَ الْعُمُومَاتِ مِثَالُهُ : الصَّلَاةُ الْمَذْكُورَةُ فِي أَوَّلِ لَيْلَةِ جُمُعَةٍ مِنْ رَجَبٍ : لَمْ يَصِحَّ فِيهِ الْحَدِيثُ ، وَلَا حَسُنَ . فَمَنْ أَرَادَ فِعْلَهَا - إدْرَاجًا لَهَا تَحْتَ الْعُمُومَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى فَضْلِ الصَّلَاةِ وَالتَّسْبِيحَاتِ - لَمْ يَسْتَقِمْ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " نَهَى أَنْ تُخَصَّ لَيْلَةُ الْجُمُعَةِ بِقِيَامٍ " وَهَذَا أَخَصُّ مِنْ الْعُمُومِيَّاتِ الدَّالَّةِ عَلَى فَضِيلَةِ مُطْلَقِ الصَّلَاةِ .
الثَّانِي : أَنَّ هَذَا الِاحْتِمَالَ الَّذِي قُلْنَاهُ - مِنْ جَوَازِ إدْرَاجِهِ تَحْتَ الْعُمُومَاتِ - نُرِيدُ بِهِ فِي الْفِعْلِ ، لَا فِي الْحُكْمِ بِاسْتِحْبَابِ ذَلِكَ الشَّيْءِ الْمَخْصُوصِ بِهَيْئَتِهِ الْخَاصَّةِ ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ بِاسْتِحْبَابِهِ عَلَى تِلْكَ الْهَيْئَةِ الْخَاصَّةِ : يَحْتَاجُ دَلِيلًا شَرْعِيًّا عَلَيْهِ وَلَا بُدَّ ، بِخِلَافِ مَا إذَا فَعَلَ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْخَيْرَاتِ الَّتِي لَا تَخْتَصُّ بِذَلِكَ الْوَقْتِ ، وَلَا بِتِلْكَ الْهَيْئَةِ . فَهَذَا هُوَ الَّذِي قُلْنَا بِاحْتِمَالِهِ .
الثَّالِثُ : قَدْ مَنَعْنَا إحْدَاثَ مَا هُوَ شِعَارٌ فِي الدِّينِ . وَمِثَالُهُ : مَا أَحْدَثَتْهُ الرَّوَافِضُ مِنْ عِيدٍ ثَالِثٍ ، سَمَّوْهُ عِيدَ الْغَدِيرِ . وَكَذَلِكَ الِاجْتِمَاعُ وَإِقَامَةُ شِعَارِهِ فِي وَقْتٍ مَخْصُوصٍ عَلَى شَيْءٍ مَخْصُوصٍ ، لَمْ يَثْبُتْ شَرْعًا . وَقَرِيبٌ مِنْ ذَلِكَ : أَنْ تَكُونَ الْعِبَادَةُ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ مُرَتَّبَةً عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ . فَيُرِيدُ بَعْضُ النَّاسِ : أَنْ يُحْدِثَ فِيهَا أَمْرًا آخَرَ لَمْ يَرِدْ بِهِ الشَّرْعُ ، زَاعِمًا أَنَّهُ يُدْرِجُهُ تَحْتَ عُمُومٍ . فَهَذَا لَا يَسْتَقِيمُ ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَى الْعِبَادَاتِ التَّعَبُّدُ ، وَمَأْخَذُهَا التَّوْقِيفُ . وَهَذِهِ الصُّورَةُ : حَيْثُ لَا يَدُلُّ دَلِيلٌ عَلَى كَرَاهَةِ ذَلِكَ الْمُحْدَثِ أَوْ مَنْعِهِ . فَأَمَّا إذَا دَلَّ فَهُوَ أَقْوَى فِي الْمَنْعِ وَأَظْهَرُ مِنْ الْأَوَّلِ . وَلَعَلَّ مِثَالَ ذَلِكَ ، مَا وَرَدَ فِي رَفْعِ الْيَدَيْنِ فِي الْقُنُوتِ . فَإِنَّهُ قَدْ صَحَّ رَفْعُ الْيَدِ فِي الدُّعَاءِ مُطْلَقًا . فَقَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ : يَرْفَعُ الْيَدَ فِي الْقُنُوتِ ؛ لِأَنَّهُ دُعَاءٌ . فَيَنْدَرِجُ تَحْتَ الدَّلِيلِ الْمُقْتَضِي لِاسْتِحْبَابِ رَفْعِ الْيَدِ فِي الدُّعَاءِ . وَقَالَ غَيْرُهُ : يُكْرَهُ ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَى هَيْئَةِ الْعِبَادَةِ التَّعَبُّدُ وَالتَّوْقِيفُ . وَالصَّلَاةُ تُصَانُ عَنْ زِيَادَةِ عَمَلٍ غَيْرِ مَشْرُوعٍ فِيهَا . فَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ الْحَدِيثُ فِي رَفْعِ الْيَدِ فِي الْقُنُوتِ : كَانَ الدَّلِيلُ الدَّالُّ عَلَى صِيَانَةِ الصَّلَاةِ عَنْ الْعَمَلِ الَّذِي لَمْ يُشَرَّعْ : أَخَصَّ مِنْ الدَّلِيلِ الدَّالِّ عَلَى رَفْعِ الْيَدِ فِي الدُّعَاءِ .
الرَّابِعُ : مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْمَنْعِ : فَتَارَةً يَكُونُ مَنْعَ تَحْرِيمٍ ، وَتَارَةً مَنْعَ كَرَاهَةٍ . وَلَعَلَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ مَا يُفْهَمُ مِنْ نَفْسِ الشَّرْعِ مِنْ التَّشْدِيدِ فِي الِابْتِدَاعِ بِالنِّسْبَةِ إلَى ذَلِكَ الْجِنْسِ أَوْ التَّخْفِيفِ . أَلَا تَرَى أَنَّا إذَا نَظَرْنَا إلَى الْبِدَعِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِأُمُورِ الدُّنْيَا : لَمْ تُسَاوِ الْبِدَعَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِأُمُورِ الْأَحْكَامِ الْفَرْعِيَّةِ . وَلَعَلَّهَا - أَعْنِي الْبِدَعَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِأُمُورِ الدُّنْيَا - لَا تُكْرَهُ أَصْلًا . بَلْ كَثِيرٌ مِنْهَا يُجْزَمُ فِيهِ بِعَدَمِ الْكَرَاهَةِ . وَإِذَا نَظَرْنَا إلَى الْبِدَعِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْأَحْكَامِ الْفَرْعِيَّةِ : لَمْ تَكُنْ مُسَاوِيَةً لِلْبِدَعِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِأُصُولِ الْعَقَائِدِ . فَهَذَا مَا أَمْكَنَ ذِكْرُهُ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ ، مَعَ كَوْنِهِ مِنْ الْمُشْكِلَاتِ الْقَوِيَّةِ ، لِعَدَمِ الضَّبْطِ فِيهِ بِقَوَانِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا لِلسَّابِقِينَ . وَقَدْ تَبَايَنَ النَّاسُ فِي هَذَا الْبَابِ تَبَايُنًا شَدِيدًا ، حَتَّى بَلَغَنِي : أَنَّ بَعْضَ الْمَالِكِيَّةِ مَرَّ فِي لَيْلَةٍ مِنْ إحْدَى لَيْلَتَيْ الرَّغَائِبِ - أَعْنِي الَّتِي فِي رَجَبٍ ، أَوْ الَّتِي فِي شَعْبَانَ - بِقَوْمٍ يُصَلُّونَهَا ، وَقَوْمٍ عَاكِفِينَ عَلَى مُحَرَّمٍ ، أَوْ مَا يُشْبِهُهُ ، أَوْ مَا يُقَارِبُهُ . فَحَسَّنَ حَالَ الْعَاكِفِينَ عَلَى الْمُحَرَّمِ عَلَى حَالِ الْمُصَلِّينَ لِتِلْكَ الصَّلَاةِ . وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِأَنَّ الْعَاكِفِينَ عَلَى الْمُحَرَّمِ عَالِمُونَ بِارْتِكَابِ الْمَعْصِيَةِ ، فَيُرْجَى لَهُمْ الِاسْتِغْفَارُ وَالتَّوْبَةُ ، وَالْمُصَلُّونَ لِتِلْكَ الصَّلَاةِ - مَعَ امْتِنَاعِهَا عِنْدَهُ - مُعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ فِي طَاعَةٍ . فَلَا يَتُوبُونَ وَلَا يَسْتَغْفِرُونَ . وَالتَّبَايُنُ فِي هَذَا يَرْجِعُ إلَى الْحَرْفِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ . وَهُوَ إدْرَاجُ الشَّيْءِ الْمَخْصُوصِ تَحْتَ الْعُمُومَاتِ ، أَوْ طَلَبُ دَلِيلٍ خَاصٍّ عَلَى ذَلِكَ الشَّيْءِ الْخَاصِّ . وَمَيْلُ الْمَالِكِيَّةِ إلَى هَذَا الثَّانِي . وَقَدْ وَرَدَ عَنْ السَّلَفِ الصَّالِحِ مَا يُؤَيِّدُهُ فِي مَوَاضِعَ أَلَا تَرَى أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ فِي صَلَاةِ الضُّحَى " إنَّهَا بِدْعَةٌ " ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ فِيهَا دَلِيلٌ . وَلَمْ يَرَ إدْرَاجَهَا تَحْتَ عُمُومَاتِ الصَّلَاةِ لِتَخْصِيصِهَا بِالْوَقْتِ الْمَخْصُوصِ . وَكَذَلِكَ قَالَ فِي الْقُنُوتِ الَّذِي كَانَ يَفْعَلُهُ النَّاسُ فِي عَصْرِهِ " إنَّهُ بِدْعَةٌ " وَلَمْ يَرَ إدْرَاجَهُ تَحْتَ عُمُومَاتِ الدُّعَاءِ . وَكَذَلِكَ مَا رَوَى التِّرْمِذِيُّ مِنْ قَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ لِابْنِهِ فِي الْجَهْرِ بِالْبَسْمَلَةِ " إيَّاكَ وَالْحَدَثَ " وَلَمْ يَرَ إدْرَاجَهُ تَحْتَ دَلِيلٍ عَامٍّ وَكَذَلِكَ مَا جَاءَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيمَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ بِسَنَدِهِ عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ قَالَ " ذُكِرَ لِابْنِ مَسْعُودٍ قَاصٌّ يَجْلِسُ بِاللَّيْلِ ، وَيَقُولُ لِلنَّاسِ : قُولُوا كَذَا ، وَقُولُوا كَذَا . فَقَالَ : إذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَخْبِرُونِي . قَالَ : فَأَخْبَرُوهُ . فَأَتَاهُ ابْنُ مَسْعُودٍ مُتَقَنِّعًا . فَقَالَ : مَنْ عَرَفَنِي فَقَدْ عَرَفَنِي . وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْنِي فَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ . تَعْلَمُونَ أَنَّكُمْ لَأَهْدَى مِنْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ ، يَعْنِي أَوْ إنَّكُمْ لَمُتَعَلِّقُونَ بِذَنْبٍ ضَلَالَةً " وَفِي رِوَايَةٍ " لَقَدْ جِئْتُمْ بِبِدْعَةٍ ظَلْمَاءَ ، أَوْ لَقَدْ فَضَلْتُمْ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِلْمًا " فَهَذَا ابْنُ مَسْعُودٍ أَنْكَرَ هَذَا الْفِعْلَ ، مَعَ إمْكَانِ إدْرَاجِهِ تَحْتَ عُمُومِ فَضِيلَةِ الذِّكْرِ . عَلَى أَنَّ مَا حَكَيْنَاهُ فِي الْقُنُوتِ وَالْجَهْرِ بِالْبَسْمَلَةِ مِنْ بَابِ الزِّيَادَةِ فِي الْعِبَادَاتِ ." أحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام لابن دقيق العيد باب فضل صلاة الجماعة/شرح حديث السُّنَنِ الرَّوَاتِبِ