أسطورة
المذهب الجعفري
الدكتور
طه حامد الدليمي
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله رب العالمين .
والصلاة والسلام على إمام المتقين وسيد العالمين محمد وعلى آله : أصحابه وأتباعه أجمعين .
وبعد ..
فمن المفاهيم الشائعة بين أوساط المسلمين: إطلاق لقب (الجعفرية) على الشيعة الإمامية على اعتبار أنهم يتبعون في الفقه مذهب الإمام جعفر الصادق (رحمه الله)، مع نسبة فقههم إليه.
وحين ننظر إلى الواقع باحثين فيه عن لوازم هذا اللقب، وآثار هذا الانتساب لا نكاد نرجع بشيء! فإن (الجعفرية) في واقع أمرهم:
* لا يتبعون فقهاً معروفاً للإمام جعفر الصادق !
* أو فقيهاً واحداً ينقل إليهم فقه جعفر !!
* أو فقهاً متفقاً على مسائله !!!
* أو - على الأقل - فقهاء عديدين لكنهم متفقون في عموم مسائل الفقه !
وبدلاً من أن يتبعوا فقهاً معلوماً محدداً معروف النسبة إلى الإمام جعفر تراهم - عند التطبيق - يخالفون نظريتهم في (الإمامة) ويتبعون مذاهب فقهائهم. علماً أن كل فقيه من هؤلاء الفقهاء مذهب قائم بحاله: من قلد واحداً منهم لا يحل له - عندهم - أن يقلد الآخر ! وبينهم من الاختلافات ما ضج منها علماؤهم قبل عوامهم ! فهذا أبو جعفر الطوسي شيخ الطائفة يقول: (وقد ذكرت ما ورد عنهم عليهم السلام في الأحاديث المختلفة التي تخص الفقه في كتابي المعروف بالاستبصار وفي كتاب تهذيب الأحكام ما يزيد على خمسة آلاف حديث. وذكرت في أكثرها اختلاف الطائفة في العمل بها. وذلك أشهر من أن يخفى، حتى إنك لو تأملت اختلافاتهم في هذه الأحكام وجدته يزيد على اختلاف أبي حنيفة والشافعي ومالك)(1).
__________
(1) العدة في أصول الفقه 1/138 للطوسي.
واختلافهم هذا يقطع باختلاف المصدر المأخوذ عنه: إذ لا يعقل أن هذه المسائل المختلف فيها بينهم ، والتي لا تحصى كثرة بحيث لا تضاهيها اختلافات المذاهب الأربعة! - صادرة عن أصل أو إمام واحد ! ناهيك عن أن كثيراً من هذه المسائل يقطع كل عاقل جزماً بعدم صدورها عن عالم محترم كالإمام جعفر. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى فإن الشيعة ليس في حوزتهم كتاب للإمام جعفر الصادق في الفقه - ولا في الحديث - ألّفه هو أو كتبه بيده، أو جمعه له تلاميذه المقربون يمكن أن نرجع إليه مطمئنين إلى صدوره عنه. وليس بين أيديهم من مستند فيما يفتون به سوى روايات لا يمكن لهم القطع بصحتها، بل يصرحون هم بطعنهم وشكهم فيها !
هل تصدق أن الشريف المرتضى يقول: (إن معظم الفقه وجمهوره
لا يخلو مستنده ممن يذهب مذهب الواقفة: إما أن يكون أصلاً في الخبر أو فرعاً، راوياً عن غيره ومروياً عنه. وإلى غلاة وخطابية ومخمسة وأصحاب حلول كفلان وفلان ومن لا يحصى أيضا كثرة. وإلى قمي مشبه مجبر - إلى أن يقول - فمن أين يصح لنا خبر يروونه؟)(1) ؟!
والشيعة إنما سموا أنفسهم (إمامية) على اعتبار أنهم - دون سواهم من المسلمين - يرجعون في الفقه ، وفي الحكم إلى إمام معصوم. لكننا نراهم في الواقع يرجعون في الأمرين إلى بشر عاديين من أمثال الصدر والسيستاني وخميني وخامنئي والخاتمي. فعاد الإمام المعصوم في الحقيقة إلى مجرد اسم بلا مسمى، وعنوان بلا مضمون! فماذا بقي من معنى لـ(الإمامة) والانتساب إليها ؟
__________
(1) رسائل الشريف المرتضى 3/310 نقلاً عن كتاب مدخل إلى فهم الإسلام ص393 ليحيى محمد، وهو إمامي اثنا عشري.
وهكذا نصل إلى الحقيقة التالية وهي: أن الشيعة في واقع حالهم ليسوا بـ(جعفرية) ! بل ولا (إمامية) !! وإلا فليظهروا لنا ذلك الإمام المعصوم الذي يستفتونه في فقههم ، ويرجعون إليه في حكمهم . أو - على الأقل - يخرجوا لنا كتاباً ألفه أو كتبه الإمام جعفر الصادق نفسه. مع أن ميدان الفقه عندهم مزدحم، ولهم دولة تحكم باسمهم. هذا.. ولا إمام معصوم!
وهذه الرسالة عبارة عن جولة علمية بين الحقائق الدامغة ، والبراهين الساطعة ، التي تثبت ما ادعيت من هذا الموضوع الخطير . لخصتها في ستة عناوين - يكفي واحد منها في كشف أسطورية هذا (المذهب) المنسوب إلى سيدنا جعفر بن محمد (رضوان الله تعالى عليه) وبراءته منه - هي:
عدم وجود مؤلَّف فقهي للإمام جعفر الصادق يرجع إليه
الشيعة في أخذ أحكامهم الفقهية.
الخلافات الفقهية الشديدة بين فقهاء (المذهب الجعفري).
عدم موثوقية الأسانيد إلى جعفر.
اعتماد قاعدة المخالفة في الترجيح بين الأحكام الفقهية المتعارضة.
التقية.
مضمون (الفقه الجعفري).
علماً أن هذا الموضوع المهم يستحق أن تكتب فيه رسالة علمية جامعية، تنشر على الملأ ليعرف الناس وجه الحق من الباطل، ويتعرفوا إلى الحقيقة الناصعة من بين ركام الزيف الذي آن لنا أن نزيحه عن عيون النائمين ، وعقول الحالمين . والحمد لله رب العالمين .
السبت
1 / 1 / 1425
21 / 2 / 2004
الفصل الأول
عدم وجود مؤلَّف فقهي للإمام جعفر الصادق
لا يوجد لدى الشيعة كتاب في الفقه ألفه جعفر الصادق نفسه أو دوّنه له تلامذته وبقي الناس يتداولونه إلى اليوم، كما هو شأن غيره من فقهاء المذاهب. وما نسب إليه من فقه إنما كتب بعد وفاته بمئات السنين دون سند صحيح يطمَأنّ إليه.
فمن الحقائق الثابتة الغائبة عن أذهان عوام الشيعة أن جعفر الصادق (رحمه الله) - أو أي واحد من (الأئمة الاثني عشر) - لم يؤلف كتاباً في الفقه ولا كتاباً في الحديث!
على العكس من أئمة المذاهب الأربعة وغيرهم، فإن كل واحد منهم قد ترك لنا كتاباً مؤلفاً في الفقه وفي الحديث:
فالإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت (رحمه الله) ترك لنا (مسنده) في الحديث. وأما فقهه فقد تعهد تلامذته المباشرون له كالقاضي أبي يوسف ومحمد بن الحسن الشيباني بتدوينه ونقله.
والإمام مالك بن أنس (رحمه الله) ترك لنا بخطه (الموطأ) في الفقه والحديث.
والإمام الشافعي (رحمه الله) ترك لنا (المسند) في الحديث، وكتاب (الأم) في الفقه. وهو مؤسس علم (أصول الفقه) في كتابه (الرسالة) الذي هو أول كتاب في الإسلام ألف في بابه.
وأما الإمام أحمد بن حنبل الشيباني (رحمه الله) فـ(مسنده) في الحديث أشهر من نار على علم! وأما فقهه فمحفوظ مدون. ومن أشهر
تلامذته الذين دونوا فقهه الإمام الخلال (رحمه الله) (1).
حتى الإمام زيد بن علي (رحمه الله) له فقه مدون، وكتاب مسند في الحديث.
إلا جعفر بن محمد الصادق! لم نجد له لا كتاباً في الحديث، ولا كتاباً في الفقه كتبه هو أو جمعه له تلاميذه. وليس لهم من مستند فيما يفتون به عنه سوى روايات لا يمكن لهم القطع بصحة نسبتها إليه، بل هم يصرحون بطعنهم فيها، وشكهم بنسبتها!
والروايات التي نسبت إليه إنما ظهرت بعد وفاته بأزمنة متطاولة! وأقدم كتاب للرواية على الأبواب الفقهية معتمد لدى الإمامية موجود بين يدينا هو كتاب فروع الكافي للكليني المتوفى عام (329هـ). أي بعد وفاة الإمام جعفر الصادق بـ(180) عاماً! ثم جاء من بعده محمد بن علي بن بابويه القمي المتوفى عام (381هـ) في كتابه (فقيه من لا يحضره الفقيه). أي بعد جعفر بأكثر من (230) عاماً !!
الأصول الأربعمائة
__________
(1) صاحب القبر المعروف بـ(الخلاني) في الباب الشرقي من بغداد عند الساحة المعروفة بـ(ساحة الخلاني). وهو القبر الذي يزوره الشيعة باسم موهوم هو (الخلاني). وقد استولوا عليه وعلى الجامع في عهد الملك فيصل الأول.
كل ما يمكن أن يتمسك به علماء الشيعة القول بأن هناك كتباً دونها تلامذة الأئمة من إملائهم مباشرة، أو تلاميذ تلامذتهم المباشرين اصطلحوا على تسميتها بـ(الأصول)، وقالوا: إن عددها أربعمائة.
ولكن أين هذه الكتب اليوم؟
هل بقي منها شيء؟
كلا!
لقد ضاعت جميعها ولم يبق منها إلا أخبار عنها تذكر في الكتب! وهي لو وجدت حقاً لاحتاجت إلى فحص وتدقيق، وتثبت وتوثيق. فكيف وهي مفقودة لا وجود لها ؟!
وقد اعتذر (آية الله) الشيخ جعفر السبحاني عن فقدانها بقوله: ولما لم يكن للأصول ترتيب خاص إذ أن جلها إملاءات المجالس وأجوبة المسائل النازلة المختلفة، عمد أصحاب الجوامع إلى نقل رواياتها مرتبة مبوبة منقحة تسهيلاً للتناول والانتفاع. فما كان في هذه الأصول انتقل إلى الجوامع الحديثية لا سيما الكتب الأربعة، ولكن بترتيب خاص. وباشتهارها قلت الرغبات في استنساخ الأصول والصيانة على أعيانها(1).
وقال: وقام تلامذة أئمة أهل البيت بتأليف أصول أربعمائة ما بين عصر الإمام الصادق - عليه السلام - إلى نهاية عصر الإمام الرضا- عليه السلام - ، وهذه الأصول هي المعروفة بالأصول الأربعمائة، فلها من الاعتبار والمكانة ما ليس لغيرها(2).
والحقيقة أن هذه الكتب التي (لها من الاعتبار والمكانة ما ليس لغيرها) هي والعدم سواء! لأنها لا وجود لها بتاتاً! سوى الدعوى. مثلها مثل المهدي! اعتبار ومكانة على.. لا شيء!!
وقال بعد كلامه السابق مباشرة: قال السيد رضي الدين علي بن طاووس (المتوفى 664هـ) : حدثني أبي قال: كان جماعة من أصحاب أبي الحسن من أهل بيته وشيعته يحضرون مجلسه، ومعهم في أكمامهم ألواح آبنوس لطاف وأميال، فإذا نطق أبو الحسن - عليه السلام - بكلمة، أو أفتى بنازلة أثبت القوم ما سمعوه منه في ذلك(3).
__________
(1) أدوار الفقه الإمامي ، جعفر السبخاني ص35.
(2) أيضاً ص34.
(3) أيضاً.
والناظر في تأريخ الوفاة يجد بين علي ابن طاووس (والد رضي الدين الذي يقول عنه أنه حدثه) وبين أبي الحسن أكثر من أربعة قرون ! فأين اتصال السند؟! ولو كان الأمر متعلقاً بخبر عادي، أو مسألة من مسائل الفقه لهان الخطب، ولكنه متعلق بدعوى وجود أربعمائة كتاب مصنف لم يبق منها شيء! فإذا سألت عنها: أين هي؟ هل هناك من أثر يدل عليها؟ كان الجواب: قال فلان وفلان أنه كذا وكذا! وبين فلان وفلان وبين أصل الخبر عدة قرون!
ومما استدل به جعفر السبحاني هذا - وهو عالم بحريني معاصر !- على وجودها ما يلي: قال شيخنا (!) بهاء الدين العاملي في "مشرق الشمسين": إنه قد بلغنا من مشايخنا أنه كان من دأب أصحاب الأصول أنهم إذا سمعوا عن أحد من الأئمة حديثاً بادروا إلى إثباته في أصولهم لئلا يعرض لهم نسيان لبعضه أو كله بتمادي الأيام. وبمثله قال السيد الداماد في "رواشحه"(1).
ثم استشهد بقول المحقق الحلي والطبرسي والشهيد الثاني. وهؤلاء كلهم لم ير واحد منهم سطراً واحداً من هذه (الأصول)! وبينهم
وبين (الأئمة) دهور وعصور!
وغاية ما استند إليه قوله: وقد كان قسم من تلك الأصول باقياً إلى عهد ابن إدريس (543-598هـ) حيث قام بنقل جملة منها في كتابه "السرائر" وأطلق عليها المستطرفات، كما نقل جملة منها عنه السيد رضي الدين بن طاووس كما ذكرها في "كشف المحجة". وقد وقف أستاذنا السيد محمد الحجة الكوه كمري (1301-1372) على ستة عشر من تلك الأصول وقام بطبعها(2).
وعلى فرض التسليم بصحة المذكور عن الكوه كمري فإن نسبة ما وقف عليه إلى ما فقد وضاع منها يساوي (4%) فقط !
والأمر كله - بعد ذلك - لا يعدو كونه دعوى في دعوى! ويكفيك أن تعلم أن أقدم وأوثق (المجامع الحديثية) عندهم والتي انتقلت إليها هذه (الأصول) - كما يدّعون - وهو كتاب (الكافي) للكليني أكثر من (60%) منه ما بين ضعيف وموضوع بشهادة المجلسي وغيره من علماء الشيعة!
__________
(1) أيضاً.
(2) أيضاً ص36.
مفارقة عجيبة!
لا أريد الانتقال من هذا الفصل دون الإشارة إلى مفارقة عجيبة فيه: فإنه حين تقارن بين المذاهب الفقهية الحية (الزيدي والحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي) والمذهب (الجعفري) وتجد - كما أسلفنا في أول الكتاب - أن كل واحد من مؤسسي هذه المذاهب قد حفظ له أتباعه كتباً ألفها في الفقه والحديث وغيرها. إلا المذهب (الجعفري)! رغم اشتماله على اثني عشر إماماً، شغلوا مساحة من الزمن امتدت إلى ثلاثة قرون - تنتصب أمام ناظريك مفارقة عجيبة لا يمكن أخذها على ظاهرها، أو التسليم بها على علاتها!!
لا بد أن أمراً غير عادي قد حصل مع هؤلاء الأئمة! وإلا كيف يعقل أن أحد عشر - أو اثني عشر حسب اعتقاد الشيعة - عالماً في مذهب واحد لا يكتب واحد منهم كتاباً فقهياً أو حديثياً واحداً فيه، بينما لكل مذهب من المذاهب الأخرى إمام واحد فقط ، وقد كتب وألف كتباً عديدة ؟!!!
أمّا أنه لم يكتب واحد منهم قط ، فهذا لا يمكن تصديقه. وأما أن يكون قد كتبت كتب وألفت مؤلفات لكنها ضاعت، فهذا يصعب أن يحدث: إذ كيف يمكن قبول أمر يتكرر مع أحد عشر عالماً على التوالي؟ مع أنه لم يحدث مثله لأي عالم من علماء المذاهب الأخرى!! لا بد من تفسير آخر!
لقد تأملت في هذه المفارقة الكبيرة فلم أجد أقرب من افتراض وجود مؤامرة محبوكة ومن وقت مبكر لطمس تلك المؤلفات!
لقد ألّف هؤلاء الأئمة - أو بعضهم على الأقل - لكن مؤلفاتهم كانت تصادر من قبل أناس يحرصون على الظهور بمظهر الأتباع ثم يقومون بإتلافها حتى يتمكنوا من التلاعب بما ينسب إليهم بعد اختفاء (أولياته)! وعوضوا ذلك بكم هائل من الروايات المزيفة، المغلفة بالتعصب لهم والتظاهر بحبهم والحرص على الانتساب إليهم، مع الغلو في ذلك - وكل غالٍ كاذب - حتى يتمكنوا من خداع الجمهور وجعله مهيأً لأن يصدق دعواهم. والتي أسخف ما فيها أنهم ينعون على غيرهم أنهم مخالفون لـ(مذهب أهل البيت)، ويدعونهم بإلحاح إلى ترك مذاهبهم والخروج منها إلى هذا (المذهب) الذي ليس في حقيبته كتاب واحد تركه جعفر الصادق، أو غيره من الأئمة يمكن أن تكون به (إمامياً) أو (جعفرياً) بحق!
كيف نترك مذاهب موثقة متصلة بأئمتها؟ ولها كتب كتبها أولئك الأئمة! لنخرج إلى وهم لا سند له غير ادعاء فارغ! لا يمكن تصديره إلا على عوام ألغوا عقولهم وصاروا يأخذون الأمور بالتلقين والتسليم على بياض؟!!
وهذا كله يرفع الثقة، أو -على الأقل- يثير الشك في الفقه المنسوب. فإذا أضفنا إليه الخلافات الفقهية التي لا تحصى بين فقهاء الشيعة تغلب الشك وارتفعت الثقة. فإذا أضفنا إلى ذلك كله الاطلاع على مضامين كثير من مسائل هذا الفقه لم يبق شك في منحوليته وبطلان نسبته إلى الإمام جعفر بن محمد رحمه الله.
الفصل الثاني
الخلافات الفقهية بين فقهاء (المذهب)
توجد خلافات فقهية لا تحصى كثرة بين فقهاء (المذهب الجعفري) أو فقهاء الشيعة قديماً وحديثاً، وقد وصل بهم الخلاف إلى حد التفسيق بل التكفير!
وهذا دليل عدم وحدة المصدر. فلو كان ما موجود بأيدي الشيعة من فقه هو فقه جعفر لما حصل فيه هذا الكم الهائل من الاختلاف الذي لا يقارن به اختلاف المذاهب الأخرى مجتمعة! بل لما حصل فيه اختلاف أصلاً، لا سيما وأن الإمامية يعتقدون في (الإمام) العصمة!
ولم يقتصر الخلاف على المسائل الفقهية الجزئية، بل تعداه إلى مسائل كلية تنبني عليها مسائل جزئية كثيرة. بل الخلاف عندهم بلغ أصول الفقه!
الإخباريون والأصوليون
من هذه المسائل الكلية: انقسام الشيعة - طبقاً لاختلافهم في ركني (الإمامة): الاجتهاد والحكم - إلى شيعة إخبارية وشيعة أصولية. فالإخباريون حرموا الاجتهاد على الفقيه لأنه غير معصوم، وحصروا القول في المستجدات في شخص المعصوم فقط. وهؤلاء أكثر إخلاصاً للنظرية. لكن ضغط الواقع أثبت لهم قصور نظريتهم فخرج على الأصل قسم منهم -وهم جمهور الشيعة اليوم- وأجاز لغير المعصوم أن يجتهد. ومنحوه صلاحيات المعصوم بحيث جعلوا الرد عليه
كالرد على المعصوم(1)!
لقد حصل بين الإخباريين والأصوليين من الخلافات والطعن إلى حد التكفير المتبادل، والتفرق والتناحر إلى حد الاقتتال ما الله وحده به عليم!
يقول محمد سعيد الحكيم: (إن اصطلاح الإخباري والأصولي قد أضر بوحدة الطائفة الحقة، وجر عليها من محنة التفرق والانشقاق والتهريج والتشنيع المتبادل بنحو قد يصل حد الإغراق المأساوي، خصوصاً في المناطق التي تجمع بين الفئتين وتتعرض للاحتكاك بينهما)(2).
هذا وقد جرى بين هاتين الفرقتين ردود ومنازعات وتكفير وتشنيع،
حتى إن بعضهم يفتي بتحريم الصلاة خلف الآخر3.
__________
(1) يقول محمد رضا المظفر في كتابه (عقائد الإمامية) المقرر للتدريس في مدارس الحوزة في النجف تحت عنوان: عقيدتنا في المجتهد ص34/ ط. قم 2002 : (وعقيدتنا في المجتهد الجامع للشروط أنه نائب للإمام عليه السلام في حال غيبته، وهو الحاكم والرئيس المطلق، له ما للإمام في الفصل في القضايا والحكومة بين الناس، والراد عليه راد على الله تعالى، وهو على حد الشرك بالله).
2 الأصولية والإخبارية بين الأسماء والواقع - محمد سعيد الحكيم ص11.
3 مع علماء النجف - محمد جواد مغنية ص74.
وكان من شيوخ الطائفة الإخبارية من لا يلمس مؤلفات الأصوليين بيده تحاشياً من نجاستها، وإنما يقبضها من وراء ملابسه(1)… لدرجة أنه كان من الممكن أن يتعرض أي إنسان يسير في الطريق وتحت إبطه كتاب للأصوليين إلى الضرب المبرح(2).
قال يوسف البحراني: إن التقسيم إلى إخباري ومجتهد فإن كلاً منهما يجري على الآخر لسان التشنيع والسب حتى كأنهما لم يكونا على دين واحد وملة واحدة(3).
وقال محمد الطالقاني: وكان كل فريق يرى وجوب قتل الفريق الآخر. وتطورت القضايا إلى أمور شخصية بحتة تقريباً فكان كل من الخصمين يهدف إلى الانتقام من خصمه والتطويح به(4).
اختلاف الأصوليين على ولاية الفقيه
ثم انقسم الأصوليون - طبقاً إلى الاختلاف في الركن الثاني والأخير من ركني الإمامة وهو عدم جواز تولي الحكم من قبل غير المعصوم بعد أن تهاوى الركن الأول عند جمهورهم- إلى قسمين:
أ- قسم يقول بـ(ولاية الفقيه) يجيز لغير المعصوم وهو الفقيه أن يتولى مقاليد الحكم، ومنحوه كذلك صلاحيات المعصوم! ليتهاوى الركن الثاني بعد أن تهاوى الركن الأول عندهم.
ب- وقسم لا يقول بها.
ونحن لا ندري ما قول جعفر الصادق وسط هذه المعمعة؟! ولا موقفه الفقهي من هذه المسائل الخطيرة التي تنبني عليها جزئيات لا
تحصى من الاختلافات الفقهية!
ثم لا ندري مَن مِن هؤلاء المختلفين أصاب مذهب جعفر؟ وكلٌ يدَّعي وصلاً بجعفرْ وجعفرُ لا يُقرُّ لهم بذاكا
__________
(1) الشيخية نشأتها وتطورها ومصادر دراستها - محمد الطالقاني ص9.
(2) الطائفية والسياسة في العالم العربي - الدكتور فرهاد إبراهيم ص57.
(3) لؤلؤة البحرين - يوسف البحراني 2/387.
(4) الشيخية - محمد حسن آل الطالقاني ص42 .
فلم يكن جعفر إمامياً ولا إخبارياً ولا أصولياً ولا خمينياً أو نراقياً يقول بـ(ولاية الفقيه) ولا خوئياً على النقيض. بل ولا حتى (جعفرياً)! ويستحيل على من ادعى عليه ذلك فنسب إليه أحد هذه الاتجاهات المختلفة أن يثبت دعواه بدليل معتبر غير الدعوى!
كل فقيه مذهب قائم بذاته
إن حقيقة الفقه الشيعي أو ما يسمى بـ(المذهب الجعفري) لا تتعدى أقوال وفتاوى الفقهاء والمجتهدين! فليس (فقه جعفر) في الواقع هو أقوال أو فتاوى الإمام جعفر الصادق أو أي (إمام) من (أئمة) أهل
البيت الاثني عشر الذين ألصق بهم هذا الفقه إلصاقا!!
والفقيه لا ينقل قول (الإمام)، إنما لكل فقيه رسالة عملية وفتاوى تمثل رأيه هو، وليس رأي (الإمام) أو قوله. ولكل فقيه مجموعة من المقلدين لا يجوز لأحدهم تقليد غيره!
ولو كانت أقوال الفقهاء تمثل قول (الإمام) أو هي قول (الإمام)
نفسه لكانت واحدة فلم تختلف. ولما حرموا على المقلِّد تقليد غير مقلَّده.
إن هذه أدلة واضحة واقعية وملموسة على أن الشيعة الإمامية يتبعون فتاوى الفقهاء لا أقوال الأئمة. وهذا يجعل دعواهم باتباع جعفر أو أخذهم بـ(الفقه الجعفري) فارغاً لا معنى له، وينقضه من الأساس.
وإذا كان الإمامية في واقعهم العملي يأخذون بأقوال المجتهدين فما فضلهم على بقية المذاهب الفقهية الإسلامية الذين يأخذون بأقوال
المجتهدين أيضاً؟!
فإن قيل: إن فقهاءنا يجتهدون في ضوء قول (الإمام) قلنا: وفقهاء بقية المذاهب يجتهدون في ضوء قول النبي - صلى الله عليه وسلم - . ولا شك أن قول النبي أكثر إشعاعاً وإشراقاً من قول (الإمام). وهذه مزية وفضيلة لبقية المذاهب تفتقدها المذاهب الفقهية الإمامية جميعاً!
هذا على افتراض صحة الرواية عن (الإمام)، فكيف إذا كان غالب ما يروى ينبغي أن يطوى ولا يحكى؟!
والأدهى أنهم جعلوا لفتاوى الفقهاء من القدسية ما لأقوال الأئمة
- حسب اعتقادهم - إذ يحرم الرد على الفقيه حرمة تساوي حرمة الرد على (الإمام) عندهم! وقد مر بنا قبل قليل نقل شاهد على ذلك.
إن كل فقيه من فقهاء الإمامية - في الواقع - مذهب قائم بذاته،
له أتباعه ومقلدوه الذين لا يحل لهم أن يقلدوا مجتهداً آخر سواه. وهذا ما اعترف به علماؤهم صراحة!
يقول محمد حسين فضل الله: (إن المشكلة التي نواجهها في تعدد المرجعيات هي المشكلة التي نواجهها في تعدد المذاهب الفقهية لأن المرجعيات هي مذاهب فقهية متعددة من خلال طبيعة تنوع الفتاوى، وتنوع النظريات في هذا المجال(1).
وهؤلاء الفقهاء مختلفون فيما بينهم اختلافاً كبيراً، و(رسائلهم العلمية)(2) تشهد على هذا الاختلاف بوضوح.
والاختلاف بين مقلديهم إلى حد أنهم لا يصلون خلف من يقلد غير مرجعهم. والمراجع مختلفون إلى حد أن كل واحد منهم يدعي أنه الأعلم، وأنه لا يجوز تقليد سواه.
ولو كان هؤلاء الفقهاء يتبعون في الواقع مذهب جعفر الصادق لما اختلفوا فيما بينهم في مسألة فقهية واحدة. لأن المعصوم لا تتعدد أو تتناقض أقواله فضلاً عن أن تختلف هذا الاختلاف العجيب!.
عدم تقليد الميت
ومن الأدلة الواضحة على أن الإمامية لا يتبعون مذهب جعفر
الصادق وإنما مذاهب فقهائهم ومجتهديهم أنه يحرم على العامي عندهم
__________
(1) المعالم الجديدة للمرجعية الشيعية ص117.
(2) الرسالة العلمية: هي الكتاب الفقهي الذي يصدره الفقيه، حين يرى في نفسه أنه قد صار أهلاً لأن يكون مجتهداً. أي.. مذهباً قائماً بنفسه.
- لا سيما الأصوليون منهم الذين يمثلون غالبية الشيعة في هذا الزمان - تقليد الفقيه الميت ابتداءاً ما لم يكن من مقلديه في حياته. أي أن مذهب الفقيه يموت بموته. فلو كان مذهبه وفقهه هو مذهب وفقه جعفر الصادق نفسه لما حرم اتِّباعه بعد موته، لأن فقه المعصوم وعلمه لا يموت ولا يتغير بموته. وهم يدّعون أنهم على مذهب جعفر، فلو كان هذا الذي تركوه من الفقه بموت صاحبه يمثل مذهب جعفر لما تركوه وإلا فقد تركوا مذهب جعفر نفسه. فإما أن يكون الذي تركوه من الفقه مطابقاً لمذهب جعفر فيكونوا قد تركوا مذهب جعفر وأخذوا بغيره بعد موت الفقيه المعين، وإما أن لا يكون كذلك فهم إذن لم يكونوا مذهبه من الأساس. وكلا الأمرين يثبت أن فقه الإمامية في واد وفقه جعفر في واد.
بحر لا ساحل له!
وهكذا نرى أن البحث في هذا الموضوع خوض في بحر لا ساحل له! وعلى أية حال فإن اختلاف فقهاء الإمامية فيما بينهم يثبت قطعاً أنهم ليسوا على مذهب جعفر الصادق. فإن المعصوم لا تتعدد أو تتناقض أقواله. فتعدد الأقوال وتناقضها يجزم بعدم وحدة مصدرها. فإما أن يكون جعفر معصوماً فهذه الأقوال المتضاربة ليست صادرة عنه. وإما أن يكون غير ذلك فينهار المذهب من أساسه. وحتى على افتراض عدم عصمته هذا فإنه لا يعقل أن تصدر جميع هذه الأقوال المتضاربة من فقيه واحد! لكثرتها وتناقضها. نعم قد تتعدد أقوال الفقيه أو تتناقض، ولكن ليس إلى هذه الدرجة! هل تعلم أن اختلافات (المذهب الجعفري) قد فاقت في كثرتها وتضاربها خلافات المذاهب الأربعة منفردة ومجتمعة؟! وهذا باعتراف كبار فقهائهم!! حتى إن منهم من قال بصريح العبارة: (فلو نظرنا إلى فتاوى علمائنا المعاصرين فسوف نجد أنهم كلهم خارجون عن دائرة المذهب الشيعي)(1)!.
وهذا شيخ الطائفة على الإطلاق أبو جعفر الطوسي يقول في كتابه (العدة في أصول الفقه):
__________
(1) مرجعية المرحلة وغبار التغيير - جعفر الشاخوري ص135.
ومما يدل أيضاً على جواز العمل بهذه الأخبار التي أشرنا إليها ما ظهر من الفرقة المحقة من الاختلاف الصادر عن العمل بها فإني وجدتها مختلفة المذاهب في الأحكام . ويفتي أحدهم بما لا يفتي صاحبه في جميع أبواب الفقه من الطهارة إلى باب الديات . من العبادات والأحكام والمعاملات والفرائض وغير ذلك. مثل اختلافهم في العدد والرؤية في الصوم . واختلافهم في أن التلفظ بثلاث تطليقات ان يقع واحدة أو لا . ومثل اختلافهم في باب الطهارة في مقدار الماء الذي لا ينجسه شيء. ونحو اختلافهم في حد الكر . ونحو اختلافهم في استئناف الماء الجديد لمسح الرأس والرجلين. واختلافهم في اعتبار أقصى مدة النفاس . واختلافهم في عدد فصول الأذان والإقامة . وغير ذلك في سائر أبواب الفقه حتى أن باباً منه لا يسلم إلا وجدت العلماء من الطائفة مختلفة في مسائل منه أو مسائل متفاوتة الفتاوى(1).
وقال أيضاً:
وقد ذكرت ما ورد عنهم - عليه السلام - في الأحاديث المختلفة التي تختص الفقه في كتابي المعروف بالاستبصار وفي كتاب تهذيب الأحكام ، ما يزيد على خمسة آلاف حديث وذكرت في أكثرها اختلاف الطائفة في العمل بها وذلك أشهر من أن يخفى .
حتى إنك لو تأملت اختلافاتهم في هذه الأحكام وجدته يزيد على إختلاف أبي حنيفة ، والشافعي، ومالك(2).
وقال في كتابه تهذيب الأحكام:
ذاكرني بعض الأصدقاء أيده الله ممن أوجب حقه علينا بأحاديث أصحابنا أيدهم الله ورحم السلف منهم .
وما وقع فيها من الاختلاف ، والتباين ، والمنافاة ، والتضاد
__________
(1) العدة في أصول الفقه -الطوسي 1/137.
2 العدة في أصول الفقه -الطوسي 1/138. معجم رجال الحديث - الخوئي 1/89. لكن الخوئي قد لطف من عبارة الطوسي فلم ينقلها بتمامها، وإنما بتر مقطعها الأخير فلم يذكره! وهو: (حتى إنك لو تأملت اختلافاتهم في هذه الأحكام وجدته يزيد على إختلاف أبي حنيفة ، والشافعي ، ومالك).
حتى لا يكاد يتفق خبر وإلا بإزائه ما يضاده. ولا يسلم حديث إلا وفي
مقابلته ما ينافيه. حتى جعل مخالفونا ذلك من أعظم الطعون على مذهبنا. وتطرقوا بذلك إلى إبطال معتقدنا. وذكروا أنه لم يزل شيوخكم السلف والخلف يطعنون على مخالفيهم بالاختلاف الذي يدينون الله تعالى به، ويشنعون عليهم بافتراق كلمتهم في الفروع ويذكرون أن هذا مما لا يجوز أن يتعبد به الحكيم، ولا أن يبيح العمل به الحليم. وقد وجدناكم أشد اختلافا من مخالفيكم ، وأكثر تبايناً من مباي************م . ووجود هذا الاختلاف منكم مع اعتقادكم بطلان ذلك دليل على بطلان الأصل.
حتى دخل على جماعة ممن ليس لهم قوة في العلم ولا بصيرة بوجوه النظر ومعاني الألفاظ شبه وكثير منهم رجع عن اعتقاد الحق لما اشتبه عليه الوجه في ذلك وعجز عن حل الشبه فيه(1). سمعت شيخنا أبا عبد الله أيده الله يذكر أبا الحسين الهاروني العلوي كان يعتقد الحق ويدين بالإمامة فرجع عنها لما التبس عليه الأمر في اختلاف الأحاديث ، وترك المذهب ودان بغيره لما لم يتبين له وجوه المعاني فيها(2).
وقال الفيض الكاشاني في كتابه الوافي:
تراهم يختلفون (أي علماء الشيعة) في المسألة الواحدة إلى عشرين قولاً أو ثلاثين قولاً أو أزيد. بل لو شئت أقول: لم تبق مسألة فرعية لم يختلفوا فيها أو في بعض متعلقاتها(3).
وقال جعفر الشاخوري يصف اختلاف علماء الشيعة:
__________
(1) ذكر جعفر سبحاني في كتابه الرسائل الأربعة ص201 :
(عندما نطالع كتابَي الوسائل والمستدرك مثلاً نرى إنه ما من باب من أبواب الفقه إلا وفيه اختلاف في رواياته. وهذا مما أدى إلى رجوع بعض ممن استبصروا عن مذهب الإمامية)/ الرسائل الأربعة - الرسالة الثالثة ، عرض طعان خليل الموسوي.
(2) مقدمة تهذيب الأحكام - الطوسي 1/2.
2 مقدمة الوافي - الفيض الكاشاني 1/9.
إن المقصود بالمشهور في كلمات العلماء هم العلماء القدامى كالشيخ الصدوق والمرتضى والمفيد والطوسي وابن براج وابن أبى عقيل وابن الجنيد وأمثالهم، وليس الفقهاء المعاصرين لأنه لا قيمة للشهرات أو الإجماعات المتأخرة. فلو نظرنا إلى فتاوى علمائنا المعاصرين فسوف نجد أنهم كلهم خارجون عن دائرة المذهب الشيعي.
وخذ مثالاً على ذلك: فالمقارنة بين كتاب الشيخ الصدوق (الهداية) أو الشيخ المفيد في الفقه (المقنعة) وكتاب (منهاج الصالحين) للسيد الخوئي حيث ستجد أن هناك عشرات المسائل التي خالف فيها السيد الخوئي مشهور القدامى. ولو أن الشيخ الصدوق قد قدر له مطالعة كتاب المسائل المنتخبة للسيد الخوئي لأصيب بالدهشة… ولو أردنا أن نستوعب ما خالف فيه السيد الخوئي المشهور أو الإجماع لبلغ بنا الرقم إلى مئتين أو ثلاثمائة فتوى. وهكذا حال الخميني والحكيم وغيرهما من المراجع.
وسوف يصدر لنا قريباً كتاب خاص عددنا فيه لأبرز مراجع الشيعة من الشيخ الصدوق ، والمفيد ، مروراً بالعلامة الحلي ، وانتهاء بالسيد الخوئي ، والسيد السيستاني وغيرهم العشرات من الفتاوى الشاذة لكل واحد منهم.
إلى أن قال:
إن مخالفة المشهور كثيرة جداً. خاصة بعدما شاعت عادة تغليف الفتاوى بالاحتياطات الوجوبية.
وذكر جملة من مخالفات المتأخرين وقال في الهامش : قد اقتصرت على عدد بسيط من الفتاوى لعدد قليل من العلماء ؛ لأن استقصاء البحث فيها يحتاج إلى عدة مجلدات(1).
__________
(1) مرجعية المرحلة وغبار التغيير - جعفر الشاخوري ص135-138 .
ومصداقه ما فعله العلامة الحلي عندما جمع اختلافات علماء الشيعة من بداية ظهور فقه الإمامية وإلى زمنه [أي إلى سنة 720 هـ] في كتاب أسماه (مختلف الشيعة). وعند تصفحنا لهذا الكتاب نجد أن فقهاء الإمامية لم يتركوا باباً من أبواب الفقه ألا وقد اختلفوا فيه بحيث يصل بهم الحال في بعض المسائل إلى أن يفتي أحدهم بالحلية، ويفتي الآخر بالحرمة. وقد قال الحلي في مقدمة كتابه: (أما بعد فأني لما وقفت على كتب أصحابنا المتقدمين ومقالات علمائنا السابقين في علم الفقه وجدت بينهم خلافاً في مسائل كثيرة متعددة ومطالب عظيمة متبددة ، فأحببت إيراد تلك المسائل في دستور يحتوي على ما وصل إلينا من خلافهم في الأحكام الشرعية والمسائل الفقهية).
هل تعلم أن عدد أجزاء هذا الكتاب قد بلغ عشرة مجلدات من القطع الكبير!! رغم قصر المدة الزمنية التي كتب عنها الحلي، واقتصاره على عدد قليل من العلماء! فلو قدر لشخص أن يجمع مثل هذا الكتاب اليوم ليبين فيه اختلاف علماء الشيعة منذ بداية ظهور الفقه الشيعي إلى يومنا هذا لاحتاج إلى مئات المجلدات. فإن الخروج على مذاهب الفقهاء الأقدمين ومخالفة اللاحق للسابق منهم مستمر بلا انقطاع!.
يقول جعفر الشاخوري: لو قارنا بين رسالة [الخوئي] "منهاج الصالحين" مثلاً وبين رسالة الشيخ الصدوق "المقنع" أو رسالة الشيخ المفيد "المقنعة" لوجدنا الفرق شاسعاً في الفتاوى(1).
ويقول: إن المتأخرين يمرون على بعض الفتاوى التي صدرت من كبار الأعاظم من القدماء وهم يبتسمون إشفاقاً(2).
وقال محمد جواد مغنية: أحدث المتأخرون قواعد فقهية جديدة،
وعدلوا كثيراً من القواعد القديمة فنفوا أحكاماً أثبتها المتقدمون، وأثبتوا أحكاماً لم يعرفها أحد مما سبقهم ، وطعموا جميع أبواب الفقه من
العبادات والمعاملات(3).
__________
(1) حركية العقل الاجتهادي لدى فقهاء الشيعة الإمامية - الشاخوري ص21.
(2) أيضاً.
(3) مع الشيعة الإمامية - محمد جواد مغنية ص90.
اختلاف إلى حد القتل
بل وصل الخلاف بين علماء (الجعفرية) إلى حد القتل - بعد أن
تعدى حدود التفسيق والتكفير! - كما صرح بذلك الخوانساري فقال: (أكثر المتأخرون التأليف. وفي مؤلفاتهم سقطات كثيرة عفا الله عنا وعنهم. وقد أدى ذلك إلى قتل جماعة منهم)(1)!!.
الاحتجاج باختلاف أهل السنة
قد يقول قائل: وعلماء أهل السنة قد اختلفوا، فلماذا التشنيع على الشيعة بما هو موجود عندكم؟!
والجواب: نعم توجد اختلافات بين علماء ومذاهب أهل السنة، ولكننا ننظر إلى الاختلاف على أنه -بشروطه- سائغ وطبيعي ومشروع تبعاً لاختلاف أنظار المجتهدين الذين يجوز عليهم الخطأ لعدم عصمتهم. فمن أصاب منهم فله أجران، ومن أخطأ فله أجر. وكذلك من تابعه: فالله تعالى لم يشترط على عبده أن يصيب الحق في
كل الفروع، وإنما أراد منه أن يطلبه في أصل قصده.
لكن الشيعة - في أصل مذهبهم - لا يعتبرون الاختلاف في المسائل الفقهية مقبولاً شرعاً. وقد شنعوا على أهل السنة بسبب اختلافاتهم الفقهية قائلين: إن سبب ذلك إعراضهم عن (الإمام المعصوم)، واتباعهم رجالاً غير معصومين من أمثال أبي هريرة وعائشة ومعاوية وأبي حنيفة والشافعي وابن حنبل. فهجروا (العترة الطاهرة) وتركوا (مذهب أهل البيت)، ولم يدخلوا من (باب حطة) ولم يركبوا (سفينة النجاة) فغرقوا في بحر الخلافات. ولو اتبعوا (مذهب أهل البيت) لتوحد فقههم، وانتفت خلافاتهم كما هو الحال عند أتباع (الفقه الجعفري) الذين اتبعوا (إماماً معصوماً) يمنعهم من الاختلاف، ويعصمهم من الخلاف. وهذا هو الأمر الذي بسببه فارقوا الآخرين، وحملوا على سواهم من المسلمين.
إذن وقوعهم في ما شنعوا بسببه على غيرهم يزري بهم دون سواهم ويجعلهم أولى بالتشنيع ويبطل دعاواهم تلك من الأساس. بل يبطل أصل دعواهم التي على أساسها فارقوا الآخرين، وفرقوا بين المسلمين.
مثالان على خلافات (المذهب الجعفري)
__________
(1) لؤلؤة البحرين - يوسف البحراني ص81.
وهذان المثالان قد وردت النصوص في الكتاب والسنة واضحة بشأنهما ، فما بالك بالمسائل المبهمة النصوص ؟ أو التي لم يرد فيها نص قط ؟! وقد اقتصرت على هذا العدد تجنباً للتطويل في غير طائل.
الزواج من الكتابية
قال الدكتور أحمد الوائلي: أما اليهود والنصارى ففي الزواج منهم أقوال ستة، وأبرز الأقوال:
قول بعدم الجواز مطلقاً.
قول بالجواز متعة لا دواماً، وبملك اليمين.
قول بالجواز في حالة الإضطرار وعدم وجود المسلمة .
قول بالجواز مطلقاً على كراهية .
قول بالجواز مطلقاً بدون كراهية .
ثم قال: هذا التفصيل الذي ذكرته هو عند (الأمامية). أما المذاهب الإسلامية الأخرى فقد أجمعوا على الجواز من النصرانية
واليهودية دون المجوسية(1).
ويقول محمد جواد مغنية:
اتفقت مذاهب السنة الأربعة على صحة الزواج من الكتابية، واختلف فقهاء الشيعة فيما بينهم(2).
صلاة الجمعة
لقد اختلف (الجعفرية) في صلاة الجمعة اختلافاً يصيب الرأس بالصداع ! وأعجب ما شهدناه من خلاف اعتراضهم على محمد صادق الصدر حين أقام الجمعة بعدم وجود الإمام العادل. حتى إذا احتلت بغداد وصار يحكمها مباشرة الكافر الأمريكي إذا بمراجعهم يتسابقون على إقامتها بصورة لم يسبق لها مثيل!! وهذه بعض أقوالهم فيها:
يقول محمد العاملي الكاظمي: ومن أشهر الأقوال:
1- التحريم مطلقاً.
2- الوجوب التخيري.
3- الوجوب التعيني.
4- الوجوب بشرط أن يكون الأمام فقيهاً .
5- التوقف بين الحكم بالوجوب والحكم بالحرمة .
__________
(1) فقه الجنس في قنواته المذهبية - الدكتور أحمد الوائلي ص245. وكذلك فقه الإمام الصادق - محمد جواد مغنية 5/201.
(2) تفسير الكاشف - محمد جواد مغنية 1/334.
وقد وقع الخلاف في هذه الصلاة في أن الإمام ونائبه هل هو
شرط فيها ؟ أم لا ؟ وهذه الأقوال هي:
القول الأول: عدم اشتراط الإمام ونائبه في وجوب الجمعة كما هو
ظاهر قول المحدثين كالكليني والصدوق.
القول الثاني: اشتراط الإمام ونائبه في وجوب الجمعة العيني
وبدونه لا تجب بل تستحب. وهذا القول منسوب لظاهر الشيخ الطوسي في النهاية.
القول الثالث: اشتراط الإمام ونائبه في انعقاد الجمعة مع حضور الإمام لا مع غيبته. وهذا القول منسوب للشهيد الثاني في كتبه، والعلامة في النهاية.
القول الرابع: اشتراط الإمام ونائبه في انعقاد الجمعة مع الإمكان. وعند تعذر الأمرين يكفي من تكاملت له صفات إمام الجماعة. وهذا القول لأبي الصلاح الحلبي.
القول الخامس: اشتراط الإمام ونائبه مطلقاً مع حضور الإمام وغيبته، وبدون ذلك تسقط الجمعة وتعين صلاة الظهر. وهذا القول منسوب للديلمي ولابن إدريس. وهو محكي عن ظاهر السيد المرتضى في بعض أجوبته على بعض المسائل، وعن العلامة في المنتهى وجهاد التحرير، والشهيد في الذكرى.
هذه أصول الأقوال والوجوه. ويتفرع عليها بعض الأقوال الأُخرى منها:
1- القول بوجوب صلاة الجمعة تخييراً بينها وبين الظهر ابتداءاً، لكنها إذا انعقدت جامعة للشرائط تعينت.
2- ومنها وجه وجوب صلاة الجمعة مع الفقيه على وجه التعيين، ومع غيره على وجه التخيير بينها وبين الظهر(1).
الفقيه يخالف نفسه
لقد وصل الاختلاف في (المذهب الجعفري) إلى حد أن الفقيه يخالف نفسه! بحيث تكون له في خاصته فتوى وأمام العامة فتوى أخرى مغايرة خوفاً منهم! وله في العراق فتوى وفي أمريكا أخرى مسايرة لهم!! وهكذا.
يقول محمد حسين فضل الله: أعطيكم الآن فتوتين للسيد الخوئي:
__________
(1) حقائق الأحكام في رسالات الإسلام - محمد العاملي الكاظمي ص33 .
- من زنى بذات بعل حرمت عليه مؤبداً على الأحوط وجوباً. وعندي رسائل للسيد الخوئي بعث بها إلي يقول فيها: إذا وجدت ضرورة في تزويج من زنى بذات بعل فلا مانع أن تزوجها له بعد أن تطلق. وأنا زوجت أناساً بهذه الطريقة.
2- الثانية : يقول : لا يجوز خروج الزوجة بغير إذنه مطلقاً على
الأحوط وجوباً حتى فيما لا ينافي حقه. وأنا عندي استفتاء للسيد الخوئي نشر في أمريكا يقول: يجوز للمرأة أن تخرج من بيت زوجها بغير إذنه إذا لم يناف ذلك حقه. لأن الخروج من بيت الرجل ليس حقاً مستقلاً، بل هو من شؤون الاستمتاع. وأنا أدري أن هناك علماء كثيرين لا يصرحون بفتواهم تحرجاً من العامة(1).
وقال الفيض الكاشاني: (إنا نجد الفرقة المحقة مختلفة في الأحكام الشرعية الختلافاً شديداً حتى يفتي الواحد منهم بالشيء ويرجع منه إلى إلى غيره، فلو لم يرتفع الإثم لعمهم الفسق وشملهم الإثم)(2).
ويقول يوسف البحراني: (إنا نرى كلاً من المجتهدين والإخباريين يختلفون في آحاد المسائل. بل ربما خالف أحدهم نفسه…
وقد ذهب رئيس الإخباريين الصدوق إلى مذاهب غريبة لم يوافقه
عليها مجتهد ولا إخباري، مع أنه لم يقدح في علمه وفضله)(3).
__________
(1) المنهج الاستدلالي - محمد حسين فضل الله ص42 .
(2) الحق المبين في تحقيق كيفية التفقه في الدين - الفيض الكاشاني ناقلاً كلام المحقق في كتابه معارج الأصول ص106.
(3) الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة - يوسف البحراني 1/169.
وسئل سليمان البحراني: هل مطلق المخالف نجس أم لا؟ فأجاب: ( الظاهر طهارته ما لم يكن ناصبياً(1). وقد كنت أرجح نجاسته فيما مضى من الزمان، وكتبت رسالة. والذي يقوي في نفسي الآن الطهارة وفاقاً للأكثر(2), وإن كانوا كفاراً إذ لم يقم لنا دليل على نجاسة الكافر مطلقاً)(3).
__________
(1) أي سنياً. وكتاب يوسف البحراني (الشهاب الثاقب في بيان معنى الناصب) كله في إثبات أن الناصبي هو السني.
(2) تقضي أصول الإمامية أن يقول: وفاقاً لـ(الإمام)، وليس وفاقاً للأكثر!
(3) الشهاب الثاقب في بيان معنى الناصب - يوسف البحراني ص241.
ويقول محمد حسين فضل الله: (إن المجتهد الذي ينطلق في فتواه من الأدلة الشرعية كالكتاب والسنة على أساس فهمه الاجتهادي فيها قد يتغير رأيه إذا تغيرت لديه المعطيات الفقهية. وذلك من خلال اكتشافه وجود الخطأ في اجتهاده… وقد رأينا بعض الفقهاء المتقدمين تختلف اجتهاداته باختلاف كتبه كما ينقل ذلك عن الشهيد الأول. كما اننا رأينا من بعض علمائنا المعاصرين المراجع وهو آية الله العظمى السيد محسن الحكيم قد تغير رأيه من الفتوى بنجاسة أهل الكتاب إلى الفتوى بطهارتهم، ومن الفتوى بانحصار المطاف في المساحة بين الكعبة ومقام إبراهيم إلى الفتوى باتساعه ما اتسع الطواف. وهكذا في كثير من آراء المراجع الاجتهادية لأن المرجع ليس معصوماً(1)… وقد حدث لنا أنا كنا بكفاية الولادة الفلكية للهلال في ثبوت أول الشهر، ولكننا عدلنا عن ذلك بالمزيد من التأمل إلى إضافة إمكان الرؤية من الناحية الفلكية لاكتشاف ذلك من بعض الدلالات القرآنية، فأصبحت الفتوى عندنا وفاقاً لأستاذنا آية الله العظمى السيد)(2).
__________
(1) ولأن المرجع ليس معصوماً فقد أوجب الشيعة على الله أن ينصب لهم إماماً معصوماً كي يحفظ الدين، ويرفع الخلاف، ويجنبهم التورط في أخطاء (المرجع)، ويغنيهم عن الحاجة إلى الرجوع إلى غير المعصوم. لكننا نراهم ينقضون دعواهم - عند أول اختبار - ويعودون إلى ما أنكروه على غيرهم، فيتحاكمون إلى المرجع غير المعصوم! ويختلفون فيما بينهم فيرجعون إلى (أستاذهم آية الله العظمى السيد)! وليس إلى الإمام المعصوم. فإذا أشكلت على أتباعهم كثرة أخطائهم قالوا: (إن المرجع ليس معصوماً)!! فأين المعصوم من هذه الأخطاء؟ لماذا لا يرجعون إليه ليصححها لهم؟!
(2) فقه الحياة - محمد حسين فضل الله ص35.
يقول الأخ الأستاذ علاء الدين البصير: (اختلف قول الخوئي في الدورة الأولى من الأصول عن الدورة الأخيرة حيث أنه قال في الدورة الأخيرة بعدم العمل بمراسيل الصدوق، بينما في الدورة الأولى صرح بجواز العمل بمراسيله. وهذا يستلزم تغييراً كبيراً في فتاوى الخوئي: فإن عدد مراسيل الصدوق في كتابه فقيه من لم يحضره الفقيه أكثر من (2050) حديثاً مرسلاً، أي قريباً من نصف الكتاب. ويستلزم أيضاً أن العمل على الفتاوى القديمة استمر لفترة طويلة من الزمن: حيث أن الدورة الأولى ظهرت في بداية حياته كمجتهد، والدورة الأخيرة ظهرت قبل وفاته وهي الثامنة والعشرون)(1).
ويقول محمد مغنية: (وقع الاختلاف في بيع الوقف على وجه لم نعثر على نظيره في مسألة من مسائل الوقف إطلاقاً: فهم بين مانع من بيع الوقف إطلاقاً، ومجيز له في بعض الموارد، ومتوقف عن الحكم. بل تعددت الأقوال حتى انفرد كل فقيه بقول. بل خالف الفقيه الواحد نفسه بنفسه في كتاب واحد: فذهب في باب البيع إلى غير ما قاله في باب الوقف. وربما ناقض قوله في كلام واحد فقال في صدره
ما يخالف عجزه. ثم أنهى صاحب الجواهر الأقوال إلى (12) قولاً)(2). وقال أيضاً: (قال صاحب المدارك: اختلف الأصحاب في عرق الجنب من الحرام: فذهب جماعة إلى نجاسته، وعامة المتأخرين قالوا بالطهارة، وقال السيد الحكيم في المستمسك: المنسوب إلى أكثر المتأخرين الطهارة، بل عن الحلي الإجماع عليها، وان من قال بالنجاسة في كتاب رجع عنها في كتاب آخر)(3).
وقال: (قال صاحب مفتاح الكرامة: اختلف الفقهاء في مسألة القراءة خلف الإمام في الركعة الثالثة من المغرب والأخيرتين من العشاء والظهرين اختلافاً شديداً حتى إن الفقيه الواحد اختلف مع نفسه)(4).
__________
(1) الشهادة الثالثة في الأذان - علاء الدين البصير /مخطوط.
(2) فقه الإمام جعفر الصادق - محمد جواد مغنية 5/73.
(3) أيضاً 1/30.
(4) أيضاً 1/239.
وقال عباس الرضوي: (كان الخميني يفتي بحرمة أكل السمك الذي ينتج الكافيار لأنه ليس هناك قشور على جسمه. ولكن بعد ذلك غير فتواه إلى الحلية. وكان الخميني يفتي بحرمة لعب الشطرنج ولكنه غير فتواه إلى الحلية)(1).
الفقه (الجعفري) يفجر الخلافات داخل البيت الواحد
كان لهذه الخلافات الشديدة بين فقهاء (المذهب الجعفري) لها انعكاسات سيئة على الواقع في المجتمع الشيعي تعدت المساجد والحوزات وأروقة الحكم وبقية العناوين الاجتماعية، وتسللت إلى أفراد الأسرة الواحدة. فقد يقلد الوالد مرجعاً ويقلد أولاده مرجعاً آخر. أو يقلد بعض الأخوة مرجعاً غير المرجع الذي يقلده البعض الآخر. وقد يختلف الزوجان في مرجعية التقليد! وهذا كله يضفي بظلاله على الجميع. وهناك أمور لا تكون إلا مشتركة، ولكنها لا تقبل في طبيعتها التعارض! وهنا تتعقد الأمور وتحدث المشاكل. لا أقول هذا استنتاجاً أو اتهاماً من عندياتي، بل هذا واقع يعيشه الشيعة اشتكوا منه إلى علماؤهم!
يقول محمد حسين فضل الله: (إن تعدد المرجعيات قد يخلق لنا
مشاكل وتمزقات في داخل الواقع الإسلامي، سواء كان ذلك على مستوى تعدد النظريات الفقهية التي تلزم الزوج برأي مرجع وتلزم الزوجة برأي مرجع آخر، ويحصل التنافر حتى داخل البيت الواحد، أو في طبيعة الاتجاهات العامة في هذا الموقع أو ذاك الموقع)(2).
سئل محمد صادق الصدر: فتاة بالغة رشيدة تقلد (س) من العلماء يجيز زواجها من الكفو دون إذن الولي، ووالد الفتاة يقلد (ص) من العلماء لا يجيز ذلك إلا بإذن الولي. فما هو موقف الفتاة من ناحية الشرع أو ناحية تقليدها؟ وما هو تكليف الأب من ناحية تقليده؟ فأجاب (قده):
بسمه تعالى: تستطيع أن تتزوج من الكفو بدون إذن والدها إذا كان تقليدها حجة(3).
__________
(1) آراء في المرجعية الشيعية - عباس الرضوي ص299.
(2) المعالم الجديدة للمرجعية الشيعية - محمد حسين فضل الله ص117.
(3) مسائل وردود - 4/42 -مسألة (184).
ولا ندري ما هو جواب الفقيه عن أب في مجتمعاتنا المحافظة
يبحث عن ابنته التي تغيبت عن البيت منذ عدة أيام، فيجدها تسكن في بيت لرجل يدعي أنه تزوجها على مذهب فقيه آخر، فقام بقتله وقتلها؟ ولا ما هو موقف أب من ابنته وقد تزوجت رجلاً دون علمه؟!
وسئل قده أيضاً: إذا كان الشخص مقلداً لمجتهد يجوز نكاح الدبر بالنسبة للزوجة، وزوجته تقلد مجتهداً لا يجوز ذلك، وطلب من زوجته ذلك الشيء فما هو تكليف الزوجة في هذه الحالة؟ فأجاب: بسمه تعالى: إذا كان تقليدها بحجة شرعية وجب عليها الرفض ولا تكون ناشزاً(1).
اختلاف في العقيدة
والعجيب أن الاختلافات بين علماء (الجعفرية) لم تقتصر على الفروع الفقهية، بل تجاوزتها إلى العقيدة أصولاً وفروعاً!
ولسنا في مجال البحث في هذا الأمر ؛ لأن موضوعنا المسائل
الفقهية (العملية). ولكن نشير إليه إشارة ولو عابرة عسى أن تحدث هذه الأمور بعضها إلى بعض رجة في العقول كي تعيد حساباتها في أمور مغلوطة أمست عندها من المسلمات.
لقد كتب (الصدوق) كتاباً في عقائد الشيعة عرف بـ(اعتقاد الصدوق). لم يمر على الكتاب فترة طويلة حتى جاء تلميذه (المفيد) وكتب كتابه (تصحيح الاعتقاد) في الرد على شيخه في كتابه المذكور، ويحمل فيه عليه حملات منكرة! واصفاً إياه بالجهل بالأخبار تارة وبمذاهب الاعتقادات تارة، وبعدم العلم في مسائل أخرى! من ذلك قوله: (وما كان ينبغي لمن لا معرفة له بحقائق الأمور أن يتكلم فيها على خبط عشواء. والذي صرح به أبو جعفر في معنى الروح والنفس هو قول التناسخية بعينه من غير أن يعلم أنه قولهم، فالجناية بذلك على نفسه وعلى غيره عظيمة).
وقال في موضع آخر: (والذي حكاه وتوهمه هو مذهب كثير من
الفلاسفة الملحدين).
__________
(1) أيضاً -4/41 - مسألة (175).
ولم ينته اختلاف (الجعفرية) في العقيدة عند هذا الحد! فما إن جاء الشريف المرتضى حتى شمر عن ساعد الرد ليخالف شيخه المفيد في (95) مسألة في العقيدة!(1) وهو رقم كبير جداً، لا سيما إذا أخذنا بنظر الاعتبار دعوى القوم بالرجوع إلى المعصوم!!
ولنا هنا أن نسأل: على أي مذهب كان اعتقاد الإمام جعفر الصادق (ر) ؟ هل كان الصادق على مذهب الصدوق؟ أم كان الصدوق على مذهب الصادق؟ أم كان على مذهب المفيد؟ أم على مذهب الشريف؟! ومن من هؤلاء كان على مذهب جعفر؟ ومن على مذهب من؟!!
وإذا لم يكن الشيعة في اعتقادهم (جعفرية)، ففي أي شيء هم على مذهب جعفر؟ وعلى أي أساس اعتمدوا في تسمية أنفسهم بهذا الاسم؟!
ولم ينته الخلاف عند هذا الحد - وما كان له أن ينتهي! - بل الخلاف مستعر ومستمر بحيث صار ذلك سمة وطابعاً لا إنكار فيه حتى قال محمد حسين فضل الله: (إننا نعتقد أن حركة الاجتهاد الشيعي لا بد أن تواجه مسألة التفاصيل العقيدية بنفس القوة والدرجة التي واجهت بها مسألة التفاصيل الشرعية في فروع الأحكام)(2). بل قال: (إن كتب الاعتقاد المؤلفة من قبل علماء المسلمين الشيعة لا تمثل الفكرة النهائية الحاسمة في اعتقادات الشيعة، لأنها انطلقت من اجتهادات هؤلاء العلماء في فهم القواعد والنصوص التي يحفل بها التراث الشيعي)(3)!!.
لو اطلع عوام الشيعة على الحقيقة
__________
(1) مرجعية المرحلة - جعفر الشاخوري ص127
(2) مجلة الفكر الجديد - مقالة لمحمد حسين فضل الله .
(3) المصدر نفسه.
الغريب في كل هذا أن هذا البحر من الخلافات الذي لا ساحل له، والذي يكاد يبتلع علماءهم لا يعرف عنه عامة الشيعة شيئاً، بل يسبحون بعيداً عنه في سواقي الأوهام اللذيذة، وترع الأفكار المجنحة الجميلة، وهم يتصورون - بكل ما في أذهانهم من قوة على تصديق الوهم - أن مذهبهم في الفقه وفي العقيدة واحد، وأنه لا وجود للخلاف بين علمائهم لأنهم من أتباع مذهب الإمام جعفر الصادق!! بينما غيرهم مذاهب مختلفة، ومشارب متعددة!!
ولا أدري مدى الصدمة التي بها سيصابون! لو اطلعوا على هذه الخلافات وتيقنوا من أنهم كانوا في وهم يسبحون؟ ولا ماذا سوف يفعلون؟!
سفينة النجاة .. أي سفينة هي؟!
ولك بعد هذه الجولة الطويلة أن تأخذ نفساً طويلاً وتتمدد لتأخذ
قسطاً من الراحة. وإن شئت أن تضحك بملئ فيك وأنت تقرأ هذه العبارات الرنانة الطنانة:
جلس أحدهم في برجه العاجي وتمطى متثائباً فإذا به يقول دون أن يضع يده على فمه: (وبهذا تتضح أهمية حديث الثقلين، وقيمة إرجاع الأمة إلى أهل البيت "ع" فيه لأخذ الأحكام عنهم، كما تتضح أسرار تأكيده على الاقتداء بهم وجعلهم سفن (النجاة) و(أماناً للأمة) أخرى و(باب حطة) ثالثة وهكذا)(1).
وقال ثانٍ: (ولذا نعتقد أن الأحكام الشرعية الإلهية لا تستقى إلا من نمير مائهم. ولا يصح أخذها إلا منهم. ولا تفرغ ذمة المكلف بالرجوع إلى غيرهم. ولا يطمئن بينه وبين الله إلى أنه قد أدى ما عليه من التكاليف المفروضة إلا من طريقهم. إنهم كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق في هذا البحر المائج الزاخر بأمواج الشبه والضلالات)(2).
__________
(1) أصول الفقه المقارن - محمد تقي الحكيم ص174.
(2) عقائد الشيعة - محمد رضا المظفر ص48.
وثالث!!: (إن أهل البيت هم سفن النجاة من كل هلكة، وأمانها من الاختلاف في الدين، وباب حطتها، وأعلام هدايتها: ما خالفتها قبيلة من العرب إلا اختلفوا فصاروا حزب إبليس)(1).
ولم يقل لنا الراوي: هل هذا الحكم (اختلفوا فصاروا من حزب إبليس) ينطبق على جميع المختلفين؟ أم هناك (حصانة) فقهية للبعض دون البعض الآخر؟! وإذا أردنا أن نحكم بالعدل ونطبق القانون على جميع (القبائل) بالتساوي - عربية كانت أم أعجمية فلا فضل لأعجمي على عربي إلا بالتقوى - فأي القبائل أولى بالصيرورة من حزب إبليس؟! وقدماً قال العرب: إذا كان بيتك من زجاج فلا ترم بالحجر على الآخرين. ولكن يظهر أن الأمر كما روى سيدنا الحسن بن علي - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت)!!
وأي سفينة نركب ؟!
وبعد! فلو أردنا يوماً أن نركب (السفينة)، لننجو من الغرق في بحر خلافات مذاهب أهل السنة فهل نركب سفينة الإخباريين أم سفينة الأصوليين؟ بل في أي سفينة من سفن الإخباريين؟ أو سفن الأصوليين؟ فإن كل فريق سفن كثيرة لا تحصى! على كل سفينة داعٍ يدعو إليها من استجاب له قذفه فيها وهو ينادي ويقول: هنا سفينة النجاة، وأمان الأمة، وباب حطة! من هنا الوصول إلى شاطئ السلامة! وبر الأمان!!
__________
(1) محاورة عقائدية مع الدكتور علي أحمد السالوس في كتابه فقه الشيعة الإمامية - أمير محمد الكاظمي ص173 .
فسفينة من منهم نركب؟! أسفينة الصدوق؟ أم سفينة المفيد؟ أم سفينة المرتضى؟ أم سفينة الطوسي؟… أم سفينة الخوئي؟ أم سفينة الخالصي؟ أم سفينة كاشف الغطاء؟ أم سفينة السيستاني؟ أم سفينة البروجردي؟ أم سفينة الخميني؟ أم سفينة شريعتمداري؟ أم سفينة موسى الموسوي؟ أم سفينة أحمد الكاتب؟ أم سفينة خامنئي والمحافظين؟ أم سفينة الخاتمي والإصلاحيين؟ أم سفينة محمد حسين فضل الله؟ أم سفينة حسن نصر الله؟ أم سفينة صبحي الطفيلي؟ أم سفينة الحكيم؟ فأي حكيم منهم؟! أم سفينة الصدر؟ فأي صدر منهم؟! أم سفينة (الحوزة الصامتة)؟ أم سفينة (الحوزة الناطقة)؟! أم سفينة بحر العلوم؟ فأي بحر منهم؟! والبحر عريض طويل، والسفن كثيرة مزدحمة! وهي تتكاثر وتزداد بتعاقب الزمن. كلما غرقت سفينة أعقبت سفناً أصحابها كل منهم يدعي (الأعلمية) والمرجعية!
إن هذا الاختلاف الذي لا يحصى يثبت قطعاً أن أصحابه لا يصدرون عن مذهب واحد، فهم ليسوا على مذهب جعفر الصادق. فنسبة فقههم إليه باطل لا أساس له.
عبارة (قول الإمامية) في كتب الفقه وأصوله عند أهل السنة
شاع أخيراً في كتب الفقه وأصوله لدى أهل السنة أن يستعرضوا أقوال المذاهب المعتبرة فيوردون قولاً لمالك وقولاً أو قولين أوأكثر لأحمد، وآخر للشافعي… وهلم جرا! ثم يتبعونها بعبارة (قول الإمامية) ما يولد انطباعاً لدى القارئ أن الإمامية في الفقه مذهب واحد، ولهم على كل مسألة قول واحد، بينما أهل السنة مختلفون. وهذا - كما ثبت لنا آنفاً بالدليل الجلي - مغاير للحقيقة والواقع.
وأنا لا أدري ما الذي يحمل فقهاءنا - سامحهم الله - على تثبيت هذه الأسطورة ؟! وإشاعة هذه الأكذوبة ؟!!
هل إنهم لا يعرفون حقيقة الأمر؟ هذا بعيد.
أم إنهم يعرفون لكن يتساهلون؟ فهل يصح هذا في شرع الله؟.
حدثني الأخ الأستاذ علاء الدين البصير فقال: زارني أحد هؤلاء الفقهاء الأجلاء فقلت له: أنت تعلم أن الإمامية مختلفون في آرائهم الفقهية؟ قال: نعم. قلت: فعلام تخالف هذا في كتبك، ولا تذكر للإمامية إلا قولاً واحداً ؟ فكان جوابه: هذا شيء اعتدنا عليه!!
عدم الأخذ بفقه (إمام الزمان).. لماذا؟!
ثم إن الإمامية يعتقدون أنه لا بد من المعصوم في كل زمان، وأنه لا يغني معصوم عن آخر ولذلك لم تنقطع العصمة بموت النبي - صلى الله عليه وسلم - لاحتياج الخلق دائماً وأبداً إلى معصوم يخلفه.
أليس هذا يوجب على الإمامية أن يأخذوا بفقه إمام زمانهم دون سواه. وإمام الزمان- حسب اعتقادهم - هو المهدي. فأين هو فقه المهدي؟ بل أين فقه الحسن أبيه؟ أو فقه علي الرضا؟ أو أبيه موسى؟ وأين فقه بقية (الإئمة)؟ لماذا توقفوا عند فقه جعفر دون سواه؟! أليس بموت جعفر يجب الانتقال إلى الإمام الذي يليه والأخذ بقوله؟. فإن كان فقه جعفر يغني عن فقه الذي بعده فما وجه الحاجة إلى (إمام) من بعده؟ وإن كان لا يغني فعلام التوقف عنده؟ وما هذا الاهتمام به دون سواه؟ إلى حد أنه لا يوجد عندهم من أقوال لأي (إمام)
بعده (بل ولا قبله) ما يمكن أن يشكل مذهباً!
لقد عاش الكليني في فترة مقاربة لحياة الحسن العسكري، وفي
موطن واحد معه تقريباً (بغداد وسامراء)، لكنه لم يسجل له في كتابه (الكافي) - الذي حوى ثماني مجلدات من الروايات المنسوبة في غالبها إلى جعفر - سوى بضع روايات قد لا تصل إلى عدد أصابع اليدين! وإنما ذهب إلى جعفر الذي يفصل بينه وبينه مسافة طويلة من الزمان والمكان!!
أما من حيث الزمان فإن بينهما حوالي مئتي عام! وأما من حيث المكان فإن جعفر عاش في المدينة والكليني عاش في بغداد. فلماذا يترك الأقرب زماناً ومكاناً إلى الأبعد؟!
أما كان الأولى - بل الأوجب - أن يجمع آثار الحسن العسكري وهو قريب منه جداً؟ بل الواجب أن يجمع أقوال (المهدي) ولو بواسطة سفرائه وقد عاصرهم.
فلماذا ترك الكليني ستة (أئمة) على التوالي ليروي عن الإمام السابع قبلهم؟! ولماذا يترك خمسة (أئمة) من قبل ليروي عن (الإمام) السادس بعدهم؟!
ما وجه الحاجة إلى استمرار (الإمامة) ؟
إن كان اتِّباع أقوال واحد من الأئمة يكفي شرعاً عن غيره، فما سر تعدد الأئمة؟ وما وجه الحاجة إلى استمرارهم؟
إن فقه أول واحد منهم يغني عن سواه فلا حاجة إلى من بعده. فلماذا لم يسجل الإمامية فقه علي - رضي الله عنه - (الإمام) الأول؟ هل ضاع فقهه مثلاً كما ضاع فقه من تلاه سوى جعفر لذلك صاروا جعفرية؟ فهل حفظ
فقه جعفر هو السبب في عدم الاهتمام بحفظ فقه من بعده؟
فتكون النتيجة أنه لو حفظ فقه علي لما كان من حاجة لحفظ فقه
جعفر. أي أن الإمامة إمامة فقه فلو حفظ فقه الإمام الأول لما كان من داع لإمامة غيره. فعلام استمرت (الإمامة) بعد جعفر وقد حفظ فقهه؟!
عصر الأئمة
إن العصر الذي عاش فيه جعفر كان عصر أئمة الفقه، وتكوُّن المذاهب الفقهية التي بدأت في زمان جعفر أو قبله بقليل، وانتهت بعده بقليل. فكان مذهب أبي حنيفة ومالك وزيد - وقد عاصروا جعفر - ومذهب الشافعي وأحمد - وقد جاءا بعدهم بجيل - ثم انتهت المذاهب الفقهية المستقلة. فكان في ذلك الزمان الإمام أبو حنيفة ومالك وزيد وجعفر والشافعي وأحمد.
فكان بروز جعفر كإمام من أئمة الفقه أمراً يتناسب وطبيعة العصر. لا لأنه إمام معصوم. ولكن لأنه إمام فقه. فلا حاجة لإمام فقه من بعده مستقل لأتباعه. مثله مثل زيد وأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد.
وهذا هو الذي يفسر لماذا التركيز على جعفر. ثم على والده محمد من قبل. لأن والده أدرك عصر بداية تكوّن المذاهب. الذي بلغ أوجه في زمن ابنه جعفر.
ولذلك لم تسجل أقوال علي بن الحسين جد جعفر. كما لم تسجل أقوال أي فقيه من الفقهاء على أنه إمام مذهب. لأن المذاهب الفقهية لم تكن بدأت بالظهور آنذاك.
وللسبب نفسه لم تعد هناك حاجة إلى الاهتمام بتدوين فقه من
جاء من بعد جعفر. فلا داعي لتهويل الأمور، وتحميلها فوق ما تحتمل.
ضياع فقه جعفر لدى أهل السنة والشيعة
لقد كثر الكذب على جعفر؛ لهذا تحاشى العلماء الأمناء كثرة الرواية عنه؛ فضاع فقهه! وما موجود بين أيدينا اليوم مما يوثق به عنه نتف متفرقة لا تشكل مذهباً. وما سواها غالبه أكاذيب نسبت إليه تحاشتها الكتب الموثوقة(1)
__________
(1) حضرت سنة 2002 مناقشة رسالة دكتوراة في كلية العلوم الإسلامية لطالب شيعي من الناصرية اسمه محسن [لم أعد أذكر اسم أبيه]. عنوان الرسالة: (الإمام جعفر الصادق وجهوده في التفسير). لقد أورد الطالب (360) رواية هي جميع ما استطاع جمعه وحشده من روايات في مصادر الشيعة عن جعفر في التفسير - وقد كان مصراً على عدم الاستشهاد بغير مصادر الشيعة رغم توجيه الأستاذ المشرف وهو الدكتور محسن عبد الحميد كما جاء على لسانه أثناء المناقشة - لم يستطع - وعلى قواعد الإمامية في الحديث - أن يثبت صحة سند سوى (11) رواية منها! فكانت رسالته عبارة عن مهزلة أساء بها إلى جعفر الصادق نفسه؛ فإن عالماً تدّعى له الإمامة في التفسير ، ثم لا يكون لهذه الدعوى من دليل سوى أحد عشر قولاً لا تكفي لتفسير سورة واحدة من القرآن، تصبح هذه الدعوى على هذه الصورة منقصة له! وحتى على افتراض صحة جميع هذه الروايات فإنها تبقى عاجزة عن تغطية جزء واحد من القرآن العظيم! فكيف والشيعة يدّعون عدم جواز فهم القرآن إلا من خلال أقوال الإمام، ولم نجد له إلا هذا العدد البائس من الأقوال!! حتى قال له الأستاذ الدكتور حامد عبد الستار الدباغ رئيس لجنة المناقشة: حقاً لقد أسأت إلى الإمام جعفر الصادق! ولم يستطع الدكتور عبد العظيم البكاء أن يدافع عنه، أو يعتذر له مع محاولته الجادة لذلك. = = وأخيراً اضطرت لجنة المناقشة محرجة إلى رد الرسالة رغم أن هناك توصية من جهة عليا بقبولها.
وقد روت كتب الإمامية هذه الحقيقة البائسة! فقد روى الكشي عن جعفر الصادق أنه قال: (إنا أهل بيت صادقون لا نخلو من كذاب يكذب علينا، فيسقط صدقنا بكذبه علينا عند الناس)(1).
وقال: (إن الناس أولعوا بالكذب علينا)(2).
وقال: (كان المغيرة بن سعيد يتعمد الكذب على أبي ويأخذ كتب أصحابه. وكان أصحابه المتسترون بأصحاب أبي يدفعونها إلى المغيرة فكان يدس فيها الكفر والزندقة ويسندها إلى أبي، ثم يدفعونها إلى أصحابه فيأمروهم أن يبثوها في الشيعة. فكل ما كان في كتب أبي من الغلو فذاك مما دسه المغيرة بن سعيد في كتبهم)(3).
يقول الغريفي: (إن كثيراً من الأحاديث لم تصدر عن الأئمة، وإنما وضعها رجال كذابون ونسبوها إليهم: إما بالدس في كتب أصحابهم، أو بغيره. وبالطبع لا بد وأن يكونوا قد وضعوا لها أو لأكثرها إسناداً صحيحاً كي تقبل حسبما فرضته عملية الدس والتدليس)(4).
وقال محمد حسين فضل الله: (إن هناك فوضى أحاطت بالأحاديث الواردة عن الأئمة من وضاع الحديث الذين كانوا لا يكتفون بنقل الأحاديث الموضوعة بشكل مباشر، بل كانوا يدسونها في كتب أصحاب الأئمة الموثوقين كزرارة ومحمد بن مسلم وأمثالهما ليدخل الحديث الموضوع إلى الذهنية الإسلامية العامة من خلال هؤلاء الثقاة الذين لا يدخل الريب إلى ما ينقلونه عن الأئمة انطلاقاً من وثاقتهم)(5).
الفصل الثالث
عدم موثوقية الأسانيد إلى جعفر الصادق
إن ما مر بنا من بحث يقودنا إلى موضوع خطير هو عدم موثوقية عموم أسانيد الروايات المنسوبة إلى جعفر الصادق - فضلاً عن بقية (الأئمة) - لعدم موثوقية رواتها عنهم. وهو ما يصرح به علماء الشيعة قبل غيرهم!
__________
(1) رجال الكشي ص108.
(2) أيضاً ص347.
(3) حركية العقل الاجتهادي - جعفر الشاخوري ص186.
(4) قواعد التحديث - الغريفي ص135.
(5) مجلة الفكر الجديد - مقالة لمحمد حسين فضل الله ص8.
وقد مر بنا بعضها عن بعضهم كالشريف المرتضى الذي قال: (فمن أين يصح لنا خبر واحد يروونه ممن يجوز أن يكون عدلاً؟)(1).
بل يصرح بكلام خطير ينسف عامة رواياتهم حين يقول: (دعنا من مصنفات أصحاب الحديث من أصحابنا فما في أولئك محتج، ولا من يعرف الحجة، ولا كتبهم موضوعة للاحتجاج)(2).
وقال الطوسي: (إن كثيراً من مصنفي أصحابنا وأصحاب الأصول ينتحلون المذاهب الفاسدة وإن كانت كتبهم معتمدة)(3).
وهذا هو الذي نقوله نحن ولا نعدوه : الشيعة يعتمدون كتباً ألفها رجال مذاهبهم فاسدة. وهذا باعتراف شيخ الطائفة على الإطلاق أبي جعفر الطوسي !!
فمن أين يجد الصلاح إليهم طريقه؟!
حقائق خطيرة عن أسانيد روايات الشيعة
1. كذب الدعوى بالرواية عن (أهل البيت)
يرفض الشيعة أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - التي رواها عنه أصحابه - رضي الله عنهم - فمن بعدهم من التابعين لهم بإحسان ؛ بحجة أن رواتها ليسوا من أهل
البيت، الذين هم - كما يدَّعون - الباب الوحيد لمدينة علمه - صلى الله عليه وسلم - . مع ادعائهم أن رواياتهم مسندة بالنقل عن أهل البيت ، فرواياتهم دون غيرها هي الصحيحة الموثقة .
لكننا - عند التحقيق - لا نجد لهذه الدعوى من حقيقة تستند إليها : لا من حيث النظر والتأصيل، ولا من حيث الواقع والتطبيق !! وإليكم البيان:
2. رواة الشيعة ليسوا من (أهل البيت)
لنؤخر البحث النظري في الموضوع وندخل مباشرة في الواقع التطبيقي لدى الشيعة لنرى هل ما يدّعونه يلتزمونه ويطبقونه على أنفسهم ؟ أم ليس وراء ذلك سوى الدعوى المجردة ؟!
__________
(1) رسائل الشريف المرتضى 3/310. منقولاً عن كتاب مدخل إلى فهم الإسلام - يحيى محمد ص393.
(2) أيضاً 3/311.
(3) الفهرست - الطوسي /مقدمة المؤلف ص25.
إن دعوى الشيعة بأن رواياتهم مسندة بالنقل عن أهل البيت يستلزم أن يكون رواتها - في جميع حلقات سلسلة السند، أي من البداية إلى أن تصل إلى (الإمام) أو إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - - من (الأئمة) فقط ، أو - على الأقل - من أهل البيت .
فإن كان هذا ما يعنونه بقولهم ذاك ، فهذا لا وجود له البتة! والرجوع إلى أي مصدر من مصادرهم الروائية كـ(الكافي) للكليني، أو (البحار) للمجلسي يظهر بجلاء تام بطلان هذه الدعوى .
إن رواة الشيعة الذين نقلوا لهم دينهم من خلال عشرات الآلاف من الروايات ليس فيهم أحد من أهل البيت فضلاً عن أئمتهم!! ومن أراد التأكد من صحة قولي فدونه تلك المصادر فليرجع إليها إن شاء. فلن يجد أكثر من رواية تبدأ بـ(فلان عن فلان عن فلان ... قال أبو عبد الله عليه السلام : ...) و(فلان) هذا من أول السند إلى آخره ليس من أهل البيت! فأي أهل بيت يروي عنه الشيعة؟!
نموذج من أسانيد كتاب (الكافي) للكليني
وهذا ثبت بأسانيد أول عشر روايات في كتاب (الأصول من الكافي) كنموذج يمثل جميع الروايات الشيعية في مصادرهم كلها ، أتبعه بنموذج آخر من (صحيح البخاري) من أجل المقارنة، كي يتبين لكل قارئ بياناً لا مرية فيه أن ما يتبجح به الشيعة من كون رواياتهم مسندة عن (أهل البيت) دعوى عارية عن الصحة عرياً تاماً إلى حد التصفير !
أخبرنا أبو جعفر محمد بن يعقوب قال : حدثني عدة من أصحابنا منهم محمد بن يحيى العطار ، عن أحمد بن محمد ، عن الحسن بن محبوب ، عن العلاء بن رزين ، عن محمد بن مسلم ، عن أبي جعفر - عليه السلام - قال : لما خلق الله العقل ...
عليُّ بن محمد ، عن سهل بن زياد ، عن عمرو بن عثمان ، عن مفضل بن صالح ، عن سعد بن طريف ، عن الأصبغ بن نباتة ، عن علي - عليه السلام - قال : هبط جبرئيل ...
أحمد بن إدريس ، عن محمد بن عبد الجبار ، عن بعض أصحابنا رفعه إلى أبي عبد الله - عليه السلام - قال : قلت له : ما العقل ...
محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن ابن فضال ، عن الحسن بن الجهم قال : سمعت الرضا - عليه السلام - يقول : صديق كل امرئ عقله ...
وعنه ، عن أحمد بن محمد ، عن ابن فضال ، عن الحسن بن الجهم ، قال : قلت لأبي الحسن - عليه السلام - : إن عندنا قوماً ...
أحمد بن إدريس ، عن محمد بن حسان ، عن أبي محمد الرازي ، عن سيف بن عميرة ، عن إسحاق بن عمار ، قال : قال أبو عبد الله - عليه السلام - : من كان عاقلاً ...
عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن خالد ، عن الحسن بن علي بن يقطين ، عن محمد بن سنان ، عن أبي الجارود ، عن أبي جعفر عليه السلام قال : إنما يداقّ(1) الله العباد ...
علي بن محمد بن عبد الله ، عن إبراهيم بن إسحاق الأحمر ، عن محمد بن سليمان الديلمي ، عن أبيه قال : قلت لأبي عبد الله - عليه السلام - : فلان من عبادته ...
علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن النوفلي ، عن السكوني ، عن أبي عبد الله - عليه السلام - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله : إذا بلغكم عن رجل حُسن حال ...
10- محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن ابن محبوب ، عن عبد الله بن سنان قال : ذكرت لأبي عبد الله - عليه السلام - رجلاً مبتلى بالوضوء والصلاة ...
هل ترون في سند واحدة من هذه الروايات أحداً من أهل البيت؟
أو اسماً من أسمائهم ؟! (نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ).
وهكذا الحال في جميع روايات (الكافي) البالغ عددها أكثر من ستة عشر ألف رواية (000,16) !! بل جميع رواياتهم في المصادر الأخرى بلا استثناء !!! فانتقضت دعواهم في الرواية عن (أهل البيت) من أساسها.
نموذج من أسانيد البخاري في كتابه (الصحيح الجامع)
__________
(1) يحاسبهم.
وهذه أسانيد أول عشرة أحاديث - دون المكرر - يرويها الإمام محمد بن إسماعيل البخاري في (صحيحه) عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - :
1. حدثنا علي بن الجعد قال أخبرنا شعبة قال أخبرني منصور قال سمعت رِبعي بن حِراش يقول سمعت علياً يقول قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (لا تكذبوا عليَّ فإنه من كذب عليَّ فلْيلجِ النار) .
2. حدثنا محمد بن سلام قال أخبرنا وكيع عن سفيان عن مُطَرِّف عن الشعبي عن أبي جحيفة قال قلت لعلي بن أبي طالب : هل عندكم كتاب قال : لا إلا كتاب الله ...
3. وقال علي : حدثوا الناس بما يعرفون ... حدثنا عبيد الله بن موسى عن معروف بن خربوذ عن أبي الطفيل عن علي بذلك.
4. حدثنا مسدَّد قال حدثنا عبد الله بن داود عن الأعمش عن منذر الثوري عن محمد بن الحنفية عن علي بن أبي طالب قال: كنت رجلاً مذاء فأمرت المقداد بن الأسود أن يسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - فسأله فقال :
(فيه الوضوء).
5. حدثنا أبو اليمان قال أخبرنا شعيب عن الزهري قال أخبرني علي بن حسين أن حسين بن علي أخبره أن علي بن أبي طالب أخبره أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طرقه وفاطمة بنت النبي - عليه السلام - ليلة ...
6. حدثنا عثمان قال حدثني جرير عن منصور عن سعد بن عبيدة عن أبي عبد الرحمن عن علي - رضي الله عنه - قال : كنا في جنازة في بقيع الغرقد فأتانا النبي - صلى الله عليه وسلم - فقعد ...
7. حدثنا محمد بن بشار حدثنا غندر حدثنا شعبة عن الحكم عن علي بن حسين عن مروان بن الحكم قال شهدت عثمان وعلياً رضي الله عنهما ...
8. حدثنا قَبيصة حدثنا سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن علي - رضي الله عنه - قال أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أتصدق بجلال(1) البُدن التي نحرت وجلودها.
__________
(1) ما يطرح على ظهر البعير من كساء ونحوه.
9. حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان قال أخبرني ابن أبي نجيح عن مجاهد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن علي - رضي الله عنه - قال بعثني النبي - صلى الله عليه وسلم - فقمت على البدن ...
10. حدثنا عَبدان أخبرنا عبد الله أخبرنا يونس عن ابن شهاب قال أخبرني علي بن حسين أن حسين بن علي رضي الله عنهما أخبره
أن علياً عليه السلام قال : كانت لي شارف من نصيبي من الغنم ...
هذه أسانيد البخاري ، وتلك أسانيد الكليني. فهل تجد لأسانيد الكليني ميزة على أسانيد البخاري بحيث يمكن القول إن الشيعة يأخذون
رواياتهم عن أهل البيت ؟ وأن أهل السنة لا يروون عنهم ؟
إن كل ما يفعله الكليني فمن دونه من كتبة المصادر الروائية الشيعية هو أنه يأتي برواية تنتهي إلى أحد (الأئمة) ، ولكن جميع من يروي عنهم في سلسلة السند ليسوا من أئمة أهل البيت ولا عامتهم. والبخاري يروي بسلسلة سند تنتهي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . فلو افترضنا أن جميع الرواة بينه وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليسوا من أهل البيت فما ميزة روايات الكليني وغيره من رواة الشيعة عليه ؟ إنهم كذلك يروون عن رجال ليسوا من أهل البيت ! أما الميزة الحقيقية فهي لرواة أهل السنة ؛ فإنهم يروون عن رسول الله نفسه ، بينما رواة الشيعة يروون عن (الإمام) ، وغالباً يروون عن جعفر بن محمد . ولا شك أن الرواية عن الرسول أعلى وأجل من الرواية عن غيره . وتأمل هذين السندين وقارن بينهما :
الكليني-> محمد بن يحيى->أحمد بن محمد-> ابن فضال-> الحسن بن جهم-> الرضا
البخاري->علي بن الجعد-> شعبة-> منصور-> ربعي بن حراش-> علي-> الرسول
فلماذا يكون الذي يروي عن الرضا يأخذ دينه عن أهل البيت ؟ والذي يروي عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - نفسه - وهو سيد الأمة بل العالمين أجمعين فضلاً عن أهل البيت - لا يكون راوياً عن أهل البيت ؟! ويعتبر ذلك في حقه منقصة (يرفض) بسببها ؟! أليس حجة الشيعة في الرواية عن أهل البيت أنها أضمن لصحة النقل عن رسول الله ؟ وهم لا يروون إلا رواية تنتهي بـ(الإمام) دون أي راوٍ يروي عنه من أهل البيت ! فالذي يروي عن رسول الله نفسه ، لماذا لا تكون روايته مضمونة الصحة عن رسول الله وهو يروي عن رسول الله ؟! لو كان الرواة عن (الأمام) كلهم من أهل البيت، أو ترك لنا جعفر الصادق - أو غيره من (الأئمة) - كتاباً بخطه مروياً عن رسول الله لكان للدعوى وجه حق . أما وإن كل ما موجود رواية تنسب إلى أحد أئمة أهل البيت ، والسند كله ليس فيه من أحد أهل البيت ! وإذن (نحن الذين يجب أن يؤخذ عنا الدين ، ونحن وعاة خزائن علم آل محمد وورثتهم...) فهذا كلام مجانب للحقيقة العلمية ، وليس له من الحقيقة والحق من نصيب .
ولك أن تلاحظ أن أربعة من الروايات العشر السابقة التي رواها البخاري عن علي - رضي الله عنه - في أسانيدها رجال من أهل البيت : فالرواية الرابعة رواها محمد بن علي عن أبيه علي. والخامسة مروية عن علي بطريق علي بن الحسين عن أبيه الحسين بن علي عن أبيه علي بن أبي طالب - رضي الله عنهم - . وكذلك الرواية العاشرة ! أما الرواية السابعة فجاءت عن طريق علي بن الحسين. لكن الكليني في رواياته العشرة السابقة لم يرو رواية واحدة عن (الإمام) مسندة عن أحد من أهل البيت ! وكذلك رواياته جميعاً إلا ما شذ وندر !!
اللهم إلا الرواية السابعة فقد وردت عن (الحسن بن علي) ! ولكن - وا أسفي ! - تبين أنه.. (ابن يقطين) الفارسي الشعوبي ! وليس (ابن أبي طالب) العربي القريشي !
والآن هل تأكدت معي - بما لا يقبل الشك - أن ما يدّعيه الشيعة من أنهم يأخذون علمهم ويروون أحاديثهم عن أهل البيت لا يعدو كونه أسطورة من الأساطير التي شاعت بين الناس لكثرة ما رددت على أسماعهم ؟ وما أكثر الأساطير ! وهذه واحدة منها .
3. مؤلفو المصادر الروائية كلهم عجم
إن الشرط الذي وضعه الإمامية لأنفسهم وهو أنهم لا يقبلون من الروايات إلا ما كان مروياً عن طريق رجال أهل البيت منقوض من ناحية أخرى هي: أن أصل السند فاقد لهذا الشرط : فليس واحد من الرواة الذين كتبوا المصادر يرجع إلى أصل عربي ! فضلاً عن أن يكون من أئمة أهل البيت - كما يقتضي الشرط - أو من عامتهم - على أقل تقدير! - إضافة إلى فقدان رجال سلسلة السند ذلك الشرط الذي ألزم به الشيعة غيرهم فقداناً تاماً ! - كما تبين لنا في الفقرة السابقة - وإليكم التفصيل :
إن روايات الإمامية في أصلها ترجع إلى أربعة مصادر هي:
1. الكافي لمحمد بن يعقوب الكليني (ت 329).
2. فقيه من لا يحضره الفقيه لمحمد بن علي القمي (ت381).
3. تهذيب الأحكام.
4. الاستبصار.
والكتابان الأخيران كلاهما لمحمد بن الحسن الطوسي (ت 460).
وهؤلاء جميعاً ليسوا من العرب، ولا من أئمة أهل البيت ، ولا عامتهم !
وهذه المصادر انتشرت أو أُلفت في الفترة البويهية. والبويهيون
إيرانيون أعاجم حكموا بغداد وعاثوا فيها فساداً.
ثم جاء الصفويون وهم إيرانيون أعاجم لتنتعش الحركة التأليفية الإمامية مرة أخرى. فكتب المجلسي كتابه بحار الأنوار. والمجلسي فارسي أعجمي. وكتابه هذا يعتبر موسوعة ضمت جميع الروايات الإمامية. وهو أكثر من مائة مجلد!.
مقارنة مع مصادر أهل السنة
على العكس من مصادر أهل السنة الروائية: إذ تجد في مؤلفيها العربي والأعجمي تماشياً مع طبيعة الإسلام ونظرته العالمية. بينما تأبى المصادر الشيعية أن تتماشى - حتى من هذه الناحية - إلا مع طبيعة الفرس ونظرتهم العنصرية !.
إن أقدم مؤلف في الرواية عند أهل السنة موطّأ الإمام مالك. والإمام مالك بن أنس (ت 179هـ) عربي الأصل أصبحي من اليمن.
ثم مسند الإمام احمد الذي ضم حوالي أربعين ألف حديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - . والإمام احمد بن حنبل (ت241هـ ) عربي من بني شيبان من عرب العراق.
ومسند الإمام الشافعي. وهو محمد بن إدريس الشافعي (ت204هـ) قرشي عربي: يتصل نسبه برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الجد الثالث عبد مناف.
أما صحيح البخاري فجامعه الإمام محمد بن إسماعيل البخاري
(ت256هـ) وهو أعجمي.
وصحيح مسلم صاحبه الإمام مسلم بن الحجاج (ت261هـ) عربي من قبيلة قشير العربية.
وكذلك أبو داود (ت275هـ) عربي الأصل من الأزد.
فلماذا لا يكون رواة الإمامية جميعا إلا أعاجم ليس فيهم عربي؟! ولم يكونوا خليطاً كما يقتضي منطق الأمور: إذ أن المسلمين فيهم العربي وفيهم الأعجمي. والعرب هم حملة الدين، والدين كتاب وسنة. فلا بد أن يكون في الرواة عرب.
أما أن يكونوا جميعا أعاجم! فهذا يثير الشكوك ويشير إلى أن الأمر مقصود، لا سيما إذا استحضرنا أن تلك المصادر تفشو فيها العقائد المنحرفة والأفكار الهدامة الغالية ، ما يفسر عدم كون واحد من مؤلفيها من العرب؛ إذ العرب لا يمكن أن يخربوا أساس دينهم لإيمانهم أولاً، ولعدم وجود مصلحة لهم في ذلك ثانياً، لا سيما في الأعصر الأولى؛ فإن ملكهم قام على أساس دين الإسلام. على العكس من الفرس الذين انهدم ملكهم بقيام هذا الدين ! ومن انحرف من العرب - لسبب أو آخر- فإنه لم يبلغ في انحرافه إلى تلك الدرجة التي تؤهله عند الأعاجم لان يكون مرجعاً!
يتبع بقية الكتاب