التقريب بين المذاهب و التحذير من الاختلاف في رسائل اخوان الصفا الباطنية
يحذر اخوان الصفا في رسائلهم من الاختلاف بين المذاهب و يدعون الى ترك الاختلاف بحجة ان الاختلاف بين المذاهب رحمة و خير و ان الاختلاف شر و لا يجلب الا الشر و ان الاختلاف بين اتباع الانبياء هو سنة الله في الارض
فصل في تباغض أتباع الأنبياء بعد موتهم
ثم اعلم أن الاختلاف ينقسم قسمين محمود ومذموم. فالمحمود منه كاختلاف القراء وما جرى مجراه من اختلاف الفقهاء في
روايتهم، إذا لم يختلفوا في المعاني ولم يزيلوا الألفاظ من مواضعها، ولم يبدلوها تبديلاً، مع اعتمادهم على صدق المخبرين لهم بأن
ذلك من صاحب الشريعة. وإذا صح لهم ذلك، كان اختلافهم منفعة، لأن في العرب من يخالف بعضهم بعضاً في كثير من اللغة
العربية.
وأما الاختلاف المذموم فهو ما كان منه في المذاهب والآراء، فإذا زال الخلاف، ظهر دين الإسلام على جميع الأديان، واللغة العربية
على جميع اللغات، ويكون الدين واحداً كما قال الله تعالى: "هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون" وإظهار دين النبي على جميع الأديان، ولغته على سائر اللغات من أجل أن القرآن أكرم قرآن أنزله الله تعالى،
وأشرف كتاب أحكمه، وأنه لا يقدر أحد من الأمم على اختلافهم في لغام أن يحيله عما هو به من اللغة العربية إلى لغة غيرها،
لأنه لا يمكن أن ينقل البتة إلى لغة على ما هو به من الاختصار والإيجاز، وهذا لا خفاء به. ولا يكون اجتماع الناس على كلمة
واحدة إلا بمجاهدة المجاهدين المحقين لأهل الباطل، وأن يكون الخادمون من الناموس آمرين بالمعروف فاعلين له، والناهون عن المنكر
منتهين عنه، الذين لا تأخذهم في الله لومة لائم، وأرجو أن يبلغنا الله ذلك الزمان، إنه عليه يسير.
ثم اعلم أنه إنما وقع الخلاف في الشريعة بعد خروج النبي، عليه السلام، من الدنيا، لما تنازعوا فيما بينهم لطلب الرياسة والمترلة،
وكان منهم ما كان إلى أن جرى ما جرى من هتك حرمة النبوة وقتل آل بيت الرسالة وإهباط الوحي، وما فعله ابن زياد بكربلاء،
وما كان من الفتنة التي شملت أهل الشريعة المحمدية والعصبة الهاشمية من قتل بعضهم بعضاً. فلذلك كثرت الآراء والمذاهب، فقال
قوم لم يجر ذلك كله إلا بقضاء الله وقدره، ولعمري، إن الأمر كما قالوا، لكن إنما قصد القائلين بذلك براءة نفوسهم فيما عملوا،
فإم إنما فعلوا ذلك على ما علمه ربهم، وأنه إذا علمه فقد أراده، وإذا كان ذلك كذلك، فلا ذنب لهم ولا وزر ولا لوم ولا وبال.
فصل في جرأة القائلين بالجبر إن هذا الرأي يجرئ الإنسان على فعل المعصية وارتكاب الفاحشة،
ثم اعلم أن أصل العداوة في الدنيا والدين الحسد كما قال الله تعالى: "أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله." وقال تعالى:
"ومن شر حاسد إذا حسد." فالحسد يخرب الديار ويوقع الفتن ويورث البغضاء والحقد والغضب والتعدي والظلم والجور وما
شاكل ذلك. وهو أيضاً من أكبر الأسباب في اختلاف الآراء والمذاهب، وذلك إذا اتخذ رجل مذهباً ومال الناس إليه ورغبوا فيما
عنده، فيراه آخر من أبناء جنسه، فيحسده، ويجيل فكره ويعمل رأيه إلى أن ينحت له من الحجج والكلام ما يفسد به ما أورده. ولا
يزال يطعن عليه ويسعى في فساده ويلغط في أصله ووضعه. فهذا يكون سبب الاختلاف وتكثر المذاهب، مع اعتمادهم على صادق
صاحب الشريعة الذي أنزل عليه القرآن.
وإذا صح ذلك لهم، كان في اختلافهم منفعة، لأن الغريب في العرب كثيراً ممن يخالف بعضهم في كثير من اللغة العربية، وإنما أراد
الله تعالى إفهام الكل والإفصاح عما بهم الحاجة من أمر الدين والدنيا.
وكان النبي، صلى الله عليه وسلم، يجيب السائل من أمته بلغته ويكلفه ويكلمه بلسانه. فأما غيرهم فإنه يكلمهم، صلى الله عليه
وسلم، بكلامهم، وإنما بعث إليهم وأقام فيهم، وعلمهم وأرشدهم، وسهل عليهم الألفاظ، وضرب لهم المعاني، وأخذهم بالملاطفة،
حتى فهموا الدين، وتعلموا القرآن بلسان فصيح لا يخطئ فيه ولا يغيره ولا يبدله، إذا كان صحيح الحفظ متقن التلقين ولذلك ما
يقال في الصلاة وفي الحج من التلبية والإحرام والدعاء والابتهال إلى الله تعالى، يقال فيه ولا يفهم ما سوى ذلك.
مثل الأمة في نبذها لوصية نبيها ثم اعلم أن مثل الأمة، إذا تركت وصية نبيها، واختلفت من بعده، واعتمدت على رأيها، وأرادت
أن تملك عليها ملكاً، وتنصب فيما بينها خليفة بغير معرفة من الرسول ولا وصية منه ولا إرشاد، ورأت في اجتماعها منفعة لها
وصلاحاً لأمورها من غير نص ولا إشارة، فمثلها، كما يذكر، مثل الغربان والبزاة فيما قيل في أمثال الهند إن الغربان كان عليهم
ملك منهم، وكان م رحيماً وإليهم محسناً، وإن ذلك الغراب مات، واختلفوا من جهة من يملكونه عليهم من بعده، وتحاسدوا
وخافوا أن تقع بينهم العداوة. فقال بعضهم لبعض: تعالوا حتى نجتهد في الرأي ونجمع العلماء وأهل الفضل فينا، ونعقد مجلساً
للمشاورة فيمن يصلح لهذا الأمر، وفيمن ينبغي أن يكون ملكاً علينا.
فاجتمعوا وتشاوروا وقالوا: لا نرضى بأحد من أهل الملك الذي كان فينا، مخافة أن يعتقد ويظن أن الملك إنما ناله وارثاً من أبيه
وأقاربه، فيسومنا سوء العذاب، وإذ كنا نحن نتولى إقامة من نقيمه، كنا نحن أصحاب المنة عليه والإحسان عليه.
قال أحدهم: وإذا كان الأمر على هذا، فعليكم بأهل الورع والدين، فإن صاحب الورع والدين لا يكاد يهجم على الأمور الدنيوية
ولا يرغب في الدنيا.فقالوا له: كيف لنا بذلك؟ فقال لهم: طوفوا واطلبوا من هذه صفته، فإنكم إن تظفروا به قدموه.
وكان بالقرب منهم باز قد كبر وخرف وضعفت قوته عن الصيد، وأنحل جسمه، وتناثر ريشه من قلة المعيشة وتعذر القوت، فبلغه
خبر الغربان وما أجمعوا عليه، فبرز من وكره إلى حيث ممرهم عليه، وأقبل يكثر التهليل والتسبيح، ويظهر التخضع والتورع، فأقبلت
الطيور تطير على رأسه، فلا يولع بها ولا يمشي إليها. فلما رأته الغربان على تلك الحال، ظنوا أنه يفعل ذلك صلاحاً وديانه، فاجتمع
بعضهم إلى بعض، وقالوا: ما نرى في جماعة الطيور مثل هذا البازي، وما هو عليه من الديانة والزهد، فهلموا بنا نوله علينا.
فأتوا إليه وأخبروه بما عزموا عليه فانقبض من ذلك، وأراهم من نفسه الزهادة فيما عزموا عليه. فلم يزالوا به حتى قبل منهم، فصار
خليفة عليهم فيهم وملكاً عليهم. فقال في نفسه: كنتم تحذرون من البلاء وما أراه إلا وقد وقع بكم.
فلما تمكن منهم وقوي عليهم بما كانوا يأتونه من الرزق ويجعلون له من الأجرى على ذلك، وقوي جسمه ونبت ريشه، وعادت
إليه صحته، أقبل يخرج كل يوم عدة من الغربان فيخرج عيونها، ويأكل أدمغتها، ويطرح ما سوى ذلك من أجسادها. فأقام فيها
مدة. فلما دنت وفاته اعتمد على بعض أبناء جنسه فملكه عليهم، فكان أشد منه وأعظم بلية وأكبر رزية. فقالت الغربان بعضها
لبعض: بئس ما صنعنا بأنفسنا، وقد أخطأنا. فندموا من حيث لم تنفعهم الندامة، وكان ذلك سبب الخلف والمنازعة.
فتفكر أيها الأخ في هذا المثل واعتبر به في أحوال من مضى، ولا تغفل هذه الإشارات، وإياك وإظهار المخالفة والعداوة، والدخول
فيما دخل فيه أهل الخلاف، فتهلك هلاكهم، ويصيب ما أصاب العقعق حيث وافق الحمام في ذلك الوقت، ونحن نذكر ها هنا ما
جرى بينهما.
مثل الداخل في المنازعات الدينية يقال إن جماعة من الحمام البري كانت تطير في الهواء لطلب الرعي فرآها عقعق وقال في نفسه: ما
لي لا أكون معها؟ فلعلها تمضي إلى موضع يكون به معاش.
فصار في جملتها، وانتهوا إلى موضع أقيح مراح من الأرض، وكان سبق إليه صياد فنصب شباكه ودفن فخاخه، وطرح فيها حبوباً
كثيرة، وكمن في موضع لا يرى. فقال الحمام بعضه لبعض: نمضي إلى مكان. وقال بعضها: بل نترل في هذا الموضع. واختلفت
وتنازعت فيما بينها حتى تضاربت وتحاربت، ولم تزل كذلك حتى تقطعت إلى تلك الأرض، ورأت تلك الحبوب، فأقبلت الجماعة
على التقاطها، فأطبق الصياد عليها شباكه، فهبطن فيها جميعاً. فأخذها الصياد وأهلكها عن آخرها، وهلك العقعق مع الحمامات
جميعاً وإياك والمكان الذي تكون فيه المنازعات والخلاف، وإن جرى وأنت فيه، فاخرج وابعد عنه... وإياك والظلم والتعدي على من هو
دونك، فإنك إن فعلت ذلك أصابك الذئب الذي جار على الثعالب وغصبها وأراد قتلها وقطع أرزاقها.