المتاجرون بالمظلومية على مدار السنة يلملمون أفعالهم المشينة وجرائمهم وكل جراحات الجياع والمعذبين بمسيرات البكاء واللطم والهريسة على طرق الأضرحة المقدسة. هناك ينسى المكلومون مصائبهم! وتستطيع أمهات الشهداء وآباؤهم أن يبكوا على راحتهم ولا يزعجوا الحاكمين باسمهم وهم يتنعمون في قصورهم عالية الأسوار!
هل كتب على الشيعي أن يكون معذبا مسحوقا مدمرا لا يجيد غير البكاء واللطم، وإذا ما صحا ورفع هامته عاليا؛ انهالوا عليه بسياطهم ورصاصهم؟
لم يعان الشيعة وينالوا الأذى في أي عهد كما في هذا العهد الذي يسمونه العهد الشيعي!
كثير منهم صار يدرك ذلك! قبل فترة نصبوا لمزهر الشاوي تمثالا في البصرة عرفانا بإنجازاته الطيبة للناس خلال عمله في الموانئ سنوات الستينات، ولم يكن مزهر شيعيا ولا سنيا بل عراقيا وطنيا!
عندما هب السنة منتفضين على ما وقع عليهم من ضيم وإذلال قال المالكي عنهم (أنهم أتباع يزيد يقفون بوجه أتباع الحسين!) اليوم هب أبناء الجنوب، هل هؤلاء أتباع يزيد أيضا؟ وجدوا لهم أسماء أخرى، فهم: مندسون ، مخربون ، مدفوعون من الخارج، إرهابيون، عملاء، مغرر بهم يستحقون أن يعدموا دون محاكمة، فأطلقوا عليهم الرصاص ودهسوهم بسيارة العسكر وأخرجوهم من الطائفة منبوذين ومرجومين! أما هم اللصوص الكبار فلهم العصمة والقداسة والخيرات والرفاهية!
في انتفاضات وهبات سابقة هتف المتظاهرون "باسم الدين باكونا الحرامية" اليوم أحرقوا مقرات أحزاب الحرامية! مدركين أنها استغفلتهم وزجتهم في الخديعة الكبرى: "المظلومية"،المستعملة زورا وبهتانا، فزادتهم ظلما وعذابا!
تجاوز المنتفضون مطالبهم الأولى عن الكهرباء والماء ، ولم يتطرقوا لقضية تزوير الانتخابات لقناعتهم بفساد اللعبة كلها عرفوا بوضوح أنهم إزاء دولة منخورة فاشلة تعاني من أمراض عضال لا شفاء لها إلا بإعادة بنائها نوعيا!
دعاة المظلومية واجهوا المنتفضين بالقمع الشديد وبمحاولة عقد الصفقات والمساومات مع رؤساء العشائر، وتأليب عشيرة على أخرى وشعارهم" اخبطها واشرب صافيها" !
الانتفاضة كانت ضرورة ومحتمة وجاءت في سياقها الصحيح إنسانيا ومكانيا، أية انتفاضة أو حركة معارضة مكثفة تأتي من الطائفة الأخرى ستحسب كسابقاتها في سياق الطائفية والصراع الطائفي. التاريخ يقدم لنا أمثلة باهرة على أن النخب الشيعية المثقفة والجماهيرية كانوا في طليعة المؤسسين والمبشرين بالفكر الوطني والقومي والأممي والمضحين في مواقفهم الكبرى على هذا الطريق! وإن رجال الدين ورؤساء الأحزاب الطائفية كانوا في منتهى السذاجة والغباء حين أرادوا حشر أبنائهم وأحفادهم في كهوف الطائفية!
حكام المظلومية فقدوا الحق في البقاء، لكنهم لم يفقدوا القوة والقدرة على التشبث بالسلطة، لديهم جلادون توارثوا خبرات سجون العهود السابقة، وقوة احتياطية لدى ملالي طهران، رغم إنهم يواجهون انتفاضة كبرى تتأجج فترة وتهدأ فترة لكنها كامنة بعمق يرافقها قرار أمريكي لا يخفي تضامنه معها ويعمل على إسقاط النظام أيضاً.
لذا فإن أخطر ما يخشى أن يستغل ملالي طهران هذه الانتفاضة فيثبوا إلى السلطة في بغداد عبر الحشد الشعبي وميليشياتهم السرية والعلنية لتكون معركتهم مع أمريكا في العراق وليس في إيران! وبهذا يكون على العراقيين جميعا أن يتحملوا أيضا تكاليف بقاء ملالي إيران في كراسيهم! بنفس الوقت هناك نفس الاحتمال لدى الأمريكان الذين لهم قواعدهم المتزايدة في العراق فيواجهون إيران في العراق قبل منازلتها على أرضها بشتى الوسائل بما فيها المواجهة العسكرية!
الأمور حتى الآن تسير في صالح ثوار العراق رغم التضحيات الكبيرة ، إنهم حققوا شيئا مهما:
في انتفاضة عام 1991 وضعت الأحزاب الطائفية في يد المنتفضين صور الخميني واليوم في انتفاضاتهم يحرقون صور خامنائي وخميني!
في انتفاضتهم تلك صاحوا "لا ولي إلا علي ونريد حاكم جعفري" واليوم يهتفون "لا سنية لا شيعية علمانية علمانية!"
أليس هذا وحده انتصارا؟ أو في الأقل مؤشرا على مدى نضجهم وعمق نظرتهم إلى مأساتهم، ومحنة وطنهم وأفقهم الجديد للتغيير؟