العودة   شبكة الدفاع عن السنة > المنتديـــــــــــــات الحوارية > الــــحــــــــــــوار مع الاثني عشرية

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 06-03-08, 05:07 AM   رقم المشاركة : 11
حسينا
موقوف





حسينا غير متصل

حسينا is on a distinguished road


كما أن الطعن فيهم والتجريح لهم، يزلزل بناء الإسلام، ويقوض دعائم الشريعة، ويشكك فى صحة القرآن، ويضيع الثقة بسنة سيد الأنام! لذلك
عنى علماء الإسلام قديماً وحديثاً بالدفاع عن عدالة الصحابة، لأنه -كما رأيت- دفاع عن الإسلام، ولم يكن ذلك الدفاع نزوة هوى، ولا عصبية
بل كان نتيجة لدراسات تحليلية، وأبحاث تاريخية، وتحقيقات بارعة واسعة، أحصتهم عدداً، ونقدتهم فرداً فرداً، وعرضتهم على أدق موازين
الرجال مما تباهى به الأمة الإسلامية كافة الأمم والأجيال0

وبعد هذا التحقيق والتدقيق، خرج الصحابة  من بوتقة هذا البحث، وإذا هم خير أمة أخرجت للناس، وأسمى طائفة عرفها
التاريخ، وأنبل أصحاب لنبى ظهر على وجه الأرض، وأوعى وأضبط جماعة لما استحفظوا عليه من كتاب الله، وهدى رسول الله  وقد اضطر
أهل السنة والجماعة، أن يعلنوا رأيهم هذا كعقيدة، فقرروا أن الصحابة كلهم عدول0 ولم يشذ عن هذا الرأى إلا المبتدعة والزنادقة قبحهم الله"(
)0

وطعون المبتدعة والزنادقة قديماً وحديثاً فى صحابة رسول الله  كثيرة سبق ذكر بعضها من الطعن فى اجتهادهم( )، والطعن فى صدقهم
واتهامهم بالكذب( )0

وسوف نتناول هنا بمشيئة الله تعالى نماذج من الطعون والشبهات التى طعنوا بها فى عدالة الصحابة، واتخذها أهل الزيغ والإلحاد قديماً وحديثاً،
وسيلة للتشكيك فى حجية السنة، ومكانتها التشريعية0

على أن نفرد أيضاً ترجمة لراوية الإسلام الأول أبو هريرة  لنتعرف على مكانته فى الإسلام، وإلى أى مدى انحط أعداء الإسلام بالطعن فيه
وصولاً للطعن فى السنة المطهرة هذا بعد أن نُعرف بالصحابة والعدالة لغة واصطلاحاً، ونثبت عدالتهم من كتاب الله  وسنة نبيه ، وإجماع
الأمة على ذلك0 فإلى بيان ذلك0
المطلـب الأول
التعريـف بالصحابـة لغـة واصطلاحـاً

الصحابة فى اللغة : يقال استصحبه أى دعاه إلى الصحبة ولازمه، وكل شئ لازم شيئاً فقد استصحبه( )0

وقال أبو بكر الباقلانى : "لا خلاف بين أهل اللغة فى أن القول "صحابى" مشتق من الصحبة، وأنه ليس بمشتق من قدر منها
مخصوص، بل هو جار على كل من صحب غيره قليلاً كان أو كثيراً … يقال صحبت فلاناً حولاً، ودهراً، وسنة، وشهراً، ويوماً، وساعة، فيوقع
اسم المصاحبة بقليل ما يقع منها وكثيرة0
وذلك يوجب فى حكم اللغة:إجراء هذا على من صحب النبىولو ساعة من نهار( )

وقال الإمام ابن تيمية : "والأصحاب جمع صاحب، والصاحب اسم فاعل من صحبه يصحبه، وذلك يقع على قليل الصحبه وكثيرها"(
)0 وعلى هذا التعريف اللغوى جرى أصحاب الحديث فى تعريفهم بالصحابى اصطلاحاً : فذهبوا إلى إطلاق (الصحابى) على كل من صحب النبى
، ولو ساعة واحدة فما فوقها0

الصحابة فى الاصطـلاح :
قال الإمام بدر الدين الزركشى-رحمه الله-: "ذهب الأكثرون إلى أن الصحابى من اجتمع - مؤمناً - بمحمد وصحبه ولو ساعة، روى عنه أو
لا، لأن اللغة تقتضى ذلك، وإن كان العرف يقتضى طول الصحبة وكثرتها … وهو ما ذهب إليه جمهور الأصوليين، أما عند أصحاب الحديث
فيتوسعون فى تعريفهم لشرف منزلة النبى ( )0
يقول ابن حزم : "فأما الصحابة  فهم كل من جالس النبى  ولو ساعة، وسمع منه ولو كلمة فما فوقها، أو شاهد منه عليه
السلام أمراً يعيه"( )0

والتعريفات التى وضعها العلماء للصحابة (اصطلاحاً) كثيرة، ولكن التعريف الصحيح المعتمد هو ما قرره الحافظ ابن حجر بقوله :
"وأصح ما وقفت عليه من ذلك أن الصحابى هو من لقى النبى  مؤمناً به، ومات على الإسلام، ولو تخللت ردة على الأصح0

ثم شرح التعريف فقال : "فيدخل فيمن لقيه" من طالت مجالسته له، أو قصرت، ومن روى عنه أو لم يرو ومن غزا معه أو لم يغز، ومن رآه
رؤية، ولو لم يجالسه، ومن لم يره لعارض كالعمى0
ومن هنا كان التعبير باللقـى أولى من قول بعضهم : "الصحابى من رأى النبى " لأنه يخرج حينئذ ابن أم مكتوم ونحوه من العميان وهم
صحابة بلا تردد0

ويخرج "بقيد الإيمان" من لقيه كافراً ولو أسلم بعد ذلك إذا لم يجتمع به مرة أخرى0
وقولنا"به"يخرج من لقيه مؤمناً بغيره كمن لقيه مؤمناً من مؤمنى أهل الكتاب قبل البعثة0
ويدخل فى قولنا "مؤمناً به" كل مكلف من الجن والإنس …0

وخرج بقولنا "ومات على الإسلام" من لقيه مؤمناً به ثم ارتد ومات على ردته والعياذ بالله - كعبيد الله بن جحش، وابن خطل، ويدخل فيه من
ارتد وعاد إلى الإسلام قبل أن يموت سواء اجتمع به  مرة أخرى أم لا، كالأشعث بن قيس فإنه كان ممن ارتد وأتى به إلى أبى بكر الصديق
أسيراً، فعاد إلى الإسلام فقبل منه، وزوجه أخته، ولم يتخلف أحد عن ذكره فى الصحابة، ولا عن تخريج أحاديثه فى المسانيد وغيرها0

وهذا هو الصحيح المعتمد، ووراء ذلك أقوال شاذة أخرى كقول من قال لا يعد صحابياً إلا من وصف بأحد أوصاف أربعة :
من طالت مجالسته، أو حفظت روايته، أو ضبط أنه غزا معه، أو استشهد بين يديه، وكذا من اشترط فى صحة الصحبة بلوغ الحلم، أو المجالسة
ولو قصرت"( )0
قال الحافظ السيوطى مؤيداً ابن حجر "وهو المعتبر"( )0
وذهب إليه الجمهور من الأصوليين، منهم الآمدى فى الإحكام( )، وابن عبد الشكور فى فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت( )، والزركشى فى
البحر المحيط( )، والشوكانى فى إرشاد الفحول( ) وغيرهم0

ويقول الحافظ السخاوى مؤيداً رأى شيخه ابن حجر "والعمل عليه عند المحدثين والأصوليين"( )0

السر فى التعميم فى تعريف الصحابى :
التعميم فى تعريف الصحابى نظراً إلى أصل فضل الصحبة، ولشرف منزلة النبى ، ولأن لرؤية نور النبوة قوة سريان فى قلب
المؤمن، فتظهر آثارها على جوارح الرائى فى الطاعة والاستقامة مدى الحياة، ببركته  ويشهد لهذا قوله  : "طوبى لمن رآنى وآمن بى،
وطوبى لمن رأى من رآنى، ولمن رأى من رأى من رآنى وآمن بى"( )0

وفى ذلك يقول الإمام السبكى : "والصحابى هو كل من رأى النبى  مسلماً، وقيل : من طالت مجالسته، والصحيح الأول، وذلك
لشرف الصحبة، وعظم رؤية النبى ، وذلك أن رؤية الصالحين لها أثر عظيم، فكيف رؤية سيد الصالحين؟! فإذا رآه مسلم ولو لحظة، انطبع
قلبه على الاستقامة، لأنه بإسلامه متهيئ للقبول، فإذا قابل ذلك النور العظيم، أشرق عليه وظهر أثره فى قلبه وعلى جوارحه"( )0
يقول الأستاذ عبد الفتاح أبو غدة - رحمه الله - : "فالتعميم فى تعريف (الصحابى) نظراً إلى أصل فضل الصحبة، وأما تفاوت من يشملهم هذا
اللقب فى الفضل والدين وسائر خصال الخير … فهذا أمر وراء ذلك"( ) أ0هـ0

طريـق معرفـة الصحبـة :
تثبت الصحبة بأمور متعددة منها :
1- التواتر كأبى بكر الصديق المعنى بقوله تعالى : إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا( ) وسائر العشرة المبشرين بالجنة
وغيرهم0
2- أو باشتهار قاصر عن التواتر وهو الاستفاضة كعكاشة بن محصن، وضمام بن ثعلبة وغيرهما، أو بتواتر بها 0
3- أو بقول صاحب آخر معلوم الصحبة، إما بتصريح بها كأن يجئ عنه أن فلاناً له صحبة مثلاً أو نحوه، كقوله : كنت أنا وفلان
عند النبى  أو دخلنا على النبى 0
بشرط أن يعرف إسلام المذكور فى تلك الحالة0
4- وكذا تعرف بقول آحاد ثقات التابعين على الراجح من قبول التزكية من عدل واحد"( )0


المطلـب الثانـى
التعريـف بالعدالـة لغـة واصطلاحـاً

العدالة لغة : العدل ضد الجور، يقال عدل عليه فى القضية فهو عادل، وبسط الوالى عدله ومعدلته ومعدلته، وفلان من أهل
المعدلة، أى : من أهل العدل، ورجل عدل، أى : رضا ومقنع فى الشهادة0

والعدالة : وصف بالمصدر معناه ذو عدل، قال تعالى : وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ( ) ويقال : رجل عدل ورجلان عدل، ورجال عدل، وامرأة
عدل، ونسوة عدل، كل ذلك على معنى رجال ذوو عدل، ونسوة ذوات عدل، فهو لا يثنى، ولا يجمع، ولا يؤنث، فإن رأيته مجموعاً، أو مثنى أو
مؤنثاً، فعلى أنه قد أجرى مجرى الوصف الذى ليس بمصدر، وتعديل الشئ تقويمه، يقال عدلته فاعتدل، أى قومته فاستقام( ) أ0هـ

فمن هذه التعاريف اللغوية يتبين أن معنى العدالة فى اللغة الاستقامة فى الدين، والعدل هو المتوسط فى الأمور من غير إفراط فى
طرفى الزيادة والنقصان، ومنه قوله تعالى : وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا( ) أى عدلاً فالوسط والعدل بمعنى واحد( )0

والعدالة اصطلاحاً : تنوعت فيها عبارات العلماء من محدثين وأصوليين وفقهاء، إلا أنها ترجع إلى معنى واحد وهو أنها : ملكة أى صفة
راسخة فى النفس تحمل صاحبها على ملازمة التقوى والمروءة0

والتقوى ضابطها : امتثال المأمورات، واجتناب المنهيات من الكبائر ظاهراً، وباطناً من شرك أو فسق أو بدعة0

والمروءة ضابطها : آداب نفسية تحمل صاحبها على التحلى بالفضائل والتخلى عن الرذائل، وترجع معرفتها إلى العرف0

وليس المراد بالعرف هنا سيرة مطلق الناس بل الذين نقتدى بهم، وقد سبق بيان ما يخل بها( )، ومجمله الاحتراز عما يذم به العدل عرفاً0

ولا تتحقق العدالة فى الراوى إلا إذا اتصف بصفات خمسة : الإسلام- والبلوغ والعقل والسلامة من أسباب الفسق وخوارم
المروءة( )0
وليس المقصود من العدل أن يكون بريئاً من كل ذنب، وإنما المراد أن يكون الغالب عليه التدين، والتحرى فى فعل الطاعات0

وفى ذلك يقول الإمام الشافعى : "لو كان العدل من لا ذنب له لم نجد عدلاً، ولو كان كل مذنب عدلاً لم نجد مجروحاً، ولكن العدل من اجتنب
الكبائر وكانت محاسنه أكثر من مساويه"( )0
ويعبر أبو يوسف عن هذا الاتجاه حين يقول : "من سلم أن تكون منه كبيرة من الكبائر التى أوعد الله تعالى عليها النار، وكانت محاسنه أكثر
من مساوئه فهو عدل"( )0

ونخلص مما سبق فيما يخص عدالة الصحابة  "أن المنافقين الذين كشف الله ورسوله - سترهم، ووقف المسلمون على حقيقة أمرهم،
والمرتدين الذين ارتدوا فى حياة النبى وبعد وفاته، ولم يتوبوا ويرجعوا إلى الإسلام، وماتوا على ردتهم، هم بمعزل من شرف هذه الصحبة،
وبالتالى بمعزل عن أن يكونوا من المرادين بقول جمهور العلماء والأئمة إنهم عدول، وفى تعريف العلماء للصحبة ما ينفى عنها هؤلاء
وأولئك0

ومعنى عدالة الصحابة : "أنهم لا يتعمدون الكذب على رسول الله ، لما اتصفوا به من قوة الإيمان، والتزام التقوى، والمروءة، وسموا الأخلاق
والترفع عن سفاسف الأمور0
وليس معنى عدالتهم أنهم معصومون من المعاصى أو من السهو أو الغلط فإن ذلك لم يقل به أحد من أهل العلم0
ومما ينبغى أن يعلم أن الذين قارفوا إثماً ثم حدوا - كان ذلك كفارة لهم، وتابوا وحسنت توبتهم، التى لو وزعت على سبعين من أهل المدينة
لوستعهم، وهم فى نفس الوقت قلة نادرة جداً لا ينبغى أن يغلب شأنهم وحالهم على حال الألوف المؤلفة من الصحابة الذين ثبتوا على الجادة
والصراط المستقيم، وجانبوا المآثم، والمعاصى ما كبر منها وما صغر، وما ظهر منها وما بطن، والتاريخ الصادق أكبر شاهد على هذا( )
أ0هـ0

ويؤكد ما سبق الإمام الأبيارى( ) بقوله : "وليس المراد بعدالتهم ثبوت العصمة لهم، واستحالة المعصية عليهم، وإنما المراد : قبول روايتهم من
غير تكلف بحث عن أسباب العدالة وطلب التزكية، إلا أن يثبت ارتكاب قادح، ولم يثبت ذلك، ولله الحمد، فنحن على استصحاب ما كانوا عليه فى
زمن رسول الله ، حتى يثبت خلافه، ولا التفات إلى ما يذكره أهل السير، فإنه لا يصح، وما صح فله تأويل صحيح"( ) انتهى0


المطلـب الثالـث
أدلـة عدالـة الصحابـة 

إن العدالة التى نثبتها لصحابة رسول الله  - لم نعطها هبة لهم من عند أنفسنا - فنحن أقل من ذلك فضلاً عن أننا لا نملك ذلك،
وإنما العدالة ثابتة لهم جميعاً بنص الكتاب والسنة الشريفة - سواء منهم من تقدم إسلامه ومن تأخر، ومن هاجر ومن لم يهاجر، ومن اشترك
فى الغزوات ومن لم يشترك، ومن لابس الفتنة ومن لم يلابسها( )0 فهذه العدالة لهم جميعاً تضافرت عليها الأدلة من الكتاب الكريم والسنة
النبوية المطهرة0

أولاً : دلالة القرآن الكريم على عدالة الصحابة  :
لقد وصف رب العزة صحابة رسول الله  بالعدالة وأثنى عليهم فى آيات يطول ذكرها منها :
1- قوله تعالى : وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا( ) ووجه الاستدلال بهذه الآية على
عدالة الصحابة  أن وسطاً بمعنى "عدولاً خياراً"( )، ولأنهم المخاطبون بهذه الآية مباشرة( )0 وقد ذكر بعض أهل العلم أن اللفظ وإن كان عاماً
إلا أن المراد به الخصوص، وقيل : "إنه وارد فى الصحابة دون غيرهم( )0
2- وقوله تعالى : كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ( ) ووجه دلالة هذه الآية على عدالة
الصحابة  أنها أثبتت الخيرية المطلقة لهذه الأمة على سائر الأمم قبلها، وأول من يدخل فى هذه الخيرية المخاطبون بهذه الآية مباشرة عند
النزول، وهم الصحابة الكرام ، وذلك يقتضى استقامتهم فى كل حال، وجريان أحوالهم على الموافقة دون المخالفة، ومن البعيد أن يصفهم الله
 بأنهم خير أمة ولا يكونوا أهل عدل واستقامة، وهل الخيرية إلا ذلك؟

كما أنه لا يجوز أن يخبر الله تعالى بأنه جعلهم أمة وسطاً – أى عدولاً – وهم على غير ذلك، فيصح أن يطلق على
الصحابة أنهم خير أمة بإطلاق، وأنهم وسط أى عدول بإطلاق"( )0

وهكذا سائر الآيات التى جاءت بمدحهم قال تعالى : لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا
وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ(8)وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً
مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ( ) فالصادقون هم المهاجرون، والمفلحون
هم الأنصار، بهذا فسر أبو بكر الصديق، هاتين الكلمتين، من الآيتين، حيث قال فى خطبته يوم السقيفة مخاطباً الأنصار:"إن الله سمانا (
الصادقين) وسماكم (المفلحين)،وقد أمركم أن تكونوا حيثما كنا، فقال : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ( )0

فهذه الصفات الحميدة فى هاتين الآيتين كلها حققها المهاجرون والأنصار من أصحاب رسول الله ، واتصفوا بها، ولذلك ختم الله صفات
المهاجرين بالحكم بأنهم صادقون، وختم صفات الذين آزروهم ونصروهم وآثروهم على أنفسهم بالحكم لهم بأنهم مفلحون0
وهذه الصفات العالية لا يمكن أن يحققها قوم ليسوا بعدول"( )0
وحتى الآيات التى جاء فيها عتاب لهم أو لبعضهم شاهدة بعدالتهم حيث غفر الله لهم ما عاتبهم فيه وتاب عليهم قال تعالى : مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ
يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(67)لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ
عَذَابٌ عَظِيمٌ(68)فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( ) وتأمل ختام العتاب "إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ" وهل بعد مغفرة الله 
من شئ؟!0
وقال تعالى : وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ
تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ وتأمل ختام الآية "إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ"( )0

وغير ذلك من الآيات الشاهدة بمغفرة الله  لهم لما ارتكبوا من بعض المعاصى - وسيأتى ذكر بعضها فى الرد على الشبهات
حول عدالة الصحابة0

إن تلك الآيات التى جاء فيها عتاب للصحابة أو لبعضهم لارتكابهم بعض المعاصى لخير دليل شاهد على ما سبق ذكره، من أن المراد بعدالتهم
جميعاً عصمتهم من الكذب فى حديث رسول الله  وليس معنى عدالتهم عصمتهم من المعاصى أو من السهو أو الغلط، فهذا لم يقل به أحد من
أهل العلم0 وحتى مع ارتكاب بعضهم لبعض الذنوب، فقد امتن الله  عليهم بالتوبة والمغفرة لذنوبهم0

وما هذه المنة من ربهم  إلا بيان لعباده مؤمنهم وكافرهم إلى قيام الساعة0 بعظم مكانة من اختارهم لصحبة سيد أنبيائه ورسله ، وأن
التجريح والقدح فى تلك المكانة والعدالة إنما هو تجريح وقدح فيمن بوأهم تلك المكانة، وجعلهم خير أمة أخرجت للناس !!! نعوذ بالله  من
الخذلان0

ثانياً : دلالة السنة المطهرة على عدالة الصحابة  :
لقد وصف النبى  أصحابه بالعدالة، وأثنى عليهم فى أحاديث يطول تعدادها منها :
1- قوله :"ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب"( ) "ففى هذا الحديث أعظم دليل على أن الصحابة كلهم عدول ليس فيهم مجروح، ولا ضعيف إذ لو
كان فيهم أحد غير عدل، لاستثنى فى قوله  وقال : "ألا ليبلغ فلان منكم الغائب" فلما أجملهم فى الذكر بالأمر بالتبليغ لمن بعدهم، دل ذلك على
أنهم كلهم عدول، وكفى بمن عدله رسول الله  شرفاً"( )0
2- وقال  : "خير الناس قرنى ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجئ قوم تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِم يَمِيَنهُ ويَميِنُهُ شَهَادَتَهُ"( ) وهذه الشهادة
بالخيرية مؤكدة لشهادة رب العزة : كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ( )0
3- وقوله  : "النجومُ أَمنةٌ للسماءِ، فإذا ذهبتِ النجوُمِ، أَتى السماءَ ما تُوعدُ، وأَنا أَمَنةٌ لأَصْحَابى0 فإذا ذهبتُ أَتَى أَصْحَابِى ما يُوعدونَ،
وأَصْحَابى أَمنةٌ لأُمَّتِى، فإِذا ذهب أصحابى أتى أُمِتى ما يُوعَدُون"( )0
4- وقال  : "إن الله اختار أصحابى على العالمين، سوى النبيين والمرسلين، واختار لى من أصحابى أربعة أبا بكر، وعمر وعثمان، وعلياً 
فجعلهم أصحابى قال فى أصحابى كلهم خير، وأختار أمتى على الأمم، وأختار من أمتى أربعة قرون، القرن الأول والثانى والثالث، والرابع"( )0
وهذا الحديث مؤكد لقوله تعالى : مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ
وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ
يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا( )0

ويؤكد ابن مسعود  ما سبق من الآية والحديث قائلاً : "إن الله نظر فى قلوب العباد، فوجد قلب محمد  خير قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه
وابتعثه برسالته، ثم نظر فى قلوب العباد بعد قلب محمد فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيه  يقاتلون عن دينه"( )0
يقول الإمام الآمدى : "واختيار الله لا يكون لمن ليس بعدل"( )0
5- وقال  : "لا تسبوا أصحابى0 لا تَسُبُّوا أصحابى : فوالذى نفسى بيده! لو أن أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مثلَ أُحُدٍ ذهباً، ما أَدركَ مُدَّ أَحَدِهِم، ولا نَصِيَفهُ"( )0

يقول الصحابى الجليل سعيد بن زيد بن عمرو( )، أحد العشرة المبشرين بالجنة  لما سمع رجلاً من أهل الكوفة يسب رجلاً من أصحاب
رسول الله  قال : "… والله لمشهد شهده رجل يغبر فيه وجهه مع رسول الله  : أفضل من عمل أحدكم، ولو عمر عمر نوح عليه السلام"(
)0
يقول فضيلة الشيخ محمد الزرقانى - رحمه الله - "فأنت ترى من هذه الشهادات العالية فى الكتاب والسنة، ما يرفع مقام الصحابة إلى الذروة،
وما لا يترك لطاعن فيهم دليلاً، ولا شبهة دليل0
والواقع أن العقل المجرد من الهوى والتعصب، يحيل على الله فى حكمته ورحمته، أن يختار لحمل شريعته الختامية، أمة مغموزة، أو طائفة
ملموزة، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً0

ومن هنا كان توثيق هذه الطبقة الكريمة طبقة الصحابة، يعتبر دفاعاً عن الكتاب، والسنة، وأصول الإسلام من ناحية، ويعتبر إنصافاً أدبياً لمن
يستحقونه من ناحية ثانية، ويعتبر تقديراً لحكمة الله البالغة فى اختيارهم لهذه المهمة العظمى من ناحية ثالثة0

كما أن تَوْهِينهم والنيل منهم، يعد غمزاً فى هذا الاختيار الحكيم، ولمزاً فى ذلك الاصطفاء والتكريم، فوق ما فيه من هدم الكتاب، والسنة،
والدين"( ) أ0هـ0

ثالثاً : دلالة إجماع الأمة على عدالة الصحابة  :
أجمعت الأمة - إلا من شذ ممن لا يعتد بخلافهم( )0 على ما سبق من تعديل الله  ورسوله  للصحابة أجمع، والنقول فى هذا
الإجماع كثيرة عن علماء الأمة، من المحدثين، والفقهاء، والأصوليين0

يقول الخطيب البغدادى : "إنه لو لم يرد من الله  ورسوله فيهم شئ مما ذكرناه، لأوجبت الحال التى كانوا عليها من الهجرة،
والجهاد، والنصرة، وبذل المهج، والأموال، وقتل الآباء والأولاد، والمناصحة فى الدين، وقوة الإيمان واليقين : القطع على عدالتهم، والاعتقاد
لنزاهتهم، وأنهم أفضل من جميع المعدلين والمزكين، الذين يجيئون من بعدهم أبد الآبدين0 هذا مذهب كافة العلماء ومن يعتد بقوله من
الفقهاء"( )0

وقال ابن الصلاح : "للصحابة بأسرهم خصيصة، وهى أنه لا يسأل عن عدالة أحد منهم، بل ذلك أمر مفروغ منه لكونهم على
الإطلاق معدلين بنصوص الكتاب، والسنة، وإجماع من يعتد به فى الإجماع من الأمة"( )0
وقال العراقى : "إن جميع الأمة مجمعة على تعديل من لم يلابس الفتن منهم وأما من لابس الفتن منهم وذلك حين مقتل عثمان 
فأجمع من يعتد به أيضاً فى الإجماع على تعديلهم إحساناً للظن بهم، وحملاً لهم فى ذلك على الاجتهاد"( )0

وقال الإمام الغزالى : "والذى عليه سلف الأمة، وجماهير الخلق، أن عدالتهم معلومة بتعديل الله  إيـاهم وثنائه عليهم فى
كتابه، فهو معتقدنا فيهم، إلا أن يثبت بطريق قاطع ارتكاب واحد لفسق مع علمه به، وذلك مما لا يثبت فلا حاجة لهم إلى التعديل – ثم ذكر
بعض ما دل على عدالتهم من كتاب الله  وسنة رسوله  ثم قال : فأى تعديل أصح من تعديل علام الغيوب –سبحانه- وتعديل رسوله  كيف
ولو لم يرد الثناء لكان فيما اشتهر وتواتر من حالهم فى الهجرة، والجهاد، وبذل المهج، والأموال، وقتل الآباء والأهل، فى موالاة رسول الله ،
ونصرته، كفاية فى القطع بعدالتهم"( )0

فهذه النقول المباركة للإجماع من هؤلاء الأئمة وغيرها كثير0 كلها فيها بيان واضح، ودليل قاطع على أن ثبوت عدالة الصحابة
عموماً بلا استثناء، أمر مفروغ منه، ومسلم به0
فلا يبقى لأحد شك،ولا ارتياب بعد تعديل الله  ورسوله  وإجماع الأمة على ذلك( )0
"وإذا تقرر لك عدالة جميع من ثبتت له الصحبة، علمت أنه إذا قال الراوى عن رجل من الصحابة، ولم يسمه كان ذلك حجة، ولا
يضر الجهالة، لثبوت عدالتهم على العموم"( )0

قال الإمام الجوينى : "ولعل السبب فى قبولهم من غير بحث عن أحوالهم، والسبب الذى أتاح الله الإجماع لأجله، أن الصحابة هم
نقلة الشريعة، ولو ثبت توقف فى رواياتهم، لانحصرت الشريعة على عصر رسول الله ، ولما استرسلت على سائر الأعصار"( )0
أولئك آبائى فجئنى بمثلهم إذا جمعتنا يا جرير المجامع
غمرهم الله برحمته ورضوانه … آمين0







المبحث الثانـى
طعنهـم فـى عدالـة أهـل السنـة

وفيه تمهيد وأربعة مطالب :
التمهيد ويتضمن :
موقف أهل الزيغ والهوى قديماً وحديثاً من أهل السنة، وأئمة المسلمين، وأساليبهم فى الطعن فى أهل السنة0
المطلب الأول : بيان المراد بأهل السنة0
المطلب الثانى : سلامة طريقة أهل السنة فى فهم الشريعة الإسلامية وبيان تحقيق النجاة لهم0
المطلب الثالث : شرف أصحاب الحديث0
المطلب الرابع : الجواب عن دعوى تقصير المحدثين فى نقدهم للمتن0


التمهيـد

ويتضمن موقف أهل الزيغ والهوى قديماً وحديثاً من أهل السنة، وأئمة المسلمين وأساليبهم فى الطعن فى أهل السنة0

ليس فى الدنيا مبتدع، ولا من ينسب إلى نوع من الإلحاد والبدع، إلا وهو يطعن فى أهل السنة من
المحدثين،والفقهاء،والمفسرين…إلخ وينظر إليهم بعين الحقارة ويسمونهم بأسماء هم أولى بها منهم، فالجهمية يسمونهم مشبهة ونابته،
والقدرية يسمونهم مجبرة، والزنادقة يسمونهم الحشوية، والمعتزلة يسمونهم زوامل أسفار، والرافضة يسمونهم نواصب … إلخ0 وكل ذلك
عصبية، وغياظ لأهل السنة، ولا اسم لهم إلا اسم واحد وهو "أصحاب السنة"0

ولا يلتصق بهم ما لقبهم به أهل البدع كما لم يلتصق بالنبى  تسمية كفار مكة ساحراً، وشاعراً، ومجنوناً، ولم يكن اسمه عند الله، وعند
ملائكته، وعند انسه، وجنه، وسائر خلقه، إلا رسولاً نبياً برياً من العاهات كلها قال تعالى : انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ
سَبِيلًا( )0

فالوقيعة فى أهل السنة من علامات أهل البدع والزيغ قديماً وحديثاً0
فالشيعة الرافضة، والخوارج كفرو أهل السنة لأنهم ضبطوا آثار الصحابة، وقاسوا فروعهم على فتاوى الصحابة"( )0 فمن وثق الصحابة الذين
كفروهم وأخذ بسنتهم فهو مثلهم فى الكفر0
والمعتزلة ردوا فتاوى أهل السنة وقبحوها فى أسماع العامة، لينفروا الأمة من اتباع السنة وأهلها( )0

ويروى فى ذلك ابن قتيبة عن عمرو بن النضر0 قال : مررت بعمرو بن عبيد فجلست إليه، فذكر شيئاً، فقلت : ما هكذا يقول أصحابنا0 قال :
ومن أصحابك لا أبا لك؟
قلت : أيوب، وابن عون، ويونس، والتيمى0 فقال : أولئك أرجاس أنجاس أموات غير أحياء( )0 يقول ابن قتيبة معلقاً على ما
قاله عمرو بن عبيد : "وهؤلاء الأربعة الذين طعنهم، غرة أهل زمانهم فى العلم، والفقه، والاجتهاد فى العبادة، وطيب المطعم، وقد درجوا على
ما كان عليه مَنْ قبلهم من الصحابة والتابعين0

وهذا يدل على أن أولئك أيضاً عنده أرجاس أنجاس( )0
وذكر الشاطبى عن عمرو بن عبيد أنه قال : "ما كلام الحسن البصرى، وابن سيرين عندما تسمعون إلا خرقة حيضة ملقاة"( )0

وحكى الذهبى وابن كثير عن عمرو بن عبيد أنه روى له حديث ابن مسعود  مرفوعاً : "إن أحدكم يُجمع خلقُهُ فى بطنِ أُمه أربعين يوماً0 ثم
يكون فى ذلك علقةً مثلَ ذلكَ0 ثم يكون فى ذلك مُضغةً مثلَ ذلك0 ثم يُرسلُ المَلَكُ فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربعِ كلماتٍ : بكتب رزقِهِ، وأجلِهِ،
وعملِهِ، وشقىٌّ أو سعيدٌ … الحديث"( )0

فقال : "لو سمعت الأعمش يقول هذا لكذبته، ولو سمعت رسول الله  يقول هذا لرددته، ولو سمعت الله يقول هذا لقلت ليس على هذا أخذت
ميثاقنا"( )0

ويروى الحاكم عن الإمام أحمد بن حنبل –رحمه الله- أن أحمد بن الحسن( ) قال له يا أبا عبد الله ذكروا لابن أبى فتيلة بمكة أصحاب الحديث
فقال : أصحاب الحديث قوم سوء، فقام أبو عبد الله وهو ينفض ثوبه، فقال : زنديق! زنديق! زنديق! ودخل البيت( )0

وقال أحمد بن سنان القطان( ) : "ليس فى الدنيا مبتدع إلا وهو يبغض أهل الحديث، وإذا ابتدع الرجل نزع حلاوة الحديث من قلبه"( )0
يقول أبو عبد الله الحاكم : "وعلى هذا عهدنا فى أسفارنا، وأوطاننا، كل من ينسب إلى نوع من الإلحاد والبدع،لا ينظر إلى الطائفة
المنصورة،إلا بعين الحقارة،ويسميها الحشوية"( )

قلت:وما قاله الإمام الحاكم وغيره، هو ما عهدناه فى زماننا ممن ينتسب إلى نوع من الإلحاد والبدع0صاروا علىدرب أسلافهم يبغضون أهل
الحديث،وينظرون إليهم بعين الحقارة، ويسمونهم كما سماهم أهل الزيغ قديماً،حشوية،وزوامل أسفار…إلخ،ويطعنون فى عدالتهم0

فما قاله قديماً ابن أبى فتيلة فى أصحاب الحديث بأنهم قوم سوء، قاله فى زماننا نيازى عز الدين فى كتابيه "دين السلطان"( )، و"إنذار من
السماء" إذ يقول : "فإما أن نختار طريق آبائنا، وأجدادنا، ومشايخنا السالف، الذى قد عرفنا قبل قليل بالبرهان القاطع أننا ضللنا به، حين تركنا
منهج القرآن، وتركناه حتى نسج عليه العنكبوت خيوطه"( )0

ويقول : "أهل الحديث ورواته، كانت مهنتهم رواية الأحاديث وكتابتها، فهم يرتزقون مما يرددون ويكتبون0 وقالوا : إن ما كتبوه
بأيديهم (وحى آخر) من عند الله مثل القرآن، وقالوا : إن كتاب الله هو القرآن، وما معهم من الروايات والأقاويل كتاب الحكمة، ظناً وظلماً، فهم
قالوا عن أكاذبيهم إنها من عند الله، تماماً كما فعل أهل الكتاب من قبلهم فى تحريفاتهم0 وهم أيضاً يظنون أن الله سبحانه وتعالى لا يقصدهم
فى هذه الآية فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ( ) بينما هى تنطبق عليهم الانطباق التام( )0

ويقول أيضاً طاعناً فى عدالة وجهاد من أيد الله به الدين يوم المحنة، قال : "لذلك نجد الإمام أحمد بن حنبل الذى كان صديقاً حميماً
لرؤساء المحفل السرى الخفى، لم يرض أن يقول بخلق القرآن فجلده المأمون، لأنه وجد جلده أرحم من قتله على يد أصدقائه إن قال بعكس
تعليماتهم كلها"( )0
ونفس هذا الهراء نسبه إلى أبى حنيفة النعمان قائلاً : "أبو حنيفة النعمان كان صديقاً لأحبار اليهود الذين ادعوا أنهم أحبار الإسلام بإعلانهم
إسلامهم، أمثال : يعقوب بن إبراهيم أبو يوسف القاضى، الذى كان من أكبر أصحاب أبى حنيفة"( )0

وانظر إلى ما يقوله إسماعيل منصور متفوقاً على سلفه ابن أبى فتيلة فى طعنه فى رموز الإسلام القائلين بحجية السنة0
يقول : "ونحن نشفق على قائليه وهم أبو حنيفة، ومالك، والشافعى، وأحمد، وكذلك البخارى ومسلم - رحمهم الله جميعاً - لأنهم "عفا الله
عنهم" يستحقون الشفقة والدعاء لهم بالعفو، فإن الله تعالى لو أخذهم بما قالوا (يعنى حجية السنة) لكان أخذه تعالى لهم أليماً شديد لمخالفتهم
لكلامه تعالى (مخالفة صريحة) … فإنهم قد استدرجوا إلى مكيدة إبليس اللعين (بحسن نية منهم) فأخذوا بمنهج التبديل ذى الروايات والحكايات،
وتركوا كتاب الله تعالى وهم لا يشعرون، حتى أصلوا ظاهرة التحول عن كلام الله، إلى كلام غيره من البشر، وعلموا الناس أن يتركوا ظاهر
القرآن الكريم، إلى قول زيد، وعبيد، من الرواة، وهى خطة إبليس اللعين "عليه اللعنة إلى يوم الدين" وهذا واضح تمام الوضوح( )0

ويقول أيضاً واصفاً أهل السنة بالخرافة و … و …، وأن فى اتباعهم خسران الدنيا والآخرة قال : "يا أفراد عش الوطاويط (
الخفافيش) أخرجوا إلى النور (نور القرآن الكريم) ولا تظلوا حبيسى الظلام "ظلام الأقوال البشرية، والروايات القصصية" … يا أتباع مملكة
الوهم، وضحايا التأليف فى الدين، وصرعى الروايات والقصص والظنون والأوهام، أفيقوا من سباتكم الغطيط وانهضوا من رقادكم الطويل،
وطهروا أنفسكم وعقيدتكم بألا تساووا كلام البشر بكلام الله رب العالمين( )0
ماذا تقولون لنا يا أهل الخرافة من الروايات والحكايات والقصص والخزعبلات؟؟ماذا تقولون؟؟

إن من يتبعكم سيخسر الدنيا والآخرة لا محالة؟؟ سيخسر الدنيا؛ لأنه يعيش فى غير نصرة الله تعالى : "كما يعيش أكثر المسلمين الآن"، ويخسر
الآخرة لأنه سيموت على هذا الضلال المبين "يعنى الإيمان بحجية السنة" فلا يكون له فى الآخرة من خلاق( ) أ0هـ0

إن هذا الهراء ما كنت لاستحل حكايته إلا لبيان أن من أساليب الطعن فى حجية السنة من الزنادقة قديماً وحديثاً بغض أهل السنة،
والطعن فى عدالتهم، وفى علومهم، لتنفير الأمة من إتباع السنة وأهلها0
ولنتأمل كيف فاق زنادقة يومنا، زنادقة الأمس بالطعن فى أهل السنة0

إن طعون الحاقدين من المستشرقين، وأهل الزيغ فى أهل السنة كثيرة، وقد سبق ذكر بعضها والجواب عنها كزعمهم أن المحدثين، والفقهاء،
كانوا وضاعين ذهبوا إلى تأييد كل ذرأى يرونه صالحاً ومرغوباً فيه بحديث يرفعونه إلى النبى ( )0

وكزعمهم أن المحدثين والفقهاء فى العصر الأموى، والعباسى، كانوا فقهاء سلطة( ) ونكتفى هنا بالرد على دعواهم تقصير
المحدثين فى نقدهم للمتن، وذلك بعد بيان عدالة أهل السنة، وأنهم الجماعة، والجمهور، والسواد الأعظم، لهذه الأمة الإسلامية لسيرهم على
طريقة النبى  وأصحابه الأخيار -رضوان الله عليهم أجمعين- ولا عبرة بمن خالفهم من أهل الزيغ والهوى قديماً وحديثاً0 لخروجهم على
طريقة النبى  وتكفيرهم أصحابه، والطعن فى عدالة من قال بعدالتهم( ) وبيان ذلك فى الأربعة مطالب الآتية :


المطلـب الأول
بيـان المـراد بأهـل السنـة

عندما نتحدث عن عدالة أهل السنة فإننا لا نعنى بهم أهل الحديث فقط، وإنما مرادنا بهم الأصناف الثمانية الذين ذكرهم الإمام عبد
القادر البغدادى فى كتابه الفرق بين الفرق من : (1) علماء التوحيد (2) علماء الفقه (3) علماء الحديث (4) علماء النحو (5) علماء
القراءات والتفسير (6) الزهاد الصوفية0
الذين لم يخلط كل صنف منهم علمه بشئ من بدع أهل الأهواء الضالة، ومن مال منهم إلى شئ من الأهواء الضالة لم يكن من
أهل السنة، ولا كان لقوله حجية فى عمله0

7- والصنف السابع : المجاهدون فى سبيل الله، يحمون حمى المسلمين، ويذبون عن حريمهم وديارهم، ويظهرون فى ثغورهم مذاهب أهل
السنة والجماعة0
8- والصنف الثامن منهم : عامة البلدان الذين اعتقدوا تصويب علماء السنة، ورجعوا إليهم فى معالم دينهم، وقلدوهم فى فروع الحلال
والحرام، ولم يعتقدوا شيئاً من بدع أهل الأهواء الضالة0
قال الإمام عبد القادر البغدادى : فهؤلاء أصناف أهل السنة والجماعة، ومجموعهم أصحاب الدين القويم، والصراط المستقيم"( )
أ0هـ0

ويقول الدكتور ناصر الشيخ معرفاً بهم فى نص جامع قال : أهل السنة هم المتمسكون بما جاء فى الكتاب والسنة، والتزموا بما
فيهما قولاً وعملاً، وكان معتقدهم موافقاً لما جاء فيهما، وموافقاً لما كان عليه السلف الصالح من الصحابة الكرام ، والتابعين لهم بإحسان،
وأتباعهم من أئمة الدين ممن شهد لهم بالإمامة، وعرف عظم شأنهم فى الدين، وتلقى الناس كلامهم خلف عن سلف0

دون من رمى ببدعة، أو شهر بلقب غير مرضى، كالخوارج، والروافض، والقدرية، والمرجئة، والجبرية، والمعتزلة، والكرامية،
ونحو هؤلاء( ) أ0هـ0
المطلـب الثانـى
سلامة طريقة أهل السنة فى فهم الشريعة الإسلامية
وبيـان تحقـيق النجـاة لهـم

عن أبى هريرة  قال : قال رسول الله  : "تفرقت اليهود على إحدى وسبعين أو اثنتين وسبعين فرقة، والنصارى مثل ذلك،
وتفترق أمتى على ثلاث وسبعين فرقة"0

هذا الحديث أخرجه جماعة من الأئمة منهم أبو داود( )، والترمذى وصححه( )، وابن ماجة( )، والحاكم وصححه( )، وله شواهد عن جماعة
من الصحابة كأنس بن مالك، وجابر بن عبد الله، وأبى بن كعب، وأبى الدرداء، وعبد الله بن عمرو بن العاص، ومعاوية بن أبى سفيان
وغيرهم( )0
وجاء فى هذه الشواهد تفسير للفرقة الناجية بأسانيد تقام بها الحجة فى تصحيح هذا الحديث( )0 كما قال الحاكم فى المستدرك
ووافقه الذهبى( )0

من هذه الشواهد حديث معاوية وأنس - رضى الله عنهما - مرفوعاً : "إن أهل الكتاب تفرقوا فى دينهم على اثنتين وسبعين ملة، وتفترق هذه
الأمة على ثلاث وسبعين كلها فى النار إلا واحدة، وهى الجماعة( )0
وفى حديث عبد الله بن عمرو مرفوعاً : "إنى بنى إسرائيل تفرقت على اثنتين وسبعين ملة، وتفترق أمتى على ثلاث وسبعين كلهم
فى النار إلا ملة واحدة، قالوا : ومن هى يا رسول الله قال : "ما أنا عليه وأصحابى"( )0

يقول الإمام الشاطبى : "إن الجماعة - فى الحديث الشريف - هى الصحابة على الخصوص فإنهم الذين أقاموا عماد الدين،
وأرسوا أوتاده، وهم الذين لا يجتمعون على ضلالة أصلاً، وقد يمكن فيمن سواهم ذلك، … ولفظ الجماعة وتفسيره هنا مطابق للرواية الأخرى
فى قوله  : "ما أنا عليه وأصحابى"( )0

يقول الإمام عبد القادر البغدادى مبيناً صحة طريقة أهل السنة فى فهم الشريعة الإسلامية وتحقيق النجاة لهم بنص الحديث
السابق0 قال : "إن النبى  لما ذكر افتراق أمته بعده ثلاثاً وسبعين فرقة، وأخبر أن فرقة واحدة منها ناجية، سئل عن الفرقة الناجية، وعن
صفتها، فأشار إلى الذين هم، على ما عليه هو وأصحابه0

ولسنا نجد اليوم من فرق الأمة من هم على موافقة الصحابة  غير أهل السنة والجماعة، من مجتهدى الأمة وعلمائها أهل الشريعة العاملين
بها، دون الرافضة، والمعتزلة، والخوارج، والجهمية، وجميع أهل البدع والأهواء، فهم غير داخلين فى لفظ الجماعة قطعاً، لخروجهم على
طريقة النبى  وطريقة أصحابه 0

ثم كيف يكون الرافضة، والخوارج، والقدرية، وسائر أهل البدع موافقين للصحابة؟ وهم بأجمعهم لا يقبلون شيئاً مما روى عن
الصحابة فى أحكام الشريعة، لامتناعهم من قبول روايات الحديث، والسير، والمغازى، من أجل تكفيرهم للصحابة، ولأصحاب الحديث الذين هم
نقلة الأخبار والآثار، ورواة التواريخ والسير، ومن أجل تكفيرهم فقهاء الأمة الذين ضبطوا آثار الصحابة، وقاسوا فروعهم على فتاوى
الصحابة0
ولم يكن بحمد الله ومَنِّهِ فى الخوارج، ولا فى الروافض، ولا فى القدرية، ولا فى سائر أهل الأهواء الضالة إمام فى الفقه، ولا إمام فى رواية
الحديث، ولا إمام فى اللغة والنحو، ولا موثوق به فى نقل المغازى والسير والتواريخ، ولا إمام فى الوعظ والتذكير، ولا إمام فى التأويل
والتفسير، وإنما كان أئمة هذه العلوم، على الخصوص والعموم، من أهل السنة والجماعة( )0
وأهل الأهواء الضالة إذا ردوا الروايات الواردة عن الصحابة فى أحكامهم وسيرهم لم يصح اقتداؤهم بهم0

وبان من هذا أن المقتدين بالصحابة من يعمل بما قد صح بالرواية الصحيحة فى أحكامهم وسيرهم، وذلك سنة أهل السنة دون ذوى البدعة،
وصحح بصحة ما ذكرناه، صحة وسلامة طريقتهم فى فهم الشريعة الإسلامية، وتحقيق نجاتهم لحكم النبى  بنجاة المقتدين بأصحابه( )0
والحمد لله على ذلك( ) أ0هـ0

يقول الإمام الشاطبى – رحمه الله - : "فعلى هذا القول فمن خرج عن جماعة أهل السنة، فهم الذين شذوا، وهم نهبة الشيطان،
ويدخل فى هؤلاء جميع أهل البدع لأنهم مخالفون لما عليه النبى  وأصحابه0

فمن خرج عن جماعة أئمة العلماء المجتهدين من أهل السنة مات ميتة جاهلية، لأن جماعة الله العلماء، جعلهم الله حجة على العالمين، وهم
المعنيون بقوله  : "إن الله لن يجمع أمتى على ضلالة"( )0

فهم جماعة أهل الإسلام والسواد الأعظم، إذا أجمعوا على أمر فواجب على غيرهم من أهل الملل اتباعهم0 ومن شذ شذ إلى النار"( ) فإن قيل :
"فإن أهل المقالات المختلفة، يرى كل فريق منهم أن الحق فيما اعتقده، وأن مخالفه على ضلال وهوى، وكذلك أصحاب الحديث، فيما انتحلوا،
فمن أين علموا علماً يقيناً، أنهم على حق؟

قيل لهم : إن أهل المقالات، وإن اختلفوا، ورأى كل صنف منهم أن الحق فيما دعا إليه، فإنهم مجمعون لا يختلفون0على أن من
اعتصم بكتاب الله ، وتمسك بسنة رسول الله ، فقد استضاء بالنور، واستفتح باب الرشد، وطلب الحق من مظانه0 وليس يدفع أهل السنة عن
ذلك إلا ظالم لأنهم لا يردون شيئاً من أمر الدين، إلى استحسان، ولا إلى قياس ونظر، ولا إلى كتب الفلاسفة المتقدمين، ولا إلى أصحاب الكلام
المتأخرين( ) أ0هـ0

فإن قالوا : فإنه يلزمكم أن تقولوا إن نقلة الأخبار الشرعية التى قالها رسول الله  معصومون فى نقلها، وأن كل واحد منهم
معصوم فى نقله من تعمد الكذب0 قلنا لهم نعم0 هكذا نقول، وبهذا نقطع ونبت0 وكل عدل روى خبراً أن رسول الله  قاله فى الدين أو
فعله ، فذلك الراوى العدل معصوم من تعمد الكذب – مقطوع بذلك عند الله تعالى – لما تقدم من تعهد رب العزة بحفظ جميع الشريعة من كتاب
وسنة"( )0

وفى هذا رد على الدجالين الزاعمين، بأنهم فى ردهم للسنة المطهرة، والأحاديث الصحيحة لا يردون قول النبى  وإنما يردون قول رواة السنة
من الصحابة، والتابعين فمن بعدهم إلى أصحاب المصنفات الحديثية!!!0

المطلـب الثالـث
شـرف أصحـاب الحديـث

إذا كان الحديث بعد القرآن هو عمدة كل صنف من الأصناف السابقة من أهل السنة، وإذا كانت دواوين أصحاب الحديث، بعد القرآن دعائم
الإسلام التى قامت عليها صروحه0
فإن ذلك يدلنا على عظم مكانة المحدثين بين علماء أهل السنة جميعاً فهم بحق يصدق فيهم قول سفيان الثورى- رحمه الله - : "الملائكة
حراس السماء، وأصحاب الحديث حراس الأرض"( )0
ويقول يزيد بن زُريع( ) : "لكل دين فرسان، وفرسان هذا الدين أصحاب الأسانيد"( )0
ويقول أبو حاتم الرازى - رحمه الله - : "لم يكن فى أمة من الأمم منذ خلق الله آدم، أمناء يحفظون آثار الرسل إلا فى هذه الأمة0 فقال له
رجل : يا أبا حاتم ربما رووا حديثاً لا أصل له، ولا يصح؟ فقال : علماؤهم يعرفون الصحيح من السقيم، فروايتهم ذلك للمعرفة، ليتبين لمن
بعدهم أنهم ميزوا الآثار وحفظوها"( )0

وإذا تقرر أنه لا قيام للإسلام بدون سنة صدق فيهم ما قاله الإمام أبو داود الطيالسى( ) : "لولا هذه العصابة لا ندرس الإسلام"
يعنى أصحاب الحديث الذين يكتبون الآثار"( )0
ويقول الإمام الخطيب البغدادى : "وقد جعل الله تعالى أهله أركان الشريعة، وهدم بهم كل بدعة شنيعة، فهم أمناء الله من خليقته، والواسطة بين
النبى  وأمته، والمجتهدون فى حفظ ملته، … قبلوا شريعته قولاً وفعلاً، وحرسوا سنته حفظاً ونقلاً حتى ثبتوا بذلك أصلها، وكانوا أحق بها
وأهلها، وكم ملحد يروم أن يخلط بالشريعة ما ليس منها، والله تعالى يذب بأصحاب الحديث عنها، فهم الحفاظ لأركانها0

وكل فئة تتحيز إلى هوى ترجع إليه، أو تستحسن رأياً تعكف عليه، سوى أصحاب الحديث ‎، فإن الكتاب عدتهم، والسنة حجتهم، والرسول 
فئتهم، وإليه نسبتهم، لا يعرجون على الأهواء، ولا يلتفتون إلى الآراء، يقبل منهم ما رووا عن الرسول، إذا اختلف فى حديث، كان إليهم
الرجوع، فما حكموا به، فهو المقبول المسموع0

ومنهم كل عالم فقيه، وإمام رفيع نبيه، وزاهد فى قبيلة، ومخصوص بفضيلة، وقارئ متقن، وخطيب محسن وهم الجمهور العظيم، وسبيلهم
السبيل المستقيم، وكل مبتدع باعتقادهم يتظاهر، وعلى الإفصاح بغير مذهبهم لا يتجاسر،من كادهم قصمه الله،ومن عاندهم خذلهم الله، لا
يضرهم من خذلهم، ولا يفلح من اعتزلهم، المحتاط لدينه إلى إرشادهم فقير، وبصر الناظر بالسوء إليهم حسير، وإن الله على نصرهم لقدير"(
)0

ورحم الله هارون الرشيد القائل : "طلبت أربعة فوجدتها فى أربعة : طلبت الكذب فوجدته عند الرافضة، وطلبت الحق فوجدته مع أصحاب الحديث
وطلبت الكفر فوجدته فى الجهمية، وطلبت الكلام والشغب فوجدته مع المعتزلة"( ) أ0هـ0

رضى الله عن تلك الأنفس التى نهضت لحفظ الدين، ورضى الله عمن أحيا آثارهم من اللاحقين "آمين"0


المطلـب السـادس
أبو هريرة  راوية الإسلام رغم أنف الحاقدين

لهج أعداء السنة، أعداء الإسلام، قديماً وحديثاً، وشغفوا بالطعن فى أبى هريرة وتشكيك الناس فى إسلامه، وفى صدقه وروايته،
وما إلى ذلك أرادوا! وإنما أرادوا أن يصلوا إلى التشكيك فى راوية السنة الأول، وأحفظ من رواها فى دهره، فأبو هريرة  على رأس السبعة
المكثرين من الرواية الذين عناهم من أنشد :
سبع من الصحب فوق الألف قد نقلوا
أبو هريـرة، سعـد، جابـر، أنـس ***
*** من الحديث عن المختار خير مضـر
صديقة، وابن عباس، كذا ابن عمـر

فأبو هريرة هو أكثرهم حديثاً فقد روى (5374) حديثاً، ثم عبد الله بن عمر روى (2630) حديثاً، ثم أنس بن مالك روى (2286) حديثاً، ثم
عائشة أم المؤمنين روت (2210) حديثاً، ثم ابن عباس روى (1660) حديثاً، ثم جابر بن عبد الله روى (1540) حديثاً، ثم أبو سعيد
الخدرى (سعد بن مالك) روى (1170) حديثاً( )0

وما اتهم به أبو هريرة ، من أكاذيب وافتراءات من قبل أرباب الأهواء قديماً وحديثاً، سندهم فيه إما روايات مكذوبة أو ضعيفة، وإما روايات
صحيحة لم يفهموها على وجهها، بل تأولوها تأويلاً باطلاً يتفق وأهواءهم0

وقد تصدى للرد على تلك الطعون رهط من علماء الإسلام0 على رأسهم أبى هريرة نفسه، وصدق على دفاعه - على ما سيأتى - كبار
الصحابة، والتابعين، فمن بعدهم من أئمة المسلمين، منهم الحاكم فى المستدرك، وابن عساكر فى تاريخه، وابن كثير فى البداية والنهاية، وابن
قتيبة فى تأويل مختلف الحديث، وعبد المنعم صالح العلى فى كتابه دفاع عن أبى هريرة، والدكتور محمد السماحى فى كتابيه "أبو هريرة فى
الميزان"، والمنهج الحديث فى علوم الحديث، والدكتور السباعى فى كتابه "السنة ومكانتها فى التشريع، والدكتور عجاج الخطيب فى كتابيه
السنة قبل التدوين، وأبو هريرة راوية الإسلام، والشيخ عبد الرحمن المعلمى فى كتابه (الأنوار الكاشفة)، والدكتور أبو زهو فى الحديث
والمحدثون، والدكتور أبو شهبة فى دفاع عن السنة، والدكتور عبد الوهاب عبد اللطيف فى كتابه "المختصر فى علم رجال الأثر" وفى مقدمة
كتاب الصواعق المحرقة لابن حجر الهيتمى وغيرهم0

ونكتفى هنا بترجمة للصحابى الجليل نتعرف بها على مكانته فى الإسلام، وبراءته مما نسب إليه من أكاذيب0 وذلك بعد أن نتعرف على
أصناف الطاعنين فيه، والذين ذكرهم الإمام ابن خزيمة( ) بقوله : "إنما يتكلم فى أبى هريرة لدفع أخباره من قد أعمى الله قلوبهم فلا يفهمون
معانى الأخبار0
1- إما معطل جهمى يسمع أخباره التى يرونها خلاف مذهبهم الذى هو كفر، فيشتمون أبا هريرة، ويرمونه بما الله تعالى قد نزهه عنه،
تمويهاً على الرعاء، والسفل أن أخباره لا تثبت بها الحجة0
2- وإما خارجى يرى السيف على أمة محمد ، ولا يرى طاعة خليفة ولا إمام، إذا سمع أخبار أبى هريرة  عن النبى  خلاف مذهبهم الذى
هو ضلال لم يجد حيلة فى دفع أخباره بحجة وبرهان، كان مفزعة الوقيعة فى أبى هريرة0
3- أو قدرى اعتزل الإسلام وأهله، وكفر أهل الإسلام الذين يتبعون الأقدار الماضية التى قدرها الله تعالى، وقضاها قبل كسب العباد لها، إذا نظر
إلى أخبار أبى هريرة التى قد رواها عن النبى  فى إثبات القدر لم يجد حجة يؤيد صحة مقالته التى هى كفر وشرك، كانت حجته عند نفسه أن
أخبار أبى هريرة، لا يجوز الاحتجاج بها0
4- أو جاهل يتعاطى الفقه، ويطلبه من غير مظانة، إذا سمع أخبار أبى هريرة فيما يخالف مذهب من قد اجتبى مذهبه، وأخباره تقليداً بلا حجة
ولا برهان، تكلم فى أبى هريرة، ودفع أخباره التى تخالف مذهبه، ويحتج بأخباره على مخالفته إذا كانت أخباره موافقة لمذهبه، وقد أنكر بعض
هذه الفرق على أبى هريرة أخباراً لم يفهموا معناها"( )0
قلت : والله إن من يتكلم فى أبى هريرة فى عصرنا لا يخرج فى عقيدته، ومذهبه عما ذكرهم الإمام ابن خزيمة - رحمه الله تعالى -0

أبـو هريـرة 

إسلامـه وصحبتـه :
قدم أبو هريرة مهاجراً من اليمن إلى المدينة ليالى فتح خيبر فى المحرم سنة سبع من الهجرة، وكان قد أسلم على يد الطفيل بن عمرو( ) فى
اليمن، وشهد هذه الغزوة مع رسول الله ، ولازمه إلى آخر حياته يخدمه، ويتلقى العلم عنه ، ويتحدث هو عن ذلك لما سأله مروان بن الحكم
قائلاً له: "إن الناس قد قالوا إنك أكثرت على رسول الله  الحديث، وإنما قدمت قبل وفاة النبى  بيسير، فقال أبو هريرة:نعم! قدمت ورسول الله
 بخيبر سنة سبع، وأنا يومئذ قد زدت على الثلاثين سنة سنوات، وأقمت معه حتى توفى، أدور معه فى بيوت نسائه وأخدمه، وأنا والله يومئذ
مقل (أى فقير)، وأصلى خلفه، وأحج، وأغزو معه، فكنت والله أعلم الناس بحديثه، قد والله سبقنى قوم بصحبته والهجرة إليه من قريش
والأنصار، وكانوا يعرفون لزومى له فيسألونى عن حديثه، منهم عمر، وعثمان، وعلى، وطلحة والزبير، فلا والله ما يخفى على كل حديث كان
بالمدينة0
قال:فوالله ما زال مروان يقصر عن أبى هريرة،ويتقيه بعد ذلك،ويخافه،ويخاف جوابه( )

وفيما سبق رد على دعوى الرافضة ومن قال بقولهم : "إن أبا هريرة لم يصاحب النبى  إلا سنة وتسعة أشهر( )، فالمعروف أن أبا هريرة
أسلم عام خيبر، وخيبر كانت فى جمادى الأولى سنة سبع( )0 وبين خيبر ووفاة النبى  أربع سنوات، إلا شهرين تقريباً فإن الوفاة كانت فى
ربيع الأول سنة 11هـ( )0
خلقـه وتقـواه :
كان ، صادق اللهجة، خفيف الروح محبباً إلى الصحابة، وكان  تقياً ورعاً كثير التعبد،شديد الخشية لله تعالى، وكان يقول:"وأيم الله لولا آية
فى كتاب الله ما حدثتكم بشئ أبداً، ثم يتلو قوله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ
يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ( )0

وكان صواماً قواماً يتناوب قيام الليل، هو وزوجته، وخادمه، فيما رواه عنه أبو عثمان النهدى( )  قال : "تضيفت أبا هريرة سبعاً، فكان هو
وامرأته، وخادمه يتعقبون الليل أثلاثاً : يصلى هذا، ثم يوقظ الآخر فيصلى، ثم يوقظ الثالث"( )0
وقد أرسله النبى  مع العلاء بن الحضرمى( ) إلى البحرين لينشر الإسلام، ويفقه المسلمين فى الدين( )0

كما استعمله الخليفة عمر بن الخطاب  على البحرين فترة ثم عزله، وبعد ذلك دعاه عمر ليوليه فلم يقبل أبو هريرة وقال : "أخشى أن أقول
بغير علم، وأقضى بغير حلم، وأن يضرب ظهرى وينزع مالى، ويشتم عرضى"( )0

يقول الإمام الجوينى : "وهذا مما يتمسك به فى أبى هريرة  فعمر مع تنزهه عن المداراة والمداجاة والمداهنة، اعتمده وولاه فى زمانه أعمالاً
جسيمة، وخطوباً عظيمة، وكان يتولى زماناً على الكوفة وكان يبلغه روايته عن رسول الله ، فلو لم يكن من أهل الرواية، لما كان يقرره
عمر  مع العلم بإكثاره( )0
ولم يشترك أبو هريرة فى الفتن التى حدثت بعد استشهاد الخليفة عثمان بن عفان  بل اعتزلها0 ولم يفارق الحجاز منذ استعمله
عمر على البحرين ثم عزله0 ولم يزل يسكن المدينة، وبها كانت وفاته0

وفى هذا رد على الرافضة الزنادقة ومن قال بقولهم0 من اشتراك أبى هريرة فى الفتنة بين على ومعاوية-رضى الله عنهما-"
فكان يأكل مع معاوية فإذا حضرت الصلاة صلى خلف على،فإذا قيل له فى ذلك قال:مضيرة( )معاوية أدسم،والصلاة خلف علىّ أفضل"( )
فهذه القصة التى بنى عليها الرافضى محمود أبو رية تسمية كتابه "شيخ المضيرة أبو هريرة" هذه القصة لا يصدقها عاقل،
والأحداث التاريخية تكذبها0

يقول الدكتور محمد أبو شهبة : "كيف يصح هذا فى العقول، وعلىّ كان بالعراق، ومعاوية كان بالشام، وأبو هريرة كان بالحجاز، إذ الثابت أنه
بعد أن تولى إمارة البحرين فى عهد عمر  لم يفارق الحجاز( )0

وقال الإمام ابن عبد البر : استعمله عمر على البحرين ثم عزله، ثم أراده على العمل، فأبى عليه، ولم يزل يسكن المدينة وبها كانت وفاته( )0
وبهذا يتبين لنا كذب ادعاءاتهم، ويظهر لنا مدى حقدهم، اللهم إلا إذا كانت الشيعة ترى أن أبا هريرة أعطى بساط سليمان أو كانت الأرض تطوى
له طياً!!! ( )0

وعودة إلى خلقه وتقواه  : فقد اشتهر  بالتواضع، والمرح، فكان يداعب الأطفال، ويمازح الناس ويلاطفهم، ومن ذلك أنه كان
يمر فى السوق، يحمل الحزمة من الحطب على ظهره-وهو يومئذ أمير مروان على المدينة فيقول:أوسعوا الطريق للأمير( )0
فمعاوية  استعمله فى عهده على المدينة ثم عزله وولى عليها مروان، ثم استخلفه مروان عليها حين توجه إلى الحج"( )0

قـوة ذاكرتـه وروايتـه :
لقد لازم أبو هريرة رسول الله منذ قدم عليه مهاجراً، ينهل من عمله، ويتلقى عنه أحاديثه ويحفظها، واجتهد فى ذلك حتى صار أحفظ أصحابه،
وأكثرهم رواية للحديث، فقد روى (5374) خمسة آلاف وثلاثمائة وأربعة وسبعين حديثاً نبوياً - كما فى مسند بقى ابن مخلد- اتفق
الشيخان البخارى ومسلم على (325) ثلاثمائة وخمسة وعشرين حديثاً منها،وانفرد البخارى بثلاثة وتسعين،ومسلم بمائة وتسعة وثمانين( )
،وقيل غير ذلك0
وهذه الروايات التى زادت على خمسة آلاف هى بالمكرر0
وذكر الدكتور الأعظمى فى كتابه : أبو هريرة فى ضوء مروياته( ) أن أحاديثه فى المسند والكتب والسنة هى 1336 حديثاً فقط، وذلك بعد
حذف الأسانيد المكررة0 وهذا القدر يستطيع طالب عادى أن يحفظه فى أقل من عام، فما بالك بمن كان حفظه من معجزات النبوة"( )0
ويقول الدكتور أبو شهبة : "وأحب ألا يعزب عن بالنا أن هذه الخمسة آلاف والثلاثمائة والأربعة والسبعون حديثاً، الكثير منها لا يبلغ السطرين
أو الثلاثة، ولو جمعتها كلها لما زادت عن جزء فأى غرابة فى كثرة مروياته مع حداثة صحبته، مع أن السنين الأربع ليست بالزمن القصير فى
عمر الصحبة( )، ولا سيما ما توافر له دون غيره من الصحابة من أمور كانت سبباً فى تفوقه فى الرواية وكثرة مروياته منها :
أسباب كثرة مروياته :
أولاً : شدة ملازمته للنبى  منذ قدم مهاجراً إليه سنة سبع من الهجرة يدور معه فى بيوت نسائه يخدمه، ويصلى خلفه، ويحج، ويغزو معه كما
حدث عن نفسه، ومما أعانه على التفرغ لذلك أنه كان فقيراً، ولم تكن له زوجه، ولا أولاد حينئذ - ونحو ذلك مما يشغل، مع شدة حرصه على
تلقى الحديث عن النبى ، وشهد له النبى  بهذا الحرص ومن الآثار الدالة على ذلك : ما جاء فى الصحيح عنه  قال : "يقولون : إن أبا
هريرة قد أكثر والله الموعد0 ويقولون : ما بال المهاجرين والأنصار لا يتحدثون مثل أحاديثه؟ وسأخبركم عن ذلك : إن إخوانى من
الأنصار كان يشغلهم عمل أراضيهم0 وإن إخوانى من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق0 وكنت ألزم رسول الله  على ملئ بطنى
فأشهد إذا غابوا، وأحفظ إذا نسوا، ولقد قال رسول الله  يوماً : "أيكم يبسط ثوبه فيأخذ من حديثى هذا، ثم يجمعه إلى صدره، فإنه لن ينس شيئاً
سمعه، فبسطت بردة على حتى فرغ من حديثه، ثم جمعتها إلى صدرى، فما نسيت بعد ذلك اليوم شيئاً حدثنى به0 ولولا آيتان أنزلهما الله فى
كتابه ما حدثت شيئاً أبداً : إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ
اللَّاعِنُونَ(159)إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ( )0
ثانياً : دعاء رسول الله  له بالحفظ وعدم النسيان، ومما يدل على ذلك الرواية السابقة، وما رواه الحاكم فى المستدرك عن زيد بن ثابت، أن
رجلاً جاء إليه فسأله عن شئ فقال له زيد : عليك بأبى هريرة، فإنه بينما أنا وأبو هريرة فى المسجد وفلان فى المسجد ذات يوم ندعوا الله
تعالى، ونذكر ربنا خرج علينا رسول الله  حتى جلس إلينا قال : فجلس وسكتـنا0 فقال عودوا للذى كنتم فيه، قال زيد فدعوت أنا وصاحبى قبل
أبى هريرة،وجعل رسول الله  يؤمن على دعائنا قال:ثم دعا أبو هريرة فقال : اللهم إنى أسألك مثل الذى سألك صاحباى هذان وأسألك
علماً لا ينسى، فقال رسول الله : آمين"فقلنا يا رسول الله ونحن نسأل الله علماً لا ينسى فقال:"سبقكما بها الدوسى"( )0
ثالثاً : إن أبا هريرة تميز بقوة ذاكرته وحفظه وحسن ضبطه، خاصة بعد أن دعا له الرسول بالحفظ وعدم النسيان - كما سبق - فكان حافظاً
متقناً ضابطاً لما يرويه0

ويدل على ذلك قصة امتحان مروان له فيما رواه الحاكم عن أبى الزُّعَيْزِعَة( ) كاتب مروان بن الحكم، أن مروان بن الحكم دعا
أبا هريرة فأقعدنى خلف السرير، وجعل يسأله وجعلت أكتب حتى إذا كان عند رأس الحول، دعا به فأقعده وراء الحجاب فجعل يسأله عن ذلك،
فما زاد ولا نقص، ولا قدم ولا آخر"( ) وقد نقل هذه القصة الذهبى فى سير أعلام النبلاء، ثم عقب بقوله : "قلت هكذا فليكن الحفظ"( )0

وهذه القصة نقلها أيضاً ابن حجر فى الإصابة( )، وابن كثير فى البداية( )، وهى تدل على قوة حفظه وإتقانه، كما شهد له بذلك
الصحابة، والتابعون فمن بعدهم من أئمة المسلمين إلى يومنا هذا على ما سيأتى بعد قليل0

وكان  يراجع ما يسمعه من النبى  تأكيداً لحفظه، فقد روى عنه أنه قال : "جزأت الليل ثلاثة أجزاء:ثلثاً أصلى،وثلثاً أنام، وثلثاً
أذكر فيه حديث رسول الله ( )0

رابعاً : أدرك أبو هريرة كبار الصحابة، وروى عنهم كثيراً من الأحاديث فتكامل علمه بها واتسع أفقه فيها0
خامساً : امتداد عمره  بعد وفاة رسول الله ، حيث عاش بعده نحو سبعة وأربعين عاماً، واحتياج الناس إليه فكان يحدثهم ويبث بينهم ما
يحفظه من أحاديث، وأعانه على ذلك : ابتعاده عن الفتن وغيرها من المشاغل ووجوده فى المدينة، والناس يفدون إليها، وكانت له حلقة فى
مسجد الرسول يحدث الناس فيها بالأحاديث النبوية، فساعد ذلك على انتشار مروياته وتداولها، وكثرة أتباعه وتلامذته، حتى بلغوا نحو ثمانمائة
من الصحابة والتابعين كلهم يجلونه ويثقون به ويثنون عليه على ما سيأتى بعد قليل0

قال الإمام البخارى - رحمه الله - : "روى عنه نحواً من ثمانمائة رجل أو أكثر من أهل العلم، من الصحابة والتابعين وغيره"(
)0 ومن أشهر من روى عنه من الصحابة : زيد ابن ثابت، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وأنس بن مالك، وعائشة، وأبو أيوب
الأنصارى0 ومن أشهر من روى عنه من التابعين : مروان بن الحكم، والحسن البصرى، وسعيد بن المسيب، وعامر الشعبى، وعروة ابن
الزبير، وهمام بن منبه - وقد كتب عنه الصحيفة المشهورة( )0 وغيرهم كثير0

شهادة الرسول والصحابة ومن بعدهم من أهل العلم بقوة حفظه
وإتقانه وكثرة سماعه وحرصه على الحديث
1- روى عنه  أنه قال ذات يوم : يا رسول الله من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال رسول الله  : "لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا
يسألنى عن هذا الحديث أحد أول منك، لما رأيت من حرصك على الحديث، أسعد الناس بشفاعتى يوم القيامة من قال : لا إله إلا الله خالصاً
من قلبه أو نفسه( )0
2- وعن ابن عمر-رضى الله عنهما- أنه مر بأبى هريرة ، وهو يحدث عن النبى : من تبع جنازة فله قيراط، فإن شهد دفنها فله قيراطان
أعظم من أحد0 فقال ابن عمر : يا أبا هريرة انظر ما تحدث عن رسول الله ، فقام إليه أبو هريرة حتى انطلق إلى عائشة -رضى الله
عنها- فقال لها : يا أم المؤمنين أنشدك الله أسمعت رسول الله  يقول : "من تبع جنازة فصلى عليها فله قيراط، وإن شهد دفنها فله قيراطان؟
فقالت : اللهم نعم، فقال أبو هريرة : إنه لم يكن يشغلنا عن رسول الله  عرس ولا صفق بالأسواق، إنما كنت أطلب من رسول الله  كلمة
يعلمنيها أو أكلة يطعمنيها0
فقال ابن عمر : يا أبا هريرة كنت ألزمنا لرسول الله  وأعلمنا بحديثه( )0
وكان ابن عمر يترحم عليه فى جنازته ويقول : "كان يحفظ على المسلمين حديث رسول الله ( )0

وعن حذيفة بن اليمان  قال : قال رجل لابن عمر : إن أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول الله  فقال ابن عمر : أعيذك بالله أن تكون فى شك
مما يجئ به، ولكنه اجترأ وجبنا"( ) ومعنى "اجترأ" هنا أى على سؤال النبى  والتعلم منه، فى حين كانوا يهابون سؤال النبى 0
يدل على ذلك ما رواه الحاكم عن أبى بن كعب  قال : كان أبو هريرة جريئاً على النبى  يسأله عن أشياء لا نسأله عنها( )0

وعن أنس بن مالك  قال : "نهينا أن نسأل رسول الله  عن شئ فكان يعجبنا أن يجئ الرجل من أهل البادية العاقل0 فيسأله ونحن نسمع …
الحديث"( )0

3- وعن مالك بن أبى عامر قال : كنت عند طلحة بن عبيد الله فدخل عليه رجل فقال : يا أبا محمد والله ما ندرى هذا اليمانى أعلم برسول
الله  أم أنتم، تقول على رسول  ما لم يقل - يعنى أبا هريرة - فقال طلحة : والله ما يشك أنه سمع من رسول الله  ما لم نسمع، وعلم ما
لم نعلم، إنا كنا قوماً أغنياء لنا بيوت وأهلون كنا نأتى نبى الله  طرفى النهارى ثم نرجع، وكان أبو هريرة  مسكيناً لا مال له، ولا
أهل ولا ولد وإنما كانت يده مع يد النبى  وكان يدور معه حيثما دار، ولا نشك أنه قد علم ما لم نعلم، وسمع ما لم نسمع، ولم يتهمه أحد منا،
أنه تقول على رسول الله  ما لم يقل"( )0
وهذا الخبر ذكره ابن حجر فى الإصابة وزاد فى قوله طلحة : "قد سمعنا كما سمع، ولكنه حفظ ونسينا"( )0

4- وقال ابن خزيمة : وقد روى عن أبى هريرة أبو أيوب الأنصارى مع جلالة قدره، ونزول رسول الله  عنده، ولما يقبل له : تحدث عن أبى
هريرة وأنت صاحب منزلة عند رسول الله ؟ فقال : إن أبا هريرة قد سمع ما لم نسمع، وإنى إن أحدث عنه أحب إلىَّ من أن أحدث عن رسول
الله  يعنى ما لم أسمعه منه( )0

5- وعن محمد بن عمرو بن حزم الأنصارى( ) أنه قعد فى مجلس فيه أبو هريرة، وفيه مشيخة من أصحاب رسول الله ، فجعل أبو هريرة
يحدثهم عن النبى  بالحديث، فلا يعرفه بعضهم، ثم يتراجعون فيه، فيعرفه بعضهم ثم يحدثهم بالحديث، فلا يعرفه بعضهم، ثم يعرفه0 حتى فعل
ذلك مراراً0 قال : فعرفت يومئذ أنه أحفظ الناس عن رسول الله ( )0
6- ولم يكن أبو هريرة  من أهل الحفظ فقط وإنما كان من أهل الفقه وشهد له بذلك الصحابى الجليل ابن عباس 0

يقول الحافظ السخاوى:"ولا عبرة برد بعض الحنفية روايات سيدنا أبى هريرة ، وتعليلهم بأنه ليس فقيهاً، فقد عملوا برأيه فى الغسل ثلاثاً من
ولوغ الكلب وغيره، وولاه عمر  الولايات الجسيمة0
وقال ابن عباس له كما فى مسند الشافعى( )، وقد سئل عن مسألة "افته يا أبا هريرة فقد جاءتك معضلة، فأفتى، ووافقه على فتياه"( )0

7- وعن أبى صالح السمان( ) قال : "كان أبو هريرة من أحفظ أصحاب رسول الله ، ولم يكن بأفضلهم"( )0

وفى هذا رد على من يحاول الربط بين المنزلة فى الدين وكثرة الرواية، فالربط بينهما ليس من التحقيق العلمى فى شئ( )0
وقال الإمام الشافعى : "أبو هريرة أحفظ من روى الحديث فى دهره"( )0
وقال الإمام الذهبى : "أبو هريرة إليه المنتهى فى حفظ ما سمعه من الرسول ، وأدائه بحروفه"( )0
وقال أيضاً : "وكان من أوعية العلم،ومن كبار أئمة الفتوى مع الجلالة،والعبادة،والتواضع( )

10- وقال شمس الأئمة السرخسى : "إن أبا هريرة ممن لا يشك أحد فى عدالته، وطول صحبته مع رسول الله 0

إن كل هذه النقول وغيرها كثير تبين لنا مدى افتراء الرافضة، والمستشرقين، وضعفاء الإيمان الذين اتهموا أبا هريرة بالكذب، والخيانة، فى
رواية الحديث، بسبب كثرة أحاديثه مع قلة صحبته0

وأعتقد أنه ليس هناك ما يدعوا إلى اتهام أبى هريرة بتلك الافتراءات، وقد تهيأت له الأسباب السابقة التى أعانته على هذا التفوق فى الرواية،
وشهد له بذلك رسول الله  وكبار الصحابة، ومن بعدهم من أئمة المسلمين السابق ذكرهم( )0

وأى غرابة فى حفظ أبى هريرة أحاديث لم تبلغ خمسة آلاف وخمسمائة ومعلوم أن العرب قد اشتهروا وامتازوا بقوة حفظهم،
ووجد فى الصحابة والتابعين من كان آية عجباً فى قوة الذاكرة، وسرعة الحفظ؛ فالإمام أحمد بن حنبل، والبخارى، وأبو زرعة، وأشباههم، كان
كل واحد منهم يحفظ عشرات الألوف من الأحاديث بأسانيدها"( )0

يقول الدكتور السباعى دفاعاً عن أبى هريرة : "إن صحابياً يظل يحدث الناس سبعاً وأربعين سنة بعد وفاة الرسول  على مسمع
من كبار الصحابة، وأقرب الناس إليه من زوجته وأصحابه، ثم لا يلقى إلا تجلة وإعظاماً، يرجع إليه فى معرفة الأحاديث، ويهرع إليه التابعون
من كل جانب … ويبلغ الآخذون عنه ثمانمائة من أهل العلم … وكلهم يجمعون على جلالته والثقة به … وتمر هذه القرون وكلها شهادات
صدق فى أحاديثه وأخباره … ويأتى اليوم من يزعم أن المسلمين جميعاً … لم يعرفوه على حقيقته، وأنه فى الواقع كان يكذب ويفترى، إن
موقفاً كهذا يقفه بعض الناس من مثل هذا الصحابى العظيم، لجدير بأن يجلب لأهله والقائلين به الاستخفاف، والازدراء بعلومهم، وعقولهم
جميعاً( )0

إن حب هذا الصحابى الجليل لعلامة على الإيمان وبغضه لعلامة على النفاق وهذا تصديقاً لدعوة النبى  لما سأله أبو هريرة بأن
يدعو الله له بأن يحببه هو وأمه إلى عباده المؤمنين0 ويحببهم إليهما، فقال رسول الله  : "اللهم حبب عبيدك هذا -يعنى أبا هريرة- وأمه إلى
عبادك المؤمنين، وحبب إليهم المؤمنين" يقول أبو هريرة فما خلق الله مؤمناً يسمع بى ولا يرانى إلا أحبنى( )0

يقول الحافظ ابن كثير:"وهذا الحديث من دلائل النبوة، فإن أبا هريرة محبب إلى جميع الناس، وقد شهر الله ذكره بما قدره أن يكون
من روايته من إيراد هذا الخبر عنه على رؤوس الناس فى الجوامع المتعددة فى سائر الأقاليم فى الإنصات يوم الجمعة بين يدى الخطبة، والإمام
على المنبر، وهذا من تقدير الله العزيز العليم، ومحبة الناس له ( )أ0هـ0

يقول فضيلة الأستاذ الدكتور على أحمد السالوس : [هذا أبو هريرة وعاء العلم، فكيف نجد فى عصرنا من ينسب نفسه للإسلام
ويعرض عن قول رسول الله ، والصحابة والتابعين، والأئمة الأعلام الهداة المهديين، ويأخذ بقول الضالين المضلين؟!( )0

هذا المسلك يفسره العلامة المرحوم الشيخ أحمد شاكر فيقول : "وقد لهج أعداء السنة، أعداء الإسلام، فى عصرنا، وشغفوا بالطعن فى أبى
هريرة، وتشكيك الناس فى صدقه وفى روايته0 وما إلى ذلك أرادوا، وإنما أرادوا أن يصلوا –زعموا- إلى تشكيك الناس فى الإسلام، تبعاً
لسادتهم المبشرين، وإن تظاهروا بالقصد إلى الاقتصار على الأخذ بالقرآن، أو الأخذ بما صح من الحديث فى رأيهم، وما صح من الحديث فى
رأيهم إلا ما وافق أهواءهم، وما يتبعون من شعائر أوروبا وشرائعها0 ولن يتورع أحدهم عن تأويل القرآن، إلى ما يخرج الكلام عن معنى
اللفظ فى اللغة التى نزل بها القرآن، ليوافق تأويلهم هواهم وما إليه يقصدون!!0
وما كانوا بأول من حارب الإسلام من هذا الباب، ولهم فى ذلك سلف من أهل الأهواء قديماً0 والإسلام يسير فى طريقه قدماً،
وهم يصيحون ما شاءوا، لا يكاد الإسلام يسمعهم، بل هو إما يتخطاهم لا يشعر بهم، وإما يدمرهم تدميراً0

ومن عجب أن تجد ما يقول هؤلاء المعاصرون، يكاد يرجع فى أصوله ومعناه إلى ما قال أولئك الأقدمون! بفرق واحد فقط : أن أولئك
الأقدمين، زائغين كانوا أم ملحدين، كانوا علماء مطلعين أكثرهم ممن أضله الله على علم!! أما هؤلاء المعاصرون، فليس إلا الجهل والجرأة،
وامتضاغ ألفاظ لا يحسنوها، يقلدون فى الكفر، ثم يتعالون على كل من حاول وضعهم على الطريق القويم!!" ( )0
وبعـد
فإن صحابة رسول الله  وعلى رأسهم الخلفاء الأربعة هم خير جيل عرفته البشرية، وهم أبرز وجوه حضارتنا، وأكثرها إشراقاً، وأخلدها ذكراً،
وأنبلها أخلاقاً، وهم بشر، ولكنهم فى القمة ديناً وخلقاً رغم أنف الحاقدين0
رضى الله عن صحابة رسول الله ، وعلى الحافظ علينا شرائع الدين أبى هريرة  وجعلنا الله  من محبيه، وجمعنا معه فى واسع جنته( ) أ0
هـ0

والله تبــارك وتعالــى
أعلـى وأعلـم


المطلب الرابـع
شبهات حول عدالة الصحابة والرد عليها

إن لأهل الزيغ والإلحاد قديماً وحديثاً شبهات كثيرة يطعنون بها فى عدالة الصحابة، وأساس تلك الشبهات الرافضة الذين فاقوا
اليهود والنصارى فى خصلتين كما قال الشعبى -رحمه الله- فيما رواه عنه ابن الجوزى فى الموضوعات قال : "… فضلت الرافضة على
اليهود والنصارى بخصلتين0سئلت اليهود من خير أهل ملتكم؟ قالوا أصحاب موسى-عليه السلام- وسئلت النصارى فقالوا أصحاب عيسى-
عليه السلام-، وسئلت الرافضة من شر أهل ملتكم؟ فقالوا حوارى محمد، وأمروا بالاستغفار لهم فسبوهم"( )0

فمن مطاعنهم فى عدالة الصحابة : ما استدلوا به من :
1- قوله تعالى : وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا ( ) وقالوا نزلت فى أكثر الصحابة الذين انفضوا عن رسول الله  إلى
العير التى جاءت من الشام، وتركوه وحده فى خطبة الجمعة، وتوجهوا إلى اللهو، واشتغلوا بالتجارة، وذلك دليل على عدم الديانة( )0
2- واستدلوا أيضاً بما ورد فى القرآن الكريم من آيات تتحدث عن النفاق والمنافقين، وحملوها على أتقى خلق الله، وأطهرهم (رضوان الله
عليهم أجمعين) كقوله تعالى : وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ
ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ( )0

وأيدوا ذلك بما جاء فى السنة المطهرة من أحاديث يطلق فيها لفظ الصحابة على المنافقين0
مثل حديث جابر بن عبد الله  قال : "أتى رَجُلٌ رسول الله  بِالجِعْرَانَة مُنْصَرَفَهُ من حُنين0 وفى ثوب بلال فِضَةٌ ورسول الله  يقبض منها0
يعطى الناس0 فقال: يا محمدُ! اعْدِلْ0 قال "ويلك ومن يَعْدِلُ إذا لم أَكُنْ اَعْدِلُ؟ لقد خِبْتُ وَخَسِرْتُ إن لم أكن أعدِلُ" فقال عمر بن الخطاب  دعنى
يا رسول الله فأقُتل هذا المنافق0 فقال : "مَعَاذ الله! أَنْ يتحدث الناس أَنى أَقْتُلُ أَصْحَاِبى0 إِنَّ هذا وأصحابَهُ يقرأون القرآنّ لا يُجاوزُ حَنَاجِرَهُم0
يَمرُقُونَ منه كما يَمْرُقُ السَّهْمُ من الرَّمِيِة"( )0
3- واستدلوا أيضاً بقوله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا( ) وقوله تعالى : لَقَدْ
نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ( ) وقالوا0
الفرار من الزحف من أكبر الكبائر( )0
4- واستدلوا من السنة المطهرة : بقوله  : "… ألا وإنه سَيْجَاءُ برجالٍ من أمتى فيؤخذُ بِهمْ ذات الشمال، فأقول : يا ربِّ أُصيحَابى، فيقال :
إنك لا تدرى ما أحدثوا بعدك فأقول كما قال العبد الصالح : وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ( ) فيقال :
إن هؤلاء لا يَزَالوا مُرْتَدِّينَ على أعقابِهِم منذ فَارَقْتَهُم"( )0
5- واستدلوا بقوله  : "لا ترجعوا بعدى كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض"( ) وقالوا: تقاتل الصحابة فى صفين والجمل( )0

واستدل آخرون بالطعن فى عدالة الصحابة بما تمليه عليهم عقولهم الضالة من فهم أعوج لسيرة الصحابة، وتاريخهم المجيد،
كما فعل مفتى الماركسية خليل عبد الكريم( ) فى كتابه "مجتمع يثرب العلاقة بين الرجل والمرأة فى العهدين المحمدى والخليفى" فقد صور
مجتمع المدينة المنورة بقيادة رسول الله ، وخلفائه الراشدين، وصحابته الأطهار، تصويراً شائناً قبيحاً، وجعله أشبه بمجتمع الحيوانات التى لا
هم لها إلا إشباع الغرائز الجنسية بأى شكل، وبغير ضابط من دين أو خلق، غير مكترثين بالنصوص الدينية التى تمنعهم من هذا الهبوط"( )0
كما أصدر كتاباً آخر بعنوان "شدو الربابة بأحوال مجتمع الصحابة" وهو من ثلاثة أسفار، الأول بعنوان "محمد والصحابة" والثانى
"الصحابة والصحابة" والثالث "الصحابة والمجتمع" تناول فيها المؤلف تاريخ الصحابة، وسيرتهم بأسلوب فج قبيح ينبئ عن سوء فهمه،
وجهله، وحقده الدفين، ضد صحابة رسول الله ،وكذلك فعل سعيد العشماوى( )وغيرهم( )
الجـواب عـن الشبهـات السابقـة
حـول عدالة الصحابة 
إن ما استدل به الرافضة ومن تابعهم طعناً فى عدالة الصحابة لا حجة لهم فيه لما يلى:
أولاً : قصة انفضاض أكثر الصحابة عن رسول الله  إلى العير القادمة من الشام، وتركهم خطبة الجمعة، إنما وقع ذلك فى بدء زمن الهجرة،
ولم يكونوا إذ ذاك واقفين على الآداب الشرعية كما ينبغى، كما أن كبار الصحابة كأبى بكر وعمر كانوا قائمين عنده، كما ثبت ذلك فى الأحاديث
الصحيحة0
فعن جابر بن عبد الله  قال : بينما النبى  يخطب يوم الجمعة قائماً إذ قدمت عير المدينة، فابتدرها( ) أصحاب رسول الله  حتى لم يبق منهم
إلا اثنى عشر رجلاً فيهم أبو بكر وعمر ونزلت الآية:وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا( )،
ولذا لم يشفع عليهم، ولم يوعدهم سبحانه وتعالى بعذاب ولم يعاتب الرسول  أيضاً"( )0
ورد آخر على هذه القصة وهو : أنه ورد فى بعض الأخبار أنها وقعت لما كان النبى  يقدم الصلاة على الخطبة يوم الجمعة، وانفضاضهم وقع
فى الخطبة، وليس فى الصلاة كما هو الظاهر من بعض الروايات، والتى ركز عليها بعض الرافضة، كمحمود أبو رية( )، ومروان خليفات( )،
وغيرهم0

ويدل على أن الانفضاض كان فى الخطبة ما جاء فى رواية مسلم السابقة : بينما النبى  يخطب يوم الجمعة قائماً0

يقول الحافظ ابن حجر : "ترجيح كون الانفضاض وقع فى الخطبة لا فى الصلاة، هو اللائق بالصحابة تحسيناً للظن بهم، وعلى تقدير أن يكون
فى الصلاة حمل على أن ذلك وقع قبل النهى كآية يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ( ) وقبل النهى عن
الفعل الكثير فى الصلاة ونزول قوله تعالى : الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ( )0

ويؤيد ذلك : ما رواه أبو داود فى المراسيل أن هذه القصة كانت لما كان رسول الله  يصلى الجمعة قبل الخطبة، مثل العيدين، فخرج الناس فلم
يظنوا إلا أنه ليس فى ترك الجمعة شئ، فأنزل الله  : وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًافقدم النبى  الخطبة يوم الجمعة
وأخر الصلاة( )0
وهو ما رجحه أيضاً النووى فى شرحه على مسلم( )0
وعلى كل تقدير أنه فى الصلاة، فلم يكن تقدم لهم نهى عن ذلك، فلما نزلت آية الجمعة، وفهموا منها ذم ذلك، اجتنبوه"( )0

يقول الألوسى : "ورواية أن ذلك وقع منهم مراراً" إن أريد بها رواية البيهقى فى شعب الإيمان( ) عن مُقَاتِل بن حيان( ) أنه قال :
بلغنى والله أعلم أنهم فعلوا ذلك ثلاث مرات، فمثل ذلك لا يلتفت إليه، ولا يعول عند المحدثين عليه، وإن أريد بها غيرها فليبين، ولتثبت صحته،
وأنى بذلك؟
وبالجملة : الطعن فى الصحابة بهذه القصة التى كانت من بعضهم فى أوائل أمرهم، وقد أعقبها منهم عبادات لا تحصى، سفه ظاهر، وجهل
وافر"( )0
ثانياً : أما نسبة النفاق إلى خيار هذه الأمة بدعوى أنه كان فى المدينة منافقين، وأن النبى  أطلق لفظ الصحابة عليهم : "معاذ الله! أن يتحدث
الناس أنى أقتل أصحابى"0

هذه الشبهة أوهى من بيت العنكبوت، وهى فرية واضحة لا تثبت لها قدم0
أولاً : لأن إطلاق لفظ الصحابة على المنافق كما جاء فى الحديث هذا الإطلاق لغوى، وليس اصطلاحى نظير قوله تعالى : أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا
بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ( ) وقوله تعالى : مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى( ) فإضافة صحبة النبى  إلى المشركين والكافرين إنما هى صحبة الزمان
والمكان لا صحبة الإيمان، وذلك كقوله تعالى فى حق سيدنا يوسف - عليه السلام - : يَاصَاحِبَيِ السِّجْنِ ءَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ
الْقَهَّارُ( )0
فالصحبة فى الحديث الشريف، بمعناها اللغوى كما فى الآيات السابقة، وليست الصحبة الاصطلاحية، فتعريفها السابق يخرج المنافقين
والمرتدين0
ثم كيف يكون المنافقون من الصحابة بالمعنى الاصطلاحى وقد نفاه عنهم رب العزة بقوله : وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ
قَوْمٌ يَفْرَقُونَ( )0
ثم إن المنافقين لم يكونوا مجهولين فى مجتمع الصحابة الكرام  ولم يكونوا هم السواد الأعظم، والجمهور الغالب فيهم، وإنما كانوا فئة
معلومة آل أمرهم إلى الخزى والفضيحة، حيث علم بعضهم بعينه، والبعض الآخر منهم علم بأوصافه، فقد ذكر الله فى كتابه العزيز من
أوصافهم، وخصوصاً فى سورة التوبة، ما جعل منهم طائفة متميزة منبوذة، لا يخفى أمرها على أحد، كما لا يخفى على أحد حالهم فى
زماننا0
فأين هذه الفئة المنافقة ممن أثبت الله لهم فى كتابه نقيض صفات المنافقين، حيث أخبر عن رضاه عنهم، من فوق سبع سماوات، وجعلهم خير
أمة أخرجت للناس"( )0
ويدل على ما سبق من قلة المنافقين فى المجتمع الإسلامى، وأنهم فئة معلومة تكفل رب العزة بفضحهم فى الدنيا، ولهم فى الآخرة عذاب
عظيم0
ما رواه حذيفة بن اليمان( )  صاحب سر رسول الله  فى المنافقين0 قال : قال النبى  فى أمتى - وفى رواية - فى أصحابى إثنا عشر
منافقاً فيهم ثمانيةٌ لا يدخلون الجنة، ولا يجدون ريحها حتى يَلِجَ الجَمَلُ فى سم الخياط0 ثَمانيةٌ منهم تَكْفِيكُهُمُ الدُّبِيْلَةُ، سِرَاجٌ من النارِ، يظهرُ فى
أكتافِهِم حتى يَنْجُمَ من صُدَورِهِم"( )0
وعن ابن عباس -رضى الله عنهما- قال : كان رسول الله  فى ظل حجرةٍ من حجره، وعنده نفرٌ من المسلمين قد كان يقلصُ عنها الظل، قال
: سيأتيكم رجل ينظر إليكم بعين شيطان فلا تكلموه، فدخل رجل أزرق، فقال رسول الله  على ما تسبُنى أنت وفلانٌ وفلان، لقوم دعا بأسمائهم،
فانطلق إليهم فدعاهم فحلفوا واعتذروا فأنزل الله  يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ
الْكَاذِبُونَ ( )0

أما ما استدل به محمود أبو رية من قول "أُسَيْدُ بن حُضَيْر، لسعدُ بنُ عبادةُ إنك منافق تجادل عن المنافقين" وقوله فهؤلاء
البدريون منهم من قال لآخر منهم : "إنك منافق ولم يكفر النبى لا هذا ولا ذاك"( )0
هذا الذى يزعمه الرافضى محمود أبو ريه من فرط جهله،وتضليله وبتره لسبب ذلك القول0
وهو كما جاء فى الصحيحين فى قصة الإفك لما قال  وهوعلى المنبر : "يا معشر المسلمين من يعذرنى من رجل قد بلغ أذاه فى أهل بيتى
فوالله ما علمت على أهلى إلا خيراً0 ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلا خيراً0 وما كان يدخل على أهلى إلا معى" فقام سعد بن معاذ
الأنصارى فقال : أنا أعذرك منه يا رسول الله إن كان من الأوس ضربنا عنقه0 وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك قالت عائشة -
رضى الله عنها - فقام سعد بن عبادة( )، وهو سيد الخزرج، وكان رجلاً صالحاً0 ولكن احتملته الحمية فقال لسعد بن معاذ : كذبت لعمر الله!
لا تقتله، ولا تقدر على قتله فقام أسيد بن حضير( )، وهو ابن عم سعد بن معاذ، فقال لسعد بن عبادة : كذبت لعمر الله! لنقتلنه فإنك منافق
تجادل عن المنافقين …"( )0
فكما هو واضح من قصة الحديث أن قول أسيد بن حضير لسعد بن عبادة "فإنك منافق" وقع منه على جهة المبالغة، فى زجره عن القول الذى
قاله حمية للخزرج، ومجادلته عن ابن أُبى، وغيره0

ولم يرد أُسيدُ بإطلاقه "فإنك منافق" لم يرد به نفاق الكفر، وإنما أراد أنه كان يظهر المودة للأوس، ثم ظهر منه فى هذه القصة، ضد ذلك فأشبه
حال المنافق، لأن حقيقته إظهار شئ وإخفاء غيره0
ولعل هذا هو السبب فى ترك إنكار النبى ( ) وهو أقوى دليل على الخصم0

ومع كل هذا فقد تقرر أن العدالة لا تعنى العصمة من الذنوب، أو السهو، أو الخطأ، ومن فضل الله عليهم  أن وعدهم بالمغفرة،
ولا سيما أهل بدر، وهم من أهلها فعن ابن عباس قال : قال عمر بن الخطاب  كتب حاطب بن أبى بلتعه إلى أهل مكة فأطلع الله تعالى عليه
نبيه  فبعث علياً والزبير فى أثر الكتاب فأدركا امراة على بعير فاستخرجاه من قرن من قرونها، فأتيا به نبى الله  فقرئ عليه، فأرسل إلى
حاطب فقال "يا حاطب إنك كتبت هذا الكتاب؟" قال نعم : يا رسول الله قال : "فما حملك على ذلك"؟ قال : يا رسول الله، إنى والله لنا صح لله،
ولرسوله ، ولكنى كنت غريباً فى أهل مكة وكان أهلى بين ظهرانيهم، فخشيت عليهم، فكتبت كتاباً لا يضر الله ورسوله شيئاً، وعسى أن يكون
فيه منفعة لأهلى0 قال عمر : فاخترطت سيفى وقلت : يا رسول الله أمكنى منه فإنه قد كفر فأضرب عنقه0 فقال رسول الله  : "يا ابن الخطاب
وما يدريك لعل الله قد اطلع على أهل هذه العصابة من أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فإنى قد غفرت لكم"( ) أ0هـ0
ثالثاً : أما ما استدلوا به من فرار بعض الصحابة يوم الزحف فى غزوتى أحد وحنين، ما استدلوا به حجة عليهم0
ففى عتاب الفرار يوم أحد قال  : إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا ثم ختم العتاب بقوله تعالى
: وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ( )0
ولا تعيير بعد عفو الله تعالى عن الجميع( )"0

وفى عتاب الفرار يوم حنين قال  : وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ثم
يمتن رب العزة عليهم بقوله تعالى : ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ
جَزَاءُ الْكَافِرِينَ( )0
وهل تنزل السكينة إلا على قوم مؤمنين؟!

نعم تنزل السكينة على قوم مؤمنين ليزدادوا بها إيماناً مع إيمانهم، وصدق رب العزة : هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا
إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا( ) ويقول  : إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ
فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا( )0
وهل بعد تلك الشهادات العلا لهم بالإيمان والتقوى من تعيير؟!!

رابعاً : أما استدلالهم بحديث الحوض، وما جاء فيه من وصف الصحابة بالردة0 فهذا من زندقة الرافضة، ومن تلبيسهم، وتضليلهم0

فإن المراد بالأصحاب هنا ليس المعنى الاصطلاحى عند علماء المسلمين، بل المراد بهم مطلق المؤمنين بالنبى  المتبعين لشريعته، وهذا كما
يقال لمقلدى أبى حنيفة أصحاب أبى حنيفة، ولمقلدى الشافعى أصحاب الشافعى وهكذا، وإن لم يكن هناك رؤية واجتماع، وكذا يقول الرجل
للماضين الموافقين له فى المذهب : "أصحابنا" مع أن بينه وبينهم عدة من السنين، ومعرفته  لهم مع عدم رؤيتهم فى الدنيا بسبب أمارات
تلوح عليهم يعرفها النبى 0

فعن حذيفة قال:قال رسول الله:"إن حوضى لأبعد من أَيَلَةَ مِن عَدَنٍ( )،والذى نفسى بيده! إنى لأزودُ عنه الرجال كما يَزُودُ الرجلُ الإبلَ الغريبةَ
عن حوضه"، قالوا: يا رسول الله! أو تعرفنا؟ قال : "نعم تَرِدُون علىَّ غُرًّا مُحَجَّلينَ من آثار الوضوء0 ليست لأَحدٍ غَيْرِكُم"( )0

ولو افترضنا أن المراد بالأصحاب فى الحديث، الأصحاب فى زمنه 0
فالمراد بهم : الذين صاحبوه صحبة الزمان والمكان مع نفاقهم، كما سبق من قوله تعالى : ما ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى( )0
وعلى هذا فالمراد بالمرتدين من أصحابه فى الحديث هم الذين ارتدوا من الأعراب على عهد الصديق 0
وقد علمت أن التعريف الاصطلاحى للصحابة يخرج من ارتد ومات على ردته - والعياذ بالله -0

وفى الحديث ما يؤيد المعانى السابقة، كقوله  "أصيحابى" بالتصغير، كما جاء فى بعض الروايات، قال الخطابى : "فيه إشارة إلى قلة عدد من
وقع لهم ذلك، وإنما وقع لبعض جفاة الأعراب، ولم يقع من أحد من الصحابة المشهورين"( )0 وفى قوله  : "فيقال" : هل شعرت ما عملوا
بعدك" "فيه إشارة إلى أنه لم يعرف أشخاصهم بأعيانها، وإن كان قد عرف إنهم من هذه الأمة"( )0
أما حمل الحديث على أصحاب رسول الله  بالمعنى الاصطلاحى-فهذا ما لا يقوله مسلم!! وهو ما يدحضه ما سبق ذكره من تعديل الله ،
ورسوله ، وإجماع الأمة على ذلك أ0هـ0

خامساً : أما ما احتجوا به من حديث "لا ترجعوا بعدى كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض" والزعم بأن الصحابة استحل بعضهم دماء بعض فى
صفين والجمل0

فالحق أن هذه الشبهة من أخطر الشبه التى احتج بها الرافضة الزنادقة، وأذيالهم من دعاة العلمانية، الذين اتخذوا من تلك الفتن
مادة دسمة، طعنوا بها فى عدالة الصحابة، وفتنوا بذلك عوام المسلمين، وممن لا علم له، بضربهم على (الوتر الحساس) وهو : دعوى ظلم
الصحابة لآل بيت رسول الله  فى تلك الفتن"0

وهذا ما فعله طه حسين فى كتابه "الفتنة الكبرى - عثمان بن عفان "( )0 وقال بقوله محمود أبو رية( )، وغير واحد من دعاة الرافضة
واللادينية( )0

حتى وجدنا من يجهر من الرافضة قائلاً : "معاوية بن أبى سفيان " - كافر ابن كافر - ولعنة الله على معاوية، فقد بغى على الحق، وخرج
على طاعة الإمام على، وشتت شمل المسلمين، وفرق كلمتهم، فأساس فرقة المسلمين إلى الآن هو معاوية الذى خرج عن طاعة الإمام على
بن أبى طالب "( )0
والجواب عن هذا الإفك يطول( )، وهو بحاجة إلى تحقيق دقيق( )0 نكتفى هنا بخلاصة القول0
وهو أنه لا حجة لهم فى الحديث، ولا فى الفتن التى وقعت بين سلفنا الصالح -رضوان الله عليهم أجمعين-، والتى أشعلها سلفهم من
الخوارج، والرافضة، والزنادقة0
فقوله : "لا ترجعوا بعدى"0 بصيغة النهى والتحذير من قتال المؤمن0

وإطلاق الكفر على قتال المؤمن مبالغة فى التحذير من ذلك، لينزجر السامع عن الإقدام عليه وليس ظاهر اللفظ مراداً، أو أنه
على سبيل التشبيه لأن ذلك فعل الكافر"( )0
والمعنى لا تفعلوا فعل الكفار فتشبهوهم فى حالة قتل بعضهم بعضاً( )0

وقيل : المعنى كفاراً بحرمة الدماء، وحرمة المسلمين، وحقوق الدين، وقيل : كفاراً بنعمة الله، وقيل المراد ستر الحق، والكفر
لغة الستر، لأن حق المسلم على المسلم أن ينصره ويعينه،فلما قاتله كأنه غطى على حقه الثابت له عليه،وقيل:إن الفعل المذكور يفضى
إلىالكفر، لأن من اعتاد الهجوم على كبار المعاصى جره شؤم ذلك إلى أشد منها فيخشى أن لا يختم له بخاتمة الإسلام، وقيل:اللفظ على ظاهره
للمستحل قتال أخيه المسلم0وقيل غير ذلك( )0

وما جرى بين الصحابة  من قتال لم يكن عن استحلال له حتى يحمل الحديث على ظاهره وأن قتالهم كفر، كما استدل الخوارج
ومن شايعهم بقوله  : "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر"( )0

كيف والقرآن الكريم يكذبهم فى هذا الفهم السطحى قال تعالى : وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى
الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ(9)إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ
فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ( )0
فسماهم أخوة، ووصفهم بأنهم مؤمنون، مع وجود الاقتتال بينهم، والبغى من بعضهم على بعض0

يقول الحافظ ابن كثير : "وبهذا استدل البخارى( ) وغيره على أنه لا يخرج عن الإيمان بالمعصية وإن عظمت، لا كما يقوله
الخوارج ومن تابعهم من المعتزلة ونحوهم، وهكذا ثبت فى صحيح البخارى من حديث الحسن( )، عن أبى بكرة( )  قال : رأيت رسول الله 
على المنبر-والحسن بن على إلى جنبه-وهو يقبل على الناس مرة، وعليه أخرى ويقول:إن ابنى هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين
عظيمتين من المسلمين( )



فكان كما قال ، أصلح الله تعالى به بين أهل الشام، وأهل العراق، بعد الحروب الطويلة، والواقعات المهولة"( )0

يقول الإمام ابن تيمية:"والذين قاتلوا الإمام على  لا يخلوا: إما أن يكونوا عصاة، أو مجتهدين مخطئين أو مصيبين، وعلى كل
تقدير، فهذا لا يقدح فى إيمانهم، ولا فى عدالتهم، ولا يمنعهم الجنة، بما سبق من تصريح القرآن الكريم، من تسميتهم إخوة، ووصفهم بأنهم
مؤمنون، وتأكيد النبى  ذلك بما سبق من رواية الحسن بن على عن أبى بكرة 0


ولهذا اتفق أهل السنة على أنه لا تفسق واحدة من الطائفتين، وإن قالوا فى إحداهما أنهم كانوا بغاة( ) والبغى إذا كان بتأويل كان صاحبه
مجتهداً، والمجتهد المخطئ لا يكفر، ولا يفسق وإن تعمد البغى فهو ذنب من الذنوب، والذنوب يرفع عقابها بأسباب متعددة كالتوبة، والحسنات
الماحية، والمصائب المكفرة، وشفاعة النبى  ودعاء المؤمنين، وغير ذلك( )0
وعلى هذا القول إجماع الأمة من علمائها0

يقول الإمام الآمدى : "فالواجب أن يحمل كل ما جرى بينهم من الفتن على أحسن حال، وإن كان ذلك إنما لما أدى إليه اجتهاد كل فريق من
اعتقاده أن الواجب ما صار إليه، وأنه أوفق للدين وأصلح للمسلمين0

وإلا فجمهور الصحابة وسادتهم تأخروا عن تلك الفتن والخوض فيها كما قال محمد بن سيرين : "هاجت الفتنة وأصحاب رسول الله  عشرة
آلاف فما حضر منهم مائة بل لم يبلغوا ثلاثين" وإسناد هذه الرواية كما قال ابن تيمية أصح إسناد على وجه الأرض( )0

وعلى هذا فالذى خاض فى تلك الفتن من الصحابة إما أن يكون كل مجتهد مصيباً، أو أن المصيب واحد، والآخر مخطئ فى اجتهاده مأجور
عليه0
وعلى كلا التقديرين، فالشهادة والرواية من الفريقين لا تكون مردودة، إما بتقدير الإصابة فظاهر، وإما بتقدير الخطأ مع الاجتهاد فبالإجماع"( )0

يقول الإمام الجوينى : "أما التوقف فى تعديل كل نفر من الذين لابسوا الفتن، وخاضوا المحن، ومتضمن هذا، الانكفاف عن الرواية عنهم، فهذا
باطل من دين الأمة، وإجماع العلماء على تحسين الظن بهم، وردهم إلى ما تمهد لهم من المآثر بالسبيل السابقة، وهذا من نفائس الكلام"( )
أ0هـ0

وأخيراً : دع عنك – أخى المسلم – ترهات المبتدعة الذين يجادلون فى عدالة الصحابة جميعاً – وينفون العدالة عن بعضهم – اتباعاً للهوى أو
انقياداً للشيطان0 وأشد سخفاً من ذلك، ما يتجرأ به البعض فى زماننا هذا حينما يتحدثون عن الصحابة بأسلوب غير لائق، وينصب نفسه حكماً
فيما شجر بينهم من خلاف، ويقبل رواية هذا، ويرفض رواية ذلك، وهو لا يملك سبباً واحداً من أسباب ذلك كله"( )0

واعلم أن أمثال هؤلاء لهم خبيئة سوء، ومتهمين فى دينهم، يدل على ذلك ما روى عن الإمام أحمد بن حنبل  أنه سئل عن رجل تنقص
معاوية، وعمرو بن العاص أيقال له رافضى؟ فقال : إنه لم يجترئ عليهما إلا وله خبيئة سوء، ما انتقص أحدٌ أحداً من الصحابة إلا وله داخلة
سوء"0 وفى رواية أخرى قال : "إذا رأيت رجلاً يذكر أحداً من الصحابة بسوء فاتهمه على الإسلام"( )0

ويسئل الإمام النسائى عن معاوية بن أبى سفيان - رضى الله عنهما - فيقول : "إنما الإسلام كدار لها باب، فباب الإسلام الصحابة، فمن آذى
الصحابة إنما أراد الإسلام، كمن نقر الباب - أى نقبه - إنما يريد دخول الدار، قال : فمن أراد معاوية فإنما أراد الصحابة( )0
وصدق عمر بن عبد العزيز "تلك دماء طهر الله منها سيوفنا فلا تخضب بها السنتنا"( ) أ0هـ0
والله تبـارك وتعالـى
أعلـى أعلـم

المطلـب الخامـس
سنـة الصحابـة  حجـة شرعيـة

إذا كان أعداء الإسلام يشككون فى عدالة الصحابة  فهم أيضاً يشككون فى سنتهم، وسنة الخلفاء الراشدين0
يقول محمد شحرور : "فإذا سألنى سائل الآن ألا يسعك ما وسع الصحابة فى فهم القرآن؟ فجوابى بكل جرأة ويقين هو : كلا لا يسعنى ما
وسعهم، لأن أرضيتى العلمية تختلف عن أرضيتهم، ومناهج البحث العلمى عندى تختلف عنهم، وأعيش فى عصر مختلف تماماً عن عصرهم
والتحديات التى أواجهها تختلف عن تحدياتهم"( )0

والحق أن هذا كلام من يرى الشريعة الإسلامية قرأناً وسنة غير صالحة لكل زمان ومكان، فكلامه هو وغيره من أعداء السنة
المطهرة فى سنة الصحابة لا قيمة له0
لأن سنة الصحابة وهى ما جاء عنهم من قول أو فعل أو تقرير إذا كان مما لا يقال من قبل الرأى، ومما لا مجال للاجتهاد فيه، فله حكم
المرفوع المسند تحسيناً للظن بهم، وجزم بذلك الرازى فى المحصول، وغير واحد من أئمة الأصول والحديث( )0

وإذا كانت سنتهم فى غير ذلك، فقد اختلف العلماء فى ذلك0
والراجح من هذا الخلاف( ) أن سنتهم كسنة الرسول يعمل بها، ويرجع إليها، وانتصر لهذا الرأى غير واحد من أئمة الأصول، منهم الشاطبى -
رحمه الله - فبعد أن ذكر الآيات والأحاديث الدالة على عدالتهم قال : "فيصح أن يطلق على الصحابة أنهم خير أمة بإطلاق، وأنهم وسط أى
عدول بإطلاق، وإذا كان كذلك فقولهم معتبر، وعملهم مقتدى به0

ثم استدل الشاطبى لما رجح بأدلة منها :
1- ما جاء فى الحديث من الأمر باتباعهم،وأن سنتهم فى طلب الاتباع كسنة النبى  لقوله  : "فعليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين
المهديين،تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ"( )
2- أن جمهور العلماء قدموا الصحابة عند ترجيح الأقاويل، فقد جعل طائفة قول أبى بكر وعمر حجة ودليلاً، وبعضهم عد قول الخلفاء الأربعة
دليلاً، وبعضهم يعد قول الصحابى على الإطلاق حجة ودليلاً، ولكل قول من هذه الأقوال متعلق من السنة وهذه الآراء - وإن ترجح عند العلماء
خلافها - ففيها تقوية تضاف إلى أمر كلى هو المعتمد فى المسألة، وذلك أن السلف والخلف من التابعين ومن بعدهم، يهابون مخالفة الصحابة،
ويتكثرون بموافقتهم، وأكثر ما تجد هذا المعنى فى علوم الخلاف الدائرة بين الأئمة المعتبرين، فتجدهم إذا عينوا مذاهبهم قوَّوها بذكر من ذهب
إليها من الصحابة، وما ذاك إلا لما اعتقدوا فى أنفسهم وفى مخالفيهم من تعظيمهم، وقوة مآخذهم دون غيرهم، وكبر شأنهم فى الشريعة،
وأنهم مما يجب متابعتهم وتقليدهم فضلاً عن النظر معهم فيما نظروا فيه0
ويؤيد هذا ما جاء عن السلف الصالح، من تزكيتهم والحث على متابعتهم0

فعن ابن مسعود  قال : "من كان مستناً فليستن( ) بأصحاب محمد  فإنهم كانوا أبر هذه الأمة قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، وأقومها
هدياً، وأحسنها حالاً، قوماً اختارهم الله لصحبة نبيه، وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم فى آثارهم، فإنهم كانوا على الهدى
المستقيم"( )0

وقال عمر بن عبد العزيز : "سن رسول الله ، وولاة الأمر بعده سنناً، الأخذ بها تصديق لكتاب الله، واستكمال لطاعة الله، وقوة
على دين الله، من عمل بها مهتدٍ، ومن استنصر بها منصور، ومن خالفها اتبع غير سبيل المؤمنين، وولاه الله ما تولى، وأصلاه جهنم، وساءت
مصيراً0
وفى رواية بعد قوله -وقوة على دين الله - ليس لأحد تغييرها ولا تبديلها، ولا النظر فى رأى خالفها، من اهتدى بها مهتد …
الحديث"( )0 فقال مالك فأعجبنى عزم عمر على ذلك"( ) والآثار فى هذا المعنى يكثر إيرادها، وقد استوعب كثيراً منها الإمام ابن قيم الجوزية
فى كتابه أعلام الموقعين عن رب العالمين( )0

ويقول الإمام الشاطبى فى موضع آخر من كتابه مبيناً أن بيان الصحابى حجة، قال: "وأما بيان الصحابة، فإن أجمعوا على ما
بينوه، فلا إشكال فى صحته أيضاً، كما أجمعوا على الغسل من التقاء الختانين المبين لقوله تعالى : وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا( ) وهذا الإجماع
حجة موجبة للعلم،ولا يعتد بخلاف من خالفهم،كما حكاه السرخسى( )،عن أبى حازم القاضى( )

وإن لم يجمعوا عليه فهل يكون بيانهم حجة أم لا؟ هذا فيه نظر وتفصيل0 ولكنهم يترجح الاعتماد عليهم فى البيان، من وجهين :
أحدهما : معرفتهم باللسان العربى، فإنهم عرب فصحاء، لم تتغير ألسنتهم، ولم تنزل عن رتبتها العليا فصاحتهم، فهم أعرف فى فهم الكتاب
والسنة من غيرهم، فإذا جاء عنهم قول أو عمل واقع موقع البيان صح اعتماده من هذه الجهة0
ثانيهما : مباشرتهم للوقائع والنوازل، وتنزيل الوحى بالكتاب والسنة، فهم أقعد فى فهم القرائن الحالية، وأعرف بأسباب التنزيل، ويدركون ما لا
يدركه غيرهم بسبب ذلك، والشاهد يرى ما لا يرى الغائب، فمتى جاء عنهم تقييد بعض المطلقات، أو تخصيص بعض العمومات، فالعمل عليه
صواب، وهذا إن لم ينقل عن أحد منهم خلاف فى المسألة، فإن خالف بعضهم فالمسالة اجتهادية"( )0

ويقول فى كتابه الاعتصام : "الصحابة هم المتقلدون لكلام النبوة، المهتدون للشريعة، الذين فهموا أمر دين الله بالتلقى من نبيه
مشافهة على علم، وبصيرة بمواطن التشريع، وقرائن الأحوال، بخلاف غيرهم : فإذا كل ما سنوه، فهو سنة، من غير نظير فيه، بخلاف
غيرهم، فإن فيه لأهل الاجتهاد مجالاً للنظر رداً وقبولاً"( )0

سنة الصحابة مصدراً للأحكام الدستورية :
يقول المستشار الدكتور على حريشة بعد أن رد اعتراضات المنكرين لحجية مذهب الصحابى( )، قال : وسنة الصحابة يمكن أن تكون مصدراً
للأحكام الدستورية : ولقد كان نظام الخلافة وليد اجتهاد الصحابة فضرورة البيعة – وهى مظهر رضا المسلمين – كانت عليها سنة الصحابة،
فلم يل أحدهم دون بيعة، ولم يكن الاستخلاف بالنسبة لمن استخلفوا إلا ترشيحاً، واستمرار الخلافة مدى حياة الخليفة … كان سنة للصحابة،
تحقق بها ميزات عجز عنها كل من النظام الجمهورى، والنظام الملكى على السواء، فقد وفرت الثبات الذى ينقص الأنظمة الجمهورية، ونفت
التوارث الذى يعيب الأنظمة الملكية0

وهكذا يتبين أن سنة الخلفاء كانت مصدراً لكثير من الأحكام الدستورية على غير ما يذهب إليه بعض "المجتهدين" "المحدثين"(
) أ0هـ0

والله تبــارك وتعالــى
أعلـى وأعلـم






المبحث الثانـى
طعنهـم فـى عدالـة أهـل السنـة

وفيه تمهيد وأربعة مطالب :
التمهيد ويتضمن :
موقف أهل الزيغ والهوى قديماً وحديثاً من أهل السنة، وأئمة المسلمين، وأساليبهم فى الطعن فى أهل السنة0
المطلب الأول : بيان المراد بأهل السنة0
المطلب الثانى : سلامة طريقة أهل السنة فى فهم الشريعة الإسلامية وبيان تحقيق النجاة لهم0
المطلب الثالث : شرف أصحاب الحديث0
المطلب الرابع : الجواب عن دعوى تقصير المحدثين فى نقدهم للمتن0


التمهيـد

ويتضمن موقف أهل الزيغ والهوى قديماً وحديثاً من أهل السنة، وأئمة المسلمين وأساليبهم فى الطعن فى أهل السنة0

ليس فى الدنيا مبتدع، ولا من ينسب إلى نوع من الإلحاد والبدع، إلا وهو يطعن فى أهل السنة من
المحدثين،والفقهاء،والمفسرين…إلخ وينظر إليهم بعين الحقارة ويسمونهم بأسماء هم أولى بها منهم، فالجهمية يسمونهم مشبهة ونابته،
والقدرية يسمونهم مجبرة، والزنادقة يسمونهم الحشوية، والمعتزلة يسمونهم زوامل أسفار، والرافضة يسمونهم نواصب … إلخ0 وكل ذلك
عصبية، وغياظ لأهل السنة، ولا اسم لهم إلا اسم واحد وهو "أصحاب السنة"0







 
قديم 06-03-08, 05:13 AM   رقم المشاركة : 12
حسينا
موقوف





حسينا غير متصل

حسينا is on a distinguished road


ولا يلتصق بهم ما لقبهم به أهل البدع كما لم يلتصق بالنبى  تسمية كفار مكة ساحراً، وشاعراً، ومجنوناً، ولم يكن اسمه عند الله، وعند
ملائكته، وعند انسه، وجنه، وسائر خلقه، إلا رسولاً نبياً برياً من العاهات كلها قال تعالى : انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ
سَبِيلًا( )0

فالوقيعة فى أهل السنة من علامات أهل البدع والزيغ قديماً وحديثاً0
فالشيعة الرافضة، والخوارج كفرو أهل السنة لأنهم ضبطوا آثار الصحابة، وقاسوا فروعهم على فتاوى الصحابة"( )0 فمن وثق الصحابة الذين
كفروهم وأخذ بسنتهم فهو مثلهم فى الكفر0
والمعتزلة ردوا فتاوى أهل السنة وقبحوها فى أسماع العامة، لينفروا الأمة من اتباع السنة وأهلها( )0

ويروى فى ذلك ابن قتيبة عن عمرو بن النضر0 قال : مررت بعمرو بن عبيد فجلست إليه، فذكر شيئاً، فقلت : ما هكذا يقول أصحابنا0 قال :
ومن أصحابك لا أبا لك؟
قلت : أيوب، وابن عون، ويونس، والتيمى0 فقال : أولئك أرجاس أنجاس أموات غير أحياء( )0 يقول ابن قتيبة معلقاً على ما
قاله عمرو بن عبيد : "وهؤلاء الأربعة الذين طعنهم، غرة أهل زمانهم فى العلم، والفقه، والاجتهاد فى العبادة، وطيب المطعم، وقد درجوا على
ما كان عليه مَنْ قبلهم من الصحابة والتابعين0

وهذا يدل على أن أولئك أيضاً عنده أرجاس أنجاس( )0
وذكر الشاطبى عن عمرو بن عبيد أنه قال : "ما كلام الحسن البصرى، وابن سيرين عندما تسمعون إلا خرقة حيضة ملقاة"( )0

وحكى الذهبى وابن كثير عن عمرو بن عبيد أنه روى له حديث ابن مسعود  مرفوعاً : "إن أحدكم يُجمع خلقُهُ فى بطنِ أُمه أربعين يوماً0 ثم
يكون فى ذلك علقةً مثلَ ذلكَ0 ثم يكون فى ذلك مُضغةً مثلَ ذلك0 ثم يُرسلُ المَلَكُ فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربعِ كلماتٍ : بكتب رزقِهِ، وأجلِهِ،
وعملِهِ، وشقىٌّ أو سعيدٌ … الحديث"( )0

فقال : "لو سمعت الأعمش يقول هذا لكذبته، ولو سمعت رسول الله  يقول هذا لرددته، ولو سمعت الله يقول هذا لقلت ليس على هذا أخذت
ميثاقنا"( )0

ويروى الحاكم عن الإمام أحمد بن حنبل –رحمه الله- أن أحمد بن الحسن( ) قال له يا أبا عبد الله ذكروا لابن أبى فتيلة بمكة أصحاب الحديث
فقال : أصحاب الحديث قوم سوء، فقام أبو عبد الله وهو ينفض ثوبه، فقال : زنديق! زنديق! زنديق! ودخل البيت( )0

وقال أحمد بن سنان القطان( ) : "ليس فى الدنيا مبتدع إلا وهو يبغض أهل الحديث، وإذا ابتدع الرجل نزع حلاوة الحديث من قلبه"( )0
يقول أبو عبد الله الحاكم : "وعلى هذا عهدنا فى أسفارنا، وأوطاننا، كل من ينسب إلى نوع من الإلحاد والبدع،لا ينظر إلى الطائفة
المنصورة،إلا بعين الحقارة،ويسميها الحشوية"( )

قلت:وما قاله الإمام الحاكم وغيره، هو ما عهدناه فى زماننا ممن ينتسب إلى نوع من الإلحاد والبدع0صاروا علىدرب أسلافهم يبغضون أهل
الحديث،وينظرون إليهم بعين الحقارة، ويسمونهم كما سماهم أهل الزيغ قديماً،حشوية،وزوامل أسفار…إلخ،ويطعنون فى عدالتهم0

فما قاله قديماً ابن أبى فتيلة فى أصحاب الحديث بأنهم قوم سوء، قاله فى زماننا نيازى عز الدين فى كتابيه "دين السلطان"( )، و"إنذار من
السماء" إذ يقول : "فإما أن نختار طريق آبائنا، وأجدادنا، ومشايخنا السالف، الذى قد عرفنا قبل قليل بالبرهان القاطع أننا ضللنا به، حين تركنا
منهج القرآن، وتركناه حتى نسج عليه العنكبوت خيوطه"( )0

ويقول : "أهل الحديث ورواته، كانت مهنتهم رواية الأحاديث وكتابتها، فهم يرتزقون مما يرددون ويكتبون0 وقالوا : إن ما كتبوه
بأيديهم (وحى آخر) من عند الله مثل القرآن، وقالوا : إن كتاب الله هو القرآن، وما معهم من الروايات والأقاويل كتاب الحكمة، ظناً وظلماً، فهم
قالوا عن أكاذبيهم إنها من عند الله، تماماً كما فعل أهل الكتاب من قبلهم فى تحريفاتهم0 وهم أيضاً يظنون أن الله سبحانه وتعالى لا يقصدهم
فى هذه الآية فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ( ) بينما هى تنطبق عليهم الانطباق التام( )0

ويقول أيضاً طاعناً فى عدالة وجهاد من أيد الله به الدين يوم المحنة، قال : "لذلك نجد الإمام أحمد بن حنبل الذى كان صديقاً حميماً
لرؤساء المحفل السرى الخفى، لم يرض أن يقول بخلق القرآن فجلده المأمون، لأنه وجد جلده أرحم من قتله على يد أصدقائه إن قال بعكس
تعليماتهم كلها"( )0
ونفس هذا الهراء نسبه إلى أبى حنيفة النعمان قائلاً : "أبو حنيفة النعمان كان صديقاً لأحبار اليهود الذين ادعوا أنهم أحبار الإسلام بإعلانهم
إسلامهم، أمثال : يعقوب بن إبراهيم أبو يوسف القاضى، الذى كان من أكبر أصحاب أبى حنيفة"( )0

وانظر إلى ما يقوله إسماعيل منصور متفوقاً على سلفه ابن أبى فتيلة فى طعنه فى رموز الإسلام القائلين بحجية السنة0
يقول : "ونحن نشفق على قائليه وهم أبو حنيفة، ومالك، والشافعى، وأحمد، وكذلك البخارى ومسلم - رحمهم الله جميعاً - لأنهم "عفا الله
عنهم" يستحقون الشفقة والدعاء لهم بالعفو، فإن الله تعالى لو أخذهم بما قالوا (يعنى حجية السنة) لكان أخذه تعالى لهم أليماً شديد لمخالفتهم
لكلامه تعالى (مخالفة صريحة) … فإنهم قد استدرجوا إلى مكيدة إبليس اللعين (بحسن نية منهم) فأخذوا بمنهج التبديل ذى الروايات والحكايات،
وتركوا كتاب الله تعالى وهم لا يشعرون، حتى أصلوا ظاهرة التحول عن كلام الله، إلى كلام غيره من البشر، وعلموا الناس أن يتركوا ظاهر
القرآن الكريم، إلى قول زيد، وعبيد، من الرواة، وهى خطة إبليس اللعين "عليه اللعنة إلى يوم الدين" وهذا واضح تمام الوضوح( )0

ويقول أيضاً واصفاً أهل السنة بالخرافة و … و …، وأن فى اتباعهم خسران الدنيا والآخرة قال : "يا أفراد عش الوطاويط (
الخفافيش) أخرجوا إلى النور (نور القرآن الكريم) ولا تظلوا حبيسى الظلام "ظلام الأقوال البشرية، والروايات القصصية" … يا أتباع مملكة
الوهم، وضحايا التأليف فى الدين، وصرعى الروايات والقصص والظنون والأوهام، أفيقوا من سباتكم الغطيط وانهضوا من رقادكم الطويل،
وطهروا أنفسكم وعقيدتكم بألا تساووا كلام البشر بكلام الله رب العالمين( )0
ماذا تقولون لنا يا أهل الخرافة من الروايات والحكايات والقصص والخزعبلات؟؟ماذا تقولون؟؟

إن من يتبعكم سيخسر الدنيا والآخرة لا محالة؟؟ سيخسر الدنيا؛ لأنه يعيش فى غير نصرة الله تعالى : "كما يعيش أكثر المسلمين الآن"، ويخسر
الآخرة لأنه سيموت على هذا الضلال المبين "يعنى الإيمان بحجية السنة" فلا يكون له فى الآخرة من خلاق( ) أ0هـ0

إن هذا الهراء ما كنت لاستحل حكايته إلا لبيان أن من أساليب الطعن فى حجية السنة من الزنادقة قديماً وحديثاً بغض أهل السنة،
والطعن فى عدالتهم، وفى علومهم، لتنفير الأمة من إتباع السنة وأهلها0
ولنتأمل كيف فاق زنادقة يومنا، زنادقة الأمس بالطعن فى أهل السنة0

إن طعون الحاقدين من المستشرقين، وأهل الزيغ فى أهل السنة كثيرة، وقد سبق ذكر بعضها والجواب عنها كزعمهم أن المحدثين، والفقهاء،
كانوا وضاعين ذهبوا إلى تأييد كل ذرأى يرونه صالحاً ومرغوباً فيه بحديث يرفعونه إلى النبى ( )0

وكزعمهم أن المحدثين والفقهاء فى العصر الأموى، والعباسى، كانوا فقهاء سلطة( ) ونكتفى هنا بالرد على دعواهم تقصير
المحدثين فى نقدهم للمتن، وذلك بعد بيان عدالة أهل السنة، وأنهم الجماعة، والجمهور، والسواد الأعظم، لهذه الأمة الإسلامية لسيرهم على
طريقة النبى  وأصحابه الأخيار -رضوان الله عليهم أجمعين- ولا عبرة بمن خالفهم من أهل الزيغ والهوى قديماً وحديثاً0 لخروجهم على
طريقة النبى  وتكفيرهم أصحابه، والطعن فى عدالة من قال بعدالتهم( ) وبيان ذلك فى الأربعة مطالب الآتية :


المطلـب الأول
بيـان المـراد بأهـل السنـة

عندما نتحدث عن عدالة أهل السنة فإننا لا نعنى بهم أهل الحديث فقط، وإنما مرادنا بهم الأصناف الثمانية الذين ذكرهم الإمام عبد
القادر البغدادى فى كتابه الفرق بين الفرق من : (1) علماء التوحيد (2) علماء الفقه (3) علماء الحديث (4) علماء النحو (5) علماء
القراءات والتفسير (6) الزهاد الصوفية0
الذين لم يخلط كل صنف منهم علمه بشئ من بدع أهل الأهواء الضالة، ومن مال منهم إلى شئ من الأهواء الضالة لم يكن من
أهل السنة، ولا كان لقوله حجية فى عمله0

7- والصنف السابع : المجاهدون فى سبيل الله، يحمون حمى المسلمين، ويذبون عن حريمهم وديارهم، ويظهرون فى ثغورهم مذاهب أهل
السنة والجماعة0
8- والصنف الثامن منهم : عامة البلدان الذين اعتقدوا تصويب علماء السنة، ورجعوا إليهم فى معالم دينهم، وقلدوهم فى فروع الحلال
والحرام، ولم يعتقدوا شيئاً من بدع أهل الأهواء الضالة0
قال الإمام عبد القادر البغدادى : فهؤلاء أصناف أهل السنة والجماعة، ومجموعهم أصحاب الدين القويم، والصراط المستقيم"( )
أ0هـ0

ويقول الدكتور ناصر الشيخ معرفاً بهم فى نص جامع قال : أهل السنة هم المتمسكون بما جاء فى الكتاب والسنة، والتزموا بما
فيهما قولاً وعملاً، وكان معتقدهم موافقاً لما جاء فيهما، وموافقاً لما كان عليه السلف الصالح من الصحابة الكرام ، والتابعين لهم بإحسان،
وأتباعهم من أئمة الدين ممن شهد لهم بالإمامة، وعرف عظم شأنهم فى الدين، وتلقى الناس كلامهم خلف عن سلف0

دون من رمى ببدعة، أو شهر بلقب غير مرضى، كالخوارج، والروافض، والقدرية، والمرجئة، والجبرية، والمعتزلة، والكرامية،
ونحو هؤلاء( ) أ0هـ0
المطلـب الثانـى
سلامة طريقة أهل السنة فى فهم الشريعة الإسلامية
وبيـان تحقـيق النجـاة لهـم

عن أبى هريرة  قال : قال رسول الله  : "تفرقت اليهود على إحدى وسبعين أو اثنتين وسبعين فرقة، والنصارى مثل ذلك،
وتفترق أمتى على ثلاث وسبعين فرقة"0

هذا الحديث أخرجه جماعة من الأئمة منهم أبو داود( )، والترمذى وصححه( )، وابن ماجة( )، والحاكم وصححه( )، وله شواهد عن جماعة
من الصحابة كأنس بن مالك، وجابر بن عبد الله، وأبى بن كعب، وأبى الدرداء، وعبد الله بن عمرو بن العاص، ومعاوية بن أبى سفيان
وغيرهم( )0
وجاء فى هذه الشواهد تفسير للفرقة الناجية بأسانيد تقام بها الحجة فى تصحيح هذا الحديث( )0 كما قال الحاكم فى المستدرك
ووافقه الذهبى( )0

من هذه الشواهد حديث معاوية وأنس - رضى الله عنهما - مرفوعاً : "إن أهل الكتاب تفرقوا فى دينهم على اثنتين وسبعين ملة، وتفترق هذه
الأمة على ثلاث وسبعين كلها فى النار إلا واحدة، وهى الجماعة( )0
وفى حديث عبد الله بن عمرو مرفوعاً : "إنى بنى إسرائيل تفرقت على اثنتين وسبعين ملة، وتفترق أمتى على ثلاث وسبعين كلهم
فى النار إلا ملة واحدة، قالوا : ومن هى يا رسول الله قال : "ما أنا عليه وأصحابى"( )0

يقول الإمام الشاطبى : "إن الجماعة - فى الحديث الشريف - هى الصحابة على الخصوص فإنهم الذين أقاموا عماد الدين،
وأرسوا أوتاده، وهم الذين لا يجتمعون على ضلالة أصلاً، وقد يمكن فيمن سواهم ذلك، … ولفظ الجماعة وتفسيره هنا مطابق للرواية الأخرى
فى قوله  : "ما أنا عليه وأصحابى"( )0

يقول الإمام عبد القادر البغدادى مبيناً صحة طريقة أهل السنة فى فهم الشريعة الإسلامية وتحقيق النجاة لهم بنص الحديث
السابق0 قال : "إن النبى  لما ذكر افتراق أمته بعده ثلاثاً وسبعين فرقة، وأخبر أن فرقة واحدة منها ناجية، سئل عن الفرقة الناجية، وعن
صفتها، فأشار إلى الذين هم، على ما عليه هو وأصحابه0

ولسنا نجد اليوم من فرق الأمة من هم على موافقة الصحابة  غير أهل السنة والجماعة، من مجتهدى الأمة وعلمائها أهل الشريعة العاملين
بها، دون الرافضة، والمعتزلة، والخوارج، والجهمية، وجميع أهل البدع والأهواء، فهم غير داخلين فى لفظ الجماعة قطعاً، لخروجهم على
طريقة النبى  وطريقة أصحابه 0

ثم كيف يكون الرافضة، والخوارج، والقدرية، وسائر أهل البدع موافقين للصحابة؟ وهم بأجمعهم لا يقبلون شيئاً مما روى عن
الصحابة فى أحكام الشريعة، لامتناعهم من قبول روايات الحديث، والسير، والمغازى، من أجل تكفيرهم للصحابة، ولأصحاب الحديث الذين هم
نقلة الأخبار والآثار، ورواة التواريخ والسير، ومن أجل تكفيرهم فقهاء الأمة الذين ضبطوا آثار الصحابة، وقاسوا فروعهم على فتاوى
الصحابة0
ولم يكن بحمد الله ومَنِّهِ فى الخوارج، ولا فى الروافض، ولا فى القدرية، ولا فى سائر أهل الأهواء الضالة إمام فى الفقه، ولا إمام فى رواية
الحديث، ولا إمام فى اللغة والنحو، ولا موثوق به فى نقل المغازى والسير والتواريخ، ولا إمام فى الوعظ والتذكير، ولا إمام فى التأويل
والتفسير، وإنما كان أئمة هذه العلوم، على الخصوص والعموم، من أهل السنة والجماعة( )0
وأهل الأهواء الضالة إذا ردوا الروايات الواردة عن الصحابة فى أحكامهم وسيرهم لم يصح اقتداؤهم بهم0

وبان من هذا أن المقتدين بالصحابة من يعمل بما قد صح بالرواية الصحيحة فى أحكامهم وسيرهم، وذلك سنة أهل السنة دون ذوى البدعة،
وصحح بصحة ما ذكرناه، صحة وسلامة طريقتهم فى فهم الشريعة الإسلامية، وتحقيق نجاتهم لحكم النبى  بنجاة المقتدين بأصحابه( )0
والحمد لله على ذلك( ) أ0هـ0

يقول الإمام الشاطبى – رحمه الله - : "فعلى هذا القول فمن خرج عن جماعة أهل السنة، فهم الذين شذوا، وهم نهبة الشيطان،
ويدخل فى هؤلاء جميع أهل البدع لأنهم مخالفون لما عليه النبى  وأصحابه0

فمن خرج عن جماعة أئمة العلماء المجتهدين من أهل السنة مات ميتة جاهلية، لأن جماعة الله العلماء، جعلهم الله حجة على العالمين، وهم
المعنيون بقوله  : "إن الله لن يجمع أمتى على ضلالة"( )0

فهم جماعة أهل الإسلام والسواد الأعظم، إذا أجمعوا على أمر فواجب على غيرهم من أهل الملل اتباعهم0 ومن شذ شذ إلى النار"( ) فإن قيل :
"فإن أهل المقالات المختلفة، يرى كل فريق منهم أن الحق فيما اعتقده، وأن مخالفه على ضلال وهوى، وكذلك أصحاب الحديث، فيما انتحلوا،
فمن أين علموا علماً يقيناً، أنهم على حق؟

قيل لهم : إن أهل المقالات، وإن اختلفوا، ورأى كل صنف منهم أن الحق فيما دعا إليه، فإنهم مجمعون لا يختلفون0على أن من
اعتصم بكتاب الله ، وتمسك بسنة رسول الله ، فقد استضاء بالنور، واستفتح باب الرشد، وطلب الحق من مظانه0 وليس يدفع أهل السنة عن
ذلك إلا ظالم لأنهم لا يردون شيئاً من أمر الدين، إلى استحسان، ولا إلى قياس ونظر، ولا إلى كتب الفلاسفة المتقدمين، ولا إلى أصحاب الكلام
المتأخرين( ) أ0هـ0

فإن قالوا : فإنه يلزمكم أن تقولوا إن نقلة الأخبار الشرعية التى قالها رسول الله  معصومون فى نقلها، وأن كل واحد منهم
معصوم فى نقله من تعمد الكذب0 قلنا لهم نعم0 هكذا نقول، وبهذا نقطع ونبت0 وكل عدل روى خبراً أن رسول الله  قاله فى الدين أو
فعله ، فذلك الراوى العدل معصوم من تعمد الكذب – مقطوع بذلك عند الله تعالى – لما تقدم من تعهد رب العزة بحفظ جميع الشريعة من كتاب
وسنة"( )0

وفى هذا رد على الدجالين الزاعمين، بأنهم فى ردهم للسنة المطهرة، والأحاديث الصحيحة لا يردون قول النبى  وإنما يردون قول رواة السنة
من الصحابة، والتابعين فمن بعدهم إلى أصحاب المصنفات الحديثية!!!0

المطلـب الثالـث
شـرف أصحـاب الحديـث

إذا كان الحديث بعد القرآن هو عمدة كل صنف من الأصناف السابقة من أهل السنة، وإذا كانت دواوين أصحاب الحديث، بعد القرآن دعائم
الإسلام التى قامت عليها صروحه0
فإن ذلك يدلنا على عظم مكانة المحدثين بين علماء أهل السنة جميعاً فهم بحق يصدق فيهم قول سفيان الثورى- رحمه الله - : "الملائكة
حراس السماء، وأصحاب الحديث حراس الأرض"( )0
ويقول يزيد بن زُريع( ) : "لكل دين فرسان، وفرسان هذا الدين أصحاب الأسانيد"( )0
ويقول أبو حاتم الرازى - رحمه الله - : "لم يكن فى أمة من الأمم منذ خلق الله آدم، أمناء يحفظون آثار الرسل إلا فى هذه الأمة0 فقال له
رجل : يا أبا حاتم ربما رووا حديثاً لا أصل له، ولا يصح؟ فقال : علماؤهم يعرفون الصحيح من السقيم، فروايتهم ذلك للمعرفة، ليتبين لمن
بعدهم أنهم ميزوا الآثار وحفظوها"( )0

وإذا تقرر أنه لا قيام للإسلام بدون سنة صدق فيهم ما قاله الإمام أبو داود الطيالسى( ) : "لولا هذه العصابة لا ندرس الإسلام"
يعنى أصحاب الحديث الذين يكتبون الآثار"( )0
ويقول الإمام الخطيب البغدادى : "وقد جعل الله تعالى أهله أركان الشريعة، وهدم بهم كل بدعة شنيعة، فهم أمناء الله من خليقته، والواسطة بين
النبى  وأمته، والمجتهدون فى حفظ ملته، … قبلوا شريعته قولاً وفعلاً، وحرسوا سنته حفظاً ونقلاً حتى ثبتوا بذلك أصلها، وكانوا أحق بها
وأهلها، وكم ملحد يروم أن يخلط بالشريعة ما ليس منها، والله تعالى يذب بأصحاب الحديث عنها، فهم الحفاظ لأركانها0

وكل فئة تتحيز إلى هوى ترجع إليه، أو تستحسن رأياً تعكف عليه، سوى أصحاب الحديث ‎، فإن الكتاب عدتهم، والسنة حجتهم، والرسول 
فئتهم، وإليه نسبتهم، لا يعرجون على الأهواء، ولا يلتفتون إلى الآراء، يقبل منهم ما رووا عن الرسول، إذا اختلف فى حديث، كان إليهم
الرجوع، فما حكموا به، فهو المقبول المسموع0

ومنهم كل عالم فقيه، وإمام رفيع نبيه، وزاهد فى قبيلة، ومخصوص بفضيلة، وقارئ متقن، وخطيب محسن وهم الجمهور العظيم، وسبيلهم
السبيل المستقيم، وكل مبتدع باعتقادهم يتظاهر، وعلى الإفصاح بغير مذهبهم لا يتجاسر،من كادهم قصمه الله،ومن عاندهم خذلهم الله، لا
يضرهم من خذلهم، ولا يفلح من اعتزلهم، المحتاط لدينه إلى إرشادهم فقير، وبصر الناظر بالسوء إليهم حسير، وإن الله على نصرهم لقدير"(
)0

ورحم الله هارون الرشيد القائل : "طلبت أربعة فوجدتها فى أربعة : طلبت الكذب فوجدته عند الرافضة، وطلبت الحق فوجدته مع أصحاب الحديث
وطلبت الكفر فوجدته فى الجهمية، وطلبت الكلام والشغب فوجدته مع المعتزلة"( ) أ0هـ0

رضى الله عن تلك الأنفس التى نهضت لحفظ الدين، ورضى الله عمن أحيا آثارهم من اللاحقين "آمين"0


المطلب الرابـع
الجواب عـن دعـوى تقصيـر المحدثين
فـى نقدهـم للمتـن

إن دعوى تقصير المحدثين فى نقدهم للمتن واعتمادهم على السند، أطلقها بعض المستشرقين( ) الحاقدين للنيل من ديننا، ومن
هذا العلم الشريف الذى خص الله به هذه الأمة على سائر الأمم، وهى دعوى باطلة تبناها من سار على هديهم من دعاة اللادينية( )، وتأثر بها
بعض المسلمين( )0
يقول الأستاذ الصديق بشير : "وسبب فساد هذا الزعم لو أحسنا الظن بقائليه من المستشرقين؛ أن المنهج النقدى للأخبار عند
الغربيين منصب على المتن وحده، ولم ينل السند عندهم كبير نصيب لأنهم لا يعولون عليه، وإن تكلموا عن السند فلا يتعدى بعض المفاهيم
النظرية التى ليس لها رصيد فى واقعهم النقدى وذلك مخالف للمنهج النقدى عند المسلمين فقد طبق عملياً بشكل واسع ومنقطع النظير، وهى
قفزة عريضة لم يصلها الأوربيون حتى اليوم، وأنى لهم ذلك وأخبارهم القديمة منقطعة الأسانيد قد يئسوا أن يصلوها( )0

ورحم الله ابن حزم إذ يقول : "نقل الثقة عن الثقة يبلغ به النبى  مع الاتصال، خص الله به المسلمين دون سائر الملل، وأما مع الإرسال
والإعضال، والطرق المشتملة على كذاب أو مجهول الحال، فكثير فى نقل اليهود والنصارى( )، وغيرهم من أهل الملل الأخرى وأهل البدع
والأهواء0

ويبدو تهافت دعوى تقصير المحدثين فى نقدهم للمتن بما اشترطه أصحاب الحديث لصحة الخبر، وبما وضعوه من علامات يعرف
بها وضع الخبر0
وكيف يهملون ضبط المتن وما قام علم الحديث دراية إلا لخدمة علم الحديث رواية!! وبتعبير آخر ما كانت علوم الحديث بأسرها إلا لضمان
ضبط المتن، والتأكد من صحة نسبته إلى النبى 0

ولا نبالغ إذا قلنا أن الشروط الخمسة التى وضعها علماء الحديث لصحة الخبر كلها شروط لضبط المتن، وما يبدو من ظاهر
الشروط لضبط السند هو فى حقيقة الأمر يتعلق بالمتن ظاهراً وباطناً0

فالشروط الثلاثة الأولى لصحة الخبر وهى اتصال السند، وعدالة الراوى، وضبط الراوى هى فى الظاهر شروط خاصة بضبط السند0 وفى
الحقيقة أن فقدان أى شرط منهم يخل بضبط المتن0
1- لأن عدم اتصال السند ينتج عنه أنواع من الحديث الضعيف : المنقطع، والمعضل، والمعلق، والمدلس، والمرسل، وكلها تخل
بصحة المتن0
2- وفقدان عدالة الراوى ينتج عنها من الحديث الضعيف المخل بضبط المتن0 الموضوع، والمتروك، والمنكر0
3- وفقدان ضبط الراوى ينتج عنه من أنواع الضعيف المخل بضبط المتن : المدرج، والمقلوب، والمضطرب، والمصحف، والمحرف،
وغير ذلك0

فماذا بقى من شروط صحة الخبر سوى شرطى عدم الشذوذ، وعدم العلة، وفقدهما ينتج عنهما الحديث الشاذ، والمعلل، وهما يخلان بضبط
المتن0
فأين من كل هذا ما يفترى كذباً على المحدثين من عدم اهتمامهم بنقد المتن عشر معشار السند؟!!
إن علماءنا لم يفرقوا هذا التفريق الظاهر بين نقدهم لسند الحديث، ونقدهم للمتن وليس أدل على ذلك ما قرروه من أنه لا تلازم
بين صحة السند وصحة المتن0
فصحة السند لا يلزم منها صحة المتن، إذ قد يكون شاذاً أو معللاً أو موضوعاً معناه باطلاً، كما أنه لا يلزم من ضعف السند، ضعف المتن إذ
يجئ بسند آخر صحيح0
ومن هنا قيدوا فى حكمهم على الحديث بالصحة أو بالحسن أو بالضعف بالإسناد دون متن الحديث فيقولون : إسناد صحيح دون حديث صحيح،
وإسناد حسن، أو إسناد ضعيف، دون حديث حسن، أو حديث ضعيف0

"والحاصل أنه لا تلازم بين الإسناد والمتن، إذ قد يصح السند أو يحسن لاستجماع شرائطهما، ولا يصح المتن لشذوذ أو علة وقد
لا يصح السند، ويصح المتن، من طرق أخرى"( )0
يقول الدكتور صبحى الصالح مؤكداً عدم تفرقة المحدثين بين السند والمتن فى حكمهم على الحديث : "على أننا لن نرتكب الحماقة التى لا يزال
المستشرقون، وتلامذتهم المخدوعون بعلمهم "الغزير" يرتكبونها كلما عرضوا للحديث النبوى، إذ يفصلون بين السند والمتن مثلما يفصل بين
خصمين لا يلتقيان أو ضرتين لا تجتمعان، فمقاييس المحدثين فى السند لا تفصل عن مقاييسهم فى المتن إلا على سبيل التوضيح والتبويب
والتقسيم0
وإلا فالغالب على السند الصحيح أن ينتهى بالمتن الصحيح، والغالب على المتن المعقول المنطقى الذى لا يخالف الحس أن يرد عن طريق سند
صحيح( )0

ولبيان أن المحدثين لم يفرقوا بين السند والمتن التفريق الظاهر فى مباحثهم، وأن كلامهم على السند هو كلام عن المتن ومن
أجله، نذكر بعض الأمثلة على ذلك :
1- منها زيادة الثقات فهى كما لا يخفى ترتبط بالمتن لأنها زيادة تطرأ عليه من راوٍ ثقة0 قال ابن حجر : "وزيادة راويهما – أى
الصحيح والحسن – مقبولة ما لم تقع منافيه لرواية من هو أوثق ممن لم يذكر تلك الزيادة، لأن الزيادة إما أن تكون لا تنافى بينها، وبين رواية
من لم يذكرها، فهذه تقبل مطلقاً، لأنها فى حكم الحديث المستقل الذى ينفرد به الثقة، ولا يرويه عن شيخه غيره0
وإما أن تكون منافية بحيث يلزم من قبولها، رد الرواية الأخرى فهذه التى يقع الترجيح بينها، وبين معارضها، فيقبل الراجح، ويرد
المرجوح"( )0 ومثل لذلك بحديث ابن مسعود  قال : سألت رسول الله  أى العمل أفضل؟ قال الصلاة لوقتها"( ) زاد الحسن ابن مكرم، وبندار
بن بشار فى روايتهما : فى أول وقتها، وصححها الحاكم( ) وغيره0 وهى مقبولة فهل الكلام على السند هنا إلا لضبط المتن وأجله0
2- ومنه "المصحف" وهو الذى وقع فيه تصحيف، ويكون فى الإسناد والمتن0 ومن الثانى حديث : "احتجر النبى  فى المسجد( )0
أى اتخذ حجرة، صحفة بعضهم بقوله : "احتجم" وهذا القسم من تصحيف اللفظ، وقد يكون فى المعنى كمن سمع خطيباً يروى حديث : "لا يدخل
الجنة قتات"( )، فبكى وقال : ما الذى أصنع، وليست لى حرفة سوى بيع القت؟ يعنى الذى يعلف الدواب"( )0
يقول الأستاذ الصديق بشير : "ولعل من أوسع المباحث المتعلقة بنقد المتن والتى تفوق فيها علم الحديث، على منهج النقد الغربى
للمضمون والمتن مبحث "تحرى النص، والمجئ باللفظ"0 وهذه كما يقول أسد رستم : "مأثرة أخرى من مآثر علماء الحديث فإنهم قالوا بالأمانة
فى نقل الحديث، وفرضوا وجوب تحرى النص لأجل الوقوف على اللفظ الأصلى، ومنهم من أبى أن يقوم اللحن أو أن يصلح الخطأ
واكتفى بإبداء رأيه على الهامش( )0
وأسد رستم يشير بذلك إلى ما اشترطه أرباب هذا الفن فى عدم جواز الرواية بالمعنى "إن لم يكن الراوى عالماً بالألفاظ ومدلولاتها ومقاصدها،
خبيراً بما يحيل معانيها، بصيراً بمقادير التفاوت بينها0
ففى هذه الحالة يتعين على الراوى الرواية باللفظ الذى سمعه، ولا تجوز له الرواية بالمعنى بلا خلاف"( )0
وهل كل ذلك إلا حفاظاً من المحدثين على سلامة المتن؟

وليس أدل على عناية المحدثين بنقد المتون من جعلهم من أمارة الحديث الموضوع، مخالفته للعقل، أو المشاهدة والحس، مع
عدم إمكان تأويله تأويلاً قريباً محتملاً، وأنهم كثيراً ما يردون الحديث لمخالفته للقرآن، أو السنة المشهورة الصحيحة، أو التاريخ المعروف مع
تعذر التوفيق"( )0

ومن نماذج سبر المحدثين المتن فى نقدهم للحديث خبر وضع الجزية عن يهود خيبر، وهو ما حكاه غير واحد من العلماء؛
كالحافظ السبكى( )، وابن كثير( )، والسخاوى( ) "أن بعض اليهود أظهروا كتاباً، وادعوا أنه كتاب رسول الله  بإسقاط الجزية عن أهل خيبر،
وفيه شهادة بعض الصحابة  وذكروا أن خط على  عليه0 وحمل الكتاب فى سنة سبع وأربعين وأربعمائة إلى رئيس الرؤساء أبى القاسم
على بن الحسن وزير القائم بأمر الله الخليفة العباسى، فعرضه رئيس الرؤساء، على الحافظ الخطيب البغدادى، فتأمله ثم قال : هذا مزور0
فقيل له : من أين لك هذا؟ قال : فيه شهادة معاوية، وهو إنما أسلم عام الفتح سنة ثمان من الهجرة، وفتح خيبر كان فى سنة
سبع، ولم يكن معاوية مسلماً فى ذلك الوقت، ولا حضر ما جرى فى خيبر، وفيه شهادة سعد بن معاذ، وهو قد مات فى سنة خمس، فى يوم
بنى قريظة، قبل فتح خيبر بسنتين، فاستحسن ذلك منه رئيس الرؤساء، واعتمده وأمضاه، ولم يجز اليهود على ما فى الكتاب لظهور تزويره
وبطلانه0

وقد سبق الحافظ الخطيب البغدادى إلى كشف كذب هذا الكتاب وتزويره : الإمام ابن جرير الطبرى، كما حكاه الحافظ ابن كثير فى
البداية والنهاية"( )0

وتعرض الحافظ ابن قيم الجوزية لهذا الكتاب المزور بأيدى اليهود فى كتابيه "أحكام أهل الذمة"( )، و"المنار المنيف فى الصحيح والضعيف"( )،
وبين كذبه وتزويره من عشرة وجوه، ثم قال وأحضر هذا الكتاب بين يدى شيخ الإسلام ابن تيمية، وحوله اليهود يزفونه ويجلُّونه، وقد غشى
بالحرير والديباج، فلما فتحه وتأمله بزق عليه وقال : هذا كذب من عدة أوجه0 وذكرها، فقاموا من عنده بالذل والصغار"( )0
بكل ما سبق تسقط دعوى تقصير المحدثين فى نقدهم للمتن أ0هـ0

والله تبــارك وتعالــى
أعلـى وأعلـم





الفصـــل الرابــــع

وسيلتهم فى الطعن فى الإسناد وعلوم الحديث

وتحته تمهيد ومبحثان :
التمهيد ويتضمن :
بيان أن الإسناد دليلنا على صحة الكتاب والسنة0
وهدف أعداء الإسلام من الطعن فـى الإسنـاد0
المبحث الأول : شبه الطاعنين فى الإسناد والرد عليها0
المبحث الثانى:أهمية الإسناد فى الدين،واختصاص الأمة الإسلامية به عن سائر الأمم

التمهيـد

ويتضمن بيان أن الإسناد دليلنا على صحة الكتاب والسنة، وهدف أعداء الإسلام من الطعن فى الإسناد0

الطعن والتشكيك فى الإسناد كان ولا يزال، هدفاً من أهداف أعداء الإسلام قديماً وحديثاً، للتشكيك فى الوحى الإلهى -قرآناً
وسنة-0
فالإسناد دليلنا على صحة كتاب ربنا ، وسنة نبينا ، فمن المعلوم أن لصحة أى قراءة من القرآن وقبولها؛ لابد أن يتوافر فيها ثلاثة شروط :
1- صحة إسنادها0
2- موافقتها للغة العربية ولـو بوجـه0
3- موافقتها للرسم العثمانى ولو احتمالاً0

وإذا اختل أى ركن من هذه الأركان كانت القراءة شاذة، ولا تعد قرآناً حتى ولو كانت من القراءات السبع وفى ذلك أنشد صاحب
الطيبة فقال :
وكـل مـا وافـق وجـه النحـو
وصـح إسنـاداً، هـو القــرآن

وحيثمــا يختـل ركـن أثبـت ***

***

*** وكان للرسم احتمـالاً يحـوى
فهـذه الثلاثــة الأركــان
شذوذه لو أنه فـى السبعـة( )

أليس فى هذا دليل على أن القرآن الكريم منقول بالإسناد أيضاً؛ كالحديث؟
نعم هناك فرق بين القرآن وبين الحديث فى عدد الرواة النقلة؛ فالقرآن منقول بالتواتر، والحديث منقول برواية رجال معدودين، ولكنهم ليسوا
مجاهيل بل هم رجال مشهورون، أحوالهم معلومة، وأسانيدهم محفوظة0

وهذا الفرق يقتضى التفاوت فى درجات اليقين والوثوق، لا فى نفس القبول والاعتبار( )"0
وإذا كان القرآن منقولاً بالرواية، فالطعن فى الإسناد طعن فى الدين، وإبطال للكتاب والسنة وهو ما صرح به (شاكر) -رأس
الزنادقة فى عصره- عندما سئل عن سر تعليمهم المتعلم فيهم أول ما يعلمونه الطعن فى الصحابة، وهم أول رجال السند قال : "إنا نريد الطعن
على الناقلة فإذا بطلت الناقلة أوشك أن نبطل المنقول"0

وصدق الإمام أبو زرعة الرازى -رحمه الله- : "... هؤلاء يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة، والجرح بهم أولى، وهم زنادقة(
)"0

ومن هنا كان أهل الإلحاد قديماً وحديثاً يحرصون على الطعن والتشكيك فى الإسناد الذى هو خصيصة فاضلة لهذه الأمة ولم يكن
هناك شئ أثقل عليهم من سماع الحديث وروايته بإسناد0
يدل على ما سبق ما رواه الحاكم فى معرفة علوم الحديث قال : "سمعت الشيخ أبا بكر أحمد ابن إسحاق الفقيه( ) وهو يناظر رجلاً، فقال الشيخ
: حدثنا فلان0 فقال له الرجل : دعنا من حدثنا إلى متى حدثنا0 فقال له الشيخ : قم يا كافر، ولا يحل لك أن تدخل دارى بعد هذا، ثم التفت إلينا
فقال : ما قلت قط لأحد لا تدخل دارى إلا لهذا"( )0

وروى الحاكم أيضاً عن أحمد بن سلام الفقيه قال : "ليس شئ أثقل على أهل الإلحاد ولا أبغض إليهم من سماع الحديث وروايته بإسناد( )"0
وتابع هؤلاء السلف خلفهم من المستشرقين ودعاة اللادينية، فذموا الإسناد، وذموا المحدثين لاهتمامهم به، وطعنوا فى بداية
استعمال الأسانيد فى الأحاديث النبوية، وزعموا أن الأسانيد مختلقة من قبل المحدثين، إلى غير ذلك من طعونهم التى نستعرضها ونجيب عليها
فى المبحث التالى :

المبحـث الأول
شبه الطاعنين فى الإسناد والرد عليها

ذهب بعض أعداء الإسلام من المستشرقين إلى التشكيك فى بداية استعمال الأسانيد فى الأحاديث النبوية0
فذهب "شاخت" إلى أن الفتنة المذكورة فى قول محمد بن سيرين "لم يكونوا يسألون عن الإسناد حتى وقعت الفتنة ..."( ) هى فتنة الخليفة
الأموى الوليد بن يزيد سنة 126هـ0

يقول شاخت : "ويروى عن التابعى ابن سيرين أن الناس لم يكونوا يسألون عن الإسناد حتى كانت الفتنة، وسوف نرى فيما بعد أن الفتنة التى
اندلعت بمقتل الخليفة الأموى الوليد بن يزيد سنة 126هـ، قبيل نهاية الحكم الأموى تتفق فى الزمن مع نهاية خير القرون التى سادت فى
أثنائها السنة النبوية، وحيث أن ابن سيرين توفى سنة (110هـ) فلنا أن نستنتج من ذلك أن هذه العبارة موضوعة عليه0 وعلى أية حال ليس
هنالك ما يدعوا إلى افتراض أن استعمال الإسناد بشكل منتظم قد حدث قبل بداية القرن الثانى للهجرة( )0

ويذهب مستشرق آخر وهو "روبسون" إلى أن الفتنة المقصودة فى كلام ابن سيرين هى فتنة عبد الله بن الزبير سنة (72هـ)
عندما أعلن نفسه خليفة، بحجة أن تاريخ هذه الفتنة يتوافق مع مولد ابن سيرين، ووجود كلمة الفتنة فى موطأ الإمام مالك التى تشير إلى فتنة
ابن الزبير"( )0
وهدفهم من ذلك كما صرح شاخت، التشكيك فى الجزء الأعظم من الأسانيد الموجودة فى كتب السنة المطهرة، وأنه قد اختلقها
المحدثون فى القرن الثانى الهجرى، بل وفى القرن الثالث أيضاً0
والنتيجة أن متون تلك الأسانيد مختلقة أيضاً، وتلك هى غايتهم من الطعن فى بداية استعمال الأسانيد فى الأحاديث النبوية0

ويذهب جولدتسيهر إلى أن أسانيد الأحاديث مخترعة من قبل المحدثين فيقول : "هناك بعض الناس لا يشعرون بأى تردد فى اختراع أسماء جديدة
يخدعون بها المستمعين السذج، وفى القرن الذى ألف فيه ابن عدى كتابه "الكامل فى معرفة الرجال" كان هنالك أبو عمرو لاحق بن الحسين،
يخترع أسماء يضعها فى أسانيده مثل : طغرال، وطربال، وكركدن، ويعزو إليهم أحاديث( )0
وهذا الذى قاله جولدتسيهر قاله غير واحد من المستشرقين( ) ودعاة اللادينية0

يقول عبد الجواد ياسين : "ولم يكن من العسير على من اختلق "المتن" أن يختلق "الإسناد" فكم من أحاديث مختلقة -باعتراف علماء الحديث-
تم تركيبها على أسانيد مقبولة عندما أصبحت الأسانيد المقبولة جواز مرور رسمى للحديث"( )0

ويقول أحمد حجازى السقا : "فالسلسلة الذهبية للحديث، وهى أعلى سلسلة فى السند قد عمل الضعفاء والمتروكون مثلها، والأسانيد الصحيحة،
قد عملوا مثلها"( )0
وتتابع دعاة اللادينية فـى ذم الإسنـاد، وذم المحدثيـن لاهتمامهـم بـه0
فوجدنا من يصف أهل الحديث بأنهم "عبيد الأسانيد"( ) و "أسرى الأسانيد"( )0
ووجدنا من يصف الإسناد بأنه نوع من التزمت( )0

ووجدنا إسماعيل منصور يقول : "إن هذا التعلق غير الطبيعى بالسند، والمبالغة فى الاعتداد به وربط الأحكام الشرعية به -
واعتباره بالدرجة الأولى- أساساً لصحة الحديث كل ذلك مجتمعاً قد أثمر افتراقاً كبيراً بين المسلمين، وصيرورتهم فرقاً وشيعاً وأحزاباً يعارض
بعضها بعضاً، وقاتل بعضها بعضاً، ويكيد بعضها لبعض على مر السنين( )0

ويقول طاعناً فى علوم الحديث كلها : "ما أقامه البعض من أهل هذا العلم من إنشاء ما يسمى بعلم الحديث، إنما هو بالحياد
المطلق، وَهْمٌ لا يثبت، وظن لا يستقيم"( )0

ويجاب على هذه الشبه بما يلى :
بادئ ذى بدء نحب أن نقول للطاعنين فى الإسناد، كلمة مهمة قالها العلامة السيد سليمان الندوى، وهو يتحدث عن تحقيق معنى
السنة وبيان الحاجة إليها0 قال تحت عنوان: (الرواية أمر ضرورى) : "لا مندوحة لعلم من العلوم، ولا لشأن من شؤون الدنيا عن النقل
والرواية؛ لأنه لا يمكن لكل إنسان أن يكون حاضراً فى كل الحوادث، فإذاً لا يتصور علم الوقائع للغائبين عنها إلا بطريق الرواية شفاهاً أو
تحريراً، وكذلك المولودون بعد تلك الحوادث لا يمكنهم العلم بها إلا بالرواية عمن قبلهم0
هذه تواريخ الأمم الغابرة والحاضرة، والمذاهب والأديان، ونظريات الحكماء والفلاسفة، وتجارب العلماء واختراعاتهم، هل وصلت إلينا إلا
بطريق النقل والرواية؟

فهل كان الدين الإسلامى بدعاً من الحوادث حتى لا تنقل أحكامه وأخباره بهذا الطريق؟ أم كان الواجب اتخاذ طريق آخر لنقل أقوال
الرسول  وأخباره غير الرواية؟!

لنفرض أن هؤلاء المنكرين علينا رواية الأحاديث -بالأسانيد- أصبحوا زعماء لمن كان على شاكلتهم، فهل هناك طريقة -غير
الرواية- لتبليغ استنباطهم، وتحقيقاتهم لأفراد جماعتهم البعيدين عن حلقات دروسهم، أو الذين سيولدون بعدهم( )؟!!
حرى بالمشككين فى الإسناد وعلوم الحديث الإمساك عن لغوهم0
وإلا فأيـن أسانيدهـم المتصلـة إلــى أممهــم البائــدة؟
بـل أيـن أخبارهـم الصحيحـة عـن أنبيائهـم وعظمائهـم؟
بل أين الضوابط التى تثبـت صحـة أخبارهـم فيمـا سبـق؟!

أما ما زعمه شاخت من حملة الفتنة المذكورة فى كلام محمد بن سيرين على فتنة مقتل الوليد بن يزيد سنة (126هـ) علماً بأن
وفاة ابن سيرين كانت سنة (110هـ) كما ذكر هو أيضاً0
فيقول رداً على ذلك الدكتور همام عبد الرحيم : "ولو أنصف شاخت وفكر بنزاهة وموضوعية لما قال إن ابن سيرين يتحدث عن فتنة وقعت بعد
وفاته بست عشرة سنة!( )0
وزعمه بأن ذلك الخبر مكذوب على ابن سيرين فهو ما لا دليل عليه، ويكذبه إخراج الإمام مسلم له فى مقدمة صحيحه( )، والترمذى( )،
والدارمى( ) 0

أما ما زعمه "روبسون" من حملة الفتنة المذكورة فى كلام ابن سيرين على فتنة ابن الزبير، فهو زعم بعيد؛ لأن عبارة ابن
سيرين تقول : "لم يكونوا يسألون عن الإسناد"، ولم يقل : "كنا لا نسأل عن الإسناد" وهذه العبارة التى استخدمها تفيد؛ أنه يتكلم عن شيوخه من
الصحابة ( )0
ويقول الدكتور أكرم ضياء العمرى : "ما استند إليه روبسون غير صحيح فإن تقدير عمر محمد بن سيرين للإفادة منه فى تفسير
كلامه لا يمكن الاعتماد عليه فابن سيرين قد يتكلم عن أحداث بعيدة عن عصره معتمداً على دراسته لتاريخ الحديث الذى عنى به كثيراً"( )0

والذى يؤكد هذا الرأى قول عبد الله بن عباس وهو من صغار الصحابة( )، لما جاءه بشير بن كعب العدوى فجعل يحدث ويقول : "قال رسول الله
 فجعل ابن عباس لا يأذن لحديثه ولا ينظر إليه فقال : يا ابن عباس مالى لا أراك تسمع لحديثى، أحدثك عن رسول الله  ولا تسمع! فقال ابن
عباس : إنا كنا مرة إذا سمعنا رجلاً يقول قال : رسول الله  ابتدرته أبصارنا وأصغينا إليه بآذاننا، فلما ركب الناس الصعب والذلول، لم نأخذ من
الناس إلا ما نعرف"( )0
فكأنه  أراد أن يقول : إنه لما دخل فى هذا الأمر من هم ليسوا من أهله، صار الإعراض عن سماعهم، والنظر فيه أولى، فكان بذلك الإذن فى
التحرج من قبول مطلق الأخبار مجردة من أسانيدها"( )0

ثم إن الفتنة إذا أطلقت فهى الفتنة الكبرى التى عصفت بالخلافة الراشدة0 وإذا قيل: الفتنة بالتعريف (بأل) التى هى للعهد،فهى الفتنة المعهودة
التى لا يجهلها أحد( ) أ0هـ0

والحق –الذى لا مراء فيه- أن اشتراط السند، والبحث عن الإسناد، بدأ مع زمن النبوة المباركة0
وفى ذلك يقول الحاكم : "طلب الإسناد العالى سنة صحيحة" ثم ذكر حديث أنس بن مالك فى مجئ الأعرابى( ) وقوله : "يا محمد أتانا رسولك
فزعم كذا … الحديث"( )0 فقد استنبط الحاكم من هذا الحديث أصل طلب الإسناد والعلو فيه؛ لأنه سمع أركان الإسلام من رسول الله ، وآمن
وصدق، ولكنه أراد أن يسمع ذلك من رسول الله  مشافهة( )0

ولو كان طلب الإسناد والعلو فيه غير مستحب لأنكر عليه المصطفى  سؤاله إياه عما أخبره رسوله عنه ولأمره بالاقتصار على ما أخبره
الرسول عنه( )0
واستمر طلب الإسناد والبحث عنه مع زمان الصحابة، ودليل ذلك سؤال عمر  أبا موسى الأشعرى -وغيره( )- أن يأتوا بشاهد على صحة ما
رووا من الأحاديث0 وهذا طلب أشد من عموم السند، إذ هو طلب لإثبات نسبة الكلام إلى النبى ، وكلام ابن سيرين دليل لهذا التقدم فى طلب
الإسناد( )0

وإذا كانت بداية الإسناد متواضعة فى حياة النبى ، وفى حياة الصحابة للبعد عن الكذب، إلى زمن الفتنة، فإن هذا العلم اشتد الأخذ به بعد الفتنة،
حتى ما قارب القرن الأول نهايته، حتى بلغ علم الإسناد مبلغاً عظيماً( ) أ0هـ0

أما ما زعمه بعض دعاة الفتنة، وأدعياء العلم من المستشرقين، ومن قال بقولهم، من أن الأسانيد اخترعت من قبل الضعفاء
والكذابين، وركبت على المتون المختلقة، وإيهامهم بأن ذلك التبس على المحدثين0

فنقول نعم : اخترعت الأسانيد وركبت عليها المتون المختلفة ولكن هذا لم يخفى على جهابذة المحدثين وأئمة الجرح والتعديل-فلقد
تنبهوا إلى هذا قبل أن يدعى أدعياء العلم بأكثر من ألف سنة، ولم يخف عليهم ذلك، كما يحاول الإيهام بذلك أهل الزيغ والهوى0

ولذلك نجد علماء الحديث كما سبق وأن قلنا-يقررون عدم التلازم بين صحة السند وصحة المتن، وينبهون على الكذابين
المختلقين للأسانيد0
وفى ذلك يقول ابن الجوزى (ت 597هـ) وهو يبين أصناف الوضاعين0

القسم الرابع : قوم استجازوا وضع الأسانيد لكل كلام حسن، ومن هؤلاء محمد بن سعيد( ) القائل : "لا بأس إذا كان كلاماً حسناً أن نضع له
إسناداً"( )0
وفى ذلك أيضاً يقول ابن عراق فى كتابه( ) (تنزيه الشريعة) وهو يبين أصناف الوضاعين0

الصنف السادس : "قوم حملهم الشره ومحبة الظهور على الوضع، فجعل بعضهم لذى الإسناد الضعيف إسناداً صحيحاً مشهوراً، وجعل بعضهم
للحديث إسناداً غير إسناده المشهور ليستغرب ويطلب0

قال الحاكم أبو عبد الله : ومن هؤلاء إبراهيم بن اليسع، وهو ابن أبى دحيه كان يحدث عن جعفر الصادق، وهشام بن عروة، فيركب حديث هذا،
على حديث ذاك، لتستغرب تلك الأحاديث بتلك الأسانيد، قال : ومنهم حماد بن عمرو النصيبى، وبهلول بن عبيد، وأصرم بن حوشب0
قال الحافظ ابن حجر : وهذا داخل فى قسم المقلوب، ... وقال الأستاذ الإسفرايينى : "إن : من قلب الإسناد ليستغرب حديثه، ويرغب فيه، يصير
دجالاً كذاباً تسقط به جميع أحاديثه، وإن رواها على وجهها"( ) 0
وفى حديث:"إن الله  يتجلى للخلائق يوم القيامة عامة، ويتجلى لك خاصة يا أبا بكر"
يقول الحافظ الخطيب : "لا أصل له وضعه محمـد بن عبـد سنـداً، ومتنـاً"( )0

وكذلك تنبه جهابذة المحدثين إلى الأسانيد العائلية وانتقدوها كثيراً، ولم يغفلوا عنها، كما زعم "روبسون" وغيره، بل قبلوا منها ما يستحق
القبول، ورفضوا منها ما يستحق الترك والرفض، وكانوا منصفين فى حكمهم، فأعطوا كل ذى حق حقه، وأصَّلوا فى ذلك علماً يعرف بـ "رواية
الآباء عن الأبناء وعكسه"( )0

فمن أمثلة ما قبلوه على الراجح : سند عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، وبهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده( )0

ومن أمثلة ما ردوه : سند كثير بن عبد الله بن عمرو، عن أبيه، عن جده( )، وسند موسى بن مطير، عن أبيه( )، وغيرهم كثير ممن امتلئت
بهم كتب المجروحين والمتروكين، مما يبين أن علماء الحديث لم يغفلوا عنهم كما يزعم دعاة الفتنة وأدعياء العلم0


المبحث الثانـى
أهميـة الإسنـاد فى الديـن واختصـاص
الأمة الإسلامية به عن سائر الأمم

الإسناد خصيصة فاضلة من خصائص الأمة الإسلامية، لم يؤتها أحد من الأمم قبلها، وبه حفظ الدين من عبث العابثين، فكان
الدعائم التى حفظ بها الدين قرآناً وسنة، ولذلك كان جزءاً من الدين، فهو الطرق التى أوصلت لنا الأخبار والآثار، صحيحة لا تشوبها شائبة0
وقد تكاثرت فى بيان شأن الإسناد، وأهميته، وفضله، كلمات العلماء، وتعددت وتنوعت أقوالهم فى تعظيم أمره0

ومن خيرها وأدقها تشخيصاً لموقع الإسناد كلمة الإمام عبد الله بن المبارك  قال: "الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء، فإذا
قيل له من حدثك؟ بقى( ) أى بقى حيران ساكتاً0 وقال أيضاً : "بيننا وبين القوم –أى المبتدعة والكذبة- القوائم يعنى الإسناد"( )0
وقال سفيان الثورى : "الإسناد سلاح المؤمن، فإذا لم يكن معه سلاح فبأى شئ يقاتل؟"( )0
وقال الإمام الشافعى : "مثل الذى يطلب الحديث بلا سند كمثل حاطب ليل"( ) وسبق قول ابن حزم : "نقل الثقة عن الثقة يبلغ به النبى  مع
الاتصال خص الله به المسلمين دون سائر الملل، أما مع الإرسال والإعضال … والنقل بالطريق المشتملة على كذاب، أو مجهول الحال فكثير
من نقل اليهود والنصارى…" ( )0
لكل ما سبق اهتم المسلمون بالإسناد "وقد نشأ عن اهتمامهم به ووضوح أهميته فى تلقى المنقول : أن اشترط "الإسناد" فى تلقى
سائر العلوم الإسلامية، كالتفسير، والفقه، والتاريخ، والرجال، والأنساب، واللغة، والنحو، والأدب، والشعر، والحكايات، حتى دخل فى سياق
الكلمة الواحدة من أخبار الحمقى والمغفلين، وأخبار المضحكين ...، كما دخل فى سياق الكلمة الواحدة فى التفسير، كما تراه فى "تفسير الإمام
ابن جرير الطبرى" وكما تراه فى كتاب الخطيب البغدادى : "التطفيل وحكايات الطُّفَيليين" و "البخلاء" وكتب ابن الجوزى : "أخبار الحمقى
والمغفلين"، و"أخبار الأذكياء"، و"ذم الهوى"، و"اللُّقَط فى حكايات الصالحين"، فتراه فى هذه الكتب يسوق سنداً طوله ثلاثة أسطر أو أكثر، من
أجل نقل جملة صغيرة أو كلمة واحدة عن قائلها"( )0
"ومن علامات الاهتمام بالإسناد، وأماراته تلك التصانيف الضخمة التى ألفت فى الرجال، فنشأ بذلك علم مستقل من علوم الحديث،
وهو علم الرجال، وهذا علم واسع تتقطع فيه الأنفاس، فمنه كتب معرفة الصحابة، وكتب الطبقات، وكتب الجرح والتعديل، وكتب الأسماء والكنى
والألقاب، وكتب المؤتلف والمختلف، وكتب المتفق والمفترق والمتشابه، وكتب الوفيات، وهى فى مجموعها تدل دلالة عظيمة على الجهد
المبذول فى نقد الأخبار، وليس الأمر كما يتوهم الكثيرون ممن لا علم لهم بهذا الأمر"( ) أ0هـ0

ومن علامات الاهتمام بالإسناد "علم الجرح والتعديل" وهو كسائر علوم الحديث مما تفردت به الأمة الإسلامية عن سائر الأمم،
وتميزت بتأسيسه، وإنشائه، والتفنن فيه، وقد أداها إلى إبداعه : الحفاظ على سنة المصطفى  من التقول والدخيل، والمكافحة للدجالين
والمشعوذين والخراصين، فكان هو من أكبر النتائج النافعة التى تولدت عن تلك الحملة الضارة على السنة المطهرة0
قَصـدتَ مَسَاتِى فاجتلبت مَسَرَّتِى *** وقد يُحِسنُ الإِنسانُ من حيث لا يَدِرى

فنشأ هذا العلم من عهد النبوة المباركة برعماً لطيفاً، ثم نما وازداد، وقوى واشتد فى القرن الأول، والثانى، وامتد واتسع وبدأ يتكامل فى القرن
الثالث، والرابع، وهكذا حتى اكتمل فى القرن التاسع من الهجرة الشريفة، فكثرت فيه الكتب، وتنوعت فيه المؤلفات، ثم درست فيه فى عصرنا
بعض المسائل والجزئيات والشخصيات دراسة خاصة، فقارب النُّضجَ والاحتراق، وإن كان هذا العلم ليس له غاية ولا نهاية0

وبهذا العلم العظيم الذى لم تكن فيه محاباة لأحد مهما كان لا أباً، ولا ابناً،، ولا أخاً، ولا صديقاً، ولا أستاذاً، تمكن السلف والخلف
من كشف العلل فى كل علم منقول حديثاً نبوياً، أو كلاماً عادياً، أو شعراً أو نثراً أدبياً، أو تاريخاً شخصياً أو سياسياً ...، فكان هذا العلم مجهراً
صادقاً، ونظارة صافية، تعزل للناظر بها : الصحيح عن القريح، وتميز له الزين من الشين، والصدق من الكذب، وتزن له المحامد والمثالب،
بالقسطاس المستقيم( ) أ0هـ0

وإذا كانوا قديماً قالوا : الحق ما شهد به الأعداء فلننظر إلى ما قاله المستشرق "شبرنجر" فى مقدمته الإنجليزية على كتاب
الإصابة فى أحوال الصحابة لابن حجر، قال : "لم تكن فيما مضى أمة من الأمم السالفة، كما أنه لا يوجد الآن أمة من الأمم المعاصرة، أتت فى
علم أسماء الرجال بمثل ما جاء به المسلمون فى هذا العلم العظيم الخطر، الذى يتناول أحوال خمسمائة ألف رجل وشئونهم"( ) أ0هـ0

ويقول الأستاذ محمد أسد عن علوم الحديث : "إنه علم تام الفروع على أشد ما يمكن أن يكون من الدقة، غايته الوحيدة البحث فى
معانى أحاديث الرسول ، وشكلها وطريقة روايتها( ) أ0هـ0
والله تبــارك وتعالــى
أعلـى وأعلـم






الفصـــل الخامــــس

وسيلتهم فى الطعن والتشكيك فى كتب السنة المطهرة

وتحته مبحثان :
المبحث الأول : أساليب أعداء السنة فى الطعن فى المصادر الحديثية0
المبحث الثانى : الجواب عن زعم أعداء السنة أن استدراكات الأئمة على الصحيحين دليل على عدم صحتها0

المبحـث الأول
أساليب أعداء السنة فى الطعن فى المصادر الحديثية

من وسائل أعداء السنة -أعداء الإسلام- فى الطعن فى حجية السنة المطهرة طعنهم فى المصنفات الحديثية، وأساليبهم فى ذلك
كثيرة ومكررة فكما طعنوا فى عدالة الصحابة عموماً وخصوا بالطعن رموزهم من الخلفاء الراشدين، وأكثرهم رواية أبو هريرة  وطعنوا فى
عدالة أئمة المسلمين من الفقهاء والمحدثين وطعنوا فى رموزهم، كابن شهاب الزهرى أشهر راوى فى التابعين وأكثرهم حديثاً( )، كما طعنوا
فى الأئمة الأربعة وغيرهم من حفاظ الإسلام وأئمة الدين، إذ بفقدان الثقة بهم تفقد بغيرهم من باب أولى0 وهكذا هم هنا يسلكون نفس الأسلوب
فى طعنهم فى كتب السنة :
1- فتارة يوجهون سهامهم المسمومة إلى كتب السنة عموماً طعناً وسخرية0

يقول إسماعيل منصور : "يجب أن تعرف الأمة فى جميع بقاع الأرض بحقيقة كتب الحديث والسنة عند جميع فرق
المسلمين وهى أنها أقوال ظنية منسوبة إلى رواة ينسبونها بدورهم إلى رسول الله وليست هى أقواله  بالضرورة"( )0
ويسخرون من كتب السنة المطهرة بوصفها بـ "كتب صفراء"( )، و"طراش دينى"( )، و"زبالة"( ) 0

2- وتارة يشككون فى كتب الأصول الستة، وفى كتب السنن، والمسانيد، والمعاجم، والمصنفات، وغير ذلك بحجة أن فى تلك
المصنفات الحديثية الصحيح، والحسن، والضعيف، والمنكر والمتروك … ( )0
هكذا يطلقون الكلام والحكم على عوانه إيهاماً للقارئ بأن ذلك موجود فى المصنفات الحديثية بدون تمييز أو حكم للأئمة عليها0

3- وتارة يشككون فى أصح المصنفات الحديثية، ويركزون هجومهم عليها إذ بسقوطها واهتزاز الثقة بها تهتز الثقة ببقية كتب السنة
من باب أولى0 وبذلك يصرحون0

قال عبد الجواد ياسين : "ولأن البخارى ومسلم يجبان ما دونهما من الكتب فى مفهوم أهل السنة فسوف نحاول التركيز على
مروياتهما فى هذا الصدد"( ) 0

وهو ما قاله محمود أبو ريه وهو يتكلم عن مسند أحمد ظعناً فيه قال : "على أننا قد رأينا أن نتكلم عن مسند أحمد الذى هو
أشهرها لنبين للمسلمين حقيقته، ونكشف عن درجته بين كتب الحديث ليقاس عليها درجة سائر المسانيد ويغنينا ذلك عن الكلام فى غيره"( ) 0

ويهمنا هنا من الوسائل السابقة فى طعنهم فى كتب الحديث ما يحرصون عليه دائماً وأبداً من التشكيك والطعن فى أصح الكتب بعد
كتاب الله  صحيحى البخارى ومسلم، ولا يخرج طعنهم فيهما عن مسلكين :
أولهما : استدلالهم على عدم صحتهما بأحاديث تخالف فى فكرهم المريض ظاهر القرآن، أو العقل، أو العلم، أو كما يزعمون تطعن فى سيرة
الرسول  أو توافق ما فى التوراة والإنجيل مما يدل فى نظرهم أنها إسرائيليات( ) 0 وغير ذلك من القواعد التى سلكوها للحكم على الحديث
بالصحة وسبق بيان بطلانها( ) وسيأتى فى الباب الثالث نماذج من هذه الأحاديث والرد عليها0
ثانيهما : استدلالهم باستدراكات الأئمة على الصحيحين بأنها دليل على عدم صحتهما0

يقول جولدتسهير : "إنه من الخطأ اعتقاد أن مكانة هذين الكتابين مردها لعدم التشكيك فى أحاديثهما أو نتيجة لتحقيق علمى0 وسلطان هذين
الكتابين يرجع لأساس شعبى لا صلة له بالتدقيق الحر للنصوص، وهذا الأساس هو إجماع الأمة، وتلقى الأمة لهما بالقبول يرفعهما إلى أعلى
المراتب، وبالرغم من أن نقد هذين الكتابين غير لائق وغير مسموح به، وبرغم التقدير العام للصحيحين فى الإسلام صنف الدارقطنى (ت
385هـ) كتابه "الاستدراكات والتتبع" فى تصنيف مائتى حديث مشتركة بينهما"( ) أ0هـ0

وهذه الاستدراكات من بعض الأئمة على الصحيحين اتكأ عليها جولدتسيهر، وغيره وهم يطعنون فى الصحيحين ومكانتهما، ولا
حجة لهم فى ذلك، لما يلى فى المبحث الثانى0


المبحـث الثانـى
الجواب عن زعم أعداء السنة أن استدراكات الأئمة
على الصحيحين دليل على عدم صحتهما

إن صحيحى البخارى ومسلم لم يؤخذا قضية مسلمة أبعدت عنهما بحث النقاد وتوثيقهم لهما، وإنما الذى حدث هو العكس فقد درس الأئمة كلاً
من الكتابين سنداً ومتناً، وعرضوهما على أدق المقاييس النقدية الصحيحة التى التزمها صاحبا الصحيحين فى كتابيهما، فنظر الأئمة فيما
اشترطه كل منهما هل وفىَّ به أم أخلا؟

فكانت النتيجة أن "استدرك جماعة من الحفاظ على البخارى ومسلم عدة أحاديث رأوا أنهما أخلا فيهما بشرطهما، وأنهما لا تبلغ فى صحتها
مبلغ ما غلب عليهما إخراجه، وتكلموا فى هذه الأحاديث من جهة أسانيدها، ومن جهة متونها، ولا يصل استدراكهم أو تكلمهم فى هذه الأحاديث
إلى حد النزول بها إلى درجة الوضع، بل ولا حتى إلى درجة الضعف الذى لا يحتمل0 غاية ما هناك أنهم رأوا قصورها عن درجة ما دأب
عليه الشيخان وما التزماه من إخراج أصح الصحيح"( )0
يدل على ذلك ما قاله الحافظ العقيلى : "لما صنف البخارى كتاب الصحيح عرضه على ابن المدينى، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين وغيرهم؛
فاستحسنوه، وشهدوا له بالصحة، إلا أربعة أحاديث0 قال العقيلى : والقول فيها قول البخارى وهى صحيحة( )"0

قال الإمام النووى : "قد استدرك جماعة على البخارى ومسلم أحاديث أخلا بشرطهما فيها ونزلت عن درجة ما التزماه، ... وقد
ألف الإمام الحافظ الدارقطنى فى بيان ذلك كتابه المسمى بالاستدراكات والتتبع، وذلك فى مائتى حديث مما فى الكتابين، ولأبى مسعود الدمشقى
أيضاً عليهما استدراك، ولأبى الغسانى الجيانى فى كتابه تقييد المهمل فى جزء العلل منه، استدراك أكثره على الرواة عنهما، وفيه ما يلزمهما،
وقد أجيب عن كل ذلك أو أكثره( )"0
وإذا كان الإمام النووى فى شرحه على مسلم دفع ما أورد على الإمام مسلم، فقد جاء بعده الإمام الحافظ ابن حجر وتتبع
المواضع المنتقدة على البخارى تفصيلاً فأجاد فى ذلك فى مقدمته "هدى السارى" مقدمة فتح البارى0

والتى يقول العلماء فى شأنها : أنها لو كتبت بماء الذهب ما استوفيت حقها0 ففيها فضلاً عن الرد على الطعون التى وجهت إلى صحيح
البخارى، مجموعة من الفصول الهامة تتعلق بدراسة الصحيح، وصاحبه، وتراجمه، ومناسباته وغير ذلك من المباحث الهامة المتعلقة
بالصحيح0
وقد مكث ابن حجر فى كتابتها أربع سنوات تقريباً، فهدى بها فعلاً كل من يريد أن يدرس صحيح الإمام البخارى0 ويعرف مكانته
بين كتب السنة حيث هو على رأسها0

والإمام ابن حجر فى هدى السارى لم يدافع عن صحيح الإمام البخارى فقط0 وإنما دافع عن الصحيحين معاً إجمالاً فقال :
"والجواب عنه على سبيل الإجمال أن نقول : لا ريب فى تقديم البخارى ومسلم على أهل عصرهما، ومن بعده من أئمة هذا الفن فى معرفة
الصحيح والمعلل؛ فإنهم لا يختلفون فى أن على بن المدينى كان أعلم أقرانه بعلل الحديث وعنه أخذ البخارى ذلك حتى كان يقول : ما
استصغرت نفسى عند أحد إلا عند على بن المدينى، ومع ذلك فكان على بن المدينى إذا بلغه ذلك عن البخارى يقول : دعوا قوله فإنه ما رأى
مثل نفسه، وكان محمد بن يحيى الذهلى أعلم أهل عصره بعلل حديث الزهرى وقد استفاد منه ذلك الشيخان جميعاً0 وروى الفربرى عن
البخارى قال : "ما أدخلت فى الصحيح حديثاً إلا بعد أن استخرت الله تعالى وتيقنت صحته0
وقال مكى بن عبد الله سمعت مسلم بن الحجاج يقول : عرضت كتابى هذا على أبى زرعة الرازى فكل ما أشار أن له عله تركته0

فإذا عرف أنهما لا يخرجان من الحديث إلا ما لا علة له، أو له علة إلا أنها غير مؤثرة عندهما، فبتقدير توجيه كلام من انتقد عليهما يكون
قوله معارضاً لتصحيحهما، ولا ريب فى تقديمهما فى ذلك على غيرهما فيندفع الاعتراض من حيث الجملة( )0
ثم ذكر الحافظ -رحمه الله- المواضع المنتقدة وأجاب عنها من حيث التفصيل وأجاد فى ذلك( )0 وظهر له أن أكثر المواضع المنتقدة الجواب
فيها قوى، وأن النادر اليسير هو ما تكلف فيه الجواب( )0

ومن هنا قال الأستاذ الدكتور أبو شهبة -رحمه الله - : "ولعل من هذه الأحاديث التى وقع فيها التكلف فى الجواب والحق فيها مع الناقد "
المنصف" حديث "شَرِيْكُ بنُ أبى نَمِر عن أنس فى الإسراء" وهو حديث طويل، فقد خالف فيه شريك أصحاب أنس فى إسناده ومتنه بالتقديم
والتأخير، وزيادته المنكرة وأشد أوهامه قوله –شريك- : "إن الإسراء كان قبل أن يوحى إليه"( )، وقد أنكرها الخطابى، وابن حزم، وعبد الحق،
والقاضى عياض، والنووى وغيرهم، واعتبروا ذلك غلطاً من شريك، وشريك ليس بمتهم بالكذب، وقصارى أمره أنه غلط والتبس عليه الأمر(
)0

ومما يعتذر به عن البخارى، ويجعل النقد ليس ذا أثر أن البخارى أخرج الروايات الصحيحة فى الإسراء( )، وهو بصنيعه هذا ينبهنا من طرف
خفى لا يخفى على اللبيب ما فى رواية شَرِيك من الأغلاط0 فلله در البخارى فكم له من إشارات وتلميحات( )0
يقول الدكتور رفعت فوزى وهو يدفع الطعون التى وجهت إلى أحاديث الإسراء والمعراج : "وأنه مما يستفاد فى نقد هذه الرواية، النقد العلمى
البناء الذى يحرص على جلاء الحقيقة دون اعتبار لمكانة البخارى ومكانة كتابه، كما يتجلى كذلك أن نقادنا قديماً وحديثاً، لم يغفلوا -كما
زعم بعض الجاهلين- تناول متن الحديث بالنقد والتمحيص، وعرضه على القرآن الكريم، وعلى السنة الصحيحة، حتى ينفوا عنه الدخيل
والموضوع"( )0

الجواب عمن تكلم فيه من رجال الصحيحين :
فى الصحيحين جماعة جرحهم بعض المتقدمين، وبلغ عدد من تكلم فيه من رجال البخارى ثمانون، ومسلم مائة وستون رجلاً( )،
منهم عكرمة مولى ابن عباس، وعمرو بن مرزوق وسويد بن سعيد وغيرهم( )0
قد اتخذ أعداء السنة -أعداء الإسلام- ممن تكلم فيه من رجال البخارى ومسلم مدخلاً للطعن والتشكيك فى مكانة الصحيحين( )0

ولا حجة لهم فى ذلك؛ لأن ممن تكلم فيهم من رجال الصحيحين ليس مجمعاً على جرحهم غاية أمرهم : أنه جرحهم وقدح فيهم جماعة بينما
عدلهم ومدحهم آخرون، فيكون قد ترجح عند صاحب الصحيح تعديلهم على الأقل فيما أخرجه من حديثهم، وربما أخرج لهم فى المتابعات
والشواهد، وإن أخرج لهم فى الأصول فمقصوده أنهم شاركوا غيرهم من الثقات الأثبات؛ فالصحة حاصلة برواية الجميع"( ) 0

قال الحافظ ابن حجر : "ينبغى لكل منصف أن يعلم أن تخريج صاحب الصحيح لأى راوٍ كان مقتضياً لعدالته عنده، وصحة ضبطه،
وعدم غفلته، ولا سيما ما انضاف إلى ذلك من إطباق جمهور الأئمة على تسمية الكتابين بالصحيحين، وهذا معنى لم يحصل لغير من خرج عنه
فى الصحيح؛ فهو بمثابة إطباق الجمهور على تعديل من ذكر فيها0
هذا إذا خرج له فى الأصول، فأما إن خرج له فى المتابعات، والشواهد، والتعاليق، فهذا بتفاوت درجات من أخرج له منهم فى الضبط وغيره،
مع حصول اسم الصدق لهم، وحينئذ إذا وجدنا لغيره فى أحد منهم طعناً فذلك الطعن مقابل لتعديل هذا الإمام، فلا يقبل إلا مبين السبب مفسراً
بقادح يقدح فى عدالة هذا الراوى وفى ضبطه مطلقاً أو فى ضبطه لخبر بعينه،لأن الأسباب الحاملة للأئمة على الجرح متفاوتة منها ما
يقدح،ومنها ما لا يقدح0

وقد كان الشيخ أبو الحسن المقدسى يقول فى الرجل الذى يخرج عنه فى الصحيح، هذا جاز القنطرة؛ يعنى بذلك أنه لا يلتفت إلى ما قيل فيه، قال
الشيخ أبو الفتح القشيرى فى مختصره وهكذا نعتقد وبه نقول ولا نخرج عنه، إلا بحجة ظاهرة وبيان شاف يزيد فى غلبة الظن على المعنى
الذى قدمناه، من اتفاق الناس بعد الشيخين على تسمية كتابيهما بالصحيحين، ومن لوازم ذلك تعديل رواتهما"( ) أ0هـ0

وقصارى القول وحماداه أن صاحب الصحيح أعرف بما رواه، وليس التكلم فى بعض الرواة بمقدم على توثيق صاحب الصحيح
لهم، ولو سلم جرح كل جارح وقبل على إطلاقه ما قبل خبر ولا روى أثر0 فأين ذاك الذى سلم من الطعن؟ ومتى كان الطعن مستنداً إلى
حجة؟( )0
قال الحافظ ابن حجر : "واعلم أنه قد وقع من جماعة الطعن فى جماعة بسبب اختلافهم فى العقائد فينبغى التنبه لذلك وعدم الاعتداد به إلا بحق،
وكذا عاب جماعة من الورعين جماعة دخلوا فى أمر الدنيا فضعفوهم لذلك، ولا أثر لذلك التضعيف مع الصدق والضبط( ) أ0هـ0

ومن كل ما سبق يظهر فساد ادعاء جولدتسيهر ومن قال بقوله "إن سلطان هذين الكتابين يرجع لأساس شعبى لا صلة له
بالتدقيق الحر للنصوص، وهذا الأساس هو إجماع الأمة، وتلقى الأمة لهما بالقبول يرفعهما إلى أعلى المراتب"0
فهذا الكلام فاسد من أساسه، بما سبق بيانه من دراسة الأئمة لكل من الكتابين سنداً ومتناً، وعرضهما على أدق المقاييس النقدية
الصحيحة التى اشترطها كل من البخارى ومسلم فى صحيحهما، وظهر من سبر الأئمة وفاء البخارى ومسلم بشرطهما، سوى أحاديث قليلة،
والقول فيها قول البخارى ومسلم، وهى صحيحة0

فظهر من ذلك الصحيحين ليسا جهد أفراد وإنما جهد أمة، وهم طائفة المحدثين، وهم المشتغلون بهذا الشأن وأعرف الناس به، وهم نقاد الأخبار
الذين يتوقف على قولهم قبول الآثار النبوية أو ردها0 وهم المعنيون بإجماع الأمة على صحة الكتابين، وتلقيهما بالقبول0 وهو إجماع معصوم
لا يقدح فيه إلا جاحد مغرور( )0

أما قول جولدتسيهر:"بالرغم من أن نقد هذين الكتابين غير لائق، وغير مسموح به..." إلخ0
يتناقض مع آخر كلامه من أن الدارقطنى قد صنف فى نقدهما كتابه (الاستدراكات والتتبع)0 ودعواه أن نقد هذين الكتابين لا يجوز أو غير لائق
أو غير مسموح به يكذبه الواقع، بما سبق من استدراك الأئمة الدارقطنى، والدمشقى، والغسانى، وفات هذا المستشرق وغيره من الطاعنين فى
مكانة الصحيحين أن الخطورة لا تكمن فى تعرض الكتابين للنقد، ولكنها تكمن فى سلامتهما من الانتقادات أو الطعون التى وجهت إلى بعض
أحاديثهما، فليس كل انتقاد يعول عليه، كما أن النقد أو الاستدراك قد يوجه لحالة معينة فيحسب من لا دراية له بهذا الموضوع أن النقد قد شمل
كل أحوال الكتاب، كما هو الحال مع استدراكات الأئمة0
وقد بين نقاد الحديث أن هذه الاستدراكات غير قادحة( ) فى صحة الصحيحين، ومكانتهما، خلافاً لأعداء السنة الذين يوهمون القارئ بخلاف
ذلك0

يقول فضيلة الأستاذ الدكتور أحمد محرم : إن نسبة الوهم إلى بعض الرواة ممن روى لهم البخارى ومسلم، تقتضى الدقة فى
التفرقة بين نسبة الوهم إلى بعض الرواة لشواهد تنتصب على ذلك، وبين نسبة الضعف أو الوضع إلى الصحيحين لا بحجة أو برهان، وإنما
متابعة للشيطان وموافقة للهوى0
وكن على حذر من مكمن الخطر فى التقليل من منزلة الصحيحين أو محاولة إنزالهما من عليائهما( )0

فالصحيحان هما أصح ما ألفه المحدثون، وقد أدى مؤلفاهما إلى الدين، وإلى الأمة الإسلامية خدمة جليلة لا تنكر، بل تذكر بالإكبار فتشكر،
نسأله  أن يجزل ثوابهما ما استفاد من الكتابين مستفيد( ) أ0هـ0

ونختم كلامنا عن الصحيحين بكلمة جامعة للشيخ أحمد شاكر –رحمه الله تعالى- نرى أنها عين الحق وندين لله بمضمونها ونلقاه مطمئنين
على اعتقاد ما فيها من اليقين قال رحمه الله : "الحق الذى لا مريه فيه عند أهل العلم بالحديث من المحققين، وممن اهتدى بهديهم وتبعهم على
بصيرة من الأمر، أن أحاديث الصحيحين صحيحة كلها ليس فى واحد منها مطعن أو ضعف، وإنما انتقد الدارقطنى وغيره من الحفاظ بعض
الأحاديث، على معنى أن ما انتقدوه لم يبلغ فى الصحة الدرجة العليا التى التزمها كل واحد منهما فى كتابه، وأما صحة الحديث فى نفسه،
فلم يخالف أحد فيها، فلا يهولنك إرجاف المرجفين، وزعم الزاعمين أن فى الصحيحين أحاديث غير صحيحة، وتتبع الأحاديث التى تكلموا فيها،
وانقدها على القواعد الدقيقة التى سار عليها أئمة أهل العلم،، واحكم على بينة، والله الهادى إلى سواء السبيل( ) أ0هـ0
والله تبــارك وتعالــى
أعلـى وأعلـم





الفصـل الســادس
وسيلتهـــم فى الاعتمـــاد علــــى مصـــادر غيــر معتبـــرة
فـــى التأريــــخ للسنـــــة ورواتهــا

ويتضمن بيان
أساليب دعاة الفتنة وأدعياء العلم فى الطعن فى السنة النبوية من خلال ثلاثة أنواع من المصادر :
النوع الأول : مصادر غير معتبرة، وعليها جل اعتمادهم فى الحكم على السنة المطهرة0
النوع الثانى : مصادر معتبرة حديثية، وهدفهم من ذلك تضليل القارئ0
النوع الثالث : مصادر معتبرة غير حديثية، واعتمادهم ما ورد فيها من أحاديث مكذوبة0

الفصـل السـادس
وسيلتهم فى الاعتماد على مصادر غير معتبرة
فى التأريخ للسنة ورواتها

إن من القواعد المعلومة الكلية أن كل علم له مصادره المعتبرة التى تعرف بها حقائقه وقضاياه، فمن عرف بحقائق وقضايا علم
ما، واعتمد فى ذلك على مصادر غير معتمدة ولا موثوقة لم يكن لبحثه أية قيمة علمية،ولا لمن يفعل ذلك مكان بين العلماء المحترمين(
)0

وهذا ما يفعله دعاة الفتنة، وأدعياء العلم من المستشرقين، ودعاة الإلحاد فى أمتنا الإسلامية، تراهم وهم يتحدثون عن قضايا
السنة النبوية المطهرة من تدوينها، وحجيتها، ومكانتها التشريعية، ورواتها من الصحابة والتابعين فمن بعدهم  أجمعين، يعتمدون فى حديثهم
عن القضايا السابقة ثلاثة أنواع من المصادر :
1- النوع الأول : مصادر غير معتبرة وعليها جل اعتمادهم فى الحكم على السنة النبوية0
2- النوع الثانى : مصادر معتبرة حديثية وهدفهم من ذلك تضليل القارئ على ما سيأتـى0
3- النوع الثالث : مصادر معتبرة غير حديثية، واعتمادهم ما ورد فيها من أحاديث مكذوبة0

أما النوع الأول مصادرهم الغير معتبرة فتتنوع إلى ما يلى :
1- كتب خصوم السنة وأهلها من الخوارج، والرافضة، والمعتزلة، والباطنية، كالأصفهانى( )؛ صاحب كتاب الأغانى( )0 وما كتبه أعداء
الإسلام من المستشرقين بروح الحقد، والتعصب الأعمى ضد الإسلام والمسلمين فى "دوائر معارفهم -الغير إسلامية" وغير ذلك من كتبهم
المسمومة0
2- كتب لا صلة بينها وبين علوم السنة ككتب الأدب، واللغة، والنحو، والشعر، والتاريخ لغير المحدثين0
3- كتب من وضع الزنادقة، ولا يعرف لها مؤلف كألف ليلة وليلة( )0

وحتى لا يقال إن فى هذا الكلام إجحاف وتجن على أصحاب المنهج العلمى -المزعوم- "وأهل التحقيق والتمحيص" لننظر فى المصادر التى
اعتمد عليها الصنم الأكبر للمستشرقين "جولدتسيهر" وهو يهاجم السنة المطهرة فى كتابه "دراسات محمدية"( )0

نقل جولد تسيهر من كتب السنة الستة وموطأ مالك، وسنن الدارمى، ومصابيح السنة للبغوى، وهو وغيره فى هذه الكتب المعتمدة، يخدعون
قارئهم على ما سيأتى0
أما المصادر التى يعتمدها غالباً فى إصدار أحكامها فهى :
1- حياة الحيوان الكبرى للدميـرى0
2- أدب القاضــى للخصافــى0
3- الأغانى لأبى الفرج الأصفهانى0
4- معجم الأدباء لياقوت الحمـوى0
5- سيرة سيـف بـن ذى يـزن0
6- سيـرة عنتــرة بـن شـداد0
7- كتاب الخراج لأبـى يوسـف0
8- فهــرس ابــن النديــم0
9- كشف الظنون لحاجى خليفة … إلخ0
وهذا غير المراجع التى قدمها نظراؤه من المستشرقين، وكتبت بلا إنصاف، واعتمدت على مثل ما اعتمد عليه من المصادر( )0

ولننظر فى مصادر محمود أبو ريه فى كتابه "أضواء على السنة"( )، والتى اعتمد عليها فى تحقيقه العلمى المزعوم0 فهو
كسابقه اعتمد أيضاً على كتب السنة الستة والموطأ، والدارمى وغير ذلك من مصادر معتمدة وكان الهدف من ذلك خداع القارئ وإيهامه بأهمية
البحث - كما سيأتى مفصلاً بعد قليل 0

أما المصادر التى اعتمد عليها فى إصدار أحكامه على السنة المطهرة ورواتها فهى:
1- تاريخ التمدن الإسلامى لجرجـى زيـدان0
2- العرب قبـل الإسـلام لجرجـى زيـدان0
3- دائرة المعارف الإسلاميـة للمستشرقيـن0
4- تاريخ الشعوب الإسلامية لكارل بروكلمان0
5- المسيحية فى الإسلام للقس إبراهيم لوقـا0
6- العقيدة والشريعة فى الإسلام لجولدتسيهر0
7- أحاديث عائشة للسيد مرتضى العسكرى0
8- ابن سبأ للسيـد مرتضـى العسكــرى0
9- أبـو هريـرة لعبـد الحسيـن شـرف الديـن0
10- أصل الشيعة وأصولها محمد الحسين آل كاشف0
11- البيان والتبيـن للجاحـظ0
12- والحيوان للجاحظ … إلخ0
وبهذه اللمحة السريعة فى مصادر بعض الطاعنين فى السنة المطهرة : يتضح بشكل جلى عدم نفعها فى أى دراسة للحديث
الشريف،إما لبعد مادة بعضها عن الحديث الشريف،أو لأن البعض الآخر منها لا ينفع،لتحامل أصاحبها،وجلهم من المستشرقين،وغلاة الشيعة( )
أما النوع الثانى من مصادر أعداء السنة فمصادر معتبرة فى الحديث، والتفسير، والفقه، وعلوم القرآن، والسنة، وكتب الدفاع
عنها، وقصدوا من وراء ذلك إيهام القارئ بأهمية بحوثهم، وأن تلك المصادر تنتهى إلى ما انتهوا إليه فى بحوثهم، والحق أنها كلها تكذبهم فى
دعواهم0

وإلا فهل هناك عاقل يجرؤ على القول بأن ما ذكره محمود أبو ريه من مصادر معتبرة تنتهى فى نتيجتها إلى ما انتهى إليه من طعن فى حجية
السنة المطهرة، ورواتها الثقات الأعلام : كالمصادر التالية :
1- تذكرة الحفاظ للذهبى0
2- شروط الأئمة الستة والخمسة للمقدسى والحازمى0
3- مقدمة ابـن الصـلاح0
4- قواعد التحديث للقاسمى0
5- شرح القارئ على نخبة الفكر لابن حجر0
6- تقييــد العلـم للخطيـب البغــدادى0
7- الموافقــات والاعتصـام للشاطبـى0
8- الإحكــام للآمـــدى0
9- الإحكــام لابـن حـزم0
10- ومنهاج السنة لابن تيمية0
11- جامع بيان العلم وفضلـه0
12- البداية والنهاية لابن كثير0
13- والعواصم من القواصم للقاضى ابن العربى0
14- وتأويل مختلـف الحديـث لابـن قتيبـة0
فهل يجرؤ عاقل على القول:بأن تلك المصادر المعتمدة التىذكرها محمود أبو رية وغيرها يقول أصحابها بمثل قوله الخبيث أو تنتهى إلى ما
انتهى إليه "سبحانك هذا بهتان عظيم"0

وقس على ذلك سائر دعاة الفتنة وأدعياء العلم من المستشرقين ودعاة اللادينية عندما يستشهدون فى هجومهم على السنة المطهرة بمصادر
معتمدة، فالأمر لا يخرج عن إيهام القارئ وتضليله بأن أصحاب تلك المصادر الموثوقة ينتهون إلى ما انتهوا إليه0

أما إذا ذكروا من تلك المصادر المعتبرة حقائق مسلماً بها عند أهل العلم فلا يخرج حالهم فى هذه الحالة عن ثلاثة أمور :
أولهما : الاستشهاد بتلك الحقائق المسلم بها فى غير موضعها إيهاماً للقارئ بأن أصحاب تلك المصادر المعتبرة التى ذكرت تلك الحقائق يلتقون
معهم فى فكرتهم ومقصدهم، ومن ذلك ما سبق فى شبهة الوضع، وكثرة الوضاعين، واستشهادهم بكلام الأئمة فى أسباب الوضع وأصناف
الوضاعين بأن ذلك أضعف الثقة بالسنة وبحجيتها( ) هذا فى حين ذكر علماء المسلمين أسباب الوضع وأصناف الوضاعين فى مصادرهم لبيان
جهود المحدثين فى كشف الكذابين، وأنه لم يخف أمرهم على حفاظ السنة، وأنها خرجت سليمة معافاة من فتنة الوضاعين فذكروا كل هذا كميزة
وفضيلة( )0
إلا أن أعداء السنة نقلوا من مصادر علماء المسلمين تلك الميزة واستشهدوا بها فى غير موضعها ونشروها على أنها نقيصة0
فتأمل كيف ينشرون مميزات السنة على أنها عيوب0

ومن ذلك أيضاً ما سبق فى مسألة (استقلال السنة المطهرة بتشريع الأحكام) واتخاذ أعداء السنة كلام الإمام الشاطبى فى تلك المسألة ستاراً
للتشكيك والطعن فى حجية السنة ومكانتها التشريعية( )0

ثانيهما : الاستشهاد من المصادر المعتبرة بحقائق مسلم بها لكنها "مبتورة" فيكتفون بذكر ما يشهد لدعواهم، ويغضون الطرف عما يفحمهم0

ومن ذلك مما سبق فى "شبهة النهى عن كتابة السنة" حيث نقلوا من المصادر المعتبرة المؤرخة لذلك، الباب الذى يؤيدهم فى دعواهم كـ "باب
الآثار والأخبار الواردة عن كراهة كتاب العلم"، وغضوا الطرف عن بقية الأبواب الواردة فى نفس المصادر المعتبرة التى استشهدوا بها، والتى
ترد على شبهتهم، كـ "باب وصف العلة فى كراهية كتابة الحديث"، و"باب الآثار والأخبار الواردة عن إباحة كتابة العلم"( )0
ثالثهما : الاستشهاد من المصادر المعتبرة بتحريف النصوص عن مواضعها وهذا من مأخذ أهل البدع بالاستدلال (تحريف الأدلة
عن مواضعها) كما قال الشاطبى( )0

ومن ذلك ما سبق فى "شبهة الاكتفاء بالقرآن، وعدم الحاجة إلى السنة المطهرة"، وتحريف أحمد صبحى منصور، وجمال البنا
لكلام الحافظ ابن حجر فى شرحه للمراد من حديث عبد الله بن أبى أوفى فى وصية النبى  بالاقتصار على الكتاب0 قال الحافظ ابن حجر -
رحمه الله-:"الاقتصار على الوصية بالكتاب لكونه أعظم وأهم، ولأن فيه تبيان كل شئ إما بطريق النص، وإما بطريق الاستنباط، فإذا اتبع الناس
ما فى الكتاب عملوا بكل ما أمرهم النبى  به لقوله تعالى:وَمَا ءَاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا( )0

أما أحمد صبحى منصور فاستشهد بكلام الحافظ ونقل كلامه هذا مبتوراً محرفاً بحذفه لفظه (النبى ) فصارت العبارة : "فإذا اتبع الناس ما فى
الكتاب عملوا بكل ما أمرهم به"0
وكذلك صنع جمال البنا استشهد بكلام الحافظ مبتوراً محرفاً فقال : "أى التمسك به "يعنى القرآن" والعمل بمقتضاه إشارة إلى قوله : "تركت فيكم
ما إن تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله"( ) وترك بقية كلام الحافظ ابن حجر أن عمل الناس بالكتاب يقتضى العمل بكل ما أمرهم النبى  به
لقوله تعالى : وَمَا ءَاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا( )0

أما النوع الثالث من مصادر أعداء السنة فمصادر معتبرة غير حديثية، يستشهدون بما فيها من أحاديث ضعيفة أو موضوعة تشهد لدعواهم0

ومن ذلك استشهادهم بحديث عرض السنة على القرآن : "إذا روى لكم عن حديث فاعرضوه على كتاب الله فإن وافقه فاقبلوه، وإلا فردوه"( )
واعتمادهم صحة الحديث لمجرد وروده فى بعض كتب الفقه أو الأصول كالمحصول فى أصول الفقه( )، وأصول السرخسى( )، والمعتمد فى
أصول الفقه( )0
وقد نقل غير واحد من أهل الزيغ والهوى هذا الحديث من مصادر معتبرة غير حديثية موهماً أن أصحاب تلك المصادر يقولون بعرض السنة
على القرآن، بمفهومهم القائم على رد الحديث بمجرد التعارض الظاهرى حتى مع إمكان الجمع والتأويل0

وممن فعل ذلك أحمد حجازى السقا فى كتابه "دفع الشبهات عن الشيخ الغزالى" عزا حديث "عرض السنة على القرآن" إلى
المحصول للرازى، موهماً أن الرازى، والفقهاء يقولون بالحديث( )، فى حين أن الرازى يحكى مخالفة عيسى بن أبان لجمهور علماء المسلمين
بإيجابه عرض خبر الآحاد على القرآن الكريم( )0

ويجاب عن استشهادهم بأحاديث مكذوبة وردت فى مصادر معتبرة غير حديثية بما هو مقرر عند أهل الحديث وهو :
أنه لا يكتفى بعزو الحديث إلى من ليس من أهله دون بيان : وإن جل كعظماء المفسرين، والفقهاء، والمتصوفة، والمؤرخين، وغيرهم، بل لابد
من معرفة تعقبات المحدثين على ما أوردوه فى كتبهم وذكره عند العزو إليها، ما لم يكونوا من أئمته، أو دراسة أسانيدها ومتونها - إذا كانت
خالية من تعقبات المحدثين ولم يكونوا من أئمته دراسة دقيقة فاحصة لمتبحر فى الحديث وعلومه، للوصول من وراء ذلك إلى الحكم بصحة
الحديث أو ضعفه أو الحكم عليه بالوضع( ) كما فى حديث عرض السنة على القرآن0

وفى ذلك يقول الإمام عبد الرءوف المناوى( ) : "فلا أعزوا إلى شئ منها "أى المصادر" ولا أكتفى بعزوه إلى من ليس من أهله
وإن جل كعظماء المفسرين … فكتب التفسير مشحونة بالأحاديث الموضوعة، وكأكابر الفقهاء "أى غير الأئمة الأربعة" فإن الصدر الأول من
أتباع المجتهدين لم يعتنوا بضبط التخريج وتمييز الصحيح من غيره، فوقعوا فى الجزم بنسبة أحاديث كثيرة إلى النبى  وفرعوا عليها كثيراً من
الأحكام مع ضعفها، بل ربما دخل عليهم الموضوع "نسياناً أو غلطاً دون عمد"( )0
ومثل هذه الأخطاء الحديثية لهؤلاء العلماء الأجلاء وهم غير متخصصين فى الحديث وعلومه - لا تقدح فى منزلتهم العلمية، ولا فى مؤلفاتهم
ولا فى سلامة الأغراض التى من أجلها ألفوا كتبهم"( )0

قال الإمام المناوى : "وهذا لا يقدح فى جلالتهم، بل ولا فى اجتهاد المجتهدين إذ ليس من شرط المجتهد الإحاطة بحال كل حديث
فى الدنيا"( ) أ0هـ0

قال العلامة اللكنوى : فإن قال قائل : فما بالهم أوردوا فى تصانيفهم الأحاديث الموضوعة – مع جلالتهم ونباهتهم – ولِمَ لم
ينقدوا الأسانيد مع سعة علمهم؟

قلت : لم يُوردوا ما أوردوا : مع العلم بكونه موضوعاً، بل ظنَّوه مروياً وأحالوا نقد الأسانيد على نُقَّادِ الحديث، لكونهم أغنوهم عن الكشف
الحثيث، إذ ليس من وظيفتهم البحث عن كيفية رواية الأخبار، إنما هو من وظيفة حملة الآثار، فلكل مقام مقال، ولكل فن رجال"( )أ0هـ0

وبعـد
فإن وسائل أعداء السنة فى الكيد لها لا تقف عند حد، وصدق الإمام الشاطبى –رحمه الله - : "ومن نظر إلى طريق أهل
البدع فى الاستدلالات عرف أنها لا تنضبط، لأنها سيالة لا تقف عند حد"( )0

وبحسب كل مسلم أن يتنبه إلى القواعد الكلية التى ينطلقون منها للكيد للسنة المطهرة، ويعرف بطلان تلك القواعد، وأنه لا أساس
لها فهى كمثل بيت العنكبوت0
قال تعالى : وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ( ) وهذا ما حرصت على تفصيله فى الفصول السابقة0

ونأكده فى الباب الثالث بذكر نماذج من الأحاديث الصحيحة التى طعن فيها أهل الزيغ والهوى، والجواب عنه0 فإن بيان ذلك0

البــــاب الثالـــث

نماذج من الأحاديث الصحيحة المطعون فيها
والجـــــواب عنهـــــــا

وتحته تمهيد وعشرة فصول :
التمهيد ويتضمن بيان :
أ- طبيعة نقد الأحاديث الصحيحة عند أعدائها0
ب- طبيعة الأحاديث الصحيحة المطعون فيها0
الفصل الأول : حديــث "إنمــا الأعمـال بالنيـات"0
الفصل الثانى : حديث "أنزل القرآن على سبعة أحرف"0
الفصل الثالث : أحاديث "رؤية الله " و"محاجة آدم موسى عليهما السلام" و"الشفاعة"0
الفصل الرابع :أحاديث ظهور"المهدى"وخروج"الدجال"و"نزول المسيح عليه السلام"
الفصل الخامس : حديث "عذاب القبر ونعيمه"0
الفصل السادس: أحاديث "خلوة النبى  بامرأة من الأنصار" و"نوم النبى  عند أم سليم أم حرام" وحديث "سحر النبى "0
الفصل السابع : حديـث "رضاعـــة الكبيـــر"0
الفصل الثامن : حديث "وقوع الذبـاب فـى الإنـاء"0
الفصل التاسع : ثمرات ونتائـج الحديـث الصحيـح0
الفصل العاشر : مضار رد الأحاديث النبوية الصحيحة0



التمهيــد

ويتضمن بيان
أ- طبيعة نقد الأحاديث الصحيحة عند أعدائها0
ب- طبيعة الأحاديث الصحيحة المطعون فيها0
يحرص أعداء السنة – أعداء الإسلام – فى عصرنا على تناول الأحاديث الصحيحة، وخاصة صحيحى البخارى ومسلم بالنقد
والتجريح، المزور الباطل، وذلك كى يصلوا فى النهاية إلى التشكيك فى السنة جميعها وصرف المسلمين عنها، ويركزون على الصحيحين لأنه
بسقوط الرأس يسقط الجسد كله0 وقد عرفنا منذ قليل أن الصحيحين وهما أصح الكتب بعد كتاب الله  ليسا جهد أفراد، وإنما هما جهد أمة، من
جهابذة المحدثين، تناولوا الكتابين بالنقد والدراسة، وأسفرت تلك الدراسة عن صحة الكتابين صحة لا يشوبها أدنى شك، سوى أحرف يسيرة لا
يصل الحال بها أبداً إلى درجة الوضع، بل ولا حتى إلى درجة الضعف الذى لا يحتمل، وإنما غاية هذه الأحرف قصور شروط الصحة فيها عما
التزمه الشيخان من إخراج أصح الصحيح0
وقد عرفنا أيضاً أن المحدثين لم يقصروا فى نقد المتن، كما يزعم من عميت بصيرتهم، وكيف يقصرون! وهل قام علم الحديث
دراية بجميع أنواعه إلا لخدمة علم الحديث رواية؟ وكيف يقصرون وما وضعوه من شروط لصحة الحديث من اتصال السند، وعدالة الراوى،
وضبطه، وعدم الشذوذ، وعدم العلة – إلا لضمان سلامة المتن، والتأكد من صحة نسبته إلى النبى 0
وعرفنا كيف أن ما يبدوا ظاهراً من الشروط الخمسة من اختصاصه بالسند هو فى الحقيقة متعلق بالمتن ظاهراً وباطناً0

أ- طبيعة نقد الأحاديث الصحيحة عند أعدائها :
إن هؤلاء النابتة من أعداء ديننا وأمتنا، اتخذوا من تحكيم عقولهم الزائغة القاصرة، المقياس الأول والأخير فى نقدهم للأحاديث
والحكم عليها، ويتخذون من ذلك ذريعة إلى إنكار الأحاديث، وتخطئة علماء السنة، وتخطئة الجمهرة من المسلمين الذين اهتدوا بهديهم
وعلمهم، وساروا على دربهم، يدفعهم إلى ذلك عمى بصيرة، وحقد دفين على سنة رسول الله  كما يهدفون إلى أن يبتعد الناس عن نور النبوة
المباركة وهديها المستقيم، وهم يطوون حقدهم وأهدافهم وراء تناول بعض الأحاديث التى تحتاج إلى فهم خاص، يتلاءم مع مبادئ الإسلام،
والفهم الصحيح لتعاليمه وقيمه( )، مثل حديث (رضاعة الكبير) وسيأتى ذكره والجواب عنه بإذن الله تعالى0

ب- طبيعة الأحاديث الصحيحة المطعون فيها :
طبيعة الأحاديث التى اتخذها دعاة الفتنة وأدعياء العلم وسيلة للنيل من سنة رسول الله  والنيل من رواتها الثقات الأعلام من
صحابة رسول الله  والتابعين فمن بعدهم من أئمة المسلمين أصحاب المصنفات الحديثية – شملت أبواب السنة كلها من العقائد، والعبادات،
والمعاملات، والفتن، والرقائق، والطب، والسيرة … إلخ0 وهم يحرصون دائماً وهم يطعنون فى الأحاديث الصحيحة، أن تكون تلك الأحاديث من
الأصول، والعقائد لزعزعة قلوب المؤمنين بعقائدهم حتى يصلوا إلى غايتهم قال تعالى : وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً( )0
وسوف نذكر نماذج من تلك الأحاديث الصحيحة التى طعنوا فيها فى ثمانية فصول0










الفصـــــل الأول
حديـــــــــث "إنمــــــا الأعمــــــــال بالنيــــــــات"

وتحته مبحثان :
المبحث الأول : شبه الطاعنين فى حديث "إنما الأعمال بالنيات" والرد عليها0
المبحث الثانى : مكانة حديث "إنما الأعمال بالنيات"0


المبحـث الأول
شبه الطاعنين فى حديث "إنما الأعمال بالنيات"
والــرد عليهــا

أخرج الإمام البخارى فى صحيحه بسنده عن علقمة بن وقاص الليثى( ) قال : سمعت عمر بن الخطاب  على المنبر قال :
سمعت رسول الله  يقول : "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى : فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو إلى امرأة ينكحها، فهجرته
إلى ما هاجر إليه"0

هذا الحديث الذى يمثل أصلاً من أصول الإسلام، وقاعدة من قواعده طعن فيه الصنم الأكبر للمستشرقين – جولدتسيهر – وضربه
مثلاً على ما ذهب إليه من أن الحديث نتيجة للتطور الدينى خلال القرون الأولى، وقال : "وقد ارتفع شأن هذا الحديث إلى أن صار فكرة تسيطر
على كل الأعمال الدينية يقول الله تعالى : "لاقونى بنياتكم ولا تلاقونى بأعمالكم" وهو حديث متأخر ظهر كصدى لاقتناع المؤمنين بذلك، وعلامة
على قيمة أعمالهم الدينية"( )0

وتابع طعناً فى صحة الحديث دعاة اللادينية، يقول نيازى عز الدين : "إن هذا الحديث أحد ثلاثة أحاديث خطيرة افتراها جنود السلطان لقلب دين
الله الذى فى القرآن؛ إلى دين السلطان الموجود فى أحاديث جنوده ( )0

وبهذا الحديث استحل فى نظره – أئمة المسلمين ورواة السنة الثقات – جنود السلطان عنده – استحلوا بهذا الحديث التحايل فى دين الله، وحجته
فى ذلك افتتاح الإمام البخارى به كتاب الحيل من صحيحه قال : حديث "إنما الأعمال" أول حديث يفتتح به البخارى فى صحيحه كتاب الحيل لأنه
حجر الزاوية بالنسبة لكل تلك الأحاديث المفتراه على الله والرسول، فوضعها لنا فى أول جملة من كتابه، حتى يدل من كان يريد أن يعرف أن
ذلك الحديث، كان المفتاح الذهبى لكل أبواب الاحتيال فى دين السلطان، التى فتحت كل تلك الأبواب على مصراعيها لجنود السلطان من أجل،
تأليف فقه دين السلطان"]( ) أ0هـ0

ويجاب على ما سبق بما يلى :
أولاً : حديث "إنما الأعمال بالنيات" صحيح متفق على صحته( )0 قال الحافظ ابن حجر : "إن هذا الحديث متفق على صحته، أخرجه الأئمة
المشهورون إلا الموطأ"( )0
ثانياً : هنالك كثير من نصوص القرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة التى جاءت فى معنى هذا الحديث،تحث على الإخلاص وتذم الرياء مثل
قوله تعالى:وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ( ) والآية تخاطب أهل الكتابين،
وفى ذلك اشتراط النية فى صحة الأعمال للأمم السابقة( ) وقال تعالى : مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا
لَا يُبْخَسُونَ(15)أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ( ) وقوله تعالى : قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ
مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ( ) ومن الأحاديث : حديث عائشة
–رضى الله عنها – مرفوعاً : "يغزو جيش الكعبة، فإذا كانوا بِبَيداءَ من الأرض يُخسفُ بأولهم وآخرهم0 قالت0 قلت : يا رسول الله
كيف يُخسف بأولهم وآخرهم وفيهم أَسْوَاقُهُم ومن ليس منهم؟ قال : يخسف بأولهم وآخرهم، ثم يبعثون على نياتهم"( ) وفى الحديث أيضاً عن
أبى موسى الأشعرى  مرفوعاً : "من قاتل لتكون كلمة الله هى العليا فهو فى سبيل الله"( )0

والأدلة من القرآن الكريم والسنة المطهرة كثيرة جداً فى تأييد معنى الحديث0
ولكن جولدتسيهر ومن قال بقوله لم يطعن فى هذا الحديث من فراغ، فقد كان يعلم قدره وعظمته ومكانته فى الإسلام، وبذلك صرح فى
كتابه دراسات محمدية قائلاً : "ويعد كلام النبى هذا واحداً من أعظم مبادئ الإسلام، ويعد واحداً من أربعة مبادئ أساسية عليها مدار الإسلام"(
)0

وهنا يظهر تناقض جولدتسيهر حيث يذهب بأن الحديث من وضع الفقهاء، ونتيجة للتطور الدينى للإسلام، كما زعم فى كتابه العقيدة والشريعة،
وهنا فى كتابه دراسات محمدية، يقر بأن الحديث من كلام النبى ، وروى فى عهود مبكرة فى المدينة، ولم يقل وضعه الفقهاء وإنما قال : "وقد
طبق الفقهاء هذه العبارة لكونها مبدأ أسمى فى معالجة المسائل الدينية والشرعية"( )0
وعلى كل حال فدعواه بأن الحديث متأخر، قد ظهر لك بطلانها من نص الحديث حيث خطب به الفاروق عمر  وأسنده إلى
الرسول، وصدق عليه من سمعه، وهم جمهور كبير من صحابة رسول الله  وذكر الإمام العينى أيضاً أن الرسول  خطب به لما قدم المدينة(
)0
أما قول جولدتسيهر : "لاقونى بنياتكم ولا تلاقونى بأعمالكم" فهذا خلاف ما دل عليه الحديث، فإن الحديث لم ينف الأعمال، بل شرط لصحتها
النية، إذ العمل مطلوب شرعاً كما قال سبحانه : وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ( ) وقرنه بالإيمان فى أكثر من آية : 
وَالْعَصْرِ(1)إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ(2)إِلَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ( )0 وقال  : "إن الله لا ينظر إلى
صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم"( ) أ0هـ0

أما ما زعمه بعض النكرات أن أئمة المسلمين وضعوا حديث "إنما الأعمال"، واستحلوا به التحايل فى دين الله بحجة افتتاح الإمام
البخارى للحديث فى كتاب الحيل من صحيحه فهذا من تضليله وجهله0

أما تضليله فهو عدم ذكره اسم الباب الذى ذكر الإمام البخارى الحديث تحته وهو باب بعنوان "فى ترك الحيل وأن لكل إمرئ ما نوى فى الأيمان
وغيرها"0
وواضح من عنوان الباب إبطال زعم النكرة أن الحديث دليل على استحلال الحيل0
أما جهله فهو قلة عقله فى استيعاب فقه الإمام البخارى فى تراجمه فى أبوابه، وأنى له إدراك ذلك، وتلك "التراجم حيرت الأفكار، وأدهشت
العقول والأبصار، ولقد أجاد القائل : أعى فحول العلماء حل رموز ما أبداه فى الأبواب من أسرار"( )0

فالإمام البخارى رحمه الله تعالى افتتح كتابه الحيل بحديث "إنما الأعمال بالنيات" وعنون للباب قبل ذكر الحديث بباب فى ترك الحيل
…"( ) فأدخل كلمة "الترك" لئلا يتوهم أحد من أدعياء العلم من ترجمة الكتاب "كتاب الحيل" إجازة الحيل0

قال الحافظ ابن حجر فى شرحه لعنوان الباب قال : قوله : "باب ترك الحيل" قال ابن المنير : أدخل البخارى الترك فى الترجمة، لئلا يتوهم أى
من ترجمة الكتاب "كتاب الحيل" إجازة الحيل عموماً، فإن القول بجوازها عموماً إبطال حقوق وجبت، وإثبات حقوق لا تجب، فتحرى فيها لذلك0

قال ابن حجر قلت : وإنما أطلق أولاً "كتاب الحيل" للإشارة إلى أن من الحيل ما يشرع فلا يترك مطلقاً0 فضابطها إن كانت للفرار من
الحرام، والتباعد من الإثم فحسن، وإن كانت لإبطال حق مسلم فلا بل هى إثم وعدوان"( )0

وقال ابن قيم الجوزية : "الحيل نوعان : نوع يتوصل به إلى فعل ما أمر الله تعالى به، وترك ما نهى عنه والتخلص من الحرام، وتخليص الحق
من الظالم المانع له، وتخليص المظلوم من يد الظالم الباغى، فهذا النوع محمود يثاب فاعله0 ونوع يتضمن إسقاط الواجبات، وتحليل
المحرمات، وقلب المظلوم ظالماً، والظالم مظلوماً والحق باطلاً والباطل حقاً، فهذا النوع الذى اتفق السلف على ذمه، وصاحوا بأهله من أقطار
الأرض"( )0
فإذا كان من النوع الباطل إسقاط الواجبات، وتحليل المحرمات، وقلب الحق باطلاً، والباطل حقاً0 فهل هناك مسلم يجرؤ على القول بأن أئمة
المسلمين ورواة السنة الثقات استحلوا أكبر الكبائر بالكذب على رسول الله  ينسبه شئ لم يقله، وجعله شرعاً إلى يوم الدين؟ سبحانك هذا
بهتان عظيم0

يقول ابن قيم الجوزية : "إن هذه الحيل المحرمة لا تجوز أن تنسب إلى إمام، فإن ذلك قدح فى إمامته، وذلك يتضمن القدح فى الأمة حيث إئتمت
بمن لا يصلح للإمامة، وهذا غير جائز، ولو فرض أنه حكى عن واحد من الأئمة بعض هذه الحيل المجمع على تحريمها فإما أن تكون
الحكاية باطلة، أو يكون الحاكى لم يضبط لفظه …، ولو فرض وقوعه منه فى وقت ما فلابد أن يكون قد رجع عن ذلك، وإن لم يحمل الأمر
على ذلك لزم القدح فى الإمام، وفى جماعة المسلمين المؤتمين به، وكلاهما غير جائز، ولا خلاف بين الأمة؛ أنه لا يجوز الإذن فى التكلم
بكلمة الكفر لغرض من الأغراض، إلا المكره إذا اطمأن قلبه بالإيمان، ثم إن هذا على مذهب أبى حنيفة وأصحابه أشد( )، فإنهم لا يأذنون فى
كلمات وأفعال دون ذلك بكثير، ويقولون : إنها كفر، حتى قالوا : لو قال الكافر لرجل : "إنى أريد أن أسلم" فقال له : "اصبر ساعة" فقد كفر،
فكيف بالأمر بإنشاء الكفر؟ وقالوا : لو قال "مسيجد" أو صغر لفظ المصحف كفر0فعلمت أن الأئمة أعلم بالله ورسوله، ودينه، وأتقى له من أن
يجيزوا،فضلاً عن أن يستحلوا–الحيل التى هى كفر أو حرام"( )، ولا ينسب ذلك إليهم إلا مارق ضال محتال0

قال الحافظ ابن حجر : وقول البخارى : "وإن لكل امرئ ما نوى فى الأيمان وغيرها" من تفقه المصنف لا من الحديث قال ابن
المنير : اتسع البخارى فى الاستنباط، والمشهور عند النظار حمل الحديث على العبادات فحمله البخارى عليها، وعلى المعاملات، وتتبع مالكاً
فى القول بسد الذرائع، واعتبار المقاصد، فلو فسد اللفظ، وصح القصد ألغى اللفظ، وأعمل القصد، تصحيحاً وإبطالاً، قال : والاستدلال بهذا الحديث
على سد الذرائع، وإبطال التحيل، من أقوى الأدلة"( )0
واستدل بذلك أيضاً ابن قيم الجوزية على تحريم الحيل0 فقال حديث : "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى" الحديث أصل فى إبطال الحيل
ويكفى وحده فى إبطال الحيل، ولهذا صدر به حافظ الأمة محمد بن إسماعيل البخارى كتاب الحيل من صحيحه( ) أ0هـ0

فأين من كل هذا ما استدل به بعض النكرات أن افتتاح الإمام البخارى بهذا الحديث فى كتاب الحيل، دليل على استحلالها،
واستحلال الكذب على رسول الله 0

المبحـث الثانـى
مكانـة حديـث "إنمـا الأعمـال بالنيـات"

قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله- : "قد تواتر النقل عن الأئمة فى تعظيم قدر هذا الحديث"( )0 قال الحافظ العراقى : "هو قاعدة
من قواعد الإسلام( )0 وقال الإمام أحمد "أصول الإسلام على ثلاثة أحاديث : حديث عمر : "الأعمال بالنيات"، وحديث عائشة : "من أحدث فى
أمرنا ما ليس منه، فهو رد"( ) وحديث النعمان بن بشير( ):"الحلال بين، والحرام بين"( )0

قال الإمام ابن تيمية : "هو أصل عظيم من أصول الدين، بل هو أصل كل عمل، ولهذا قالوا : مدار الإسلام على ثلاثة أحاديث،
فذكروه منها، وذكر قول الإمام أحمد الذى سبق، وقال : والذى أمر الله به نوعان :
أحدهما : العمل الظاهر، وهو ما كان واجباً أو مستحباً0
والثانى : العمل الباطن، وهو إخلاص الدين لله؛ فقوله  : "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد" : ينفى التقرب إلى الله بغير ما أمر الله به،
أمر إيجاب أو أمر استحباب0 وقوله  : "إنما الأعمال بالنيات" إلى آخره يبين العمل الباطن، وأن التقرب إلى الله إنما يكون بالإخلاص فى الدين
لله، كما قال الفضيل فى قوله تعالى: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا( )0 قال : أخلصه وأصوبه( )0
قال ابن تيمية : فإن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل،حتى يكون خالصاً صواباً،
والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة النبوية، وعلى هذا دل قوله تعالى:قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ
فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا( )وإن هذين الأصلين الإخلاص وصواب العمل؛هما دين الإسلام الذى
ارتضاه الله"( )0

ويقول أبو سعيد عبد الرحمن بن مهدى : "لو صنفت كتاباً بدأت فى أول كل باب منه بحديث "إنما الأعمال"، وأوصى بذلك فقال :
من أراد أن يصنف كتاباً فليبدأ بهذا الحديث"( )0

وحسبنا من هذه الأقوال بياناً لمكانة هذا الحديث، وإذا عرفت هذه المكانة، فهمت أن أعداء الإسلام لم يطعنوا فى هذا الحديث من فراغ، فقد
علموا قدره وعظمته ومكانته فى الإسلام، فإذا سهل لهم أن يقدحوا فيه فغيره أولى بالقدح0 ولكن الأمر على خلاف ما يظنون ويأملون0





الفصــــل الثانــــى

حديـــــث "أنـــــزل القـــــــرآن على سبعــــة أحــــــرف"


وتحته أربعة مباحث :
المبحث الأول:شبه الطاعنين فى حديث أنزل القرآن على سبعة أحرف والرد عليها
المبحث الثانى : معنى نزول القرآن على سبعة أحـرف0
المبحث الثالث : الأحرف السبعة أعم من القراءات السبع0
المبحث الرابع : بقاء الأحرف السبعة فى المصاحــف0

المبحـث الأول
شبـه الطاعنيـن فـى حديث أنـزل القرآن علـى
سبعـة أحـرف والـرد عليهـا

حديث نزول القرآن الكريم على سبعة أحرف طعن فيه الرافضة قديماً، وزعموا بأنه يثبت كفر الصحابة بوقوع التحريف اللفظى فى
القرآن الكريم، وهم كفار بذلك مشركون عند جميع أهل الإسلام( )0

وقديماً كان الإمام ابن حزم يرد على مزاعم وطعون قساوسة النصارى بأن القرآن فيه تحريف ونقص، وضاع كثير من أصوله وقراءاته
باعتراف المسلمين من الشيعة الرافضة0
فيجيبهم ابن حزم بقوله : "إن دعوى الشيعة ليست حجة على القرآن ولا على المسلمين، لأن الشيعة غير مسلمين … إنما هى فرق حدث
أولها بعد موت النبى  بخمس وعشرين سنة، وكان مبدؤها إجابة من خذله الله تعالى لدعوة من كاد للإسلام، وهى طائفة تجرى مجرى اليهود
والنصارى فى الكذب والكفر( )0







 
قديم 06-03-08, 05:16 AM   رقم المشاركة : 13
حسينا
موقوف





حسينا غير متصل

حسينا is on a distinguished road


ومن طعون الرافضة، استدل إخوانهم من المستشرقين، وتكلموا كثيراً فى موضوع القراءات بالأحرف السبعة محاولين إثبات أن هذه القراءات
ليست من الوحى أساساً، وإنما نجمت عن "القراءة بالمعنى"، فلم يكن نص القرآن بحروفه بالنسبة لبعض المؤمنين هو المهم، ولكن المهم هو
روح النص، ودليلهم ما جاء فى بعض الروايات وفيها "كلها شاف كاف، ما لم تختم آية عذاب برحمة، أو آية رحمة بعذاب، نحو قولك :
تعال وأقبل، وهلم، واذهب، وأسرع، وعجل"( )0
ولعل أول من ذهب إلى ذلك من المستشرقين جولدتسيهر، فى كتابه "مذاهب التفسير الإسلامى" حيث ذهب إلى أن اختلاف القراءات القرآنية
راجع إلى خلو المصاحف العثمانية من النقط والشكل إذ يقول وهو يتحدث عن اختلاف القراءات القرآنية : "وإذاً فاختلاف تحلية هيكل الرسم
بالنقط، واختلاف الحركات فى المحصول الموحد الغالب من الحروف الصامتة، كانا هما السبب الأول فى نشأة حركة اختلاف القراءات، فى نص
لم يكن منقوطاً أصلاً، أو لم تتحر الدقة فى نقطه أو تحريكه"( )0

وردد هذا الرأى المستشرق الاسترالى الأصل "آرثرجفرى" وذكره فى مقدمة تحقيقه لكتاب "المصاحف" لابن أبى داود قال : "وكانت هذه
المصاحف التى بعثها عثمان إلى الأمصار؛ كلها خالية من النقط والشكل، فكان على القارئ نفسه أن ينقط، ويشكل هذا النص على مقتضى
معانى الآيات"( )0

ونتيجة ذلك كله هى القول بحدوث تغيير فى النص القرآنى( )0 وقد تابع هذين المستشرقين بعض العلماء العرب، من الجامعيين
وغيرهم، وأذاعوه فى كتبهم0

يقول الدكتور طه حسين( ) : "إن القرآن تلى بلغة واحدة، ولهجة واحدة هى لغة قريش ولهجتها، لم يكد يتناولها القراء من القبائل المختلفة
حتى كثرت قراءاته، وتعددت اللهجات فيه، وتباينت تبايناً كثيراً … إلى أن يقول : "والحق أن ليست هذه القراءات السبع من الوحى فى قليل ولا
كثير، وليس منكرها كافراً ولا فاسقاً ولا مغتمزاً فى دينه، وإنما هى قراءات مصدرها اللهجات واختلافها،للناس أن يجادلوا فيها وأن ينكروا
بعضها ويقبلوا بعضها"( )0

ويقول الدكتور أحمد حجازى السقا بعد ذكره حديث عمر  فى نزول القرآن على سبعة أحرف قال : "هذه الرواية التى اتفق عليها البخارى
والمحدثون، وشبهها كثير تثبت التحريف اللفظى فى القرآن، فإن هذه الرواية وشبهها يكونون من الروايات الكاذبة التى وضعها المحدثون عمداً
فى كتبهم للطعن فى القرآن الكريم"( )0

ويجاب على ما سبق بالآتى :
أولاً : حديث "أنزل القرآن على سبعة أحرف" جاء متواتراً عن جمع من الصحابة  فأورده الحافظ السيوطى فى الأزهار المتناثرة من حديث
عمر، وعثمان، وأبى بن كعب، وأنس، وحذيفة بن اليمان، وزيد بن أرقم، وسمرة بن جندب، وسليمان بن صرد، وابن عباس، وابن مسعود،
وعبد الرحمن بن عوف، وعمر بن أبى سلمة، وعمرو بن العاص، ومعاذ ابن جبل، وهشام بن حكيم، وأبى بكرة، وأبى جهم، وأبى سعيد
الخدرى، وأبى طلحة، وأبى هريرة، وأم أيوب( )، وزاد الكتانى حديث ابن عمر، وعبادة بن الصامت، وعبد الله بن عمرو ابن العاص( )0 فهؤلاء
أربع وعشرون صحابياً، ما منهم إلا رواه وحكاه0
ونكتفى هنا بسرد بعض الروايات عن بعضهم0
روى البخارى ومسلم ففى الصحيحين عن ابن عباس – رضى الله عنهما –؛ أنه قال : قال رسول الله  : "أقرأنى جبريل على حروف فراجعته،
فلم أزل أستزيده ويزيدنى حتى انتهى إلى سبعة أحرف"( )0 زاد مسلم : "قال ابن شهاب : بلغنى أن تلك السبعة فى الأمر الذى يكون واحداً لا
يختلف فى حلالٍ ولا حرام"( )0

وفى الصحيحين أيضاً أن عمر بن الخطاب  كان يقول : سمعت هشام بن حكيم( ) يقرأ سورة الفرقان فى حياة رسول الله ، فاستمعت لقراءته
فإذا هو يقرؤها على حروف كثيرة، لم يقرئنيها رسول الله ، فكدت أساوره فى الصلاة، فانتظرت حتى سلم، ثم لببته بردائه، فقلت : من أقرأك
هذه السورة؟ قال : أقرأنيها رسول الله 0 قلت له : كذبت فوالله إن رسول الله  أقرأنى هذه السورة التى سمعتك تقرؤها، فانطلقت أقوده إلى
رسول الله  فقلت : يا رسول الله إنى سمعت هذا يقرأ بسورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها، وأنت أقرأتنى سورة الفرقان0 فقال رسول الله 
: أرسله يا عمر : اقرأ يا هشام، فقرأ هذه القراءة التى سمعته يقرؤها0 قال رسول الله  هكذا أنزلت0 ثم قال رسول الله  : "إن هذا القرآن
أنزل على سبعة أحرف فاقرأوا ما تيسر منه"( )0

وروى مسلم بسنده عن أبى بن كعب  قال : "كنت فى المسجد، فدخل رجل يصلى، فقرأ قراءة أنكرتها عليه، ثم دخل آخر، فقرأ
قراءة سوى قراءة صاحبه، فلما قضينا الصلاة دخلنا جميعاً على رسول الله ، فقلت : إن هذا قرأ قراءة أنكرتها عليه، ودخل آخر فقرأ سوى
قراءة صاحبة0 فأمرهما رسول الله  فقرأ، فحسن النبى  شأنهما، فسقط فى نفسى من التكذيب وَلاَ إِذْ كنتُ فى الجاهلية0 فلما رأى رسول الله
 ما قد غشينى ضرب فى صدرى، ففضت عرقاً، وكأنما انظر إلى الله  فرقاً فقال لى : يا أُبى‍ أُرسلَ إِلىَّ : أن اقرأ القرآن على حرف فرددت
إليه : أن هون على أمتى، فرد إلى الثانية : اقرأه على حرفين فرددت إليه : أن هون على أمتى، فرد إلى الثالثة : اقرأه على سبعة أحرف، ولك
بكل ردةٍ رددتها مسألة تسألينها0 فقلت : "اللهم اغفر لأمتى، اللهم اغفر لأمتى، وأخرت الثالثة ليوم يرغب إلى الخلق كلهم حتى إبراهيم ( )
أ0هـ0

ومن هذه الروايات المتفق على صحتها يظهر إفك من زعم بأن روايات نزول القرآن على سبعة أحرف مكذوبة، كما يظهر إفك
من زعم أن القرآن نزل بحرف واحد فقط0

وظهر فى الروايات السابقة : "أن اختلاف القراء إنما حدث فى حياة الرسول " فيما تلاه عليهم وسمعوه منه مشافهة، ولم يأت هذا الخلاف
نتيجة النظر فى المصحف المكتوب المقروء الخالى من النقط والشكل،كما زعم جولدتسيهر،وآرث جفرى ومن قال بقولهم0

ثانياً : لو كان خلو المصاحف من الشكل والإعجام سبباً فى تنوع القراءات واختلافها، لكان القارئ الذى يقرأ الكلمة وفق رسم معين، يلتزمه
فى أمثاله ونظائره حيث وقع فى القرآن الكريم، ولم يحدث هذا، وإليك مثالاً واحداً0
قوله تعالى فى فاتحة الكتاب مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ( ) وقوله سبحانه قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ( ) وقوله تعالى فى سورة الناس مَلِكِ النَّاسِ( )0
فلو تأملت المواضع الثلاثة فى المصحف لوجدت الكلمة فيها كلها هكذا "ملك" بالميم واللام والكاف فقط، ولكن حفصاً يقرأ عن عاصم، فى
الفاتحة "مالك" بالألف بعد الميم، وكذلك يقرأ آية آل عمران، أما فى سورة الناس فيقرأ "ملك" من دون الألف كان حفص يقرأ وفق رسم
المصحف لقرأ فى المواضع الثلاثة "ملك"، ولكنه يقرأ بالرواية المتواترة عن رسول الله ( )0

وكذلك قد تختلف القراءات أحياناً لغة ونحواً، وهكذا يبدو للناس فى ظاهر الأمر، ولكن الاختلاف فى الحقيقة راجع إلى التلقى والرواية، لا إلى
القاعدة اللغوية أو النحوية0 وهذا مثال واحد : قال الله تعالى : وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى0جاءت هذه الآية فى موضعين( ) ويقرأ القراء جميعاً
"كلاً" بالنصب فى الآيتين، لكن ابن عامر يقرأ آية النساء بالنصب؛ كسائر القراء،أما آية الحديد فيقرأها وحده"وكل"بالرفع،وللنحويين فى توجيه
الرفع والنصب كلام0

فلو كان ابن عامر يقرأ وفق القاعدة النحوية لقرأ الآيتين بالرفع، ولكنه قرأ بالرواية التى تلقاها هو بالتواتر عن سيدنا رسول الله  : مرة
بالنصب، ومرة بالرفع، مع أن تركيب الآية واحد فى الموضعين0

ومثال ثان : الإمالة ظاهرة صوتية، وهى "ان تنحيى بالألف نحو الياء، فيلزم أن تنحى بالفتحة قبلها نحو الكسرة"، وهى لغة بعض القبائل
العربية، وقد قرأ بها بعض القراء، والتزموها حيث وجدت دواعيها فى القرآن الكريم، لكن حفصاً الذى يقرأ بقراءته، كثير من المسلمين الآن
بروايته عن عاصم، لم يقرأ بالإمالة إلا فى موضع واحد من الذكر الحكيم وهو قوله تعالى بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا( )0

وهكذا يختلف القراء ويتفقون بحسب الرواية والتلقى، وليس بحسب رسم المصحف أو الوجه النحوى أو اللغوى، صحيح أن هذين فى الاعتبار،
ولكن بعد ثبوت الرواية بالتواتر، والسند الصحيح إلى رسول الله ، وموافقة الرسم العثمانى، وأن يكون للقراءة وجه صحيح من العربية0
فإذا سمعت قراءة مسندة لواحد من القراء السبعة أو العشرة؛ كأن يقال : قراءة نافع أو عاصم أو الكسائى، فلا تظن أنها من اختراعه أو
ابتداعه، ولكنها اختياره الذى ارتضاه من طريق الرواية المسندة الصحيحة0
ولذلك أثر عن أبى عمرو بن العلاء وهو أحد القراء السبعة قوله "لولا أنه ليس لى أن أقرأ إلا بما قرئ به لقرأت كذا وكذا0 وذكر حروفاً"0

ويريد أبو عمرو أن القراءة سنة واتباع وأثر، ولا دخل فيها للسليقة أو الاستحسان اللغوى أو الترجيح النحوى أو رسم المصحف0 ومن ثم يرى
كثير من العلماء أن ترجيح قراءة متواترة على قراءة متواترة لا يجوز0 يقول أبو العباس ثعلب "إذا اختلف الإعراب فى القرآن عن السبعة، لم
أفضل إعراباً على إعراب فى القرآن، فإذا خرجت إلى الكلام، كلام الناس فضلت الأقوى"( )0

قـراءات ربانيـة :
يقول الدكتور محمود الطناحى : "فثبت إذن أن القراءات القرآنية كلها بوجوهها المختلفة من عند الله، ولا دخل لخط المصحف فيها، ولا للوجوه
النحوية أو اللغوية فيها كذلك، وثبت أيضاً أن اختلاف القراءات القرآنية إنما هو اختلاف تنوع،لا اختلاف تضاد"( )أ0هـ0

واعلم أن معنى قول "أبى بن كعب"  "فسقط فى نفسى من التكذيب إلخ" أن الشيطان ألقى إليه من وساوس التكذيب ما شوش
عليه حاله، حين رأى النبى ، قد حسن القراءتين وصوبهما على ما بينهما من اختلاف، وكانتا فى سورة واحدة هى سورة النحل على ما رواه
الطبرى0 وكأن الذى مر بخاطره وقتئذ أن هذا الاختلاف فى القراءة ينافى أنه من عند الله0 لكنه كان خاطراً من الخواطر الرديئة التى لا تنال
من نفس صاحبها منالاً، ولا تفتنها عن عقيدة، ولا يكون لها أثر باق، ولا عمل دائم0

ومن رحمة الله بعباده؛ أنه لا يؤاخذهم بهواجس النفوس وخلجات الضمائر العابرة، ولكن يؤاخذهم بما كسبت قلوبهم، حين يفتح
الإنسان للشبهة صدره، ويوجه إليها اختياره وكسبه، ثم يعقد عليها فؤاده وقلبه0

قال القرطبى : "فكان هذا الخاطر الذى سقط فى نفس أبى من قبيل ما قال فيه النبى  حين سألوه : إنا نجد فى أنفسنا ما يتعاظم
أحدنا أن يتكلم به قال : أوقد وجدتموه؟ قالوا: نعم0 قال ذلك صريح الإيمان"( ) أ0هـ0

ومن هنا تعلم أن ما خطر لسيدنا أبى بن كعب ، لا يمس مقامه، ولا يصادم إيمانه، ما دام قد دفعه بإرشاد رسول الله  سريعاً
حتى قال أُبى نفسه : "ففضت عرقاً، وكأنى انظر إلى الله  فرقاً"( ) أ0هـ0

أضف إلى ما ذكرنا أن خصومة أبى بن كعب، وعمر وغيرهم من الصحابة فى أمر اختلاف القراءة على هذا النحو، إنما كانت قبل أن يعلموا أن
القرآن أنزل على سبعة أحرف، فهم وقتئذٍ كانوا معذورين، بدليل أنهم لما علموا بذلك، واطمأنت إليه نفوسهم، عمل كل منهم بما علم، وصاروا
مراجع مهمة من مراجع القرآن الكريم على اختلاف رواياته0

يدل على ذلك ما روى عن أبى ابن كعب  قال : لقى رسول الله  جبريل فقال يا جبريل إنى بعثت إلى أمة أميين : منهم العجوز، والشيخ
الكبير، والغلام، والجارية، والرجل، الذى لم يقرأ كتاباً قط، قال : يا محمد إن القرآن أنزل على سبعة أحرف"( )0

أما ما زعمه دعاة اللادينية أن القراءات ليست من الوحى، ومصدرها لهجات القبائل المختلفة، فهذا كذب آخر0

يبطله أن المختلفين فى الخبر المذكور الذى أوردناه آنفاً كل منهما قرأ سورة الفرقان بحرفين مختلفين، كانا جميعاً بنى عم قرشيين، من قريش
البطاح، من قبيلة واحدة، جاران ساكنان فى مدينة واحدة، وهى مكة، لغتهما واحدة، وهما عمر بن الخطاب بن نفيل ابن عبد العزى بن
رباح بن عبد الله بن قريط بن رزاح بن عدى بن كعب، وهشام بن حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن كلاب بن مرة بن كعب،
ويجتمعان جميعاً فى كعب بن لؤى، بين كل واحد منهما، وبين كعب بن لؤى، ثمانية آباء فقط0

فظهر كذب من ادعى أن اختلاف الأحرف، إنما كان لاختلاف لغات قبائل العرب0 وأبى ربك إلا أن يحق الحق، ويبطل الباطل، ويظهر كذب
الكاذب، ونعوذ بالله العظيم من الضلال والعصبية للخطأ"( ) أ0هـ0


المبحث الثانـى
معنى نزول القرآن على سبعة أحرف

قوله  : "أنزل القرآن على سبعة أحرف" أى على سبعة أوجه يجوز أن يقرأ بكل وجه منها0
وليس المراد أن كل كلمة أو جملة منه تقرأ على سبعة أوجه، بل المراد أن غاية ما انتهى إليه عدد القراءات فى الكلمة الواحدة إلى
سبعة0

فإن قيل فإنا نجد بعض الكلمات يقرأ على سبعة أوجه0
فالجواب أن غالب ذلك إما لا يثبت الزيادة، وإما أن يكون من قبيل الاختلاف فى كيفية الأداء كما فى المد والإمالة ونحوهما( )0

قال الشيخ الزرقانى -رحمه الله- : "وليس المراد أن كل كلمة من القرآن تقرأ على سبعة أوجه : إذاً لقال  "إن هذا القرآن أنزل
سبعة أحرف" بحذف لفظ "على"0

بل المراد ما علمت من أن هذا القرآن أنزل على هذا الشرط وهذه التوسعة، بحيث لا تتجاوز وجوه الاختلاف سبعة أوجه، مهما كثر ذلك التعدد
والتنوع فى أداء اللفظ الواحد، ومهما تعددت القراءات، وطرقها فى الكلمة الواحدة0 فكلمة مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ( ) التى ورد أنها تقرأ بطرق تبلغ
السبعة أو العشرة، وكلمة وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ( ) التى ورد أنها تقرأ باثنتين وعشرين قراءة، وكلمةأُفٍّمن قوله تعالى:فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا
تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا( ) والتى أوصل الرمانى لغاتها إلى سبع وثلاثين لغة0 وكل أولئك وأشباه أولئك، لا يخرج التغاير فيه على كثرته
عن وجوه سبعة( )0
وعلى هذا فالمراد بالأحرف فى الأحاديث السابقة وجوه فى الألفاظ وحدها لا محالة، بدليل أن الخلاف الذى صورته لنا الروايات
المذكورة كان دائراً حول قراءة الألفاظ لا تفسير المعانى، مثل قول عمر : "إذ هو يقرؤها على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله  ثم حكم
الرسول أن يقرأ كل منهما، وقوله  : "هكذا أنزلت" وقوله : "أى ذلك قرأتم فقد أصبتم" ونحو ذلك، ولا ريب أن القراءة أداء الألفاظ، لا شرح
المعانى( )0

إن القراءات كلها على اختلافها كلام الله، لا مدخل لبشر فيها، بل كلها نازلة من عنده تعالى، مأخوذة بالتلقى عن رسول الله ،
يدل على ذلك أن الأحاديث الماضية تفيد أن الصحابة  كانوا يرجعون فيما يقرأون إلى رسول الله  يأخذون عنه ويتلقون منه كل حرف يقرأون
عليه، انظر قوله  فى قراءة كل من المختلفين "هكذا أنزلت" وقول المخالف لصاحبه : "أقرأنيها رسول الله 0

ثم أضف إلى ذلك أنه لو صح لأحد أن يغير ما شاء من القرآن بمرادفة أو غير مرادفة، لبطلت قرآنية القرآن، وأنه كلام الله، ولذهب الإعجاز،
ولما تحقق قوله سبحانه وتعالى : إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ( )0

وهذا ما يهدف إليه دعاة اللادينية فى قولهم : "أنزل القرآن على سبعة أحرف" أى أنه أنزل على سبع لغات مختلفة فى لفظها ومادتها0 يفسر
ذلك القول ابن مسعود : "إنما هو كقولك هلم وتعال وأقبل"( )0

ويجاب عن ذلك فضلاً عما سبق أن التبديل والتغيير مردود من أساسه بقوله سبحانه وتعالى:قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْءَانٍ غَيْرِ هَذَا
أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ(15)قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا
تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ( )0
أما ما جاء فى حديث أبى الدرداء، وقراءته على قراءة ابن مسعود مرفوعاً : "والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى والذكر والأنثى"(
)0

فأجاب عن ذلك الإمام المازرى( ) فقال : "يجب أن يعتقد فى هذا الخبر وما فى معناه أن ذلك كان قرآناً ثم نسخ، ولم يعلم من خالف النسخ
فبقى على النسخ، ولعل هذا وقع من بعضهم قبل أن يبلغهم مصحف عثمان المجمع عليه، المحذوف منه كل منسوخ، وأما بعد ظهور مصحف
عثمان فلا يظن بأحد منهم أنه خالف فيه( )0

قال ابن حزم مؤيداً ذلك : "لأن قراءة عاصم المشهورة" المأثورة عن زر بن حبيش عن ابن مسعود عن النبى ، وقراءة ابن عامر مسندة إلى
أبى الدرداء عن رسول الله  فيهما جميعاً وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى( ) فهى زيادة لا يجوز تركها"( ) أ0هـ0

وأما ابن مسعود  فرويت عنه روايات كثيرة منها ما ليس بثابت عند أهل النقل، وما ثبت منها مخالفاً لما قلناه، فهو محمول على أنه كان
يكتب فى مصحفه بعض الأحكام والتفاسير مما يعتقد أنه ليس من القرآن، وكان لا يعتقد تحريم ذلك، وكان يراه، كصحيفة يثبت فيها ما
يشاء،وكان رأى عثمان والجماعة،منع ذلك لئلا يتطاول الزمان ويظن ذلك قرآناً0
قال المازرى : فعاد الخلاف إلى مسألة فقهية، وهى أنه هل يجوز إلحاق بعض التفاسير فى أثناء الصحف؟ قال : ويحتمل ما روى من إسقاط
المعوذتين من مصحف ابن مسعود أنه اعتقد أنه لا يلزمه كتب كل القرآن، وكتب ما سواهما وتركهما لشهرتهما عنده وعند الناس"( ) أ0هـ0

يقول ابن حزم : "ومن العجب أن جمهرة من المعارضين لنا، وهم المالكيون، قد صح عن صاحبهم مالك بن أنس أنه قال: اقرأ
عبد الله بن مسعود رجلاً : إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ(43) طَعَامُ الْأَثِيمِ( ) فجعل الرجل يقول : طعام اليتيم، فقال له ابن مسعود طعام الفاجر0 قال ابن
وهب قلت لمالك : أترى أن يقرأ كذلك؟ قال نعم أرى ذلك واسعاً، فقيل لمالك : أفترى أن يقرأ بمثل ما قرأ عمر بن الخطاب فامضوا إلى ذكر
الله؟ قال مالك : ذلك جائز … إلخ0

قال ابن حزم : "فكيف يقولون مثل هذا؟ أيجيزون القراءة هكذا! فلعمرى لقد هلكوا وأهلكوا، وأطلقوا كل بائقة فى القرآن، أو
يمنعون من هذا، فيخالفون صاحبهم فى أعظم الأشياء، وهذا إسناد عنه فى غاية الصحة وهو مما أخطأ فيه مالك مما لم يتدبره، لكن قاصداً إلى
الخير، ولو أن امرأً ثبت على هذا وجازه بعد التنبيه له على ما فيه، وقيام حجة الله تعالى عليه فى ورود القرآن بخلاف هذا لكان كافراً، ونعوذ
بالله من الضلال( ) أ0هـ0

وهاك برهانٌ آخر ذكره صاحب التبيان فى آداب حملة القرآن–على فساد مزاعم أعداء الإسلام من المستشرقين وأذيالهم من
جواز "قراءة القرآن بالمعنى"0
يقول الإمام النووى : "إن النبى  علم البراء بن عازب دعاء فيه هذه الكلمة "ونبيك الذى أرسلت" فلما أراد البراء أن يعرض ذلك الدعاء على
رسول الله  قال : "ورسولك الذى أرسلت" فلم يوافقه النبى  على ذلك، بل قال له : "لا0 ونبيك الذى أرسلت"( )0 وهكذا نهاه عليه الصلاة
والسلام أن يضع لفظة "رسول"، موضع لفظة "نبى" مع أن كليهما حق لا يحيل معنى، إذ هو  رسولٌ ونبى معاً0

ثم قال : فكيف يسوغ للجهال المغفلين أن يقولوا : إنه  كان يجيز أن يوضع فى القرآن الكريم مكان عزيز حكيم، غفور رحيم، أو سميع
عليم0 وهو يمنع من ذلك فى دعاء ليس قرآناً، والله يقول مخبراً عن نبيه  : قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي( )، ولا تبديل أكثر
من وضع كلمة، مكان أخرى"( ) أ0هـ0

ويقول فضيلة الأستاذ الدكتور زقزوق رداً على مزاعم المستشرقين فى ترويجهم لفكرة "قراءة القرآن بالمعنى" : "إن الواقع الذى
عليه المسلمون منذ أربعة عشر قرناً هو تمسكهم الشديد بالمحافظة على الوحى القرآنى لفظاً ومعنى، ولا يوجد مسلم يستبيح لنفسه أن يقرأ
القرآن بأى لفظ شاء ما دام يحافظ على المعنى0

وليبحث المستشرقون اليوم فى أى مكان فى العالم عن مسلم يستبيح لنفسه مثل ذلك وسيعيهم البحث0

فلماذا إذن هذا التشكيك فى صحة النص القرآنى وهم يعلمون مدى حرص المسلمين فى السابق واللاحق على تقديس نص القرآن الكريم لفظاً
ومعنى؟

إنهم يبحثون دائماً – كما سبق أن أشرنا – عن الآراء المرجوحة والأسانيد الضعيفة ليبنوا عليها نظريات لا أساس لها من
التاريخ الصحيح، ولا من الواقع0

فنحن المسلمون قد تلقينا القرآن الكريم عن الرسول ، وهو بدوره تلقاه وحياً من الله ولم يحدث أن أصاب هذا القرآن أى تغيير أو تبديل
على مدى تاريخه الطويل، وهذه ميزة فريدة انفرد بها القرآن وحده من بين الكتب السماوية كافة، الأمر الذى يحمل فى طياته صحة هذه
الشريعة التى ختم بها الله  دينه الذى بعث به جميع أنبيائه، ورسله من لدن آدم إلى خاتمهم 0

وفى هذا الصدد نورد ما ذكره "رودى بارت" فى مقدمة ترجمته الألمانية للقرآن – وكأنه يرد على زملائه الذين راحوا يشككون فى صحة النص
القرآنى0

يقول "بارت" : "ليس لدينا أى سبب يحملنا على الاعتقاد بأن هناك آية فى القرآن كله لم ترد عن محمد ( ) أ0هـ0


المبحـث الثالـث
الأحـرف السبعة أعـم من القـراءات السبع

إن الأحرف السبعة التى نزل بها القرآن الكريم، لا تعنى القراءات السبع المنقولة عن الأئمة السبعة( )، ومن زعم ذلك أخطأ من
وجهين :
أحدهما : أن الأحرف التى نزل بها القرآن، أعم من تلك القراءات المنسوبة إلى الأئمة السبعة القراء عموماً، وأن هذه القراءات أخص من تلك
الأحرف السبعة النازلة خصوصاً مطلقاً، ذلك لأن الوجوه التى أنزل الله عليها كتابه، تنتظم كل وجه قرأ به النبى ، وأقرأه أصحابه، وذلك ينتظم
القراءات السبع المنسوبة إلى هؤلاء الأئمة السبعة القراء، كما ينتظم ما فوقها إلى العشرة، وما بعد العشرة، وما كان قرآناً، ثم نسخ، ولم
يصل إلى هؤلاء القراء جميعاً، ولهذا نصوا فى المذهب المختار على أنه يشمل كل وجوه القراءات : صحيحها وشاذها ومنكرها( )0

وقال مكى بن أبى طالب( ) : "هذه القراءات التى يقرأ بها اليوم، وصحت رواياتها عن الأئمة، جزء من الأحرف السبعة التى نزل
بها القرآن "… قال ومن ظن أن قراءة هؤلاء القراء كنافع، وعاصم، هى الأحرف السبعة التى فى الحديث فقد غلط غلطاً عظيماً، قال : ويلزم
من هذا أن ما خرج عن قراءة هؤلاء السبعة مما ثبت عن الأئمة وغيرهم، ووافق خط المصحف أن لا يكون قرآناً"( )0
وفى هذا رد على طه حسين ومن قال بقوله : "إن القراءات ليست من الأحرف السبعة التى نزل بها القرآن"( ) أ0هـ0

ثانيهما : أن السبعة لم يكونوا قد خلقوا، ولا وجدوا حين نطق الرسول ، بهذا الحديث الشريف0 ومحال أن يفرض الرسول على نفسه، وعلى
أصحابه، ألا يقرأوا بهذه الأحرف السبعة النازلة إلا إذا علموا أن هؤلاء القراء السبعة قد اختاروا القراءة بها، على حين أن بين العهدين بضعة
قرون( )، وعلى حين أن هؤلاء القراء وسواهم إنما أخذوا عن النبى ، من طريق أصحابه، ومن أخذ عنهم، إلى أن وصلوا إليهم0

ثم إن القول بأن الأحرف السبعة التى نزل بها القرآن ما هى إلا تلك القراءات السبع المعروفة الآن، يستلزم أن يبقى قول الرسول  : "إن هذا
القرآن أنزل على سبعة أحرف" عارياً عن الفائدة، غير نافذ الأثر، حتى يولد القراء السبعة المعروفون وتؤخذ القراءة عنهم0 وذلك باطل أيضاً
يكذبه الواقع من قراءة النبى ، وقراءة أصحابه وتابعيه بالأحرف السبعة من قبل أن يولد القراء السبعة المعروفون0

قال المحقق ابن الجزرى : "فلو كان الحديث منصرفاً إلى قراءات السبعة المشهورين أو سبعة غيرهم من القراء الذين ولدوا بعد
التابعين، لأدى ذلك إلى أن يكون الخبر عارياً عن الفائدة إلى أن يولد هؤلاء السبعة، فتؤخذ عنهم القراءة، وأدى أيضاً إلى أنه لا يجوز لأحد من
الصحابة أن يقرأ إلا بما يعلم أن هؤلاء السبعة من القراء إذا ولدوا وتعلموا اختاروا القراءة به، وهذا باطل، إذ طريق أخذ القراءة أن تؤخذ عن
إمام ثـقة، لفظاً عن لفظ، إماماً عن إمام، إلى أن يتصل بالنبى ( )0

وقال أبو شامة( ) : "ظن قوم أن القراءات السبع الموجودة الآن هى التى أريدت فى الحديث، وهو خلاف إجماع أهل العلم قاطبة،
وإنما يظن ذلك بعض أهل الجهل"( ) أ0هـ0


المبحـث الرابـع
بقـاء الأحـرف السبعـة فـى المصاحـف

يقول الإمام ابن حزم رداً على من زعم أن سيدنا عثمان  أسقط ستة أحرف من جملة الأحرف السبعة المنزل بها القرآن من
عند الله 0
قال : تلك "عظيمة من عظائم الإفك والكذب، ويعيذ الله تعالى عثمان  من الردة بعد الإسلام0

ولقد أنكر أهل التعسف على عثمان  أقل من هذا، مما لا نكره فيه أصلاً، فكيف لو ظفروا له بمثل هذه العظيمة0 ومعاذ الله من ذلك، وسواء
عند كل ذى عقل، إسقاط قراءة أنزلها الله تعالى، أو إسقاط آية أنزلها الله تعالى، ولا فرق، وتالله إن من أجاز هذا غافلاً، ثم وقف عليه، وعلى
برهان المنع من ذلك وأصر، فإنه خروج عن الإسلام لا شك فيه، لأنه تكذيب لله تعالى فى قوله الصادق لنا : إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ
لَحَافِظُونَ( ) وفى قوله الصادق : إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْءَانَهُ(17)فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْءَانَهُ(18)ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ( ) فالكل مأمورون باتباع
قرآنه الذى أنزله الله تعالى عليه0 فمن أجاز خلاف ذلك فقد أجاز خلاف الله تعالى وهذه ردة صحيحة لا مرية فيها، وما رامت غلاة الروافض
وأهل الإلحاد الكائدون للإسلام( ) إلا بعض هذا( ) أ0هـ0

يقول الشيخ الزرقانى : "ونحن إذا رجعنا بهذه الأوجه السبعة إلى المصاحف العثمانية وما هو مخطوط بها فى الواقع ونفس الأمر،
نخرج بهذه الحقيقة التى لا تقبل النقض، ونصل إلى فصل الخطاب فى هذا الباب، وهو أن المصاحف العثمانية قد اشتملت على الأحرف السبعة
كلها0 ولكن على معنى أن كل واحد من هذه المصاحف اشتمل على ما يوافق رسمه من هذه الأحرف كلاً أو بعضاً، بحيث لم تخل المصاحف فى
مجموعها عن حرف منها رأساً"( )0
ويدل على ذلك خطة سيدنا عثمان  فى جمعه للقرآن الكريم وقوله للرهط القريشيين الثلاثة : عبد الله بن الزبير، وسعيد بن
العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام : "إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت فى شئ من القرآن فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم"
ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف فى المصاحف، رد عثمان الصحف إلى حفصه، وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من
القرآن فى كل صحيفة أو مصحفٍ أن يحرق"( ) فدل ذلك على ما هو مجمع عليه، أن سيدنا عثمان  كتب مصاحف متعددة متفاوتة فى
إثبات، وحذف، وبدل وغيرها، لأنه  قصد اشتمالها على الأحرف السبعة، وجعلوها خالية من النقط والشكل، تحقيقاً لهذا الاحتمال أيضاً، فكانت
بعض الكلمات يقرأ رسمها بأكثر من وجه عند تجردها من النقط والشكل نحو فَتَبَيَّنُوا من قوله تعالى : إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا ( )
فإنها تصلح أن تقرأ "فتثبتوا" عند خلوها من النقط، والشكل، وهى قراءة أخرى، أما الكلمات التى لا تدل على أكثر من قراءة عند خلوها من
النقط والشكل مع أنها واردة بقراءة أخرى أيضاً، فإنهم كانوا يرسمونها فى بعض المصاحف برسم يدل على قراءة، وفى بعض آخر برسم آخر
يدل على القراءة الثانية كقراءة "وصى" بالتضعيف و "أوصى" بالهمز، وهما قراءتان فى قوله سبحانه وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ( )
أ0هـ0

إن الأحرف السبعة باقية كما كانت إلى يوم القيامة، مثبوتة فى القراءات المشهورة من المشرق إلى المغرب، ومن الجنوب إلى
الشمال، فما بين ذلك، لأنها من الذكر المنزل الذى تكفل الله تعالى بحفظه، وضمان الله تعالى لا يخيس أصلاً، وكفالته تعالى لا يمكن أن
تضيع0

ومن البرهان على كذب أهل الجهل وأهل الإفك على عثمان  فى هذا ما رواه البخارى فى صحيحه بسنده عن ابن الزبير قال :
قلت لعثمان : وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي
أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ( )0 قال: قد نسختها الآية الأخرى، فلم تَكْتُبها أو تَدَعها؟ قال : يا ابن أخى : لا أُغيِّرُ شيئاً منه من
مكانه"( )0

وبعـد
إن القراءات كلها على اختلافها كلام الله، لا مدخل لبشر فيها، بل كلها نازلة من عنده تعالى، مأخوذة بالتلقى عن رسول الله 
وحفظها سيدنا عثمان  فى جمعه لكتاب الله، ومعاذ الله أن يسقط منها شيئاً، وهى مثبوتة فى القراءات المشهورة فى مشارق الأرض
ومغاربها0
لا يجوز أن نجعل اختلاف القراءات معركة جدال ونزاع وشقاق، ولا مثار تردد وتشكيك وتكذيب، ولا سلاح عصبية وتـنطع
وجمود0 على حين أن نزول القرآن على سبعة أحرف إنما كانت حكمته من الله التيسير، والتخفيف، والرحمة، والتهوين على الأمة، فما يكون
لنا أن نجعل من هذا اليسر عسراً، ومن هذه الرحمة نقمة!0 يرشد إلى ذلك قوله  : "الجدال فى القرآن كفر"( ) وكذلك تغير وجهه الشريف
عند اختلافهم وقوله لهم : "إنما أهلك من قبلكم الاختلاف"( )0 وضربه فى صدر أُبَى بن كعب ، حين جال بخاطره حديث السوء فى هذا
الموضوع الجليل0 الذى زلت فيه بعض الأقدام، وكثر فيه القيل والقال، إلى حدٍ كاد يطمس أنوار الحقيقة"( ) أ0هـ0

والله تبــارك وتعالــى
أعلـى وأعلـم




الفصــــل الثالـــث
أحاديث (رؤية الله )
و (محاجة آدم موسى عليهما السلام) و (الشفاعة)

وتحته ستة مباحث :
المبحث الأول: موقف أهل البدع قديماً وحديثاً من أحاديث الصفات والرد عليهم0
المبحث الثانى : شبــه الطاعنيـن فـى حديـث الرؤيـة والـرد عليهــم0
المبحث الثالث : موقف أهل البدع قديماً وحديثاً من أحاديث القدر والرد عليهم0
المبحث الرابع : شبه الطاعنين فى حديث محاجة آدم موسى عليهما السلام، والرد عليها0
المبحث الخامس: موقف المبتدعة قديماً وحديثاً من أحاديث المغفرة لمرتكب الكبيرة والرد عليهم0
المبحث السادس : شبه الطاعنين فى حديث الشفاعة والرد عليها0


المبحـث الأول
موقف أهل البدع قديماً وحديثاً من أحاديث الصفات

أحاديث العقائد مثل أحاديث التوحيد، وصفات الله ، وأحاديث عقيدة القدر طعن فيها المبتدعة من المعتزلة، والجهمية، وغيرهم
من أهل الكلام0
وكان أول من يذكر عنه أنه تكلم فى صفات الله تعالى فى الإسلام، وابتدع القول بنفيها وتعطيلها هو " الجعد بن درهم"( )، ثم أخذ عنه ذلك
تلميذه الجهم بن صفوان الترمذى( )، وتولى كبر نشر تلك المقالة فكثر أتباعه0 فلما ظهرت المعتزلة أخذت عن جهم بن صفوان قوله فى نفى
الصفات، وجعلوها عقيدة يتدينون لله بها"( )0

وقد أجمع المعتزلة على نفى صفات الله تعالى الأزلية، سواء منها ما كان من صفات الذات( )، أو صفات الأفعال( )0

وزعموا بأنه ليس له سبحانه علم، ولا قدرة،ولا حياة،ولا سمع،ولا بصر،ولا غير ذلك من الصفات( )0 واتفقوا على أن صفاته
سبحانه هى إثبات لذاته( ) كما اتفق جمهورهم على أن الله تعالى عالم،قادر،حى،بذاته، لا بعلم، وقدرة، وحياة، فهى صفات ومعانى قائمة به(
)0

والذى دفعهم إلى نفى صفات الله تعالى، الخوض فى ذلك بعقولهم والاعتماد عليها فى معرفة الله سبحانه وصفاته( )0 وذهبوا إلى
أن الاستدلال بالسمع على ذلك غير ممكن( )0 ومن هنا أولوا آيات القرآن الكريم التى تثبت صفات الله تعالى فهى آيات متشابهة كما يزعمون،
فيجب أن تؤول لموافقة الأدلة القاطعة وهى أدلة العقول، لأنها موهمة للتشبيه، ولأنها محتملة الدلالة، وأما العقل فلا احتمال فى دلالته0 وما
وقع التشبيه فى الأمة إلا بسبب التعلق بالآيات المتشابهة، وترك تأولها على ما يوافق دليل العقل، والآيات المحكمة( )0

موقف المعتزلة من آيات الصفات :
قال القاضى عبد الجبار : "إذا ورد فى القرآن آيات تقتضى بظاهرها التشبيه، وجب تأويلها؛ لأن الألفاظ معرضة للاحتمال، ودليل
العقل بعيد عن الاحتمال"( )0
ويورد أبو الحسين عدداً من آيات الصفات ثم يقول : "فكل هذه الآيات وما أشبهها من الآيات، فإنما يريد  ذاته، لا أن ثم نفساً
ووجهاً ويداً، وعيناً ويميناً سواء"( )0

موقف المعتزلة من أحاديث الصفات :
إذا كان هذا موقفهم من آيات الصفات الواردة فى القرآن الكريم تأويلها بما يوافق العقل0
فقد ذهبوا إلى عدم الاحتجاج بالأحاديث الواردة فى الصفات مهما كانت درجة صحته، ما دام يعارض عقولهم فى إثبات صفة لله تعالى0
وقعد عبد الجبار فى ذلك قاعدة عامة، تكشف عن موقف المعتزلة من أحاديث الصفات فقال : "ومما يتعلقون به أخبار مروية عن النبى 
وأكثرها يتضمن الجبر، والتشبيه، فيجب القطع على أنه  لم يقله، وإن قال؛ فإنه قاله حكاية عن قوم، والراوى حذف الحكاية، ونقل الخبر"( )0

وتارة يردون الأحاديث فى هذا الباب، بحجة أنها آحاد تفيد الظن، ولا يصلح فى هذا الباب إلا الدليل اليقينى( )، وهو العقل فارس
هذا الميدان فلا منافس له ألبتة، ولا مشارك له0 ويشهد لذلك تأويلهم لآيات القرآن، وردهم لأحاديث متواترة فى هذا الباب كحديث "رؤية رب
العزة فى الآخرة" وسيأتى الدفاع عنه0

ويُعدّ نفى الصفات، هو الأصل الأول من أصولهم الخمسة، وهو التوحيد الذى يعد من أهم أصولهم، فمن ثم نسب إليهم وسموا
أنفسهم بـ "أهل التوحيد" وعنوا بالتوحيد ما اعتقدوه من نفى الصفات الإلهية لاعتقادهم أن إثباتها يستلزم التشبيه، ومن شبه الله بخلقه أشرك(
)0 ويبنى المعتزلة على هذا الأصل عدة أمور منها :
أ- تعطيـل الصفــات ب- القول بخلق القرآن ج- إنكار الرؤيـــة
فرأس النفاة المعتزلة والجهمية …، ورأس المثبتة مقاتل بن سليمان( )، ومن تبعه من الرافضة والكرامية0 فإنهم بالغوا فى ذلك
حتى شبهوا الله تعالى بخلقه0 تعالى عما يقولون علواً كبيراً( )0
حكم المعتزلة على من خالفهم فى أصلهم التوحيد :
المعتزلة يكفرون من خالفهم فى هذا الأصل اعنى "التوحيد"0
قال القاضى عبد الجبار : "أما من خالف فى التوحيد، ونفى عن الله ما يجب إثباته، وأثبت ما يجب نفيه عنه، فإنه يكون كافراً"( )0

هذا فضلاً عن طعنهم فى أهل السنة لإثباتهم صفات الله  فقالوا : إنهم مشبهة غير موحدين لله، ولا يعرفون ربهم؛ لأنهم وصفوه بالأعضاء،
والزوال، والاستواء، ويلزم من ذلك أن يكون جسماً( )0

وعلى درب المعتزلة صار أسلافهم، من دعاة اللادينية، ردوا أحاديث الصفات تارة بحجة مخالفتها للعقل لما فى ظاهرها من
التشبيه والتجسيم، وتارة بحجة مخالفتها لكتاب الله ، وتارة ثالثة0 بحجة أنها آحاد تفيد الظن، والعقائد بابها اليقين والقطع الحاصل بالتواتر0
ومدح أعداء الإسلام من المستشرقين، طريقة المعتزلة فى تأويلهم القرآن، وردهم للأحاديث الواردة فى باب الصفات، وذموا أهل
السنة؛ لعدم سلوكهم مسلكهم( ) أ0هـ0

موقف السلف الصالح من أحاديث الصفات والرد على أهل البدع قديماً وحديثاً :

الكلام عن صفات الله  له أهمية عظيمة بالنسبة للفرد المسلم، وذلك لأن الإيمان بالله الذى هو الركن الأول من أركان الإيمان،
لا يتحقق إلا إذا وصف الله سبحانه بما يستحقه من صفات الكمال اللائقة به، ونزهه عن صفات النقص التى نفاها عن نفسه جل جلاله، بل لا
يكون العبد موحداً لله إلا إذا أقر بأسماء الله وصفاته تحقيقاً لأحد أقسام التوحيد الثلاثة( )، التى لا ينفك بعضها عن بعض، ولوضوح هذا التوحيد
- توحيد الأسماء والصفات – لم يقع خلاف بين صحابة رسول الله  فيه، ولم يتنازع اثنان منهم فى أمر واحد منه، بل الجميع كانوا على اتفاق
تام بالإقرار به، والتسليم بما جاء فى القرآن والحديث منه( )0

وقد ظلت القرون الخيرية تنهج نهج صحابة رسول الله ، فى إثبات صفات الله والإقرار بها، إلى أن نجم التهجم فى الأمة، وابتدع
القول بنفى صفات الله، فاحتضن أهل الاعتزال تلك المقالة، وجعلوها عقيدة يدينون لله بها"( )0

وأما أهل السنة والجماعة من سلف هذه الأمة فإنهم أثبتوا لله تعالى ما أثبته لنفسه وأثبته له رسوله ، من أسمائه الحسنى،
وصفاته العليا، من غير تحريف، ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تمثيل0 كما نفوا عنه ما لا يليق به من صفات النقص التى نفاها عن نفسه
سبحانه،ونفاها عنه رسوله ، مستندين فى كل ذلك إلى كتاب ربهم،وسنة نبيهم 0

قال تعالى : وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا( ) وقال بعد أن ذكر منها عدة أسماء فى آخر سورة الحشر : لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى( )
والأسماء المذكورة فيها بلغة العرب صفات، ففى إثبات أسمائه إثبات صفاته لأنه إذا ثبت أنه حى مثلاً فقد وصف بصفة زائدة على الذات، وهى
صفة الحياة، ولولا ذلك لوجب الاقتصار على ما ينبئ عن وجود الذات فقط، وقد قال سبحانه وتعالى : سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ( )
فنزه نفسه عما يصفونه به من صفة النقص، ومفهومه أن وصفه بصفة الكمال مشروع0

وقد قسم البيهقى وجماعة من أئمة السنة جميع الأسماء المذكورة فى القرآن وفى الأحاديث الصحيحة إلى قسمين :
أحدهما صفات ذاته : وهى ما استحقه فيما لم يزل ولا يزال0
وثانيهما صفات فعله : وهى ما استحقه فيما لا يزال دون الأزل، قال ولا يجوز وصفه إلا بما دل عليه الكتاب، والسنة الصحيحة الثابتة أو أجمع
عليه0 ثم منه ما اقترنت به دلالة العقل كالحياة، والقدرة، والعلم، والإرادة، والسمع، والبصر، والكلام من صفات ذاته، ومنه ما ثبت بنص
الكتاب والسنة كالوجه، واليد، والعين، من صفات ذاته، وكالاستواء، والنزول، والمجئ، من صفات فعله، فيجوز إثبات هذه الصفات له لثبوت
الخبر بها على وجه ينفى عنه التشبيه، فصفة ذاته لم تزل موجودة بذاته ولا تزال، وصفة فعله ثابتة عنه ولا يحتاج فى الفعل إلى مباشرة
إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ( )0 ولولا إخبار الله ورسوله ما تجاسر عقل أن يحوم حول ذلك الحمى( )0

وعلى هذا اتفاق الفقهاء فى مشارق الأرض ومغاربها قال محمد بن الحسن الشيبانى : "اتفق الفقهاء كلهم من المشرق إلى المغرب على
الإيمان بالقرآن، وبالأحاديث التى جاء بها الثقات عن رسول الله ، فى صفة الرب من غير تشبيه ولا تفسير، فمن فسر شيئاً منها وقال بقول
جهم فقد خرج عما كان عليه النبى ، وأصحابه وفارق الجماعة، لأنه وصف الرب بصفة لا شئ0

وقال ابن عبد البر : "أهل السنة مجمعون على الإقرار بهذه الصفات الواردة فى الكتاب والسنة ولم يكيفوا شيئاً منها"( )0
قال الإمام الشافعى – رحمه الله – : "لله أسماء وصفات لا يسع أحداً ردها، ومن خالف بعد ثبوت الحجة عليه فقد كفر، وأما قبل قيام الحجة
فإنه يعذر بالجهل؛ لأن علم ذلك لا يدرك بالعقل، ولا الرؤية والفكر، فنثبت هذه الصفات وننفى عنه التشبيه كما نفى عن نفسه، فقال تعالى 
لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ( )0

وقال أبو حنيفة – رحمه الله - : "لا يشبه بشئ من خلقه، ولا يشبهه شئ من خلقه… وصفاته كلها خلاف صفات المخلوقين،
يعلم لا كعلمنا، ويقدر لا كقدرتنا،ويرى لا كرؤيتنا"( )0
والذى نرتضيه رأياً وندين لله به عقيدة ما قاله الحافظ ابن حجر : "اتباع سلف الأمة للدليل القاطع على أن إجماع الأمة حجة فى
إثبات أسماء الله وصفاته وعدم تأويلها، ولو كان تأويلها حتماً لأوشك أن يكون اهتمامهم به فوق اهتمامهم بفروع الشريعة، وإذا انصرم عصر
الصحابة والتابعين على الإضراب عن التأويل، كان ذلك هو الوجه المتبع، وقد تقدم النقل عن أهل العصر الثالث، وهم فقهاء الأمصار،
كالثورى، والأوزاعى، ومالك، والليث، ومن عاصرهم، وكذا من أخذ عنهم من الأئمة، فكيف لا يوثق بما اتفق عليه أهل القرون الثلاثة، وهم
خير القرون بشهادة صاحب الشريعة ( ) أ0هـ0

أما رد أهل البدع قديماً وحديثاً لأحاديث العقائد من أسماء الله، وصفاته، بحجة أنها آحاد0
فهذا من تضليلهم لأن القضية ليست قضية متواتر وآحاد كما يزعمون، وإنما قضية عقل قدسوه وعبدوه من دون الله، وطوعوا النصوص من
الكتاب والسنة لهذا الإله "إله الهوى" : أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ( )0

وجعلوا من عقولهم أصلهم الأول "المقدس" وهو التوحيد القائم على نفى الصفات، وطبقوا هذا الأصل على المتواتر نفسه، وهو القرآن الكريم،
فأولوا ما فيه من إثبات أسماء وصفات الله  كما سبق من قول عبدالجبار وغيره0 هذا من جهة0

ومن جهة ثانية فإن ما جاءت به السنة الصحيحة – حتى ولو كانت آحاداً – من أحاديث فى أسماء الله، وصفاته لم تكن السنة فى ذلك بدعاً،
وإنما جاءت بمثل ما جاء به القرآن الكريم، ولا يوجد فى أحاديث العقائد ما يكون مخالفاً لعقائد القرآن، او زائداً عليها بحيث لا يكون له أصل
فى القرآن0 وكل ما يستشكل من الأحاديث الصحيحة فى العقائد تجد مثله فى القرآن، ويجرى فيها ما يجرى فى القرآن من إثباته بلا تعطيل ولا
تشبيه0
وقد حرص الإمام الجليل أبو عبد الله إسماعيل البخارى على بيان ذلك فى تراجم أبواب كتاب التوحيد من جامعه الصحيح، قبل أن
يذكر أحاديث الباب وما فيها من دلالة على صفات لله ، يعنون للباب بالآيات القرآنية التى جاءت بمثل ما جاءت به أحاديث الباب وهو بذلك
يؤكد ما سبق، من أن ما جاءت به السنة المطهرة من أحاديث فى الصفات لم تكن فى ذلك بدعاً وإنما جاءت مؤيدة ومقررة، وموضحة لما جاء
فى القرآن الكريم0

وهاك نماذج من صنيعه :
"باب قول الله تعالى" وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ( ) وقوله جل ذكره تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ( )0 وتحت هذا الباب ذكر من
الأحاديث ما يوافقه مثل قوله  : "لما خلق الله الخلق كتب فى كتابه – وهو يكتب على نفسه … الحديث"( ) وقوله ، يقول الله تعالى : "أنا عند
ظن عبدى بى وأنا معه إذا ذكرنى، فإن ذكرنى فى نفسه ذكرته فى نفسى" الحديث( )، وباب قول الله  : كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ( )0 وتحته
حديث جابر مرفوعاً : "أعوذ بوجهك" لما نزل عليه : "قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم أو من تحت أرجلكم … الحديث"( )
وباب قول الله تعالى : لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ( ) وتحته أحاديث منها قوله  : "يد الله ملأى لا يغيضها سَحَّاء الليلَ والنهارَ، قال أرأيتم ما انفق منذ
خلق الله السماوات والأرض فإنه لم يغض ما فى يده0 وقال عرشه على الماء، وبيده الأخرى الميزان يخفض ويرفع"( )0 وقوله  : "إن الله
يقبض يوم القيامة الأرض وتكون السماوات بيمينه ثم يقول أنا الملك"( ) وحديث يقر فيه  الحبر اليهودى فى قوله : "يا أبا القاسم إن الله
يمسك السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر والثرى على أصبع، والخلائق على أصبع، ثم يقول أنا الملك أنا الملك0

يقول ابن عمر "فرأيت النبى " ضحك حتى بدت نواجذه0 ثم قرأ : وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ
مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ( )0

فكل هذه الأحاديث، وما فى معناها، والمثبتة لله  الصفات من النفس، والوجه، واليد، ونحو ذلك من العين، أو الاستواء، والنزول، والمجئ،
والضحك، والغضب … إلخ0
أصول هذه الصفات مذكورة فى القرآن الكريم، ولا يوجد فى الحديث الصحيح الآحاد إلا ما يؤيد هذه الأصول ويوضحها ويقررها،
أو يكون من جزئياتها ونظائرها0 فردها بحجة أنها آحاد هو رد للقرآن نفسه0

وعدل القول فى هذه الأخبار ما قاله الإمام ابن قتيبة قال : "أن نؤمن بما صح منها بنقل الثقات لها، فنؤمن : بالرؤية والتجلى، وأنه يعجب،
وينزل إلى السماء، وأنه على العرش استوى، وبالنفس، واليدين، من غير أن نقول فى ذلك بكيفية أو بحدٍ أو أن نقيس على ما جاء ما لم يأت0
فنرجو:أن نكون فى ذلك القول والعقد، على سبيل النجاة غداً، إن شاء الله تعالى0

ويقول أيضاً : "فنحن نقول كما قال الله، وكما قال رسوله، ولا نتجاهل، ولا يحملنا ما نحن فيه : من نفى التشبيه، على أن ننكر ما وصف به
نفسه، ولكنا لا نقول : كيف البيان؟ وإن سئلنا : نقتصر على جملة ما قال، ونمسك عما لم يقل"( )0
وما يستشكل من الأحاديث الصحيحة فى هذا الباب تجد مثله فى القرآن الكريم، وقد صنف غير واحد من الأئمة فى توضيح هذا المشكل0

منهم الإمام ابن قتيبة فى كتابيه "تأويل مشكل القرآن" و "تأويل مختلف الحديث" والإمام الطحاوى فى كتابه "مشكل الحديث وبيانه" على تكلف
منه، هو والإمام ابن قتيبة فى تأويل مشكل الضعيف، والموضوع فى أحاديث الصفات، ولو استعمل كل منهما الصنعة الحديثية لكانا فى غنى
عن هذا التكلف0 وغيرهم من الأئمة( ) أ0هـ0

وصفوة القول فى موقف أهل السنة من آيات الصفات، وأخبارها، وواجب المسلم نحوها ما قاله فضيلة الأستاذ الدكتور طه
حبيشى : "الواجب على المسلم السامع للآيات والأخبار المتعلقة بالصفات تقديسها باعتقاده فى كل آية أو خبر صح معنى يليق بجلال الله تعالى
: وعليه الإيمان والتصديق بما قاله رب العزة ورسوله ، على مراد الله، ومراد رسول الله، وعليه الاعتراف بالعجز عن إدراك مراد الله، ومراد
رسوله ، وعليه السكوت، والإمساك عن التصرف فى الألفاظ الواردة، وكف الباطن عن التفكير فى ذلك، واعتقاده أن ما خفى عنه لم يخف
عن الرسول ، ولا عن الصديق، ولا عن أكابر الصحابة  أجمعين ( ) أ0هـ0

والله تبــارك وتعالــى
أعلـى وأعلـم


المبحـث الثانـى
شبه الطاعنين فى حديث رؤية الله تعالى
والــرد عليهــا

لقد أجمعت المعتزلة، وسائر الفرق المبتدعة من الجهمية، والخوارج، والروافض، وغيرهم على القول بنفى رؤية الله تعالى
بالأبصار يوم القيامة، وقد نص المعتزلة أنفسهم على هذا الإجماع، كما أشارت كثير من كتب الفرق إليه( )0

يقول القاضى عبد الجبار : "لا أحد يدعى أنه يرى الله سبحانه إلا من اعتقده جسماً مصوراً بصورة مخصوصة، أو يعتقد فيه أنه
يحل فى الأجسام"( )0

وليس هذا منتهى قولهم فى نفى الرؤية، بل زعموا أنه يستحيل أن يرى نفسه، لأنه يستحيل فى ذاته أن يرى، فذاته لا ترى( )0
وهل يرى غيره؟ فهذا موضع اختلاف بينهم، أجازه قوم، ومنعه آخرون( )0

كما اختلفوا فى رؤيته بالقلوب، فقال أبو الهذيل، وأكثر المعتزلة : نرى الله بقلوبنا بمعنى أنا نعلمه بقلوبنا، وأنكر بعضهم ذلك( )0

وقد صرحوا بأن إثبات الرؤية لا يمكن الاستدلال عليه بالسمع، أى بالقرآن والسنة، لأن الاستدلال بذلك ينبنى على أنه تعالى عدل حكيم لا يظهر
المعجز على الكذابين، ومن لا يقول بذلك فلا يمكنه الاستدلال بالسمع على شئ أصلاً( )0 بل "لا سمع ورد مصرحاً بأنه سبحانه يرى
بالأبصار"( )، "ولا فى كتاب الله  ذكر الرؤية فكيف يصح أن يدعى أنه تعالى سمى نفسه بأنه يرى، أو ورد السمع به"( )0

ولذا كان عمدة أدلتهم فى نفى الرؤية العقل، وإن كانوا قد أتبعوا ذلك بأدلة نقلية من الكتاب والسنة تأولوها على ما يوافق أصلهم
الأول "التوحيد" القائم على نفى الصفات وزعموا تعارض حديث الرؤية مع القرآن والسنة0

قال القاضى عبد الجبار متأولاً لحديث الرؤية قال : "ثم نتناوله نحن على وجه يوافق دلالة العقل، فنقول : المراد به سترون ربكم يوم القيامة،
أى ستعلمون ربكم يوم القيامة كما تعلمون القمر ليلة البدر0 وعلى هذا قال : "لا تضامون فى رؤيته" أى لا تشكون فى رؤيته فعقبه بالشك،
ولو كان بمعنى رؤية البصر لم يجز ذلك0 والرؤية بمعنى العلم مما نطق به القرآن، وورد به الشعر"( )0

قال الزمخشرى : "سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر" بمعنى ستعرفونه معرفة جلية هى فى الجلاء كإبصاركم القمر إذا امتلأ واستوى"( )
فحمل الرؤية على المعرفة، بينما حملها عبد الجبار على العلم0

ويقول عبد الجبار فى أحاديث الرؤية : "ومما يتعلقون به، أخبار مروية عن النبى ، وأكثرها يتضمن الجبر والتشبيه، فيجب القطع على أنه ،
لم يقله وإن قال فإنه قاله حكاية عن قوم، والراوى حذف الحكاية ونقل الخبر"( )0

وبقول المعتزلة قال نابتة من المنحرفين بتعارض الحديث مع القرآن، والسنة، والعقل، وصرحوا بوضع الحديث"( )0
الجواب عن شبهات المعتزلـة ومن قـال بقولهـم
فى إنكار رؤية رب العزة جل جلاله

أولاً : إن الأحاديث التى دلت على ثبوت الرؤية تبلغ حد التواتر أخرجها أصحاب الصحاح والسنن والمسانيد واعتنى بجمعها أئمة من العلماء
كالدارقطنى، وأبى نعيم الأصبهانى، وأبى بكر الأجرى وغيرهم الكثير( )0
وقد نص على تواتر أحاديث الرؤية جماعة من العلماء، منهم الحافظ ابن تيمية( )، وابن قيم( )، وابن كثير( )، وابن أبى العز( )، وعبد العزيز
الغمارى( ) وغيرهم0

قال الحافظ ابن حجر : "جمع الدارقطنى طرق الأحاديث الواردة فى رؤية الله تعالى فى الآخرة فزادت على العشرين، وتتبعها ابن
قيم الجوزية فى حادى الأرواح فبلغت الثلاثين، وأكثرها جياد، وأسند الدارقطنى عن يحيى بن معين قال : "عندى سبعة عشر حديثاً فى الرؤية
صحاح"( )0
وفى تواتر حديث الرؤية رد على المعتزلة، ومن قال بقولهم من أعداء السنة "بوجوب القطع على أنه  لم يقل حديث الرؤيا وأنه مكذوب عليه"(
)0

كما أن فى تواتر حديث الرؤيا بيان أن القضية مع أعداء السنة ليست قضية متواتر يؤخذ به فى العقائد، وآحاد لا يؤخذ به، كلا، القضية، قضية
عقولهم وأصولهم الإلحادية التى قدموها على النصوص0 كتاب وسنة، وإلا فلو صدقوا فى زعمهم بأن العقائد تؤخذ من الدليل اليقينى الحاصل
بالتواتر، فلم لم يأخذوا بحديث الرؤية هنا مع تواتره( )؟!!
ثم ألا يكفى ثبوت الرؤيا بكتاب الله المتواتر؟! ويصبح حديث الرؤيا على فرض أنه آحاد دليل ظنى راجع إلى دليل قطعى وهو
القرآن، ومبين له، وبالتالى يجب العمل بالظن هنا كما سبق من قول الإمام الشاطبى( )؟!

ثانياً:لقد تظاهرت أدلة الكتاب، والسنة، والعقل، وأجمع الصحابة، والذين من بعدهم من سلف هذه الأئمة وأئمتها من أهل السنة والجماعة على
أن الله  يرى فى الدار الآخرة، يراه المؤمنون رؤية حقيقية، تليق به سبحانه وتعالى، من غير إحاطة، ولا كيفية( )0

كما اتفقوا على أنه لا يراه أحد بعينى رأسه فى الدنيا، وذلك لقوله تعالى لموسى -عليه السلام- : "لَنْ تَرَانِى"( )، ولقول النبى  : "
تعلموا أنه لن يرى أحد منكم ربه  حتى يموت"( ) وهى وإن كانت جائزة عقلاً وليست بمستحيلة، إلا أن البشر لا يطيقون رؤيته فى هذه الدار
لعجز أبصارهم وضعفها0
ولذا من ادعى رؤية الله فى الدنيا بعينى رأسه فدعواه باطلة باتفاق أهل السنة والجماعة وهو ضال( )0

وإنما الخلاف فى رؤية نبينا  لربه  بعينيه فى الدنيا، فأثبت ذلك قوم ونفاه آخرون0 والجمهور أنه لم يره بعينيه لقوله فى حديث أبى ذر  :
"نور أنى أراه" وفى رواية : "رأيت نوراً"( ) ومن قال رآه بعينى رأسه ليلة المعراج، قال رأه كما سيراه المؤمنون يوم الآخرة، رؤية حقيقية
تليق به سبحانه وتعالى من غير إحاطة ولا كيفية( )0
وهذه بعض النصوص التى تدل على إثباتها من القرآن، والسنة، والعقل، وأقوال سلفنا الصالح0
أ- القـرآن الكريـم :
1- قوله تعالى : وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ
تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ( )0 وبيان الدلالة من هذه الآية
من وجوه عديدة :
الوجه الأول : إنه لا يظن بكليم الرحمن، ورسوله الكريم عليه، أن يسأل ربه ما لا يجوز عليه، بل هو من أبطل الباطل وأعظم
المحال0

الوجه الثانى : إن الله سبحانه لا ينكر عليه سؤاله، ولو كان محالاً لأنكره عليه0 ولهذا لما سأل إبراهيم الخليل ربه تبارك وتعالى
أن يريه كيف يحى الموتى لم ينكر عليه، ولما سأل عيسى بن مريم ربه إنزال المائدة من السماء لم ينكر سؤاله0 ولما سأل نوح ربه نجاة ابنه
أنكر عليه سؤاله وقال : إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ( ) أ0هـ0

الوجه الثالث : إنه إجابة بقوله : "لن ترانى" ولم يقل لا ترانى ولا إنى لست بمرئى، ولا تجوز رؤيتى،والفرق بين الجوابين ظاهر
لمن تأمله0 وهذا يدل على أنه سبحانه وتعالى يرى، ولكن موسى لا تحتمل قواه رؤيته فى هذه الدار لضعف قوة البشر فيها عن
رؤيته تعالى0

الوجه الرابع : قوله تعالى : وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فأعلمه أن الجبل مع قوته وصلابته لا يثبت
لتجليه له فى هذه الدار، فكيف بالبشر الضعيف الذى خلق من ضعف0

الوجه الخامس : إن الله سبحانه وتعالى قادر على أن يجعل الجبل مستقراً مكانه وليس هذا بممتنع فى مقدوره، بل هو ممكن وقد
علق به الرؤية، ولو كانت محالاً فى ذاتها لم يعلقها بالممكن فى ذاته0 بل لو كانت محالاً لكان ذلك نظير أن يقول : إن استقر الجبل فسوف
آكل وأشرب وأنام0

الوجه السادس : قوله سبحانه وتعالى : فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وهذا من أبين الأدلة على جواز رؤيته تبارك وتعالى
فإنه إذا جاز أن يتجلى للجبل الذى هو جماد لا ثواب له ولا عقاب، فكيف يمتنع أن يتجلى لأنبيائه ورسله، وأوليائه فى دار كرامته ويريهم
نفسه؟ فأعلم سبحانه وتعالى موسى أن الجبل إذا لم يثبت لرؤيته فى هذه الدار فالبشر أضعف0
الوجه السابع : إن ربه سبحانه وتعالى قد كلمه، وخاطبه، وناجاه، وناداه، ومن جاز عليه التكلم والتكليم وأن يسمع مخاطبه
كلامه معه بغير واسطة فرؤيته أولى بالجواز، ولهذا لا يتم إنكار الرؤية إلا بإنكار التكليم( )0

2- قوله تعالى : وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ(22)إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ( ) استدل بهذه الآية ابن عباس – رضى الله عنهما – وجماعة من التابعين
منهم الحسن البصرى، وعكرمة مولى ابن عباس على جواز الرؤية، وكذا استدل بها مالك والشافعى رحمهما الله( ) وهو قول المفسرين من
أهل السنة والجماعة( )0
3- قوله تعالى : لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ( ) الحسنى : هى
الجنة، والزيادة هى النظر إلى وجه الله الكريم، بذلك فسرها رسول الله  فى قوله  : "إذا دخل أهل الجنة الجنة، قال : يقول الله تعالى : تريدون
شيئاً أزيدكم؟ فيقولون ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار؟ قال فيكشف الحجاب فما أعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إلى ربهم
 ثم تلا هذه الآية : لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ( )0
4- قوله تعالى : وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا( ) قال الرازى : "فإن إحدى القراءات فى هذه الآية فى "َمُلْكًا" بفتح الميم وكسر اللام،
وأجمع المسلمون على أن ذلك الملك ليس إلا الله تعالى، وعندى أن التمسك بهذه الآية أقوى من التمسك بغيرها( )0
5- قوله تعالى : كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ( ) ففى هذه الآية دليل على أن الله تعالى يرى فى القيامة، ولولا ذلك ما كان فى هذه
الآية فائدة، ولا خصت منزلة الكفار بأنهم يحجبون0

قال الإمام الشافعى : "لما حجب قوماً بالسخط دل على أن قوماً يرونه بالرضا ثم قال : أما والله لو لم يوقن محمد بن إدريس أنه يرى ربه فى
المعاد لما عبده فى الدنيا"( ) وجمهور المفسرين ذهبوا إلى تفسير حجب الكفار عن ربهم، بالمنع من رؤيته يوم القيامة( )0

ب- أدلـة السنـة :
أما الأحاديث الصحيحة التى تدل على رؤية الله فى الآخرة فهى كثيرة متوافرة بلغت حد التواتر، فى الصحاح، والسنن، والمسانيد،
من تلك الأحاديث :
ما روى فى الصحيحين من حديث جرير( ) قال : "كنا جلوساً عند النبى  إذ نظر إلى القمر ليلة البدر قال : "إنكم سترون ربكم كما ترون هذا
القمر لا تضامون فى رؤيته( )، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروب الشمس فافعلوا( )، وفى رواية عنه
 قال : قال النبى ، "إنكم سترون ربكم عياناً"( )0 وفى الصحيحين أيضاً من حديث أبى موسى الأشعرى مرفوعاً: "جنتان من فضة آنيتهما
وما فيهما0 وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه فى جنة عدن"( )0

ج- أدلـة العقـل :
قال القاضى الباقلانى( ) : يدل على الرؤية من جهة العقل : أنه تعالى موجود، والموجود لا يستحيل رؤيته، وإنما يستحيل رؤية
المعدوم0 وأيضاً فإنه تعالى يرى جميع المرئيات، وقد قال تعالى : أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى( ) وقال تعالى : الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ( ) وكل راء
يجوز أن يرى0

ولا يجوز أن تحمل الرؤية منه تعالى على العلم -كما تزعم المعتزلة لأنه تعالى فصل بين الأمرين، فلا حاجة بنا أن نحمل أحدهما على الآخر،
ألا ترى أنه سمى نفسه عالماً، وسمى نفسه مريداً، ولا يجوز أن نحمل الإرادة على العلم، كذلك لا تحمل الرؤية على العلم0 فاعلمه0

وجواب آخر : وهو أن الصحابة سألوا الرسول  : هل نرى ربنا؟ فقال : "نعم" ولا يجوز أن يكون سؤالهم : هل نعلم ربنا أو
يعلمنا ربنا0

فبطل قول من يحمل الرؤية على العلم، ولهذا أجاب  : "سترونه كما يرى القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب وكما ترى الشمس ليس دونها
سحاب"( ) يعنى لا تشكون فى رؤيته كما لا يشك من رأى القمر والشمس فيها، فشبه الرؤية بالرؤية فى نفى الشك عن الرائى، ولم يشبه
المرئى بالمرئى0 فاعلم ذلك"( ) أ0هـ0

د- آثـار السلـف :
وأما الآثار التى وردت عن سلفنا الصالح – رضوان الله عليهم – فى إثبات رؤية الله  فى الآخرة للمؤمنين، فهى أكثر من
أن تذكر سبق منها قول الإمام الشافعى0

ويقول فى ذلك الإمام أحمد – رحمه الله - : "من كذب بالرؤية فهو زنديق" وقال : "نؤمن بها أى الرؤية وأحاديثها، ونعلم أنها حق، فنؤمن بأن
الله يرى، نرى ربنا يوم القيامة، لا نشك فيه ولا نرتاب"0

وقال أيضاً : "من زعم أن الله لا يرى فى الآخرة فقد كفر بالله، وكذب بالقرآن ورد على الله أمره، يستتاب، فإن تاب وإلا قتل"( )0

وسئل الإمام على بن المدينى( ) الإمام عبد الله بن المبارك عن رؤية الله تعالى فقال : ما حجب الله  أحداً إلا عذبه، ثم قرأ : 
كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ(15)ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ(16)ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ( ) قال : الرؤية0 فقلت له يا أبا عبد الله
: إن عندنا قوماً من المعتزلة ينكرون هذه الأحاديث : "إن الله ينزل إلى سماء الدنيا، وأهل الجنة يرون ربهم، فحدثنى بنحو عشرة أحاديث فى
هذا، وقال : أما نحن فقد أخذنا ديننا هذا عن التابعين، والتابعون أخذوه عن أصحاب رسول الله  فهم عمن أخذوه؟!( ) أ0هـ0
أما ما تعلق به المعتزلة من قوله تعالى : لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ( ) وزعمهم بتعارض الآية مع الحديث( )0

قال الإمام الباقلانى : "الآية لا حجة لهم فيها وهى حجة عليهم0 لأنه قال:لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ ولم يقل لا تراه الأبصار، والإدراك
بمعنى يزيد على الرؤية، لأن الإدراك : الإحاطة بالشئ من جميع الجهات، والله تعالى لا يوصف بالجهات، ولا أنه فى جهة، فجاز أن يرى وإن
لم يدرك( )0
وجواب آخر:أن معنى الآية لا تدركه الأبصار فىالدنيا،وإن جاز أن تدركه فىالآخرة، ليجمع بين قوله تعالى:لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ( )وبين قوله
تعالى:إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ0

وجواب آخر على دعوى التناقض : "لا تدركه الأبصار" يعنى أبصار الكفار دون المؤمنين، ليجمع بين قوله تعالى : وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى
رَبِّهَا نَاظِرَةٌ( ) وبين قوله تعالى : كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ( )0 وهذا صحيح، لأن الحجاب لما كان للكفار دون المؤمنين، كذلك
الرؤية للمؤمنين دون الكفار"( ) أ0هـ0

أما ما احتجوا به من خبر عائشة – رضى الله عنها – لما قال لها ابن الزبير – وهو ابن أختها – يا أماه : هل رأى محمد ربه؟
فقالت : يا ابن أختى لقد وقف شعر بدنى، والله تعالى يقول : وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ
بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ( )0 وفى رواية قالت : "من زعم أن محمداً ، رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية … قال تعالى : لَا تُدْرِكُهُ
الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ( )0

قالوا : فموضع الدليل من الخبر أنها أكبرت ذلك ونفت الرؤية عن الله تعالى، فدل أن ذلك مستحيل فى حقه سبحانه وتعالى، كما
قالوا بتعارض الخبرين( )0

قال القاضى الباقلانى والجواب على ذلك من أوجه :
أولهما : أن ابن عباس  وغيره من الصحابة قد صرحوا بأن محمداً ، رأى ربه ليلة أسرى به بعينى رأسه، ولو كان ذلك مستحيلاً لم يقع
الخلاف فيه بين الصحابة، كما لم يقع بينهم الخلاف فى ما هو مستحيل على الله تعالى من الولد والزوجة، والشريك، ونحو ذلك0 فلما وقع
بينهم الخلاف فى ذلك وانقرض عصرهم على ذلك، دل على أن الرؤية جائزة غير مستحيلة0 فبطل ما ذكر0
ثانيهما : أن عائشة – رضى الله عنها – إنما أنكرت رؤية البارى بأبصار العيون فى دار الدنيا، لا على الإطلاق، ولهذا روى عن أبيها وعنها
–رضى الله عنهما– وعن جميع الصحابة أنهم فسروا قوله تعالى : لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ( ) قالوا : الزيادة النظر إلى الله تعالى فى
الجنة( )، وقد روى هذا مرفوعاً عن الرسول  كما سبق فى الأدلة القرآنية على الرؤية( )0

فصح مذهب أهل السنة والجماعة بحمد الله تعالى، وبطلت شبه المخالف واندحض مكره0 ولله المنة والحجة البالغة"( ) أ0هـ0

ونسأله  أن يمتعنا بالنظر إلى وجهه الكريم


المبحـث الثالـث
موقف أهل البدع قديماً وحديثاً من أحاديث القدر
والـرد عليهـم

الأحاديث التى تثبت ركناً من أركان الإيمان وهو : الإيمان بقدر الله  خيره، وشره، حلوه ومره، طعن فيها المعتزلة؛ لأنها
تتعارض مع أصل من أصولهم الخمسة وهو العدل الذى يعد مع أصلهم، الأول "التوحيد" أهم أصولهم لذا فهم يسمون أنفسهم أهل العدل وأهل
التوحيد، وتمدحوا بهذه التسمية0

وقد عرفوا العدل : بأنه تعالى لا يفعل القبيح ولا يختاره، ولا يخل بما هو واجب عليه، وأن أفعاله كلها حسنة( )0 وبنوا على هذا الأصل "العدل"
أموراً عدة منها :
أ- وجوب الصلاح والأصلح على الله ( )0 عصمنا الله وإياكم من إساءة الأدب مع الله0
ب- الحسن والقبح العقليان، فالحسن ما حسنه العقل والقبيح ما قبحه العقل، والشرع فى تحسينه وتقبيحه للأشياء مخبر عنها لا مثبت لها،
والعقل مدرك لها لا منشئ( )0
ج- إن الله  لم يخلق أفعال العباد، وإنما الإنسان هو الخالق لأفعاله كلها خيرها وشرها( )0 وقد أفضى بهم هذا إلى إنكار القدر0

قال القاضى عبد الجبار "والذين يثبتون القدر هم المجبرة( )، فأما نحن فإنا ننفيه وننزه الله تعالى0 عن أن تكون الأفعال بقضائه وقدره( )0
وحجة المعتزلة فى نفى القدر أو نفى خلق الله لأفعال العباد طاعات كانت أم معاصى؛ أن الله لا يفعل القبيح، وأفعال العباد وإن كانت
طاعة، فقد يصح وجودها على وجه فتقبح، وعلى وجه آخر فتحسن"( )0

وبناءً على أصلهم هذا "العدل" تأولوا الآيات القرآنية التى تثبت قدر الله  وخلقه لأفعال عباده خيرها وشرها0

وطعنوا فى الأحاديث التى تثبت القدر وعدوها ضرباً من الخطأ، وأن من رواها قد ارتكب عظيماً0

قال القاضى عبد الجبار: "وما ورد من أخبار الآحاد دالاً على ذلك، ضرب من ضروب الخطأ الذى يعلم بروايته أنه ارتكب عظيماً"( )0

ولم يقف الأمر عند هذا الحد، وإنما كفروا من خالفهم فى هذا الأصل "العدل"0
قال عبد الجبار : "وأما من خالف فى العدل، وأضاف إلى الله تعالى القبائح كلها من الظلم، والكذب، وإظهار المعجزات على الكذابين، وتعذيب
أطفال المشركين بذنوب آبائهم والإخلال بالواجب فإنه يكفر أيضاً"( )0

وقد تأثر بموقف المعتزلة بالطعن فى أحاديث القدر، دعاة اللادينية( )، كما تأثر بعض رواد المدرسة العقلية الحديثة وقد فصل ذلك الدكتور فهد
الرومى فى رسالته للدكتوراه "منهج المدرسة العقلية الحديثة فى التفسير"( )0



وجوب الإيمان بقـدر الله تعالى والجواب عن شبه المعتزلة
ومن قـال بقولهم أو تأثـر بهـم

الإيمان بقدر الله واجب، وهو أحد أركان الإيمان الستة؛ التى لا يتصف المؤمن بالإيمان إلا بتحقيقها، كما قال  : "الإيمان أن
تؤمن بالله، ملائكته، وكتبه ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره"( )0 ولقد تضافرت الأدلة من الكتاب والسنة والعقل على إثبات قدر الله
تعالى، وهى تؤيد ما ذهب إليه أهل السنة والجماعة من ذلك : قوله تعالى : وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا( ) وقوله تعالى : إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ
خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ( ) وقال تعالى : وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا ( )0

وسئل ابن عمر – رضى الله عنهما – عن أناس يقرؤون القرآن ويتقفرون العلم (أى يبحثون عن غامضه وخفاياه) وأنهم
يزعمون أن لا قدر وأن الأمر أنف (أى مستأنف لم يسبق به قدر، ولا علم من الله تعالى، وإنما يعلم بعد وقوعه)؟ فيجيب ابن عمر–رضى الله
عنهما – فيقول للسائل : "فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أنى برئ منم وأنهم براء منى، والذى يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهباً
فأنفقه، ما قُبل الله منه حتى يؤمن بالقدر( )، ثم ساق حديث عمر  السابق0

وعن طاووس قال : "أدركت ثلثمائة من أصحاب رسول الله ، يقولون : كل شئ بقدر، وسمعت عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله  : "كل
شئ بقدر حتى العجز والكيس"( )، والأحاديث فى إثبات القدر كثيرة جداً فى الصحيحين وغيرهما عن جماعة من الصحابة( ) والإيمان بالقدر لا
يتم إلا بأربعة أمور :
الأول : الإيمان بأن الله عالم بكل ما يكون جملة وتفصيلاً بعلم سابق لقوله تعالى : أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي
كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ( )0
الثانى : إن الله كتب فى اللوح المحفوظ مقادير كل شئ لقوله تعالى : مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ
نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ( ) ولقوله  : "كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة قال : وعرشه على
الماء"( )0
الثالث : إنه لا يكون شئ فى السماوات والأرض إلا بإرادة الله ومشيئته، الدائرة بين الرحمة والحكمة، يهدى من يشاء برحمته، ويضل من
يشاء بحكمته، لا يسأل عما يفعل لكمال حكمته، وسلطانه، وهم يسألون، وما وقع من ذلك فهو مطابق لعلم الله السابق ولما كتبه فى اللوح
المحفوظ لقوله تعالى:إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ( ) وقال تعالى: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ
ضَيِّقًا حَرَجًا( )" فأثبت جل جلاله وقوع الهداية والضلال بإرادته0
الرابع : إن كل شئ فى السماوات والأرض مخلوق لله تعالى لا خالق غيره، ولا رب سواه، لقوله تعالى : وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا( )
وقال على لسان سيدنا إبراهيم - عليه السلام - : وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ( )0

ويدل على صحة مذهب أهل السنة والجماعة من أدلة العقل : أن الملك إذا جرى فى ملكه ما لا يريد، دل ذلك على نقصه أو
ضعفه أو عجزه، والله تعالى موصوف بصفات الكمال،لا يجوز عليه فى ملكه نقص،ولا ضعف، ولا عجز، فكيف يكون فى ملكه ما لا يريده،
ويريده أضعف خلقه فيكون0كلا سبحانه وتعالى أن يأمر بالفحشاء أو يكون فى ملكه إلا ما يشاء

ونقول : إن مذهب أهل السنة والجماعة الذى ندين لله تعالى به أنه لا يتحرك متحرك، ولا يسكن ساكن ولا يطيع طائع، ولا يعصى عاص، من
أعلى العلى إلى ما تحت الثرى؛ إلا بإرادة الله تعالى، وقضائه ومشيئته0 وقد دل على صحة ذلك الكتاب، والسنة، والعقل، وإجماع الأمة( )0
وقد تناول العلماء من أهل السنة شبه المعتزلة فى موضوع القدر، وأفعال العباد ففندوها وأوضحوا بطلانها؛ لأنها لم تبن على
نصوص الشرع، وإنما بنيت على العقول القاصرة العاجزة، فجاءت مخالفة للنصوص مناهضة لها0

وصفوة القول فى الرد على المعتزلة : "إن المعتزلة لما خاضوا بعقولهم فى شرع الله تعالى بعيداً عن هدى النصوص، قذفت لهم
تلك العقول بما يسمى بالتحسين والتقبيح العقلى، ووجوب الأصلح على الله؛ الذى كان علته وسببه قياسهم لأفعال الله سبحانه على أفعال العباد،
فحسنوا منه ما يحسن منهم، وقبحوا منه ما يقبح منهم، وأوجبوا عليه ما يجب عليهم، وحرموا عليه ما يحرم عليهم، وسموا ذلك عدلاً، وما
ذلك إلا تشبيه لله بخلقه فى أفعاله فهم فى الحقيقة مشبهة الأفعال0 والله سبحانه لا يقاس بنا فى أفعاله، فليس ما وجب أو حرم علينا، يجب
ويحرم عليه، وليس ما حسن أو قبح منا يحسن أو يقبح منه( )0
فهو سبحانه منزه عن فعل القبائح، لا يفعل السوء والسيئات، مع أنه سبحانه خالق كل شئ، أفعال العباد وغيرها0

والعبد إذا فعل القبيح المنهى عنه كان قد فعل سوءاً، وظلماً، وقبيحاً وشراً، والرب قد جعله فاعلاً لذلك، وذلك منه سبحانه عدل، وحكمة،
وصواب، ووضع للأشياء فى مواضعها، فخلقه سبحانه لما فيه نقص أو عيب للحكمة التى خلقه لها هو محمود عليه، وهو منه عدل، وحكمة،
وصواب، وإن كان فى المخلوق عيباً، ومثل ذلك فى المخلوقين، فإن الصانع إذا أخذ الخشبة المعوجة، والحجر الردئ، واللبنة الناقصة، فوضعها
فى موضع يليق بها ويناسبها كان ذلك منه عدلاً، واستقامة وصواباً وهو محمود، وإن كان فى تلك عوج وعيب هى به مذمومة، ومن أخذ
الخبائث فوضعها فى المحل الذى يليق بها كان ذلك حكمة وعدلاً، وإنما السفه والظلم أن يضعها فى غير موضعها، فهو سبحانه لا يضع شيئاً إلا
فى موضعه، فلا يكون إلا عدلاً، ولا يفعل إلا خيراً، فلا يكون إلا محسناً جواداً رحيماً، وهو سبحانه له الخلق والأمر( )0

والله يختص بحكمة لا يشاركه فيها غيره، ولهذا يحسن منه ما يقبح من المخلوقين لانتفاء تلك الحكمة فى حقهم، مثال لذلك
يحسن منه مدح نفسه والثناء عليها، ويقبح من أكثر خلقه ذلك0 كما يحسن منه إماتة خلقه وابتلاؤهم وامتحانهم بأنواع المحن، ويقبح ذلك من
الخلق، فليس بين الله وخلقه جامع يوجب أن يحسن منه، ما يحسن منهم، ويقبح منه ما قبح منهم( )0

وكون الله سبحانه خالقاً لأفعال العباد، لا ينفى ذلك أن يكونوا فاعلين لها حقيقة، فقد أخبر سبحانه أن العباد يفعلون ويعملون
ويؤمنون ويكفرون ويصدقون ويكذبون فى مواضع جمة0 فأفعالهم مستندة إليهم، وهم الفاعلون لها حقيقة، وأنها تنسب إليهم وتضاف لهم
وهى مفعولة لله حقيقة ومخلوقة له، وليست فعلاً له، ولا يتصف بأنه فاعلها؛ لأن هنالك فرقاً بين الفعل والمفعول، والخلق والمخلوق، فهى
فعل العباد ومفعوله له سبحانه( )0
وإلى هذا أشار الإمام الطحاوى( ) – رحمه الله – بقوله : "وأفعال العباد خلق الله وكسب من العباد"( )0

وأما إيجاب شئ على الله أو تحريمه عليه، فإن جمهور العلماء ذهبوا إلى أنه سبحانه إنما أمر عباده بما فيه صلاحهم، ونهاهم
وحذرهم عما فيه فسادهم، وأرسل لهم الرسل للمصلحة العامة، وإن كان فى إرسالهم ضرر على بعض الناس، ففيه حكم، وإن كان فى بعض
ما يخلقه ضرر كالذنوب، فلابد من وجود الحكمة فى ذلك، والمصلحة التى لأجلها خلقه سبحانه( )، والله سبحانه قد يوجب على نفسه ويحرم
بعض الأمور كقوله سبحانه : كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ( ) وفى الحديث:"يا عبادى إنى حرمت الظلم على نفسى"( ) وهو لا يخل بما
أوجبه أو حرمه على نفسه0
أما أن يوجب أو يحرم عليه الخلق بعقولهم فلا( )0

إن قول المعتزلة يجب على الله فعل الصلاح والأصلح لعباده يلزم منه لوازم فاسدة مثل : عدم خلق إبليس وجنوده، فعدم خلقه وجنوده أصلح
للخلق وانفع، وقد خلقه البارى! والأمثلة على ذلك كثيرة( )0
إذا عرفت صحة مذهب أهل السنة فى عقيدة الإيمان بالقدر، وعرفت فساد مذهب المعتزلة، عرفت أن طعون المعتزلة ومن قال بقولهم من
المستشرقين، ودعاة الإلحاد( ) فى الأحاديث الصحيحة المثبتة للقدر، طعون واهية لا حجة لهم فيها، وهاك مثالاً على ذلك، حديث محاجة آدم
موسى عليهما السلام، نذكر شبه الطاعنين فيه والدفاع عنه فى المبحث التالى فإلى بيان ذلك0


المبحث الرابع
شبـه الطاعنيـن فـى حديـث محاجـة آدم
موسى عليهما السلام والرد عليها

عن أبى هريرة  عن النبى ، قال : "احتج آدم وموسى، فقال له موسى : يا آدم أنت أبونا، خيَّبتَنَا وأخرجتنا من الجنة، فقال له
آدم : أنت موسى0 اصطفاك الله بكلامه، وخطَّ لك بيدِهِ، أَتَلْوُمِنِىِ على أمر قَدَّره الله علىَّ قبل أن يخلقنى بأربعين سنةً؟ فقال النبى  : "فحج آدم
موسى ثلاثاً"( )0

قال الحافظ ابن حجر-رحمه الله–:قد أنكر القدرية هذا الحديث لأنه صريح فى إثبات القدر السابق، وتقرير النبى  لآدم على الاحتجاج به،
وشهادته بأنه غلب موسى فقالوا :
أولاً : لا يصح لأن موسى لا يلوم على أمر قد تاب منه صاحبه، وقد قتل هو نفساً لم يؤمر بقتلها، ثم قال رب اغفر لى، فغفر له، فكيف يلوم
آدم على أمر قد غفر له؟
ثانياً : لو ساغ اللوم على الذنب بالقدر الذى فرغ من كتابته على العبد، لكان من عوتب على معصية قد ارتكبها، يحتج بالقدر السابق، ولو
ساغ ذلك لانسد باب القصاص، والحدود، ولاحتج به كل أحد على ما يرتكبه من الفواحش، وهذا يفضى إلى لوازم قطعية، فدل ذلك على أن هذا
الحديث لا أصل له( ) أ0هـ0
وبنحو ذلك طعن السيد صالح أبو بكر( )، ونيازى عز الدين( )،وغيرهما فى الحديث0 ويجاب عليهم بالآتى :
أولاً : هذا الحديث صحيح ثابت فى كتب السنة بالاتفاق0 رواه عن النبى  أبو هريرة وغيره، وقد ذكر الحافظ ابن حجر أنه من طريق أبى هريرة
رواه عشرة من التابعين ثم ذكرهم، وذكر من خرج لهم من الأئمة( )0
ثانياً : قد ذكر فى احتجاج آدم بالقدر عدة أقوال، المتجه منها قولان :
الأول : إنما لام موسى -عليه السلام- آدم -عليه السلام- على المصيبة التى أخرجته لا على المعصية، لأن العبد مأمور أن يحتج بالقدر عند
المصائب كما قال  "وإن أصابك شئ فلا تقل : لو أنى فعلت كان كذا وكذا0 ولكن قل : قدر الله وما شاء فعل0 فإن لو تفتح عمل الشيطان"( )0
وقال تعالى : مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ( ) واستحسن هذا القول
الإمام الطحاوى( )0
الثانى : إن الاحتجاج بالقدر على الذنب ينفع فى موضع، ويضر فى موضع، فينفع إذا احتج به بعد وقوعه والتوبة منه، وترك معاودته كما فعل
آدم، ويضر الاحتجاج به فى الحال والمستقبل، بأن يرتكب فعلاً محرماً، أو يترك واجباً فيلومه عليه لائم، فيحتج بالقدر عليه ويصر، فيبطل
الاحتجاج به حقاً، ويرتكب باطلاً، كما احتج به المصرون على شركهم وعبادتهم لغير الله، فقالوا كما حكى رب العزة عنهم:لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا
أَشْرَكْنَا وَلَا ءَابَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ( )0

وخلاصة ذلك أن اللوم إذا ارتفع، صح الاحتجاج بالقدر، وإذا كان اللوم واقعاً فالاحتجاج بالقدر باطل( )0

وقال القرطبى : "إنما غلبه بالحجة؛ لأنه علم من التوراة أن الله تاب عليه( )، فكان لومه على ذلك، نوع جفاء، كما يقال ذكر الجفاء بعد
حصول الصفاء جفاء، ولأن أثر المخالفة بعد الصفح ينمحى حتى كأنه لم يكن، فلا يصادف اللوم من اللائم حينئذ محلاً"0
قال الحافظ ابن حجر : "وهو محصل ما أجاب به المازرى، وغيره من المحققين، وهو المعتمد"( )0

ثالثاً : ليس فى الحديث احتجاج بالقدر على المعاصى كما يزعم المعتزلة0 وآدم -عليه السلام- لم يحتج بالقدر؛ لأن أنبياء الله – عليهم السلام
– من أعلم الناس بالله وبأمره ونهيه، فلا يسوغ لأحدهم أن يعصى الله بالقدر، ثم يحتج على ذلك( ) أ0هـ0

وبعـد
فالحديث كما قال الحافظ ابن عبد البر : "هذا الحديث أصل جسيم لأهل الحق فى إثبات القدر، وأن الله تعالى قضى أعمال العباد فكل أحد يصير لما
قدر له بما سبق فى علم الله"( )0

وعن النهى عن المجادلة فى القدر روى عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: خرج رسول الله  على أصحابه وهم يختصمون فى
القدر0 فكأنما فقئ فى وجهه حب الرمان من الغضب0 فقال : "بهذا أمرتم أو لهذا خلقتم؟ تضربون القرآن بعضه ببعض0 بهذا هلكت الأمم
قبلكم"( ) أ0هـ0

والله تبــارك وتعالــى
أعلـى وأعلـم

المبحـث الخامـس
موقف المبتدعة قديمـاً وحديثـاً مـن أحاديـث
المغفرة لمرتكب الكبيرة والرد عليهم

طعن المبتدعة من المعتزلة وغيرهم فى أحاديث المغفرة لأهل الكبائر يوم القيامة، لتعارضه مع أصلهم السابق "العدل"، وقولهم
بوجوب الصلاح والأصلح على الله، ولتعارضه مع أحد أصولهم الخمسة وهو"الوعد والوعيد" ومرادهم به:أنه يجب على الله إثابة الطائع الذى
وعده بالثواب،وعقاب العاصى الذى أوعده بالعقاب،ولا يخلف الله وعيده؛لأنه ذم وقبح( )0

ولتعارضه أيضاً مع قولهم فى مرتكب الكبيرة بأنه فى منزلة بين المنزلتين، وهو أيضاً أحد أصولهم الخمسة، ومرادهم به أن مرتكب الكبيرة
منزلته "الفسق" بين المنزلتين "الإيمان، والكفر" وهو بهذه المنزلة خالد مخلد فى النار إذا لم يتب من كبيرته، وحاله فى العقاب دون الكافر،
فعقابه أخف ولكنه مع ذلك مؤبد فيها"( )0

ومن أصولهم السابقة طعنوا فى أحاديث الشفاعة، كما طعنوا فى الأحاديث التى تصف مرتكب الكبيرة – وإن لم يتب – بأنه تحت
المشيئة "إن شاء غفر الله له، وإن شاء عذبه" لتعارضها مع قولهم : "وجوب تنفيذ الله وعيده على العاصى0 وقولهم : إن مرتكب الكبيرة خالد
مخلد فى النار إن لم يتب من كبيرته0

واعتبروا مثل هذه الأحاديث فيها خلف للوعيد من الله وهو عندهم ذم وقبح0 قال القاضى عبد الجبار : "من زعم أن خلف
الوعيد كرم، وأن الله يمكن أن يخلف فى وعيده، كفر، لأنه أضاف القبيح إلى الله تعالى"( ) أ0هـ0

والجـواب :
إن إنفاذ الوعيد، والوجوب على الله، الذى دندن به المعتزلة، وقال به أعداء السنة( )، وخلدوا به صاحب الكبيرة فى النار، إنما هو
أمر عقلى محض لا سند له من النصوص، ولا من العقول السليمة0

فمن أين للعقول أن توجب وتحرم عليه سبحانه، وكيف علمت أنه يجب عليه أن يمدح ويذم،ويثيب ويعاقب على الفعل، وأنه رضى عن فاعل،
وسخط على فاعل؟
وهل ذلك إلا غيب عنا،وإقحام للعقل فيما لا علم له، وتجنى على نصوص الشرع، وقياس لله بخلقه فى أفعاله0
وهل كل ما حسن من الخلق حسن منه،وما قبح منهم قبح منه؟أم هو القياس الفاسد أيضاً؟( )

ولا شك أن الله وعد الطائعين بالثواب، وأوعد العاصين بالعقاب، وما وعد به عباده الطائعين لابد من تحققه، كرماً منه سبحانه وفضلاً، لأنه لا
يخلف الميعاد كما قال : إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ( ) وقوله تعالى : وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ( ) وليس معنى ذلك أن
العباد يستحقون دخول الجنة على ربهم بأعمالهم كما يزعم أهل الاعتزال، بل إنما يدخلهم الجنة برحمته وفضله، كما قال  : "لن يدخل أحداً
عمله الجنة"، قالوا:ولا أنت يا رسول الله؟ قال:"ولا أنا إلا أن يتغمدنى الله بفضل ورحمة…فسددوا وقاربوا" الحديث( )، وذلك بخلاف الوعيد، فإن
خلفه مدح لا ذم، ويجوز عليه سبحانه أن يخلف وعيده، لأنه حقه، فإخلافه له عفو وكرم، وجود، وإحسان، ولهذا مدح به كعب بن زهير رسول
الله ، حيث قال :

"نبئت أن رسول الله أوعدنـى
*** والعفو عند رسول الله مأمول( )0


والعرب لا تعد عاراً ولا خُلْفاً، أن تَعِد شراً ثم لا تفعل، ترى ذلك كرماً وفضلاً، إنما الخلف أن تعد خيراً ثم لا تفعل، ومن ذلك قول
القائل :

لا يرهب ابن العم منى صولـة

وإنـى أن أوعدتـه أو وعدتـه
***

*** ولا أختتى( ) من صولة المتهدد
لأخلف إ يعادى وأنجز موعدي( )
وفى الحديث عن زيد بن ثابت مرفوعاً : "لو أن الله عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم0 ولو رحمهم
لكانت رحمته خيراً لهم من أعمالهم"( )0

أما ما ذهب إليه المعتزلة والخوارج من أن الكبيرة الواحدة تسقط جميع ما لصاحب الكبيرة من ثواب، لأنه لا ثواب البته يستحقه
الإنسان مع وجود الكبيرة( )، ويستلزم على هذا حبط إيمانه حيث حكموا عليه بالخلود فى النار، وإن لم يحكم عليه المعتزلة بالكفر فى الدنيا فقد
صرح بذلك الخوارج فأصبح الخلاف بينهم لفظى( )0

هذا الذى ذهبوا إليه نوع من الظلم الذى نزه الله نفسه عنه كما قال تعالى : إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ
أَجْرًا عَظِيمًا( )0

وهو مخالف لكتاب الله  وسنة نبيه ، فى أن مرتكب الكبيرة مسلم عاصى، غير خالد مخلد فى النار، وهو تحت المشيئة "إن شاء غفر الله له
وإن شاء عذبه" يدل على ذلك قوله تعالى : إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ( ) فالآية صريحة فى أن الغفران
المعلق بالمشيئة شامل لجميع الذنوب، كبائر كانت أو صغائر، ولم يستثن المولى  سوى كبيرة الشرك به تعالى( )0
وفى هذا رد على قولهم المراد بالمغفرة صغائر المعاصى( )0

وقال :"ما من عبد قال لا إله إلا الله، ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة"قال أبو ذر ، قلت وإن زنى وإن سرق؟ قال "وإن زنى وإن
سرق" -ثلاثاً- ثم قال فى الرابعة على رغم أنف أبى ذر" قال فخرج أبو ذر وهو يقول : "وإن رغم أنف أبى ذر"( )0

وفى حديث عبادة بن الصامت  : أنه  قال وحوله عصابة من أصحابه : "بايعونى على أن لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تسرقوا،
ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم،ولا تعصوا فى معروف، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب
من ذلك شيئاً فعوقب فى الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئاً، ثم ستره الله؛ فهو إلى الله إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه"0
فبايعناه على ذلك( )0

والأدلة على أن صاحب الكبيرة "مسلم عاصى" وتحت المشيئة وغير خالد مخلد فى النار كثيرة جداً0 والأحاديث فى ذلك متواترة(
)0

وأقوال أهل العلم فى ذلك كثيرة نقتصر على قول جامع للإمام النووى – رحمه الله – إذ يقول : "واعلم أن مذهب أهل السنة، وما عليه أهل
الحق من السلف والخلف، أن من مات موحداً، دخل الجنة قطعاً على كل حال، فإن كان سالماً من المعاصى، كالصغير، والمجنون، والذى اتصل
جنونه بالبلوغ، والتائب توبة صحيحة من الشرك أو غيره من المعاصى إذا لم يحدث معصية بعد توبته، والموفق الذى لم يبتل بمعصيةٍ
أصلاً، فكل هذا الصنف يدخلون الجنة، ولا يدخلون النار أصلاً … وأما من كانت له معصية كبيرة، ومات من غير توبة، فهو فى مشيئة الله
تعالى، فإن شاء عفا عنه وأدخله الجنة أولاً، وجعله كالقسم الأول، وإن شاء عذبه القدر الذى يريده سبحانه وتعالى، ثم يدخله الجنة، فلا يخلد
فى النار أحد مات على التوحيد،ولو عمل من المعاصى ما عمل، كما أنه لا يدخل الجنة أحد مات على الكفر،ولو عمل من أعمال البر ما عمل0

هذا مختصر جامع لمذهب أهل الحق فى هذه المسألة، وقد تظاهرت أدلة الكتاب، والسنة، وإجماع من يعتد به من الأمة على هذه القاعدة،
وتواترت بذلك نصوص تحصل العلم القطعى( ) أ0هـ0

أما ما استدل به المعتزلة وغيرهم من الكتاب والسنة على تخليد صاحب الكبيرة فى النار كقوله تعالى:وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا
فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا( ) وقوله  : "لا يدخل الجنة مدمن خمر، ولا نمام، ولا عاق"( )0
وقوله  : "من قتل نفسه بحديده، فحديدته فى يده يَتَوَجَّأُ بها بطنه فى نار جهنم خالداً أبداً"( ) أ0هـ0 إلى غير ذلك من الأخبار المروية فى هذا
الباب، واستدلوا بها على تخليد صاحب الكبيرة( )0

هذه الأخبار التى استدلوا بها على تخليد مرتكب الكبيرة فى النار؛ لا حجة لهم فيها فهى من نصوص الوعيد التى وجهها السلف توجيهاً يتفق
ونصوص الوعد الأخرى التى غض عنها المعتزلة الطرف،وهذا من شأن أهل البدع فإنهم يأخذون من النصوص ما يظنون أنه يوافق
بدعهم،ويتركون غيرها مما يخالف تلك البدع0وهكذا فعل أهل الاعتزال فى هذا المقام0

وقد ذكر العلماء توجيهات عديدة فى هذه النصوص وأمثالها والمختار منها قولان:
أحدهما : أنها محمولة على من يستحل الكبيرة مع علمه بالتحريم، فهذا كافر مخلد فى النار ولا يدخل الجنة أصلاً0
والثانى : أنها محمولة على أن مرتكب الكبيرة جزاؤه أن لا يدخل الجنة وقت دخول الفائزين إذا فتحت أبوابها لهم بل يؤخر، ثم قد يجازى وقد
يعفى عنه فيدخلها أولاً( )0 والمراد بالخلود إذا عوقب، طول المدة والإقامة المتطاولة، لا حقيقة الدوام، كما فى قوله تعالى:وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ
مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ( ) والعرب تقول:لأخلدن فلاناً فى السجن، والسجن ينقطع ويزول، وكذلك من سجن، ومثله قولهم فى الدعاء : خلد الله ملكه،
وأبد أيامه( )0

وهناك قول ثالث : وهو أن نصوص الوعيد الواردة فى الآيات، والأخبار فى حق مرتكب الكبيرة، هذا الوعيد جزاؤه، ولكن تكرم
سبحانه وتعالى فأخبر أنه لا يخلد فى النار من مات مسلماً"( )، وقد دلت الأحاديث على ذلك منها قوله  : "إذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار
يقول الله : من كان فى قلبه مثال حبة من خردل من إيمان فأخرجوه، فيخرجون قد امتحشوا( )،وعادوا حمماً( )، فيلقون فى نهر الحياة،
فينبتون كما تُنْبُتُ الحبةُ فى حَميل السَّيل، أو قال:حَمِيَّةِ السَّيل" وقال النبى  : "ألم تَروا أنها تَنبتُ صفراء مُلتوية؟"( )0
وقد دلت الأحاديث أيضاً أن قاتل نفسه لا يخلد فى النار، روى الإمام مسلم فى صحيحه عن جابر أن الطفيل بن عمرو الدوسى أتى النبى  فقال
: يا رسول الله هل لك فى حصن حصين ومنعة؟ (قال : حصن كان لدوس فى الجاهلية) فأبى ذلك النبى  للذى ذخر الله للأنصار، فلما هاجر
النبى  إلى المدينة هاجر إليه الطفيل بن عمرو، وهاجر معه رجل من قومه0 فاجْتَوَوا المدينة0 فَمَرِضَ، فَجَزِع، فَأَخَذَ مَشَاقِصَ( ) له فقطع بها
بَرَاجَمه فَشَخَبَتْ( ) يداهُ حتى مَاتَ، فَرَآهُ الطفيل بنَ عمرو فى منامه0 فرآه وهيئته حسنة، ورآهُ مغطِّياً يَدَيْهِ، فَقَالَ له : ما صنع بك رُّبكَ؟ فقال :
غفر لى بهجرتى إلى نبيه ، فقال : مالى أَرَاك مُغَطِّياً يديك؟ قال : قيل لى لن نُصْلِحَ منك ما أفسدتَ، فقصها الطفيل على رسول الله  فقال
رسول الله  : "اللهم وَلِيديهِ فاغفر"( )0
قال الإمام النووى -رحمه الله- : "ففيه حجة لقاعدة عظيمة لأهل السنة، أن من قتل نفسه أو ارتكب معصية غيرها، ومات من
غير توبة فليس بكافر، ولا يقطع له بالنار، بل هو فى حكم المشيئة، وقد تقدم بيان القاعدة وتقريرها، وهذا الحديث شرح للأحاديث التى قبله،
الموهم ظاهرها تخليد قاتل النفس، وغيره من أصحاب الكبائر فى النار، وفيه إثبات عقوبة بعض أصحاب المعاصى، فإن هذا عوقب فى يديه،
ففيه رد على المرجئة( )، القائلين بأن المعاصى لا تضر مع الإيمان، كما لا ينفع مع الكفر طاعة"( ) أ0هـ0
وإذا تقرر أن مرتكب الكبيرة، مسلم عاصى، تحت مشيئة ربه  إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له، فلا وجه لإنكار أعداء السنة
لشفاعة النبى ، لأهل الكبائر من أمته0
فإلى بيان شبههم حول الحديث والرد عليها فى المبحث التالى0

المبحـث السـادس
شبه الطاعنين فى حديث الشفاعة والرد عليهم

إن تشبث المعتزلة بأصلهم الوعد والوعيد، ووجوب تحقيق الوعيد فى حق مرتكب الكبيرة بتخليده فى النار، أدى بهم إلى نفى
الشفاعة لأهل الكبائر يوم القيامة0

قال عبد الجبار : "الشفاعة للفساق الذين ماتوا على فسوقهم، ولم يتوبوا لا تجوز، بل مثالها مثال الشفاعة لمن قتل ولد الغير، وظل يتربص
للآخر حتى يقتله، فكما أن هذا قبيح فهى قبيحة أيضاً … والنبى ، لا يشفع لصاحب كبيرة، ولا يجوز له ذلك لأن إثابة من لا يستحق الثواب
قبيحة … والفاسق إنما يستحق العقوبة على الدوام، فكيف يخرج من النار بشفاعته ( )0

وقد رد المعتزلة أحاديث الشفاعة لأهل الكبائر بدعوى تعارضها مع القرآن الكريم والسنة المطهرة، وبدعوى أنها خبر آحاد،
ومسألة الشفاعة طريقها العلم، فلا يصح الاحتجاج به( )0
وما صح من أحاديث الشفاعة أطلق عليها عبد الجبار حكماً عاماً وهو أن أكثرها مضطرب"( )0
ومما استدلوا به فى إنكار الشفاعة قوله تعالى : وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ( ) وقوله تعالى : مَا
لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ( )0ونحو ذلك من الآيات، واستدلوا على دعوى التعارض مع السنة المطهرة بما سبق من حديث "لا يدخل
الجنة نمام …الحديث" وحديث "من قتل نفسه بحديدة … الحديث"( )0

وبشبهات المعتزلة استدل دعاة اللادينية فى عصرنا( )0
ويجاب عن شبههم بما يلى :
أولاً : الأحاديث فى إثبات الشفاعة لأهل الكبائر ثابتة صحيحة فى الصحيحين، والسنن، والمسانيد وغيرها0 وقد نص جماعة من العلماء على
أنها تبلغ حد التواتر المعنوى( ) فزعمهم بأن الأحاديث أكثرها مضطرب0 حجة واهية، وزعم عار عن الصحة، لا يتفوه به إلا من جهل
حديث النبى ، أو أغمض عينيه عنه( )0

ومن الأحاديث الصحيحة الواردة فى الشفاعة قوله  : "شفاعتى لأهل الكبائر من أمتى"( )، وزعمهم أن هذا الحديث لم تثبت
صحته( )، زعم مردود، لأن الحديث قد ثبتت صحته، وأيدته الأحاديث الثابتة كقوله  : "لكل نبى دعوة مستجابة، فتعجل كل نبى دعوته، وإننى
اختبأت دعوتى شفاعة لأمتى يوم القيامة0 فهى نائلة إن شاء الله من مات من أمتى لا يشرك بالله شيئاً"( ) وقوله  : "أسعد الناس بشفاعتى
يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه أو نفسه"( )0

تقول الدكتورة عائشة يوسف المناعى : "اضطر المعتزلة إلى اللجوء إلى نقد الأخبار المعارضة التى تثبت الشفاعة لأهل الكبائر
من المؤمنين مثل قوله  : "شفاعتى لأهل الكبائر من أمتى" فبرغم أن هذا الحديث ينص صراحة على أن الشفاعة لأهل الكبائر، وبرغم صحته
فإن المعتزلة لا يتورعون أن يقفوا موقف التكذيب من هذا الخبر ويقولون : "إن هذا الخبر لم تثبت صحته أولاً ‎، ولو صح فإنه منقول بطريق
الآحاد عن النبى، ومسألتنا طريقها العلم فلا يصح الاحتجاج به"( )0

ولسنا فى حاجة إلى أن نقول إن إجابة المعتزلة هذه تـنبنى على التحكم البحت، وفيها من عدم الدقة شئ كثير، فهم يفترضون مرة أن هذا
الحديث غير صحيح، ويفترضون مرة أخرى أنه صحيح ولكنه آحاد وأن رأيهم فى هذه المسألة مبنى على العلم، مع أن قولهم فى هذه المسألة
قول لا برهان عليه، بل إن الأقرب إلى العقل أن الشفاعة إذا لم تكن لأهل الكبائر بحيث تخرجهم من النار فإنها لا معنى لها ولا فائدة منها،
والمكلف التائب مغفور له، وليس فى حاجة إلى الشفاعة، والنصوص صريحة فى أن التائب يبدل الله سيئاته حسنات، فكيف يحتاج إلى شفيع بعد
ذلك؟

وإذا كانت معتزلة البصرة قد اعترفوا بجواز إسقاط العقاب ابتداء من الله تعالى؛ لأنه حقه،وهو يشبه الدين، فله أن يسقطه، وله أن يستوفيه،
فالأولى أن يقال بإسقاط العقوبة ابتداء0

فكيف يقرر المعتزلة بعد ذلك أن أصلهم فى الشفاعة مسألة علم لا يصح أن تعارضها أخبار الآحاد؟
ومن غريب تفسيرات المعتزلة أنهم يقولون أن التائب من الكبيرة تسقط عنه العقوبة بالتوبة، لكن الكبيرة قد أحبطت ما تحصل عنده من الثواب
من قبل، فالشفاعة هنا تنفعه فى إعادة هذا الثواب( )0

ولا شك أن كل هذه التأويلات إنما هى فى المقام الأول هروب من مواجهة النصوص الصريحة فى أن الشفاعة، إنما تكون لأهل الكبائر من
المؤمنين، وتؤكد أن القضية مع المعتزلة وسائر أهل البدع ليست قضية متواتر وآحاد، وإنما قضية أصولهم التى طوعوا النصوص قرأناً وسنة
لأجلها0
ومن الغريب أيضاً:"أن يقول أبو الهذيل:"إن الشافعة إنما تثبت لأصحاب الصغائر"( )0

والمعتزلة أنفسهم قد سخروا من هذا القول؛ لأنهم قرروا من قبل أن الصغائر تكفرها الطاعات، فلا وجه للشفاعة فى هذا القول"(
)0

أما ما زعم المعتزلة ومن قال بقولهم أن أحاديث الشفاعة متعارضة مع القرآن الكريم0
فدعوى مرفوضة؛ لأن ما استدلوا به على نفى الشفاعة، من الآيات القرآنية محمول على الشفاعة للمشركين، والكفار، وهؤلاء لا تنفعهم
الشفاعة أصلاً كما دل على ذلك قوله تعالى : مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ(42)قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ(43)وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ(44)وَكُنَّا نَخُوضُ
مَعَ الْخَائِضِينَ(45)وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ(46)حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ(47)فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ( )0

والمراد بذلك الشفاعة التى يثبتها أهل الشرك وأهل البدع، الذين يعتقدون أن الخلق يشفعون عند الله بغير إذن، كما يشفع بعضهم
لبعض فى الدنيا( )0
والشفاعة إنما تطلب من الله تعالى؛ لأنه هو المالك لها سبحانه كما قال تعالى : قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا( )0

وأما الشفاعة المثبتة فهى لا تثبت عند السلف إلا بشروط وهى :
1- الإذن للشافع بالشفاعة كما قال  : مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ( ) وقال تعالى : مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ( )0
2- الرضا عن المشفوع فيه0 كما قال سبحانه : وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ
يَشَاءُ وَيَرْضَى( ) وقال:وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى( ) وعن ابن عباس – رضى الله عنهما - قال فى قوله تعالى :  وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا
لِمَنِ ارْتَضَىقال:"الذين ارتضاهم بشهادة أن لا إله إلا الله"( )0

وأما زعمهم دعوى تعارض أحاديث الشفاعة بحديث : "لا يدخل الجنة نمام … الحديث" وبحديث "من قتل نفسه بحديدة …" الحديث0
فقد سبق الجواب، بما يرفع التعارض، ويوفق بين النصوص( )0

وأما حملهم للحديث على أن المراد به شفاعة النبى ، لأهل الكبائر إذا تابوا( )؛ فلا دليل لهم على ذلك0 وهو مع أنه تأويل
مناهض للنصوص الثابتة، ولا يدل عليه لفظ الحديث، فهو أيضاً معنى فاسد؛ لأن الذى يتوب من الذنب لا يوصف به بعد ذلك، بل يبدل الله

سيئاته حسنات فضلاً منه وكرماً قال تعالى : إِلَّا مَنْ تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا
رَحِيمًا( )0 فصاحب الكبيرة إذا تاب عن كبيرته وصحت توبته زال عنه هذا الاسم( )0
قال الصحابى الجليل جابر بن عبد الله  : "من لم يكن من أهل الكبائر فما له وللشفاعة"( )0

وما ذهب إليه بعضهم من حصر شفاعته ، على زيادة الثواب، ورفع الدرجات لأهل الثواب( )0
مردود عليهم بما صرحت به الأحاديث الصحيحة من شفاعات أخرى له  من ذلك:
أ‌- الشفاعة العظمى، الخاصة بنبينا ، دون سائر خلق الله  والواردة فى قوله تعالى : عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا( )
وفى ذلك يقول  : "أنا سيد الناس يوم القيامة وهل تدرون مم ذلك؟ يجمع الله الأولين والآخرين فى صعيد واحد … إلى أن يقول : فيأتون محمد
 فيقولون : يا محمد أنت رسول الله، وخاتم الأنبياء، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه،
فأنطلق فآتى تحت العرش فأقع ساجداً لربى  ثم يفتح الله على من محامده، وحسن الثناء عليه، شيئاً لم يفتحه على أحد قبلى، ثم يقال : يا
محمد ارفع رأسك، سل تعطه، واشفْع تُشفع …" الحديث( )0
ب‌- شفاعته لأمته فى دخول الجنة:كما جاء فى حديث الشفاعة العظمى السابق،وفيه قال  : فأقول أمتى يا رب، أمتى يا رب، فقال
: يا محمد ادخل من أمتك من لا حساب عليهم من الباب الأيمن من أبواب الجنة وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب( )0
ج- شفاعته  للمؤمنين من أهل الكبائر : وقد سبقت بعض النصوص التى تدل عليها0 وهى لا تختص به  وإنما يشاركه فيها الملائكة،
والنبيون، والمؤمنون، كما روى مسلم فى صحيحه بسنده عن أبى سعيد الخدرى أن ناساً فى زمن رسول الله  قالوا : يا رسول الله هل نرى
ربنا يوم القيامة؟ قال رسول الله  : نعم قال : "هل تُضَارُّونَ فى رُؤية الشمس بالظهيرة صَحْواً ليس معها سَحَابُ؟" فذكر الحديث وفيه : "فيقول
الله : شفعت الملائكة، وشفع النبيون، وشفع المؤمنون0 ولم يبق إلا أرحم الراحمين، فيقبض قبضه من النار فيخرج منها قوماً لم يعملوا خيراً
قط …" الحديث( )0
وله  شفاعات أخرى، منها ما يشاركه فيها غيره، ومنها ما يختص به( ) أ0هـ0

اللهــم إنــى اسألــك شفاعــات نبيــك 
وأبرأ إليك من جهل الجاهلين وإلحاد الملحدين
المنكرين لشفاعة سيد المرسلين 





الفصــــل الرابـــع
أحاديــــــث ظهـــــــور "المهــــــدى" و خــــــروج "الدجـــــــال"
و "نــــزول المسيــــح عليـــــه الســـــلام"

وتحته مبحثان :
المبحث الأول : شبهة الطاعنين فى أحاديث الأمور الغيبية "المستقبلية" و"الأخروية" والرد عليها0
المبحث الثانى : شبهات المنكرين لظهور "المهدى" و "خروج الدجال" و "نزول المسيح عليه السلام" والرد عليها0


المبحـث الأول
شبهة الطاعنين فى أحاديث الأمور الغيبية "المستقبلية"







 
قديم 06-03-08, 05:22 AM   رقم المشاركة : 14
حسينا
موقوف





حسينا غير متصل

حسينا is on a distinguished road


و"الأخرويـة" والـرد عليهـا

أحاديث الأمور الغيبية التى أخبر بها المعصوم ، والتى تعد من الأدلة على صدق نبوته ، طعن فيها أعداء الإسلام بحجة أنه ،
لا يعلم الغيب، فطعنوا فى أحاديث الفتن وأشراط الساعة، والأمور السمعية، من عذاب القبر ونعيمه، وما فى يوم القيامة من حوض وميزان،
وصراط …، بل وطعنوا فى الأحاديث الصحيحة التى تصف نعيم الجنة، وعذاب النار … إلخ0

يقول جمال البنا : "عرض الأحاديث على القرآن، سيؤدى إلى التوقف أمام الأحاديث التى جاءت عن المغيبات بدءً من الموت حتى يوم القيامة،
والجنة والنار، فهذه هى ما استأثر الله تعالى بعلمها … ويدخل فى الغيب التنبؤ بما سيحدث قبيل الساعة، مما يسمونه "الفتن" ويدخل فيها
المهدى، والدجال، وما إلى هذا كله0

والأحاديث التى تتحدث عن الفتن، والمهدى، والدجال، ثم الموت، وعذاب القبر، فالحشر، والنشر، والجنة والنار، تجاوزت المئات
إلى الألوف، ونحن نطويها دون حساسية أو أسى"( ) أ0هـ0

والجواب على شبهتهم فيما يلى :
دعوى أعداء السنة بأن أحاديث الأمور الغيبية تتعارض مع القرآن الكريم كقوله تعالى : قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا
شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ( )0

هذا الزعم بالتعارض مردود عليهم بأن الغيب المنفى فى الآية السابقة، ونحوها من الآيات كقوله تعالى : قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي
السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ( ) وقوله تعالى : وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ( )0 هذا الغيب المنفى هو المذكور فى آية لقمان،
والوارد فى قوله  : "مفاتح الغيب خمس ثم تلا : إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا
وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ( )0

وما عدا ذلك الغيب أطلع عليه من شاء من أنبيائه ورسله كما قال  : عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا(26)إِلَّا مَنِ ارْتَضَى
مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا(27)لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا( ) أى لا
يظهر على غيبه إلا من ارتضى أى اصطفى للنبوة، فإنه يطلعه على ما يشاء من غيبه ليكون ذلك دالاً على نبوته( )0 وينص على ذلك رب
العزة فى حق سيدنا عيسى -عليه السلام – قال تعالى : وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ( ) وفى حق سيدنا يوسف–عليه السلام
–قال تعالى : قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي( )0

وفى حق سيدنا رسول الله ، قال تعالى : لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ءَامِنِينَ
مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا( )0 وفى الحديث عن ابن مسعود  مرفوعاً :
"أعطى نبيكم  مفاتيح الغيب إلا الخمس ثم تلا قوله تعالى : إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا
تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ( )0

ومن هنا فإن الأحاديث التى تدل على الغيب من أقوى الأدلة على نبوة رسول الله ، وأنه نبى من عند الله يوحى إليه0
ومن هنا ندرك هدف أعداء الإسلام من المستشرقين وذيولهم من دعاة اللاديينة – فى طعنهم فى ذلك النوع من الأحاديث، وزعمهم أنها
مكذوبة، لأنه يلزم من صحتها صدق النبوة( )0

إن الساعة جعل الله  لها أشراطاً وعلامات لا تتعارض مع إتيان الساعة بغتة قال تعالى : فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ
بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ( ) وقال سبحانه : هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ ءَايَاتِ
رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ ءَايَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ ءَامَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ( ) وقال تعالى :
وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ ( ) وقال تعالى:حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ
وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ( )0
وأكدت السنة المطهرة ما جاء فى القرآن الكريم من أن للساعة أشراطاً0
من ذلك قوله  لجبريل –عليه السلام– لما سأله عن الساعة فقال  ما المسئول عنها بأعلم من السائل قال – أى جبريل – عليه السلام –
فأخبرنى عن أماراتها قال أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة، رعاء الشاةِ يتطاولون فى البنيان … الحديث"( )0 وقد ورد عنه ،
أحاديث كثيرة فى الإخبار عن علامات وأشراط الساعة لهذا اليوم، وهى من أنباء الغيب المنقولة عن النبى ، بالأسانيد الصحيحة الثابتة، وهى
كثيرة تفوق درجة التواتر فى جملتها، ويبلغ عدد كثير منها التواتر بمفرده، كالأحاديث الواردة فى ظهور المهدى، والمسيح الدجال، وفى نزول
المسيح عيسى بن مريم – عليه السلام – مما لا يسع أحداً إنكاره إلا أن ينكر عقله وحسه( )0

وسوف نتناول الجواب عن شبهات ثلاث آيات غيبية أنكروها وهى ظهور المهدى، وخروج الدجال، ونزول المسيح( ) عيسى عليه السلام0
فإلى بيان ذلك فى المبحث التالى0


المبحـث الثانـى
شبهات المنكرين "لظهور المهدى" و "خروج الدجال"
و "نزول المسيح عليه السلام" والرد عليها

أولاً : "ظهـور المهـدى" :
بلغت الأخبار فى ظهور المهدى حد التواتر المعنوى، وحكى هذا التواتر غير واحد من أئمة الحديث0
قال ابن قيم الجوزية : "وقد تواترت الأخبار واستفاضت عن رسول الله ، بذكر المهدى وأنه من أهل بيته، وأنه يملك سبع سنين، وأنه يملأ
الأرض عدلاً، وأن عيسى يخرج فيساعده على قتل الدجال، وأنه يؤم هذه الأمة، ويصلى عيسى خلفه"( )0

وقال الإمام الشوكانى : "والأحاديث الواردة فى المهدى التى أمكن الوقوف عليها منها خمسون حديثاً فيها الصحيح، والحسن، والضعيف،
المنجبر، وهى متواترة بلا شك ولا شبهة( ) أ0هـ0

ومن الأحاديث الصحيحة الواردة فى "المهدى" :
حديث عبد الله بن مسعود  عن النبى ، قال : "لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لطوَّل الله ذلك اليوم حتى يبعث رجلاً منى – أو من أهل بيتى –
يواطئ اسمه اسمى، واسم أبيه اسم أبى، يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، كما ملئت ظلماً وجوراً"( )0
وعن أبى سعيد الخدرى  قال : قال رسول الله  : "المهدى منى أجلى الجبهة، أقنى الأنف، يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، كما ملئت
جوراً وظلماً، ويملك سبع سنين"( )0 وفى هذه الأحاديث الصحيحة بيان أن المهدى اسمه "محمد بن عبد الله"، وينتهى نسبه إلى الحسن( ) لا
إلى الحسين –رضى الله عنهما–0

وفى هذا رد على الشيعة الجعفرية فى زعمهم أن أمامهم "الإثنى عشر" هو المهدى الذى بشر به النبى ؛ لأن إمامهم المزعوم يسمى "محمد
بن الحسن العسكرى" من ولد الحسين بن على، لا من ولد الحسن0 والذى أخبر به النبى  اسمه محمد بن عبد الله، وينتهى نسبه إلى الحسن
لا إلى الحسين –رضى الله عنهما-( )0

وفى صحة الروايات السابقة، وما نص عليه غير واحد من علماء المسلمين بتواتر أحاديث المهدى تواتراً معنوياً ردً على الأستاذ محمد رشيد
رضا – رحمه الله – فى تضعيفه للحديث، ووصفه بالاضطراب( )0
واتهامه لكعب الأحبار بوضعه حيث قال : "ولأجل ذلك كثر الاختلاف فى اسم المهدى، ونسبه، وصفاته، وأعماله، وكان لكعب الأحبار جولة
واسعة فى تلفيق تلك الأخبار"( )0
وقال فى موضع آخر : "وإذا تذكرت مع هذا أن أحاديث الفتن والساعة عامة، وأحاديث المهدى خاصة، وأنها كانت مهب رياح الأهواء والبدع
وميدان فرسان الأحزاب، والشيع، تبين لك أين تضع هذه الرواية منها"( )0

ويقول أيضاً : "وقد كانت أى روايات المهدى – أكبر مثارات الفساد والفتن فى الشعوب الإسلامية إذ تصدى كثير من محبى الملك والسلطان،
ومن أدعياء الولاية، وأولياء الشيطان لدعوى المهدوية فى الشرق والغرب أو تأييد دعواهم بالقتال والحرب والبدع، والإفساد فى الأرض، حتى
خرج ألوف الألوف عن هداية السنة النبوية، ومرق بعضهم من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية( ) أ0هـ0

ويجاب على ما سبق بالآتى :
أولاً : اتهام الأستاذ "محمد رشيد رضا" لكعب الأحبار بأنه هو، ووهبُ ابن مُنَبِّه "بطلى الإسرائيليات وينبوعى الخرافات"( )، واتهامه للصحابة،
وللتابعين، وللأئمة المسلمين بالغفلة عن حقيقة أمرهم؛ إذ يقول فى تفسير قوله تعالى:وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ( ) : "وأما تلك الروايات الكثيرة
فى جوهرها ومقدارها … كلها من الإسرائيليات الباطلة التى بثها فى المسلمين أمثال "كعب الأحبار"، "ووهب بن منبه" فاغتربها بعض
الصحابة، والتابعين إن صحت الرواية عنهم"( )0 وقال : "ثم ليعلم أن شر رواة هذه الإسرائيليات أو أشدهم تلبيساً وخداعاً للمسلمين هذان
الرجلان : كعب الأحبار، ووهب بن منبه"( )، وقال : "لو فطن الحافظ ابن حجر لدسائسهما، وخطأ من عدلهما من رجال الجرح والتعديل؛ لخفاء
تلبيسهم عليهم، لكان تحقيقه لهذا البحث أتم وأكمل"( )0

إن طعن الأستاذ رشيد رضا( ) – غفر الله له – فى كعب الأحبار، ووهب بن مُنَبِّه مردود عليه بما ذكره هو نفسه من أن
الجمهور عدلوهما ووثقوهما، واعترافه أيضاً بأن أبا هريرة، وابن عباس( ) وغيرهما من أعلام الصحابة؛ كعبد الله بن عمر، وعبد الله
ابن الزبير روى عنه، ولم يكن هؤلاء، ولا كل من روى عنه سذجاً، ولا مخدوعين فيه، وإنما أيقنوا أنه ثقة فيما يروى فرووا عنه0

وإلا فكيف يعقل أن صحابياً يأخذ علمه عن كذاب وضاع، بعدما عرف عن الصحابة من التحرى والتثبت فى تحمل الأخبار؟( )0

ثم إن الإمام مسلم قد أخرج له فى صحيحه، وكذا أخرج له أبو داود، والترمذى، والنسائى، فهذا دليل على أن كعباً كان ثقة غير متهم عند
هؤلاء جميعاً، وتلك شهادة كافية، لرد كل تهمة تلصق بهذا الحبر الجليل( )0

والجمهور على توثيق كعب لذا لا تجد له ذكراً فى كتب الضعفاء والمتروكين، وقد اتفقت كلمة نقاد الحديث على توثيقه( )0
أما "وَهْبُ بنُ مُنَبِّه" فقد روى له البخارى، ومسلم، وأبو داود، والترمذى، والنسائى0 قال الذهبى فى الميزان : كان ثقة، صادقاً، كثير النقل من
كتب الإسرائيليات0 قال العجلى : ثقة تابعى، كان على قضاء صنعاء، وقد ضعفه الفلاس وحده، ووثقه جماعة( )0
وقال أبو زرعة، والنسائى : ثقة، وذكره ابن حبان فى الثقات( )، والبخارى نفسه يعتمد عليه ويوثقه( )0

وبعـد : هذا بعض ما قاله علماء الحديث فى توثيق هذين الرجلين، فهل يحق لأحد أن يخالف هؤلاء الأعلام فى نقد الرجال، وأن يشكك فى
سلامة أسلوبهم فى ذلك، أو أن يتهمهم بالغفلة، والاغترار، وهم أهل هذا الفن الذى لا يصلح له إلا القليل من الناس( )؟

ليس معنى هذا أن كل ما رواه هذان العالمان الفاضلان حق لا كذب فيه، بل إن فيه من الكذب ما يخالف شرعنا ولا يقره العقل
ولكن لا يعنى هذا أن ننسب الكذب إليهما، فقد يكون الكذب من غيرهما، أو أنهما نقلاه على أنه مما فى كتبهم، وهما يعتقدان صحته، ولم
يعلما كذبه لخفاء الثابت والمحرف فى كتب أهل الكتاب0
قال ابن الجوزى – رحمه الله تعالى - : "إن بعض الذى يخبر به كعب عن أهل الكتاب يكون كذباً لا أنه يتعمد الكذب، وإلا فقد كان كعب من
أخيار الأخيار"( )0
قلـت : ومثل هذا يقال فى وهب بن منبه( ) أ0هـ0

"أما قول رشيد رضا : إن روايات المهدى كانت أكبر مثارات الفساد والفتن فى الشعوب الإسلامية باستغلال أعداء الإسلام لها0
فيقول رداً على ذلك الدكتور فهد الرومى : "وإنا لنكتفى هنا بسؤال السيد رشيد، ومن نحا نحوه متى كان استغلال أعداء الإسلام لعقيدة من عقائد
المسلمين مبرراً لطمسها أو التشكيك فى ثبوتها؟‍

إن أعداء الإسلام لم يستغلوا المهدوية فحسب، بل استغلوا ما هو أكبر وأعظم وأوضح عند المسلمين – أعنى عقيدة النبوة –
استغلوا هذا وخرج أدعياء النبوة، ولا زلنا فى هذا العصر نعانى من أولئك كالبهائية، والبابية، والقاديانية، وغيرهم مع أن المسلمين كلهم
يؤمنون بختم النبوة، ولم يكن هذا مانعاً لهم من استغلالها، ولن يكون هذا ولا ذاك مانعاً لنا نحن المسلمين من الإيمان بعقيدة النبوية وختمها،
والإيمان بمجئ المهدى0
ولو شككنا فى كل عقيدة للمسلين يستغلها أعداء الإسلام لخشينا أن لا يبقى لنا من الإسلام شئ حتى اسمه؟( )0

ثانياً : خــروج الدجـال :
بلغت الأخبار عن مجئ الدجال حد التواتر المعنوى، وحكى هذا التواتر غير واحد من أئمة الحديث( )0
ومن الأحاديث الصحيحة الواردة فى خروج الدجال حديث أنس بن مالك  قال : قال رسول الله  : "ما من نبى إلا وقد أنذر أمته الأعور الكذاب،
ألا إنه أعور0 وإن ربكم ليس بأعور0 ومكتوب بين عينيه كفر"( ) أ0هـ0

وقد رد أئمة المسلمين قديماً على طعون المبتدعة من الخوارج، والجهمية، وبعض المعتزلة – فى إنكارهم للدجال – وطعون المبتدعة قديماً
رددها – أهل الزيغ والإلحاد فى عصرنا( ) – كما تأثر بذلك بعض علماء المسلمين( )0
فدعوى رد أحاديث الدجال بحجة تعارضها مع القرآن الكريم بعدم وروده فيه، قال رداً على ذلك الحافظ ابن حجر : أجيب بأجوبة :
أحدها : أنه ذكر فى قوله تعالى : يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ ءَايَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا( ) فقد أخرج الترمذى وصححه عن أبى هريرة مرفوعاً :
"ثلاثة إذا خرجن لم ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت فى إيمانها خيراً، الدجال، والدابة وطلوع الشمس من مغربها"( )0
الثانى : قد وقعت الإشارة فى القرآن إلى نزول عيسى بن مريم فى قوله تعالى : وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ( ) وصح أنه الذى يقتل الدجال فاكتفى
بذكر أحد الضدين عن الآخر، ولكونه يلقب المسيح كعيسى، لكن الدجال مسيح الضلالة، وعيسى مسيح الهدى0
الثالث : أنه ترك ذكره احتقاراً، وتعقب بذكر يأجوج ومأجوج، وليست الفتنة بهم دون الفتنة بالدجال والذى قبله … وقد وقع فى تفسير البغوى :
أن الدجال مذكور فى قوله تعالى : لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ( ) وأن المراد بالناس هنا الدجال من إطلاق الكل على
البعض0وهذا إن ثبت أحسن الأجوبة فيكون من جملة ما تكفل النبى  ببيانه( )0

وقال الإمام النووى – رحمه الله – فى بيان مذهب أهل السنة فى ذلك :"قال القاضى هذه الأحاديث التى ذكرها مسلم، وغيره فى
قصة الدجال، حجة لمذهب أهل الحق فى صحة وجوده، وأنه شخص بعينه، ابتلى الله به عباده، وأقدره على أشياء من مقدورات الله تعالى من
إحياء الميت الذى يقتله، ومن ظهور زهرة الدنيا والخصب معه، وجنته وناره ونهريه، واتباع كنوز الأرض له، وأمره السماء أن تمطر فتمطر،
والأرض أن تنبت فتنبت، فيقع كل ذلك بقدرة الله تعالى ومشيئته، ثم يعجزه الله تعالى بعد ذلك فلا يقدر على قتل ذلك الرجل، ولا غيره،
ويبطل أمره، ويقتله عيسى  ويثبت الله الذين آمنوا0
هذا مذهب أهل السنة وجميع المحدثين، والفقهاء، والنظار خلافاً لمن أنكره، وأبطل أمره من الخوارج، والجهمية، وبعض المعتزلة، وخلافاً
للبخارى المعتزلى، وموافقيه من الجهمية، وغيرهم فى أنه صحيح الوجود، ولكن الذى يدعى مخاريق وخيالات لا حقائق لها، وزعموا أنه لو
كان حقاً لم يوثق بمعجزات الأنبياء – صلوات الله وسلامه عليهم –0

وهذا غلط من جميعهم؛ لأنه لم يدع النبوة فيكون ما معه كالتصديق له، وإنما يدعى الإلهية، وهو فى نفس دعواه مكذب لها بصورة حاله
ووجود دلائل الحدوث فيه، ونقص صورته، وعجزه عن إزالة العور الذى فى عينيه،وعن إزالة الشاهد بكفره المكتوب بين عينيه( ) أ0هـ0
وبعـد
فإن صحة الأحاديث فى مجئ الدجال، وتواترها تواتراً معنوياً ردٌ على من ضعف الحديث وزعم اضطرابه،أو أنه آحاد لا يحتج به فى العقائد( )
فدخل فى ميدان ليس من أهله، كما أن تقرير أئمة المسلمين بأن الدجال شخص بعينه0 ردٌ على من تأول فزعم بأنه "رمز
للخرافات،والدجل،والقبائح،وظهور الشر والفساد"( )،أو غير ذلك من التأويلات الباطلة0

كما أن فى إدعاء الدجال للألوهية وصورة حاله من العور، والعجز، والشاهد المكتوب بين عينيه "كفر" يبطل زعم الزاعمين قديماً
وحديثاً أن ما يظهر على يديه من الخوارق يعد شبهة فى نبوته( )0 وهو غلط من جميعهم كما قال الإمام النووى رداً على ذلك( ) أ0هـ0

ثالثاً : نزول المسيح عيسى – عليه السلام – :
أما أحاديث نزول عيسى بن مريم – عليه السلام – آخر الزمان فقد نص العلماء على تواترها0 قال الحافظ ابن كثير – رحمه الله
– بعد ذكره الأحاديث الدالة على نزوله قال : "فهذه أحاديث متواترة عن رسول الله  من رواية أبى هريرة، وابن مسعود، وعثمان ابن أبى
العاص، وأبى أمامة، والنواس بن سمعان، وعبد الله بن عمرو بن العاص، ومجمع ابن حارثة، وأبى شريحة، وحذيفة بن أسيد  وفيها دلالة
على صفة نزوله ومكانه، من أنه بالشام بل بدمشق عند المنارة الشرقية، وأن ذلك يكون عند إقامة صلاة الصبح ( ) أ0هـ0

وقال الأستاذ عبد الله الغمارى بعد أن استوعب كل ما ورد من أحاديث وآثار، وذكرها بطرقها وأسانيدها : "فهذه ستون حديثاً
يرويها عن النبى  ثمانية وعشرون صحابياً، وثلاثة تابعين بألفاظ مختلفة، وأسانيد متعددة كلها تصرح بنزول عيسى بن مريم –عليه السلام
– تصريحاً لا يحتمل تأويلاً ولا روغاناً"( )0

ومن ذلك ما جاء فى الصحيحين عن أبى هريرة  قال : قال رسول الله  : "والذى نفسى بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم – عليه السلام
– حكماً مقسطاً، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد"( ) أ0هـ0

ويمكن أن نجمل ما أثاره المحدثون( )من شبه حول نزوله –عليه السلام– والتى قال بها أعداء السنة واتخذوا منها ستاراً للطعن
فى السنة المطهرة ورواتها( )فى النقاط التالية:

1- ليس فى القرآن نص صريح فى رفعه إلى السماء بروحه وجسده ليحيا حياة دنيوية يحتاج معها إلى غذاء0
2- ليس فيه نص صريح على نزوله، وإنما تلك عقيدة النصارى0
3- أحاديث لم تبلغ درجة التواتر حتى يؤخذ منها عقيدة بنزوله، بل هى أحاديث آحاد مضطربة فى متونها، منكرة فى معانيها، فى
معظمها يشتد ضعف الرواة، وليست بمحكمة الدلالة، ولذا أولها العلماء قديماً وحديثاً0
4- لا يجب على المسلم أن يعتقد أنه حى بروحه وجسده ومن خالف لا يعـد كافـراً0
5- نزول عيسى بن مريم -عليه السلام- يتناقض مع حديث "لا نبى بعدى"( ) أ0هـ0

ويجاب على الشبهات السابقة بما يلى :
1- لقد جاءت آيات فى كتاب الله  تدل على رفع عيسى - عليه السلام – إلى السماء، وقد بين العلماء أنه رفع بروحه وجسده0
قال تعالى : إِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ( )0

وقد لخص الدكتور محمد خليل هراس آراء المفسرين فى بيان معنى هذه الآية فقال :
1- رأى الجمهور : الذى اختاره ابن كثير، ورواه عن الحسن، وهو الرأى الذى يفسر التوفى بالإنامة0
2- رأى قتادة : وهو أن فى الكلام تقديماً وتأخيراً والتقدير "إنى رافعك ومتوفيك أى بعد النزول"0
3- رأى ابن جرير : فى أن المراد بالتوفى هو نفس الرفع، والمعنى أنى قابضك من الأرض ومستوفيك ببدنك وروحك( )0 وينسب
هذا التفسير إلى ابن زيد( )0 وهو الذى حكاه ابن كثير عن مطر الوراق( )0
وهذه الأقوال الثلاثة متفقة على أنه رفع حياً، وإن كان بعضها أصح، وأولى بالقبول من بعض، فأصحها الأول وهو قول الجمهور، ويليه قول
قتادة، ويليه قول ابن جرير( )0

وكلمة "الوفاة" كما تطلق على الموت تطلق على النوم أيضاً، لأن معناها فى اللغة من استيفاء الحق وافياً أى كاملاً لا نقص فيه0 ولذا قال
صاحب القاموس : "أوفى فلاناً حقه : أعطاه وافياً، كوفاه ووافاه فاستوفاه وتوفاه"( )0

وقد جاءت فى القرآن الكريم بمعنى النوم فى قوله تعالى : وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ( ) كما جاءت
على المعنيين فى قوله تعالى : اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى
أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ( )0

فالمراد بالوفاة فى الآية الواردة فى حق سيدنا عيسى – عليه السلام – النوم وليس الموت قال ابن كثير – رحمه الله - : "فأخبر
تعالى أنه رفعه – أى عيسى عليه السلام – بعدما توفاه بالنوم على الصحيح المقطوع به، وخلصه ممن كان أراد أذيته من اليهود الذين وشوا
به إلى بعض الملوك الكفرة فى ذلك الزمان"( )0

وقال تعالى : وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ
لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا(157)بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا( )0
قال الدكتور محمد هراس : "فالآية صريحة فى أنه رفعه حياً؛ لأنه ذكر الرفع وأثبته مكان الذى نفاه من القتل والصلب0 ولو كان
عيسى – عليه السلام – قد مات فى الأرض ودفن، وأن المراد بالرفع رفع روحه أو منزلته كما يزعم المنكرون لما حسن ذكر الرفع فى مقابل
نفى القتل والصلب، لأن الذى يناسب نفى القتل والصلب عنه هو رفعه حياً لا موته، وإلاَّ لقال وما قتلوه وما صلبوه بل الله هو الذى قتله0

وكيف يتوهم متوهم أن المراد بقوله تعالى : بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ( ) هو رفع روحه، وهو إنما ذكر لإبطال ما زعموه من قتله وصلبه،ورفع
الروح، لا يبطل القتل والصلب بل يجامعهما، فإنهم لو قتلوه فرضاً لرفعت روحه إلى الله، على أن فى إخباره  بأنه رفعه إليه، ما يشعر
باختصاصه بذلك، والذى يمكن أن يختص به عيسى هو رفعه حياً بجسده وروحه؛ لأن أرواح جميع الأنبياء، بل المؤمنين ترفع إلى الله بعد
الموت لا فرق بين عيسى وغيره فلا تظهر فيه الخصوصية( )0
وحياته -عليه السلام- ليست كحياة من على الأرض يحتاج إلى الطعام والشراب ويخضع للسنن والنواميس الكونية، كسائر الأحياء، وإنما
حياته حياة خاصة عند الله  لا يشعر بالضرورات الجسدية من طعام أو شراب أو نحوهما( )0

وقد جاءت آيات أيضاً تدل على نزوله إلى الأرض فى آخر الزمان من ذلك :
أ‌- قوله تعالى : وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ( ) نقل الشيخ الهراس عن ابن جرير : أن عيسى – عليه السلام –
كلم الناس فى المهد، وسيكلمهم إذا قتل الدجال وهو يومئذ كهل( )0 ثم قال : "وهذا الذى نقلناه عن ابن جرير هو قول عامة أهل التفسير كلهم
يفسرون الآية به ويجعلونها دليلاً على نزول عيسى – عليه السلام – وهذا هو الحق الذى لا مرية فيه، فإن قوله سبحانه "وكهلاً" معطوف
على متعلق الظرف قبله، داخل معه فى حكمه، والتقدير : ويكلم الناس طفلاً فى المهد ويكلمهم كهلاً، فإذا كان كلامه فى حال الطفولة عقب
الولادة مباشرة آية فلابد أن المعطوف عليه وهو كلامه فى حال الكهولة كذلك، وإلا لم يحتج إلى التنصيص عليه؛ لأن الكلام من الكهل أمر
مألوف معتاد؛ فلا يحسن الإخبار به لا سيما فى مقام البشارة بل لابد أن يكون المراد بهذا الخبر أن كلامه كهلاً سيكون آية ككلامه طفلاً بمعنى
أنه سيرفع إلى السماء قبل أن يكتهل، ثم ينزل فيبقى فى الأرض إلى أن يكتهل، ويكلم الناس كهلاً0

وقد ذهب جمهور المحدثين والمؤرخين إلى أنه عليه السلام رفع وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، وأنه سيمكث فى الأرض إذا نزل أربعين سنة كما
جاء فى الحديث الصحيح( )0 عن أبى هريرة  أن النبى  قال : "ليس بينى وبينه نبىُّ يعنى –عيسى عليه السلام- وإنه نازل، فإذا رأيتموه
فاعرفوه، رجل مربوع إلى الحمرة والبياض، بين ممصرتين، كأن رأسه يقطر وإن لم يصبه بلل، فيقاتل الناس على الإسلام، فيدق الصليب،
ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويهلك الله فى زمانه الملل كلها، إلا الإسلام، ويهلك المسيح الدجال، فيمكث فى الأرض أربعين سنة، ثم يتوفى،
فيصلى عليه المسلمون"( )0

ب‌- قال تعالى : وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ( ) الصحيح أن الضمير فى قوله : "إنه" يعود على
عيسى – عليه السلام – أى أن خروجه من أعلام الساعة وأماراتها لأنه ينزل قبيل قيامها( )0

والذى يدل على ذلك أن سياق الآيات فى ذكره، وصرف الكلام عما هو فى سياقه إلى غيره بغير حجة غير جائز، ويؤيد هذا المعنى القراءة
الأخرى "وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ" أى أمارة ودليل على وقوع الساعة( )0

ج- قال تعالى : وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا( )0 قوله "قَبْلَ مَوْتِهِ" ذكر العلماء فيها وجهين
فى عود الضمير :
الأول : قبل موت عيسى – عليه السلام – وهو قول أبى هريرة ( )0
الثانى : قبل موت الكتابى0 قال ابن جرير : "وأولى الأقوال بالصحة والصواب قول من قال : تأويل ذلك : وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بعيسى
قبل موت عيسى( )0 وهو قول ابن كثير قال : "ولا أشك أن هذا الذى قاله ابن جرير هو الصحيح"( )0

قال الأستاذ عبد الله الغمارى : "إن احتمال عود الضمير فى "موته" على الكتابى ضعيف، واحتمال عوده فى "به" على غير عيسى باطل،
والاحتمالات الضعيفة والباطلة لا تنهض للحجية، ولا تقوى للاستمساك، فتكون الآية الكريمة نصاً فى حياة عيسى ونزوله بمعونة ما ذكر0
واللفظ يكون نصاً بنفسه تارةً، وبما ينضم إليه من القرائن تارة أخرى، وليس كل احتمال فى اللفظ يؤثر فى ناصيته، كما يتوهم
كثير ممن لم يحكموا قواعد علم الأصول"( )0
أما ما زعموه من أن الأحاديث فى نزول المسيح – عليه السلام – لم تبلغ درجة التواتر حتى يؤخذ منها عقيدة بنزوله، بل هى
أحاديث آحاد مضطربة فى متونها … إلخ0

فقد سبق ذكر من نص من علماء الحديث على تواترها تواتراً معنوياً0 ويكفى تخريجها فى الصحيحين اللذين تلقتهما الأمة
بالقبول، وأجمعت على إفادة أحاديثهما العلم اليقينى0 وحتى لو كانت آحاداً لوجب علينا التسليم لها والإيمان بمضمونها متى ثبتت صحتها عن
رسول الله 0 وإن دلت على عقيدة خلافاً لمن أبى ذلك0
وأما زعم الأستاذ رشيد رضا وفضيلة الشيخ شلتوت "بأنها أحاديث مضطربة فى متونها منكرة فى معانيها0
أجاب عن ذلك الأستاذ عبد الله الغمارى فى رده على الشيخ شلتوت – رحمه الله – فقال : "وهذا غير صحيح فإن تلك الأحاديث أو الروايات -
على حد تعبيره – كلها متفقة على الإخبار بنزول عيسى وأنه يقتل الدجال والخنزير، ويكسر الصليب … إلخ ما جاء فيها، غاية ما فى الأمر أن
بعضاً منها يفصل، وآخر يجمل، وبعضاً يوجز، وآخر يطنب، وهذا كما يفعل القرآن العظيم إذ يورد القصة الواحدة فى سور متعددة بأساليب
مختلفة، يزيد بعضها على بعض بحيث لا يمكن جمع أطراف القصة إلا بقراءة السور التى ذكرت فيها0

فلعل صاحب الفتوى ظن مثل هذا التخالف الذى يقوى شأن الحديث، ويدل على تعدد مخارجه، تعارضاً فأخطأ، وأضعف خطأه حيث ادعى أنه لا
مجال معه للجمع بينها0
وذلك أنه على فرض وجود تعارض فالجمع ممكن لو أمعن فكره، وأمضى نظره، وأخلص فى بحثه، لكنه أرسل قوله بتعذر الجمع دعوى تتعثر
فى أذيال الخجل"( )0

والزعم بأنها ليست محكمة الدلالة، ولذا أولها العلماء قديماً0
زعم لا أساس له من الصحة0 ودعوى باطلة ليس لها ما يسندها، كيف وقد نصت الأحاديث صراحة على نزوله -عليه السلام-، ولم يأت ما
يعارض ذلك تصريحاً أو تلميحاً، وأجمعت الأمة على ما دلت عليه وتأويل من أولها إنما هو تحريف وتبديل، ورد للنصوص الثابتة الصريحة، ولا
حجة فى قوله0

يقول الشيخ أحمد محمد شاكر : "وقد لعب المجددون، أو المجردون فى عصرنا الذى نحيا فيه، بهذه الأحاديث الدالة صراحة على نزول عيسى
بن مريم – عليه السلام – فى آخر الزمان، قبل انقضاء الحياة الدنيا بالتأويل المنطوى على الإنكار تارة، وبالإنكار الصريح أخرى، ذلك أنهم –
فى حقيقة أمرهم – لا يؤمنون بالغيب أو لا يكادون يؤمنون0 وهى أحاديث متواترة المعنى فى مجموعها، يعلم مضمون ما فيها من الدين
بالضرورة، فلا يجديهم الإنكار ولا التأويل( ) أ0هـ0

4- لا شك أن النصوص من القرآن والسنة دلت على رفعه إلى السماء، وأنه حى بروحه وجسده، وأنه سينزل فى آخر الزمان،
وانعقد الإجماع على ذلك فوجب على كل مسلم أن يؤمن بما دلت عليه تلك النصوص، وأن يجمع قلبه على اعتقاد ما جاء فيها، ومن المعلوم
أن إنكار ما ثبت من الدين بالضرورة يعد كفراً0

قال الشيخ الشنقيطى – رحمه الله - : "يجب شرعاً اعتقاد أن عيسى -عليه الصلاة والسلام- لا زال حياً إلى الآن وأنه لابد أن ينزل فى آخر
الزمان حاكماً بشرع نبينا – عليه الصلاة والسلام – ومجاهداً فى سبيل الله تعالى، كما تواتر عن الصادق المصدوق، وإنما وجب اعتقاد ذلك لأن
الله تعالى أخبر فى كتابه العزيز : وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا(157)بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ( )0 وقد وردت الأحاديث المتواترة كما سبق … ولم يصح حديث
بموته، تمكن معارضته لما صح بالتواتر من نزوله فى آخر الزمان، وإذا أخبر القرآن أنه رفع، ولم يقتل، وبين النبى  لنا أنه سينزل فى آخر
الزمان، وفصل لنا أحواله بعد نزوله تفصيلاً رافعاً لكل احتمال، وجب اعتقاد ذلك على كل مسلم، ومن شك فيه فيكون كافراً بإجماع الأمة؛ لأنه
مما علم من الدين ضرورة بلا نزاع، وكل إيراد عليه من الملاحدة، والجهلة، باطل لا ينبغى لكل من اتصف بالعلم أن يلتفت إليه( )0

أما ما زعمه بعض المعتزلة، والجهمية ومن قال بقولهم من أن نزول المسيح –عليه السلام – يتناقض مع ختم النبوة0
فنقول : فى الحديث ما ينقض تلك الدعوى وهو قوله  : "حكماً مقسطاً" ولم يقل "نبياً مقسطاً" فعيسى - عليه السلام – ينزل حاكماً بهذه
الشريعة لا ينزل نبياً برسالة مستقلة، وشريعة ناسخة، بل هو حاكم من حكام هذه الأمة"( )0

ويؤيد ذلك ما جاء فى صحيح الإمام مسلم من صلاته خلف رجل من هذه الأمة0 عن جابر بن عبد الله قال سمعت رسول الله  يقول : "لا تزال
طائفة من أمتى يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة0 قال، فينزل عيسى بن مريم  فيقول أميرهم : تعال صل لنا فيقول0 لا0 إن
بعضكم على بعض أمراء، تكرمة الله هذه الأمة"( )0
قال الحافظ ابن حجر : "قال ابن الجوزى، لو تقدم عيسى إماماً لوقع فى النفس إشكال، ولقيل : أتراه تقدم نائباً أو مبتدئاً شرعاً،
فصلى مأموماً لئلا يتدنس بغبار الشبهة فى قوله : "لا نبى بعدى"( ) أ0هـ0

قال الأستاذ عبد الله الغمارى:"وبعد : فإنى أرى أن كل من يمارى فى هذا الأمر بعد هذا البيان، فإنه مبتدع ضال، إن لم يكن
كافراً،والعياذ بالله،فالواجب أن يهجر ويجتنب، وليست المسألة مسألة خلاف يعذر فيها المخالف، بل هى مسألة إجماع، أجمعت عليه الأمة،
وتواترت به النصوص، كما أنها من جنس الأخبار التى لا مجال فيها للرأى والاجتهاد"( ) أ0هـ0

ونختم هنا بما رواه الإمام أحمد فى مسنده بسند صحيح، عن أبى هريرة ؛ أن رسول الله  : قال : "إنى لأرجو إن طال بى عمر
أن ألقى عيسى بن مريم ، فإن عجل بى موت، فمن لقيه منكم؛ فليقرئه منّى السلام"( )0

يقول فضيلة الدكتور سعيد صوابى : "وفى هذا إشارة إلى تمام الثقة بحدوث الأمر، وكمال التحقيق بنزول عيسى بن مريم فى هذه
الأمة حكماً عدلاً بدين الإسلام ومبطلاً لسائر ما سواه من الأديان( )0

ويقول أبو هريرة :"أى بنى أخى إن رأيتموه فقولوا:أبو هريرة يقرئك السلام( )0
وفى هذا أعظم دليل على تجاوب الأمة مع نبيها فى إيمانها بنزول عيسى ابن مريم -عليه السلام-0
ونحن نوصى من يأتون بعدنا إن أدركوا عيسى بن مريم أن يقرئوه منا السلام"( )0
والله تبــارك وتعالــى
أعلـى وأعلـم





الفصـــــل الخامــــس

حديـــــــــث "عـــــــــذاب القبــــــــر ونعيمــــــه"

وتحته مبحثان :
المبحث الأول : شبهة الطاعنين فى أحاديث الأمور الغيبية "الأخروية" من أحوال البرزخ، وأحوال يـوم القيامـة، والـرد عليهـا0
المبحث الثانى : شبهات المنكرين لعذاب القبر ونعيمه والرد عليها0


المبحـث الأول
شبهـة الطاعنين فى أحاديث الأمور الغيبيـة "الأخروية"
من أحوال البرزخ وأحوال يوم القيامة والرد عليها

أحاديث الأمور الغيبية السمعية (الأخروية) من عذاب القبر ونعيمه، والحوض والميزان، والصراط … إلخ، طعن فيها المبتدعة من
الخوارج، والجهمية، وبعض المعتزلة وتأولوها على حسب أصولهم0

وتغالى أذيال المبتدعة من دعاة اللادينية فى عصرنا الذى نحيا فيه0 وزادوا على أسلافهم بالطعن فى الأحاديث التى تتحدث عن الحشر، والنشر،
والنفخ فى الصور، وأوصاف نعيم الجنة، وأوصاف عذاب جهنم، وغير ذلك من الأحاديث الصحيحة التى تتحدث عن أحوال يوم القيامة0 وقد
سبق قول جمال البنا فى ذلك، ومن قال بقوله( )0 كما سبق الرد على شبهتهم فى ذلك، وهى أن النبى  لا يعلم الغيب"( )0

ونزيد هنا فى الإجابة على شبهة الطاعنين فى أحاديث السمعيات :
أنه لا حجة للمبتدعة قديماً وحديثاً فى إنكارهم للأمور السمعية؛ سوى عبادتهم لهوى عقولهم، وقياسهم عالم ما وراء الطبيعة على العالم
المحسوس0

يقول الإمام الشاطبى فى كتابه الاعتصام باب بيان معنى الصراط المستقيم، الذى انحرفت عنه سبل أهل الابتداع فضلت عن الهدى بعد البيان قال
: "لأنهم قوم استعملوا قياسهم وآراءهم فى رد الأحاديث مع تواترها، فقالوا : لا يجوز أن يرى الله فى الآخرة لأنه تعالى يقول : لَا تُدْرِكُهُ
الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ( )0

فردوا قوله  : "إنكم ترون ربكم يوم القيامة"( )0 وتأولوا قول الله تعالى : وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ(22)إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ( ) وقالوا :
لا يجوز أن يسأل الميت فى قبره لقول الله تعالى : أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ( ) فردوا الأحاديث المتواترة فى عذاب القبر وفتنته( )، وردوا
الأحاديث فى الشفاعة على تواترها( )، وقالوا : لن يخرج من النار من أدخل فيها، وقالوا : لا نعرف حوضاً( ) ولا ميزاناً( )، ولا نعقل ما هذا،
وردوا السنن فى ذلك كله برأيهم، وقياسهم، مع تواتر الأحاديث فى ذلك – إلى أشياء يطول ذكرها من كلامهم فى صفة البارى"( ) وسبق تفصيل
ذلك والرد عليه( )0

والحقيقة : أن تحكيم الرأى أمر يسير لا عناء فيه ولا ينبغى لأهل الابتداع والإلحاد قديماً وحديثاً أن يفخروا، وإنما الفخر بإتباع
الوحى وإن خفيت علينا حكمته، ولم نستطع إدراك حقيقته لا سيما فى الغيبيات؛ لأن العقل يقف عاجزاً عن إدراك عالم ما وراء الطبيعة0
وتحكيم العقل فى هذا العالم تجاوز لحدود العقل،وسفه من صاحبه،وتطاول على خالقه–والعياذ بالله–

ونقتصر هنا فى الرد إجمالاً( ) على من يحكمون عقولهم فى أحاديث أحوال يوم القيامة بكلمة جامعة للإمام ابن خلدون فى تقويم البحث فى
المغيبات وتسفيه العقل فى ذلك0 قال : "ولا تثقن بما يزعم لك الفكر من أنه مقتدر على الإحاطة بالكائنات وأسبابها والوقوف على تفصيل
الوجود كله وسفه رأيه فى ذلك، واعلم أن الوجود عند كل مدرك فى بادئ رأيه منحصر فى مداركه ولا يعدوها، والأمر فى نفسه بخلاف ذلك
والحق من ورائه، ألا ترى الأصم كيف ينحصر الوجود عنده فى المحسوسات الأربع والمعقولات ويسقط من الوجود عنده صنف المسموعات،
وكذلك الأعمى أيضاً يسقط عنده صنف المرئيات، ولولا ما يردهم إلى ذلك تقليد الآباء والمشيخة من أهل عصرهم والكافة لما أقروا به، لكنهم
يتبعون الكافة فى إثبات هذه الأصناف، لا بمقتضى فطرتهم وطبيعة إدراكهم، ولو سئل الحيوان الأعجم ونطق لوجدناه منكراً للمعقولات وساقطة
لديه بالكلية، فإذا علمت هذا فلعل هناك ضرباً من الإدراك غير مدركاتنا، لأن إدراكاتنا مخلوقة محدثة، وخلق الله أكبر من خلق الناس، والحصر
مجهول، والوجود أوسع نطاقاً من ذلك والله من ورائهم محيط، فاتهم إدراكك ومدركاتك فى الحصر، واتبع ما أمرك الشارع به من اعتقادك
وعملك، فهو أحرص على سعادتك، وأعلم بما ينفعك لأنه من طور فوق إدراكك، ومن نطاق أوسع من نطاق عقلك0

وليس بقادح فى العقل ومداركه، بل العقل ميزان صحيح، فأحكامه يقينية، لا كذب فيها، غير أنك لا تطمع أن تزن أمور التوحيد، والآخرة،
وحقيقة النبوة، وحقائق الصفات الإلهية، وكل ما وراء طوره، فإن ذلك طمع فى محال0

ومثال ذلك مثال رجل رأى الميزان الذى يوزن به الذهب فطمع أن يزن به الجبال، وهذا لا يدرك على أن الميزان فى أحكامه غير
صادق، لكن العقل قد يقف عنده ولا يتعدى طوره حتى يمكن له أن يحيط بالله وبصفاته، فإنه ذرة من ذرات الوجود الحاصل منه، وتفطن فى هذا
الغلط، ومن يقدم العقل على السمع فى أمثال هذه القضايا؛ فمن قصور فهمه، واضمحلال رأيه، وقد تبين لك الحق من ذلك"( )0
وعلى هذا سلم أهل السنة بما جاء فى الأمور الغيبية، ولم يحكموا عقولهم0

قال الإمام الأشعرى فى الإبانة : "نؤمن بعذاب القبر، ومنكر ونكير، وبالحوض، وأن الميزان حق، والصراط حق، والبعث بعد الموت حق، وأن
الله  يوقف العباد فى الموقف، ويحاسب المؤمنين، وأن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، ونسلم الروايات الصحيحة عن رسول الله  التى
رواه الثقات عدل عن عدل حتى تنتهى إلى رسول الله ( )0


المبحـث الثانـى
شبهات المنكرين لعذاب القبر ونعيمه والرد عليها

أحاديث عذاب القبر ونعيمه لمن كان أهلاً لذلك، وسؤال الملكين، نص جماعة من العلماء على تواترها تواتراً معنوياً منهم الحافظ
السيوطى( )، والكتانى( )، وابن قيم الجوزية( )، وابن أبى العز( ) وغيرهم( )0 وسوف نورد طرفاً من هذه الأحاديث عند الحديث عن كشف
شبهات المعتزلة، ومن قال بقولهم من أهل الكلام والرافضة قديماً وحديثاً0

ويمكن أن نعرض شبهات المعتزلة حول عذاب القبر فيما يأتى :
لقد زعم المعتزلة أن الأخبار الدالة على عذاب القبر مجملة :
ولذلك انقسموا حوله إلى ثلاث فرق :
1- أنكره ضرار بن عمرو( )، والخوارج، ومعظم المعتزلة، وبعض المرجئة، والرافضة( )0
2- قطع به بعضهم فى الجملة( )0
3- جــوزه آخـــرون( )0
وبالقول الأول قال دعاة اللادينية فى عصرنا( )0
وتدور شبه المنكرين لعذاب القبر وما فيه من سؤال، وضمة، وعذاب، بأنه معارض للقرآن، وللسنة، وللعقل0

أما القرآن ففى قوله تعالى : قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ( ) قالوا فلو كان يحيا فى قبره
للزم أن يحيا ثلاث مرات، ويموت ثلاثاً، وهو خلاف النص( )0

أما السنة فقالوا : الأخبار فيها متعارضة، وقد ردت عائشة -رضى الله عنها- حديث ابن عمر مرفوعاً (إن الميت يعذب فى قبره ببكاء أهله
عليه) فقالت :وَهِلَ إنما قال رسول الله  : "إنه ليعذب بخطيئته أو بذنبه، وإن أهله ليبكون عليه الآن" وذاك مثل قوله : إن رسول الله  قام
على القليب يوم بدر0 وبه قتلى بدر من المشركين فقال لهم ما قال : "إنهم ليسمعون ما أقول" وقد وَهِلَ0 إنما قال : "إنهم ليعلمون أن ما كنت
أقول لهم حق" ثم قرأت قوله تعالى : إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ( ) وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ ( )0
يقول : حين تبوءوا مقاعدهم من النار، وفى رواية قالت (رضى الله عنها) يغفر الله لأبى عبد الرحمن0 أما إنه لم يكذب ولكنه نسى أو
أخطأ، إنما مر رسول الله  على يهودية يبكى عليها0 فقال : "إنهم ليبكون عليها0 وإنها لتعذب فى قبرها"( )0

قالوا فدل ذلك على أن الموتى لا يسمعون، وما يروى من سماعهم خفق النعال لا يصح أيضاً0 وأن عذاب القبر خاص بالكفار من
اليهود0 وقوله تعالى : النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا ءَالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ( )0
قالوا : هذه فى آل فرعون خاصة، فلا يقاس عليهم غيرهم0
وما صح من أحاديث فى عذاب القبر؛ فهو آحاد يفيد الظن، لا يحتج به هنا فى باب العقائد( )0 وهو يصح لبعض الناس دون بعض ممن
فقدت أجسادهم، أو تعذر وصول الحياة إليها( )0

أما دليلهم العقلى فقالوا : لو كان لعذاب القبر أصل؛ لكان يجب فى النباش أن يرى العقوبة أو المثوبة للمعاقب والمثاب، فكان
يشاهد عليه أثر الضرب وغيره، وفى علمنا العقلى بخلافه، دليل على أن ذلك مما لا أصل له، ولا مدخل للسمع فيه( )0

ويجاب على هذه الشبه بما يلى :
إن زعمهم أن الأخبار مجملة فى إثبات عذاب القبر، ثم انقسامهم حوله إلى ما ذكرنا، يتبين منه : أن المعتزلة، وإن زعم بعضهم بأنه يقطع
بوقوعه لدلالة الأخبار عليه، إلا إنهم لم يسلموا للنصوص فى ذلك تسليماً كاملاً، ولم يسلم هذا الأمر من إقحام عقولهم فى جزئيات منه0
نعم : إن من أثبته منهم أثبته فى الجملة، ولكنهم خاضوا فى ثبوته لعصاة المؤمنين، وفى كيفيته، ووقته مما دفعهم إلى رد بعض النصوص،
وتأويل بعضها( )0

فما زعموه من تعارض عذاب القبر ونعيمه بقوله تعالى : أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ( ) فلا حياة ثالثة0
فالجواب : أنه لا تعارض، إنما التعارض نشأ من عدم إدراكهم المراد بالحياة فى القبر فهى ليست الحياة المستقرة المعهودة فى الدنيا، التى تقوم
فيها الروح بالبدن وتدبيره وتصرفه، وتحتاج إلى ما يحتاج إليه الأحياء، بل هى مجرد إعادة لفائدة الامتحان الذى وردت به الأحاديث الصحيحة،
فهى إعادة عارضة، كما حى خلق، لكثير من الأنبياء، لمسألتهم لهم عن أشياء، ثم عادوا موتى( )0
فحياة القبور، وما فيها من نعيم أو عذاب؛ تختلف عن حياة الدنيا، وحياة الآخرة؛ فهى حياة برزخية لا طاقة للعقل فى إدراكها، ولا
يمكنه أن يصل إلى كيفيتها، وإنما يتوقف الإيمان بهذه الحياة على النصوص الواردة قال تعالى:وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ( )

أما دعواهم تعارض الأحاديث : فيجاب عن ذلك بأنه لا تعارض مع إمكان الجمع وهو ممكن0 وما ورد من رد أم المؤمنين
عائشة –رضى الله عنها– لخبر ابن عمر  فى تعذيب الميت ببكاء أهله عليه0 فلا حجة لهم فيه على نفى عذاب القبر لأن عائشة –رضى الله
عنها– إنما أنكرت عذاب الميت بما لم تكسبه يداه، يدل على ذلك احتجاجها بقوله تعالى : أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى( ) ومع ذلك فإنكارها ذلك
وحكمها على الراوى بالتخطئة أو النسيان أو على أنه سمع بعضاً ولم يسمع بعضاً بعيد؛ لأن الرواة لما أنكرته من رواية عمر وابنه – رضى
الله عنهما – رواه من الصحابة كثيرون وهم جازمون0 فلا وجه للنفى منها مع إمكان حمله على محمل صحيح( )0

والمحامل كثيرة جمع بينها الحافظ ابن حجر فقال : "من كانت طريقته النوح فمشى أهله على طريقته أو بالغ فأوصاهم بذلك عذب بصنعه، ومن
كان ظالماً فندب بأفعاله الجائرة عذب بما ندب به، ومن كان يعرف من أهله النياحة فأهمل نهيهم عنها، فإن كان راضياً بذلك التحق بالأول،
وإن كان غير راض عذب بالتوبيخ، كيف أهمل النهى، ومن سلم من ذلك كله واحتاط فنهى أهله من المعصية ثم خالفوه وفعلوا ذلك، كان
تعذيبه تألمه بما يراه منهم من مخالفة أمره، وإقدامهم على معصية ربهم0

وحكى الكرمانى تفصيلاً آخر، وحسنه، وهو التفرقة بين حال البرزخ، وحال يوم القيامة، فيحمل قوله تعالى:أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى( ) على
يوم القيامة، وهذا الحديث وما أشبهه على البرزج0 ويؤيد ذلك أن مثل ذلك يقع فى الدنيا، والإشارة إليه بقوله تعالى : وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ
الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً( )0 فإنها دالة على جواز وقوع التعذيب على الإنسان بما ليس له فيه تسبب، فكذلك يمكن أن يكون الحال فى البرزخ
بخلاف يوم القيامة والله أعلم( ) أ0هـ0

أما ردها – رضى الله عنها – لخبر ابن عمر – رضى الله عنهما – فى سماع الموتى لكلام النبى  ومعارضتها ذلك بقوله تعالى
: إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى( ) ونحوها من الآيات فالجمهور فى ذلك على خلافها فيما اجتهدت فيه، وقبلوا حديث ابن عمر لموافقة من رواة غيره
عليه0
وأما استدلالها بقوله تعالى : إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى فقالوا معناها لا تسمعهم سماعاً ينفعهم، أو لا تسمعهم إلا أن يشاء الله … والآية كقوله
تعالى : أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ( ) أى أن الله هو الذى يسمع ويهدى( )0

وصحت الأحاديث بسماع الموتى حتى قرع النعال خلافاً لمن رد ذلك من المعتزلة عن أنس بن مالك  قال : قال رسول الله  : "
إن العبد إذا وضع فى قبره وتولى عنه أصحابُه، وإنه ليسمع قرعَ نعالهم …" الحديث( )0

وعن ابن عمر –رضى الله عنهما– قال : "اطلع النبى  على أهل القليب فقال : وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟ فقيل له : تدعوا أمواتاً؟
فقال : ما أنتم بأسمع منهم، ولكن لا يجيبون"( )0 ولا دليل على خصوصية ذلك بأهل بدر، كما يزعم بعض المعتزلة( )0
قال القاضى عياض – رحمه الله - : "يحتمل سماعهم، على ما يحتمل عليه سماع الموتى، فى أحاديث عذاب القبر، وفتنته، التى
لا مدفع لها0 وذلك بإحيائهم أو إحياء جزء منهم يعقلون به ويسمعون فىالوقت الذى يريد الله تعالى"0

وقال الإمام النووى – رحمه الله – بعد نقله لكلام القاضى عياض السابق : "وهو الظاهر المختار الذى تقتضيه أحاديث السلام على القبور"( )0

أما ما زعموه من تعارض الأحاديث المثبتة لعذاب القبر والنافية له0
فيجاب عن ذلك بأنه لا تعارض0
ففى الأحاديث التى زعموا أنها تنفى عذاب القبر فى عجزها ما يثبته، وهو ما تعمدوا بتره، فلا تعارض بين أول الحديث وآخره كما جاء فى
رواية مسلم عن عائشة –رضى الله عنهما– قالت : دخل علىَّ رسول الله  وعندى امرأة من اليهود0 وهى تقول هل شعرت أنكم تفتنون فى
القبور؟ قالت : فَارْتَاعَ رسول الله  وقال : "إنما تُفتنُ يهودُ" قالت عائشة : فلبثنا ليالى0 ثم قال رسول الله  : "هل شعرت أنه أوحى إلى أنكم
تفتنون فى القبور؟" قالت عائشة : فسمعت رسول الله ، بَعْدُ، يستعيذُ من عذاب القبر"( )0

قال الحافظ ابن حجر:وحاصل الحديث أنه  لم يكن أوحى إليه أن المؤمنين يفتنون فى القبور فقال:"إنما يفتن يهود" فجرى على ما كان عنده من
علم ذلك،ثم لما علم بأن ذلك يقع لغير اليهود استعاذ منه، وعلمه، وأمر بإيقاعه فى الصلاة، ليكون أنجح فى الإجابة"( )0

وفى رواية أخرى عنها –رضى الله عنها– قالت:دخلت عَلَىَّ عَجُوزانِ من عُجُز يهود المدينة0 فقالتا : إن أهل القبور يعذبون فى قبورهم0 قالت
: فكذبتُهُما0 ولم أنعم أن أَصَدِّقَهُمَا0 فَخَرَجَتَا0 ودخل علىَّ رسول الله ، فقلت له : يا رسول الله! إن عَجُوَزَيْنِ من عُجُزِ يهود المدينة دخلتا على
فزعمتا أنَّ أهل القبور يُعذبون فى قبورهم0 فقال : "صدقتا0 إنهم يعذبون عذاباً تسمعه البهائم" قالت:فما رأيته، بعد، فى صلاة، إلا يتعوذ من
عذاب القبر"( ) 0

قال الحافظ ابن حجر : "وبين هاتين الروايتين مخالفة، لأن فى هذه أنه ، أنكر على اليهودية، وفى الأول أنه أقرها0
قال النووى تبعاً للطحاوى وغيره : هما قصتان، فأنكر النبى ، قول اليهودية فى القصة الأولى، ثم أعلم النبى  بذلك، ولم يعلم عائشة، فجاءت
اليهودية مرة أخرى، فذكرت لها ذلك، فأنكرت عليها مستندة إلى الإنكار الأول، فأعلمها النبى  بأن الوحى نزل بإثباته، ويدل على ذلك صراحة،
ما رواه أحمد فى مسنده بإسناد على شرط البخارى عن عائشة –رضى الله عنها- : "أن يهودية كانت تخدمها فلا تصنع عائشة إليها شيئاً من
المعروف إلا قالت لها اليهودية : وقاك الله عذاب القبر قالت : فقلت : يا رسول الله هل للقبر عذاب؟ قال : كذبت يهود، لا عذاب دون يوم
القيامة0 ثم مكث بعد ذلك ما شاء أن يمكث، فخرج ذات يوم نصف النهار، وهو ينادى بأعلى صوته : "أيها الناس استعيذوا بالله من عذاب
القبر؛ فإن عذاب القبر حق"( )0

وفى هذا كله أنه ، إنما علم بحكم عذاب القبر، إذ هو بالمدينة فى آخر الأمر، وهذا لا يستشكل مع ما نزل بمكة من قوله تعالى
: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ( ) وقوله تعالى : النَّارُ
يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا ءَالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ( )0 لأن الآيتين بظاهر منطوقهما فى حق الكفار0

والذى أنكره النبى ، إنما هو وقوع عذاب القبر على الموحدين، ثم اعلم ، أن ذلك قد يقع على من يشاء منهم، فجزم به، وحذر منه، وبالغ
فى الاستعاذة منه تعليماً لأمته وإرشاداً، فانتفى التعارض بحمد الله تعالى( ) أ0هـ0

أما دعوى القاضى عبد الجبار ومن قال بقوله : إن قوله تعالى : النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا
ءَالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ( ) فى آل فرعون خاصة( )0

فيجاب علىذلك:بأن دعوى الخصوصية ممتنعة،ولا دليل عليها،ومما يؤيد ذلك ما يلى:
أولاً: لقد احتج أهل العلم بهذه الآية على عذاب القبر، وما زالوا يستشهدون بها على إثباته( )، حتى قال الإمام ابن كثير – رحمه الله - : "وهذه
الآية أصل كبير فى استدلال أهل السنة على عذاب البرزخ فى القبور"( )0
ثانياً : لقد فهم الصحابة والتابعون  عدم الخصوصية فى الآية، ولذلك جعلوها مستنداً لهم فى إثبات عذاب القبر( )0
ثالثاً : روى البخارى بسنده إلى ابن عمر أن رسول الله ، قال : "إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشى، إن كان من أهل الجنة؛
فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار؛ فمن أهل النار يقال : هذا مقعدك حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة"( ) وهذا فى معنى الآية( )0

أما زعمهم بأن أحاديث عذاب القبر آحاد لا يحتج بها هنا فى العقائد، فقد سبق أن جماعة من الأئمة نصوا على أن الأحاديث
الواردة فى عذاب القبر، وسؤاله، ونعيمه، متواترة بمجموعها تواتراً معنوياً، وإن لم يبلغ آحادها حد التواتر0
وحتى لو كانت أحاداً لوجب علينا التسليم لها، والإيمان بمضمونها، متى ثبتت صحتها عن رسول الله ، وإن دلت على عقيدة خلافاً لمن أبى
ذلك0
فخبر الآحاد حجة فى العقائد كما سبق تفصيله فى غير موضع من البحث( )0

وأما دليلهم العقلى فيجاب عنه بالآتى :
أولاً : هذا إقحام منهم للعقل فى أمر لا طاقة له به، ولا مدخل له فيه؛ لأن عذاب القبر ونعيمه أمر غيبى لا عهد للعقول به فى هذه الدار، ولا
يمكنها أن تصل إلى كيفيته، وإنما يتوقف الإيمان فيه على النصوص الواردة، وإن كان العقل لا يمنع وقوعه، والشرع لا يأتى بما تحيله
العقول، ولكنه يأتى بما تحار فيه العقول( )0
ثانياً : إن الحياة التى يحياها الميت فى قبره والتى دل عليها حديث النبى ، فى قوله : "فتعاد روحه إلى جسده"( ) حياة أخرى غير هذه الحياة
المعهودة فى الدنيا التى تقوم فيها الروح بالبدن، وتصرفه، وتحتاج إلى ما يحتاج إليه الأحياء، وهذا أمر لا يكذبه العقل ولا ينفيه( )0
يقول ابن قيم الجوزية – رحمه الله – "إن الروح لها بالبدن خمسة أنواع من التعلق متغايرة الأحكام:
أحدها : تعلقهـا بـه فـى بطـن الأم جنينـاً0
الثانى : تعلقها به بعد خروجه إلى وجه الأرض0
الثالث : تعلقها به فى حال النوم فلها به تعلق من وجه، ومفارقة من وجه0
الرابع : تعلقها به فى البرزخ( )؛ فإنها وإن فارقته وتجردت عنه، فإنها لم تفارقه فراقاً كلياً بحيث لا يبقى لها التفات إليه البته0
الخامس : تعلقها به يوم بعث الأجساد، وهو أكمل أنواع تعلقها بالبدن، ولا نسبة لما قبله من أنواع التعلق إليه، إذ هو تعلق لا يقبل البدن معه
موتاً، ولا نوماً، ولا فساداً0

وإذا كان النائم روحه فى جسده وهو حى، وحياته غير حياة المستيقظ، فإن النوم شقيق الموت، فهكذا الميت إذا أعيدت روحه إلى
جسده، كانت له حال متوسطة بين الحى وبين الميت الذى لم ترد روحه إلى بدنه، كحال النائم المتوسطة بين الحى والميت، فتأمل هذا يزيح عنك
إشكالات كثيرة"( )0

واعلم : أن الرسل "صلوات الله وسلامه عليهم" لا يخبرون بما تحيله العقول وتنافيه، ولكن إخبارهم إما أن يشهد به العقل
والفطرة، وإما أن لا يدركه العقل لعجزه عن الوصول إلى حقيقته وكنهه، ولا يكون الخبر بذلك محالاً فى العقل، وبالتالى كل خبر يظن أن العقل
يحيله فإما أن يكون كذباً أو يكون ذلك العقل فاسداً( )0

وبعـد
فإن عذاب القبر أو نعيمه حق ثابت بظاهر القرآن، وصريح السنة المطهرة وعلى ذلك إجماع أهل السنة( )0
فإن الميت إذا مات يكون فى نعيم أو عذاب، وأن ذلك يحصل لروحه وبدنه، وأن الروح تبقى بعد مفارقة البدن منعمة أو معذبة، وأنها تتصل
بالبدن أحياناً ويحصل له معها النعيم أو العذاب، ثم إذا كان يوم القيامة الكبرى، أعيدت الأرواح إلى الأجساد، وقاموا من قبورهم لرب العالمين(
)0

أدلة عـذاب القبـر ونعيمـه :
الذى يلقى نظرة فى القرآن الكريم، والسنة المطهرة يجد أن عذاب من يستحق العذاب، ونعيم من يستحق النعيم يبدأ منذ قدوم
الملائكة لأخذ روحه عند الموت قال تعالى : وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ
عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ ءَايَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ( )0
فقوله تعالى : "وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ" أى بالضرب حتى تخرج أنفسهم من أجسادهم، وهو كقوله : وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ
كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ( ) وفى حق أهل النعيم قال تعالى : الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ
سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ( ) مع قوله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا
تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ( )0 وغير ذلك من الآيات0
وهذا وإن كان قبل الدفن، فهو من جملة العذاب أو النعيم الواقع قبل يوم القيامة0

وإنما أضيف العذاب أو النعيم إلى القبر لكون معظمة يقع فيه، ولكون الغالب على الموتى أن يقبروا، وإلا فالكافر ومن شاء الله تعذيبه من
العصاة يعذب بعد موته، ولو لم يدفن، ولكن ذلك محجوب عن الخلق إلا ما شاء الله"( )0
وهذا خلافاً لمن أنكر ذلك من المعتزلة، وقال بعذاب القبر لمن قبر فقط( )0
كما دلت الأدلة على وقوع النعيم أو العذاب عقب الدفن، وبعد سؤال الملكين، وامتحانهما له0

فقد جاء فى حديث البراء بن عازب فى شأن المؤمن : "فينادى مناد من السماء أن صدق عبدى، فأفرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة،
وافتحوا له باباً إلى الجنة، فيأتيه من ريحها، وطيبها ويفسح له فى قبره" وقال فى الكافر : "فينادى مناد من السماء أن كذب عبدى فأفرشوه من
النار، وافتحوا له باباً من النار، فيأتيه من حرها، وسمومها، ويضيق عليه قبره، حتى تختلف فيه أضلاعه …" الحديث( )0
فهذا نص صريح على وقوع النعيم أو العذاب بعد الدفن0

وفى الحديث عن زيد بن ثابت مرفوعاً : "إن هذه الأمة تبتلى فى قبورها0 فلولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذى أسمع
…، الحديث( )0
فقد دلت هذه الأحاديث وغيرها فى الصحيح كثير، على وقوع عذاب القبر بعد الدفن0

وهل يدوم ذلك إلى يوم القيامة أم ينقطع؟ الظاهر من النصوص، أن منه ما هو دائم إلى يوم القيامة، وهو عذاب الكفار، كما قال تعالى : النَّارُ
يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا ءَالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ( ) وقال تعالى : سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ
عَظِيمٍ( )0

قال الحافظ ابن حجر قال الطبرى : "الأغلب أن إحدى المرتين عذاب القبر، والأخرى تحتمل الجوع أو السبى أو القتل أو الإذلال أو غير ذلك"( )0
وفى حديث أبى هريرة فى شأن المنافقين "فيقال للأرض : التئمى عليه، فتلتئم عليه فتختلف فيها أضلاعه، فلا يزال فيها معذباً حتى يبعثه الله
من مضجعه ذلك"( )0

ومنه الذى يدوم مدة ثم ينقطع وهو عذاب بعض العصاة، فإنهم يعذبون على قدر جرائمهم، ثم يخفف عنهم( )0

وبالتالى زعم القاضىّ عبد الجبار ومن قال بقوله : إن العذاب يؤخر إلى ما بين النفختين( )؛ زعم لا حقيقة له؛ لأن الأدلة السابقة
تخالفه، والآية التى استدلوا بها دليل عليهم لا لهم، لأن المراد بالبرزخ هو الحاجز الذى بين الدنيا والآخرة، وهى فترة بقاء الناس فى قبورهم(
)0
إن الله  جعل أمر الآخرة وما يتصل بها من حياة البرزخ أمراً غيبياً محجوباً عن المكلفين فى هذه الدار،لكمال حكمته سبحانه
وتعالى،وليتميز المؤمنون بالغيب من غيرهم( )0

ولو أطلع الله العباد على عذاب القبر؛ لزالت حكمة التكليف، والإيمان بالغيب، ولما تدافن الناس، كما ثبت فى صحيح مسلم عنه 
أنه قال : "فلولا أن لا تدافنوا؛ لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذى أسمع منه( )0

ولما كانت هذه الحكمة منفية فى البهائم، سمعت ذلك وأدركته كما سبق فى الحديث( )0 إن الله  حجب بنى آدم، من رؤية كثير
مما يحدث فى هذه الدنيا، فجبريل

-عليه السلام- كان ينزل بالوحى على النبى  ويخاطبه على كثب من الصحابة  وهم لا يرونه، والجن يعيشون بيننا، ويتكلمون فيما بينهم،
ونحن لا نراهم، ولا نسمع كلامهم، والنائم يجد ألماً ولذة فى نومه، ولا يحس بذلك جليسه، بل اليقظان يحس بالألم، ويشعر باللذة ولا يجد ذلك
من يجالسه( )0
والمحتضر يشعر بالألم عند احتضاره،وتضربه الملائكة، والحاضرون لا يرون ذلك0

كذلك عذاب القبر، ونعيمه، يقع على الميت، حتى لو دفن رجلان أحدهما إلى جنب الآخر، وكان أحدهما منعماً، والآخر معذباً، فإن نعيم الأول لا
يصل إلى الثانى، وكذا عذاب الثانى لا يصل إلى الأول0 وقدرة رب العزة أعجب، وأوسع من ذلك( )0 فقياس أحوال الآخرة، وحياة البرزخ بأحوال
الدنيا، قياس للغائب، على الشاهد، وهو محض الضلال، والجهل، وتكذيب الرسل صلوات الله وسلامه عليهم( ) أ0هـ0

اللهم إنى أعوذ بك من عذاب القبر، ومن عذاب النار، ومن فتنة المحيا والممات،
ومن فتنة المسيح الدجال، اللهم إنى اسألك حسن الخاتمة




الفصــــــل الـســـــادس
أحاديـــــــــــــــث
"خلــــوة النبــى  بامـــرأة من الأنصار" و "نوم النبى  عند
أم سليم وأم حرام" وحديث "سحر النبى "

وتحته أربعة مباحث :
المبحث الأول : شبهة مخالفة سيرة النبى  فى السنة المطهرة، عن سيرته فى القرآن الكريم0 والرد عليها0
المبحث الثانى : شبه الطاعنين فى حديث "أنس بن مالك فى خلوة النبى  بامرأة من الأنصار" والرد عليها0
المبحث الثالث : شبه الطاعنين فى حديثى نوم النبى  عند أم سليم وأم حرام والرد عليها0
المبحث الرابع : شبه الطاعنين فى حديث سحر النبى  والرد عليها0

المبحـث الأول
شبهة مخالفة سيرة النبى  فى السنة المطهرة عن سيرته
فى القرآن الكريم والرد عليها

سيرة النبى  بين حقائق القرآن الكريم وروايات الإمام البخارى :
حرص أعداء السنة الشريفة، وهم يطعنون فى صحيح الإمام البخارى، إ يهام الناس أجمعين بأن شخصية النبى ، كما رسمها
القرآن تختلف عن شخصية النبى ، كما رسمها البخارى، وغيره من أصحاب كتب السنة المطهرة، والنتيجة كما يزعمون الإساءة المتعمدة
لشخص النبى ، من الإمام البخارى( ) وحاشاه من ذلك0

وهم قد لبسوا لهذه النتيجة لباس العلماء لإيهام القارئ أنهم على صواب؛ فساروا خلف بعض الأحاديث انتزعوها انتزاعاً من بين
سطور الإمام البخارى، وعمدوا إلى بتر هذه الأحاديث تارة، وإلى إعادة صيغتها بأسلوبهم، وتحميل ألفاظها مالا تحتمل من المعانى تارة ثانية،
وعمدوا إلى الأمرين معاً تارة ثالثة0

ومن هذه الأحاديث التى استدلوا بها على زعمهم فى مخالفة سيرة النبى ، كما رسمها القرآن، عن السيرة التى رسمها الإمام
البخارى فى صحيحه0
أ- أحاديث جاء فيها لفظ (الخلوة) كحديث أنس بن مالك ، أنه ؛ خلا بإمرأة من الأنصار فى بعض طرق المدينة تستفيه فى أمر من أمور
دينها، وحديثه عن أمه أم سليم، وخالته أم حرام –رضى الله عنهما- فى زيارته ، لهما، ونومه عندهما فى وقت القيلولة0
بهذه الروايات التى جاء فيها لفظ الخلوة، حملوها على الخلوة المحرمة، وساقوا روايات هذه الأحاديث بأسلوب يهيج الغرائز عند الشباب، ويطيح
بكل تقدير للنبى ، وللأسلاف والأجداد،مع بُعْدِ سياق هذه الروايات فى صحيح البخارى،عن أسلوب سياقهم لهـا
وَبُعْدهَا أيضاً عن الهدف الذى يرمون إليه من الطعن فى عدالة الإمام البخارى( )، وصحيحه الجامع، وزعمهم برسمه صورة لسيرة النبى ،
مخالفة لصورته فى القرآن الكريم( )0

ب- حديث سحر النبى  وزعمهم بأنه يحط من مقام النبوة، ويطعن فى عصمته ، ويخالف القرآن الكريم، فى قوله تعالى:وَقَالَ
الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا( )0

وسوف نذكر شبه الطاعنين فى الأحاديث السابقة، والرد عليها فى المباحث التالية0 وذلك بعد الجواب عن زعمهم مخالفة سيرة
النبى  فى السنة المطهرة، عن سيرته فى القرآن الكريم0

الجـواب :
أقول كما قال فضيلة الأستاذ الدكتور طه حبيشى : "البخارى ليس له، ولا لغيره، أن يرسم شخصية النبى ؛ لأن شخصية النبى ،
بكل بساطة ترجع إلى عناصر ومقومات قد وضعها الله فيه، فالأنبياء جميعاً قد اصطنعهم الله  لنفسه، وهو قد صنعهم على عينه، فهو وحده
الذى يستطيع أن يرسم لنا صورة فيما اصطنعه لنفسه، وصنعه على عينه، ثم يحدد لنا بعد رسم شخصيته، مستوى العلاقة التى ستكون بيننا
وبينه 0

هذا كله لله وحده، وليس لأحد أن يتدخل فى شئ منه0 والله  قد حدد لنا شخصية النبى  فى القرآن الكريم وحياً يوحى، وحددها
لنا النبى  عن طريق أقواله وأفعاله، وصفاته، وجلها أمور محكومة بالوحى0
ودور الإمام البخارى، وغيره من أصحاب المصنفات الحديثية، هو تسجيل تلك الأمور كلها وما فيها من وقائع تاريخية0

والتأكد منها سهل ميسور، فنحن بإمكاننا أن نحلل الواقعة التاريخية التى يتحدث عنها البخارى أو غيره، وندرسها دراسة وافية على أساس من
المنهج المنضبط، ثم نحن نستطيع أن ندرس هؤلاء النقلة الذين نقلوا هذه الواقعة فى جيل أو جيلين إلى أن وصلوا إلى البخارى، أو إلى غيرة
من الرواة0

وهذا ما قام به أئمة أعلام من سلفنا الصالح، وأسفرت نتيجة جهودهم فى النقد والتمحيص، إلى صحة الكتاب، سوى أحرف
يسيرة، والقول فيها ما قاله البخارى، وبعض تلك الأحرف لا تصل إلى درجة الوضع، بل ولا حتى إلى درجة الضعف الذى لا يحتمل، وقد سبق
تفصيل ذلك( )0

ومن هنا ينبغى أن نتفق من البداية؛ أنه ليس لأحد أن يرسم من خياله صورة لنبى مرسل، سواء كان هذا النبى هو النبى الخاتم
، أو غيره من الأنبياء( )0

وهنا نأتى للجواب عما استدلوا به من أحاديث تخالف فى زعمهم حقائق القرآن الكريم0 فإلى بيان ذلك0


المبحـث الثانـى
شبهة الطاعنين فى حديث أنس بن مالك فى خلوة النبى 
بامـرأة من الأنصـار والـرد عليهـا

روى الإمام البخارى فى صحيحه بسنده عن أنس  قال : "جاءت امرأة من الأنصار إلى رسول الله  ومعها صبى لها، فكلمها
رسول الله  فقال : "والذى نفسى بيده، إنكم أحب الناس إلىَّ مرتين"( )0

بهذه الرواية طعن أعداء السنة فى صحيح الإمام البخارى، وأوهموا القارئ بأن الحديث يطعن فى شخص النبى ، حيث جاء فى
الرواية أنه ، خلا بها، ثم قال "إنكم أحب الناس إلىَّ"0

يقول أحمد صبحى منصور : "والرواية تريد للقارئ أن يتخيل ما حدث فى تلك الخلوة التى انتهت بكلمات الحب تلك، وذلك ما يريده البخارى
بالطبع"( )0

والجـواب :
نقول لهؤلاء النابتة الضالة التى تريد الطعن والتشكيك فى صحيح الإمام البخارى لتسقط مكانته كأصح كتاب بعد كتاب الله ،
ولتسقط بسقوطه كل كتب السُّنة التى تليه، إذ هو بمثابة الرأس، لكتب السنة، وبسقوط الرأس يسقط كل الجسد0
نقول لهم إن كنتم صادقين فى دعواكم تـنزيه الرسول ، مما يشكك فى سيرته العطرة، وأخلاقه العظيمة، وتزعمون أن البخارى بإخراجه لهذه
الرواية فى صحيحه، قد افترى كذباً على الرسول ، وشكك فى أخلاقه ، وحاشا للإمام البخارى من ذلك0 وإن كنتم حقاً أهل علم، وبحث عن
الحقيقة،

فلماذا تعمدتم عدم ذكر اسم عنوان الباب الذى ذكر تحته الإمام البخارى هذا الحديث؟ وهو باب "ما يجوز أن يخلوا الرجل بالمرأة عند الناس"0
ولماذا تجاهلتم ما قاله شُرَاح الحديث فى بيانهم للمراد من الخلوة، وكيف كانت تلك الخلوة، ولماذا اختلى بها النبى ؟

نعم تعمدتم عدم ذكر ذلك تلبيساً منكم وتضليلاً للقارئ، ولأنكم تعلمون كما تعلم الدنيا بأسرها، أن فقه الإمام البخارى فى تراجم
أبوابه، وتعلمون أنكم بذكركم عنوان الباب، ينكشف كذبكم وتضليلكم0
كما أنكم تجاهلتم ما قاله شراح الحديث من أئمة المسلمين، والذين تحرصون على وصفهم بأنهم يقدسون البخارى، ويعبدونه من دون الله "
وحاشاهم من ذلك"0
تجاهلتم ما فسروه وبينوه من معنى "خلوة الرجل بالمرأة عند الناس" وكيف كانت تلك الخلوة؟!

والنتيجة من تجاهلكم كل ذلك أنكم سفهتم عقول أئمة المسلمين، واستخففتم بعقول القارئ لكم0
وتعالوا بنا لنظهر للقارئ ما حرصتم على كتمانه، ولنترك له الحكم بعد ذلك، من الصادق، البخارى أم أنتم؟ ومن الطاعن
والمشكك فى سيرة النبى ، البخارى أم أنتم؟
ومن المحترم لعقل القارئ، البخارى أم أنتم؟

يقول الحافظ "ابن حجر" – رحمه الله – شارحاً المراد من عنوان الباب الذى ذكر الإمام البخارى تحته حديث أنس قال : قوله : "
باب ما يجوز أن يخلو الرجل بالمرأة عند الناس" أى لا يخلو بها بحيث تحتجب أشخاصهما عنهم، بحيث لا يسمعون كلامهما، إذا كان بما يخافت
به، كالشئ الذى تستحى المرأة من ذكره بين الناس، وأخذ المصنف قوله فى الترجمة "عند الناس" من قوله فى بعض طرق الحديث "فخلا بها
فى بعض الطرق أو فى بعض السكك" وهى الطرق المسلوكة التى لا تنفك عن مرور الناس غالباً0
وقوله "فخلا بها رسول الله " أى فى بعض الطرق، قال المهلب : لم يرد أنس أنه خلا بها، بحيث غاب عن أبصار من كان معه،
وإنما خلا بها، بحيث لا يسمع من حضر شكواها، ولا ما دار بينهما من الكلام، ولهذا سمع أنس آخر الكلام فنقله، ولم ينقل ما دار بينهما؛ لأنه
لم يسمعه0

وفى رواية مسلم عن أنس "أن امرأة كان فى عقلها شئ فقالت : يا رسول الله! إن لى إليك حاجة، فقال : يا أم فلان! أى السكك
شئت، حتى أقضى لك حاجتك، فخلا معها فى بعض الطرق، حتى فرغت من حاجتها"( )0

قال الإمام النووى قوله : "خلا معها فى بعض الطرق" أى وقف معها فى طريق مسلوك،ليقضى حاجتها ويفتيها فى الخلوة، ولم
يكن ذلك من الخلوة بالأجنبية، فإن هذا كان فى ممر الناس،ومشاهدتهم إ ياه وإ ياها،لكن لا يسمعون كلامها،لأن مسألتها مما لا يظهره"( )0
قال الحافظ ابن حجر : وفى هذه الرواية بيان "أن مفاوضة الأجنبية سراً لا يقدح فى الدين عند أمن الفتنة، ولكن الأمر كما قالت
عائشة : "وأيكم يملك أربه كما كان ، يملك أربه"( )0
أما قوله "والذى نفسى بيده"، إنكم أحب الناس إلىَّ –مرتين– وفى رواية ثلاث مرات، هو على طريق الإجمال، أى مجموعكم أحب
إلى من مجموع غيركم"0

وفى هذه الجملة منقبة للأنصار حيث جعل المصطفى ، حبهم من علامات الإيمان وبغضهم من علامات النفاق، فقال  : "
الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق ومن أحبهم أحبه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله"( )0
وعن أنس بن مالك  عن النبى ، قال : "أية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار"( )ومن هنا كرر الإمام
البخارى،حديث أنس فى كتاب مناقب الأنصار0

قال الحافظ ابن حجر : "وخصوا بهذه المنقبة العظمى لما فازوا به دون غيرهم من القبائل، من إيواء النبى ، ومن معه، والقيام بأمرهم،
ومواساتهم بأنفسهم وأموالهم، وإيثارهم إياهم فى كثير من الأمور على أنفسهم، فكان صنيعهم لذلك موجباً لمعاداتهم جميع الفرق الموجودين
من عرب وعجم، والعداوة تجر البغض، ثم كان ما اختصوا به مما ذكر موجباً للحسد، والحسد يجر البغض، فلهذا جاء التحذير من بغضهم
والترغيب فى حبهم حتى جعل ذلك آية الإيمان والنفاق، تنويهاً بعظيم فضلهم، وتنبيهاً على كريم فعلهم، وإن كان من شاركهم فى معنى ذلك
مشاركاً لهم فى الفضل المذكور كل بقسطه0 وقد ثبت فى صحيح مسلم عن علىّ أن النبى  ، قال له "لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق"(
)، وهذا جار باطراد فى أعيان الصحابة، لتحقق مشترك الإكرام،لما لهم من حسن العناء فى الدين"( )0

وبعـد
فقد ظهر واضحاً جلياً لكل ذى عقل، وقلب سليم، أن الحديث صحيح رواية ودراية، وأن ما زعمه أهل الزيغ من أن لفظ الخلوة فى الحديث –
محمول على الخلوة المحرمة، مردود عليهم بما جاء فى بعض طرق الحديث "فخلا بها فى بعض الطرق أو بعض السكك، وهى الطرق التى لا
يخلو منها المارة من الناس0

كما اتضح جلياً أن تلك المرأة التى خلى بها النبى ، كانت لها مسألة أرادت أن تستفتى فيها النبى ، وتلك المسألة مما تستحى من ذكره
النساء بحضرة الناس، وكانت إجابة النبى ، لها أن تلتمس بعض الطرق أى تلتمس أى جانب من الأماكن العامة التى لا تخلو من مرور الناس
غالباً حتى يسمع حاجتها، ويقضيها لها، ومن هنا جاء التعبير بلفظ الخلوة، وكل هذا صرحت به رواية الإمام مسلم0

وما ختم به النبى ، حديثه مع المرأة من قوله "والذى نفسى بيده إنكم أحب الناس إلى" هذا منه ، تأكيداً لما قاله مراراً من جعله علامات
الإيمان حب الأنصار، ومن علامات النفاق بغضهم، ثم إن هذه الكلمة قالها النبى ، جهاراً على ملأ من الناس – لنساء وصبيان من الأنصار
كانوا مقبلين من عرس0

ففى رواية البخارى عن أنس بن مالك  قال : "أبصر النبى ، نساءاً وصبياناً مقبلين من عرس فقام ممتـناً فقال "أنتم من أحب
الناس إلى"( )0

فهل بقى بعد كل هذا حجة فى الحديث لمن أرادوا أن يشوشوا به على سيرة النبى ،وهم يوهمون البسطاء أنهم من المحبين للنبى،المدافعين
عنه،فىالوقت الذى يجحدون فيه سنته العطرة، ويطعنون فى عدالة الإمام البخارى، وفى صحيحه الجامع، ويسفهون عقول المسلمين القائلين
بقول سلفهم الصالح  ويستخفون بعقول القارئ لهم؟ أ0هـ0

والله تبــارك وتعالــى
أعلـى وأعلـم


المبحـث الثالـث
شبهة الطاعنين فى حديثى نوم النبـى  عنـد
أم سليـم، وأم حـرام والـرد عليهـا

أولاً : حديث أم سليم – رضى الله عنها - :
روى البخارى ومسلم – رحمهما الله – عن أنس بن مالك  قال : "إن أم سليم( ) كان تبسط للنبى ، نَطْعاً فَيَقِيلُ عِنْدهَا على ذلك
النطع، قال : فإذا نام ، أخذت من عَرَقِه وشعره فجمعَتْهُ فى قارورة، ثم جمعَتْه فى سُكّ وهو نائم0 قال : فلما حضرَ أنسَ ابن مالك الوفاةُ
أوصى إلىَّ أن يُجعلَ فى حَنوطِه من ذلك السُّكّ، قال فجُعِل فى حَنوطه"( )0

ثانياً : حديث أم حرام –رضى الله عنها- :
روى البخارى ومسلم – رحمهما الله – عن أنس بن مالك  قال : "كان رسول الله  يدخل على أم حرام بنت ملحان( )، فتطعمه،
وكانت أم حرام تحت عبادة بن الصامت، فدخل عليها رسول الله ، فأطعمْتهُ، وجعلت تَفْلِى رَأْسُهُ، فَنَامَ رسول الله ، ثم استيقظ وهو يضحك،
قالت فقلت : وما يضحكك يا رسول الله؟ قال : ناس من أمتى عُرضوا على غُزَاةً فى سبيل الله، يركبون ثَبَجَ هذا البحر مُلُوكاً على الأَسِرَّةِ أو
مِثلَ المُلُوك على الأَسِرَّة، شكَّ –إسحاقُ- قالت فقلتُ : يا رسولَ الله، ادعُ الله أن يجعلنى منهم، فدعا لها رسول الله ، ثم وضع رأسَهُ، ثم
استيقظ وهو يضحك0 فقلتُ : وما يضحكك يا رسول الله؟ قال : ناسٌ من أُمتى عُرضوا على غُزاةً فى سبيل الله –كما قال فى الأول– قالتُ
فقلتُ:يا رسول الله، ادع الله أن يجعلنى منهم، قال : أنت من الأولينَ0 فركبتِ البحرَ فى زمن معاويةَ بن أبى سفيان فُصِرعَتْ عن داَّبُتها حين
خرجتْ من البَحِر فهَلَكْت"( )0

بالحديثان السابقان طعن أعداء السنة المطهرة، فى عدالة الإمام البخارى، وفى صحيحه الجامع، وزعموا أن الروايات السابقة
يلزم منها أن تكون هناك علاقات خاصة مع النبى ، وهو الذى أدبه ربه فأحسن تأديبه0

يقول أحمد صبحى منصور : يريدنا البخارى أن نصدق أن بيوت النبى التى كانت مقصدا للضيوف، كانت لا تكفيه، وأنه كان يترك نساءه بعد
الطواف عليهن ليذهب للقيلولة عند امرأة أخرى، وأثناء نومه كانت تقوم تلك المرأة بجمع عرقه وشعره، وكيف كان يحدث ذلك … يريدنا
البخارى أن نتخيل الإجابة … ونعوذ بالله من هذا الإفك ثم يؤكد البخارى على هذا الزعم الباطل بحديث أم حرام القائل، كان رسول الله يدخل على
أم حرام بنت ملحان فتطعمه، وكانت أم حرام تحت عبادة بن الصامت فدخل عليها رسول الله فأطعمته، وجعلت تفلى رأسه، فنام رسول الله ثم
استيقظ وهو يضحك، فقالت وما يضحكك يا رسول الله؟ إلخ00 فالنبى على هذه الرواية المزعومة تعود الدخول على هذه المرأة المتزوجة،
وليس فى مضمون الرواية وجود للزوج، أى تشير الرواية إلى أنه كان يدخل عليها فى غيبة زوجها، ويصور البخارى كيف زالت الكلفة
والاحتشام بين النبى وتلك المرأة المزعومة، إذ كان ينام بين يديها وتـفلى له رأسه وبالطبع لابد أن يتخيل القارئ موضع رأس النبى بينما
تفليها له تلك المرأة فى هذه الرواية الخيالية، ثم بعد الأكل والنوم يستيقظ النبى من نومه، وهو يضحك ويدور حديث طويل بينه وبين تلك المرأة
نعرف منه أن زوجها لم يكن موجوداً وإلا شارك فى الحديث0 وصيغة الرواية تضمنت كثيراً من الإيحاءات والإشارات المقصودة، لتجعل القارئ
يتشكك فى أخلاق النبى0 فتقول الرواية "كان رسول الله يدخل على أم حرام فتطعمه…" والبخارى هنا ينزل بالنبى الى درك التشبيه بالحيوانات
الأليفة التى تدخل البيوت، فيعطف عليها حريم البيت ويطعمونها0 ولاحظ اختيار لفظ الدخول على المرأة، ولم يقل كان يزور، ثم يقول عن المرأة
"وكانت أم حرام تحت عبادة بن الصامت" فهنا تنبيه على أنها متزوجة، ولكن ليس لزوجها ذكر فى الرواية ليفهم القارئ أنه كان يدخل على تلك
المرأة المتزوجة فى غيبة زوجها، ثم اختيار اسم المرأة "أم حرام" ليتبادر إلى ذهن القارئ أن ما يفعله النبى حرام وليس حلالاً0 ثم يضع الراوى
– بكل وقاحة- أفعالاً ينسبها للنبى –عليه السلام- لا يمكن أن تصدر من أى إنسان على مستوى متوسط من الأخلاق الحميدة، فكيف بالذى
كان على خلق عظيم … عليه الصلاة والسلام، فيفترى الراوى كيف كانت تلك المرأة تطعمه، وتفلى له رأسه، وينام عندها، ثم يستيقظ ضاحكاً
ويتحادثان … نعوذ بالله من الافتراء على رسول الله … ويتركنا البخارى بعد هذه الإيحاءات المكشوفة، نتخيل ما معنى أن يخلو رجل بامرأة
متزوجة فى بيتها، وفى غيبة زوجها، وأنها تطعمه وتفلى له رأسه، أى أن الكلفة قد زالت بينهما تماماً، وأنها تعامله، كما تعامل زوجها … ثم
يقول "وجعلت تفلى له رأسه فنام رسول الله ثم استيقظ …" ولابد أن القارئ سيسأل ببراءة … وأين نام النبى، وكيف نام، وتلك المرأة تفلى له
رأسه، وآلاف الأسئلة تدور حول هدف واحد هو ما قصده البخارى بالضبط( )0

والجـواب :
يقول فضيلة الأستاذ الدكتور طه حبيشى رداً على أحمد صبحى منصور، وعلى من قال بقوله قال : "إن قصة أم سليم، وأم حرام، والتى لم
يتورع أحمد صبحى منصور أن يتخذ منها تكأة للتشويش على شخصية النبى ، وهو يوهم البسطاء أنه من المحبين له المدافعين عنه، وهو لا
يعلم أن التفصيل فى نفى النقص عن الكاملين نقص، خصوصاً إذا دخل فى شئ من التفصيل الممل، أو لعل صاحبنا يعلم هذه الجزئية، ويستغلها
فى تشويه صورة النبى ، والتقليل من هيبته فى نفوس أتباعه، وهذا مطمع قد طمع فيه من هم أكثر من صاحبنا بصراً بالمناهج، ومن هم
أكثر منه حيطة بأساليب البحث والدرس، ومن هم أشد منه قوة وأعز نفراً، فما استطاعوا أن يظهروا به وما استطاعوا أن ينالوا من جدار العز
للنبى  نقباً0

والشئ الذى لم يعرفه هؤلاء، أن الروايات مجمعة تقريباً على أن النبى كان يكثر من التردد، والأكل والشرب، عند أم سليم، وأم حرام0
والباحث الحصيف يسأل هل هناك شئ من العلاقة بين هاتين المرأتين الجليلتين؟

والروايات تجيب أن أم سليم، وأم حرام أختان، يقال لأحدهما الرميضاء، وللأخرى الغميصاء، لا بعينها، فمنهم من يقول : إن
الرميصاء بالراء هى أم حرام، والغميصاء بالغين هى أم سليم، ومنهم من يعكس( )0

والرميصاء، والغميصاء : لفظان يدلان على حالتين فى العين متشابهتين، وهما حالتان خلقيتان ليس بالعين معهما من بأس0

وأم سليم هى أم أنس بن مالك ، وأم حرام خالته، وأنس بن مالك كان فى صباه يخدم النبى عشر سنين وكان النبى يعامله
معاملة تناسب أخلاق النبوة يقول أنس : خدمت النبى عشر سنين، فما قال لى لشئ فعلته لم فعلته، ولا لشئ تركته لما تركته( )0

هؤلاء ثلاثة ليسوا من المجاهيل فى الصحابة والصحابيات، وما الذى جعل علاقة النبى بهم على هذا المستوى من الاهتمام،
وكثرة السؤال عنهم0
إن هذا لا يكون إلا فى حالة واحدة، وهى أن تكون هناك درجة من القرابة تجعل المرأتين من محارم النبى ، سواء أكان ذلك من جهة النسب
كما قال بعض المؤرخين، أو كان من جهة الرضاعة كما قال البعض الآخر( )0
وإلا فهل يمكن عقلاً للنبى ، أن يخالف الناس إلى ما ينهاهم عنه؟

وهل يمكن عقلاً أو اتفاقاً أن تقوم علاقة غير مشروعة وحاشاه بينه وبين أختين فى وقت واحد؟
وهل يجيز المنطق أو العادة أن يسمح النبى لغير قريبه من الصبيان أن يخدمه فى بيته عشر سنوات كاملات؟
وهل يعقل أن يترك أهل الكفر والنفاق – زمن النبوة – مثل هذا الموقف دون استغلاله فى الطعن فى النبى ، وفى نبوته؟
أمور كلها تعد من قبيل الشواهد التى لا تخطئ، والدلالات التى تورث اليقين بأن النبى ، كان قريباً قرابة محرمة لأم سليم، وأختها أم حرام0

وخصوصاً وأن بعض الروايات تقول كان النبى ، يدخل بيت أم سليم فينام على فراشها وليست فيه( )، ورواية تقول : "نام النبى ، فاستيقظ
وكانت تغسل رأسها، فاستيقظ وهو يضحك، فقالت : يا رسول الله أتضحك من رأسى قال لا"( )0

وقد يقول قائل قريبات النبى  معروفات، وليس منهن أم سليم ولا أم حرام0
والجواب أننا نتحدث عن مجتمع لم يكن يمسك سجلات للقرابات، وخاصة إذا كانت القرابة فى النساء،فهناك قريبات كثيرات أغفلهن التاريخ فى
هذا المجتمع وأهملهن الرواة( )0

قال الإمام النووى – رحمه الله – قوله : "أن النبى  كان يدخل على أم حرام بنت ملحان، فتطعمه، وتفلى رأسه، وينام عندها"0
اتفق العلماء على أنها كانت محرماً له ، واختلفوا فى كيفية ذلك0
فقال ابن عبد البر وغيره : كانت إحدى خالاته من الرضاعة، وقال آخرون : بل كانت خالة لأبيه أو لجده، لأن عبد المطلب كانت أمه من بنى
النجار0
وقوله : "تَفْلِى" بفتح التاء وإسكان الفاء وكسر اللام أى تفتش ما فى الرأس، وتقتل القمل منه، ولا يعنى وجود ذلك فى رأس النبى 0
وأخذ من ذلك الحديث جواز فلى الرأس، وقتل القمل منه، وجواز ملامسة المحرم فى الرأس وغيره مما ليس بعورة،وجواز الخلوة بالمحرم
والنوم عندها،وهذا كله مجمع عليه( )

يقول فضيلة الدكتور طه حبيشى : "بقى أن يتشدق صاحبنا فيقول : هب أن ذلك صحيح "وهو صحيح قطعاً" فكيف يدخل النبى بيتاً
لمحرمة، وهى أم حرام من غير إذن زوجها عبادة بن الصامت؟

والجواب أن أم حرام كانت قد تزوجت مرتين، تزوجت مرة قبل عبادة بن الصامت وأنجبت، ثم قتل ابنها شهيداً فى إحدى معارك الإسلام، وبقيت
بغير زواج لكبر سنها، ثم شاء الله أن تـتزوج بعبادة بن الصامت، ويبقى معها بعد انتقال النبى ، وقد وقع ذلك فى كلام أنس بن مالك نفسه،
وهو يحدث عن خالته بالحديث الذى هو موضوع كلامنا الآن، ففى بعض روايات الحديث قال : ثم تزوجت بعد ذلك بعبادة بن الصامت0

أما هذه الجملة التى وقع عليها صاحبنا وهى الواردة فى بعض روايات هذا الحديث وهى – كانت تحت عبادة بن الصامت – فقد أجمع العلماء أن
هذه الجملة معترضة، وهى من كلام الراوى يشرح بها حال أم حرام حين ذهبت إلى بلاد الشام، أو إلى جزيرة قبرص، وماتت بها0 قال الحافظ
ابن حجر : والمراد بقوله هنا "وكانت تحت عبادة" الإخبار عما آل إليه الحال بعد ذلك، وهو الذى اعتمده النووى، وغيره تبعاً لعياض"( )0

أما ما زعمه أحمد صبحى، وحاول إ يهام القارئ به من أن روايات الحديث فيها أن النبى ، كان يبادل أم حرام كلمات غير
مقبولة، وحاشاه0
فيقول رداً على ذلك فضيلة الدكتور طه حبيشى : "نعم، النبى ، كان عند أم حرام، ونام عندها، واستيقظ يضحك، وسألته أم حرام عن
الأمر الذى يضحك منه، فأخبرها أن أناساً من أمته سيركبون البحر ظهره، ووسطه، ويكونون فيه، وهو أمر فيه أمثال الملوك على الأسرة،
وهذا أمر يسعد النبى ، ويرضيه، لما فيه من المخاطر ما فيه، إن فيه خطر ركوب البحر، وفيه الجهاد وما فى الجهاد من أهوال، وفيه احتمال
الموت والشهادة، وأم حرام تعرف ذلك وتدركه، ثم تطمع فيه وتبتغيه، وتسأل النبى الذى لا ترد دعوته وتقول له:سل الله أن يجعلنى منهم،
والنبى سأل ربه، واستجاب له ربه ، فسألته أم حرام بعد أن نام المرة الثانية فى الوقت نفسه وقام يضحك، مم تضحك يا رسول الله؟ فقال كما
قال فى الأولى : إن أناساً من أمتى سيركبون البحر مثل الملوك على الأسرة، قالت : يا رسول الله أأنا منهم قال، لا، أنت من الأولين0

ومرت الأيام وركبت أم حرام مع زوجها، وعلى ساحل البحر ركبت دابة فسقطت من على دابتها فماتت، وقبرها على رأى البعض
ما يزال ظاهراً، يعرفه الناس فى قبرص باسم قبر المرأة الصالحة0

أى حديث هذا الحديث الذى جرى بين النبى وبين أم حرام، إنه حديث عن المخاطر والأهوال، وهو حديث عن الموت والشهادة، وهو حديث عن
استكمال الذات إلى ساعة الممات، وهو حديث فرح النبى ، بأمته حين ينتشرون بالدين ويحملون لواء الجهاد0 إن مثل هذا الحديث : لهو حديث
الرجولة والكمال، وهو حديث الطمع فى رحمة الله ورضوانه0 فما علاقة مثل هذا الحديث الشاق بأحاديث الرضا ومتابعة هوى النفس0

إن المرء ليسمع الحديث المستقيم،فيدركه على وجهه،إن كان سليم النفس،حسن الطوية
وهو ينحرف به إذا كان إنساناً مريض النفس معوجاً، وهل ينضح البئر إلا بما فيه، وهل يمكن أن نتطلب من الماء جذوة نار؟ أو نغترف من
النار ماء؟
وقديماً قالوا : إن كل إناء بما فيه ينضح0
أشهد أن الله  قد قال فى نبيه  : وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ( )0
والله تبــارك وتعالــى
أعلـى وأعلـم
المبحـث الرابـع
شبه الطاعنين فى حديث سحر النبى 
والــرد عليهــا

روى البخارى ومسلم : عن عائشة -رضى الله عنها- قالت : "سحر رسول الله ، يهودى من يهود بنى زريق يقال له : لَبِيدُ بن
الأَعصَمِ0 قالت : حتى كان رسول الله ، يخيل إليه أنه يفعل الشئ، وما يفعله، حتى إذا كان ذات يوم، أو ذات ليلة، دعا رسول الله 0 ثم دعا0
ثم دعا0 ثم قال : يا عائشة! أشعرت أن الله أفتانى فيما استفتيته فيه؟ جاءنى رجلان فقعد إحداهما عند رأسى، والأخر عند رجلى، فقال الذى
عند رأسى، للذى عند رجلى، أو الذى عند رجلى، للذى عند رأسى : ما وجع الرجل؟ قال : مطبوب قال : من طبه؟ قال : لَبِيدُ بن الأَعْصمَ0 قال
فى أى شئ؟ قال فى مُشْطٍ ومُشَاطَةٍ0 قال وَجْبِّ طَلْعَةِ ذَكَرٍ0 قال فأين هو؟ قال : فى بئر ذى أَرْوَانَ0 قالت : فأتاها رسول الله  فى أُناس من
أصحابِه0 ثمَّ قال : "يا عائشة! والله! لكأنَّ مَاءَهَا نُقَاعَةُ الحِنَّاءِ ولكَأنَّ نَخْلَهَا رُءُوسُ الشياطينِ"0

قالت : فقلت : يا رسول الله! أفلا أحْرَقْتَهُ؟ قال "لا0 أماَ أناَ فقد عافانى الله، وكرهت أن أُثِيرَ على النَّاسِ شّراً0 فَأَمَرْتُ بها فَدُ
فِنَتْ"( )0
أنكر هذا الحديث بعض المبتدعة قديماً على ما حكاه عنهم غير واحد من الأئمة0

قال الإمام النووى "وقد أنكر بعض المبتدعة هذا الحديث بسبب أنه يحط من مقام النبوة وشرفها ويشكك فيها، وأن تجويزه يمنع الثقة بالشرع"(
) وتابع المبتدعة طعناً فى الحديث أذيالهم من الرافضة، ودعاة اللادينية( )0
وتأثر بتلك الطعون من علماء المسلمين الإمام محمد عبده( ) – رحمه الله – وتابعه على ذلك من سار على طريقته من علماء المسلمين،
وقال بقولهم بعض أدعياء العلم0

قال الإمام محمد عبده رحمه الله : "نعلم أن البخارى أصدق كتاب بعد كتاب الله، وأنا لا أشك أن البخارى سمع هذا من أساتذته،
والبخارى يشترط فى أحاديثه المعاصرة واللقاء، إلا أننى أرى أن هذا لم يحدث مع النبى ، وإن كان قد دس من الإسرائيليات إلى مشايخ
البخارى الذين أخذ منهم، وإلا فإننا إن قد صدقنا أن النبى ، قد سحر فقد صدقنا كلام الظالمين، وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (
)0 وإن صدقنا أن النبى ، قد سحر فقد كذبنا الله سبحانه وتعالى القائل فى كتابة الحكيم : إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ( ) وقال  : فَمَنْ
يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا( ) وقال : لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ( ) قال تعالى : وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ
الْأَقَاوِيلِ(44)لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ(45)ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ( )0

ثم قال : وأما الحديث على فرض صحته فهو آحاد، والآحاد لا يؤخذ بها فى باب العقائد، وعصمة النبى من تأثير السحر فى عقله عقيدة من
العقائد، لا يؤخذ فى نفيها عنه إلا باليقين، ولا يجوز أن يؤخذ فيها بالظن المظنون على أى حال فلنا، بل علينا أن نفوض الأمر فى الحديث ولا
نحكمه فى عقيدتنا، ونأخذ بنص الكتاب، وبدليل العقل، فإنه إذا خولط النبى فى عقله – كما زعموا – جاز عليه أن يظن أنه بلغ شيئاً، وهو لم
يبلغه أو أن شيئاً نزل عليه، وهو لم ينزل عليه، والأمر هنا ظاهر لا يحتاج إلى بيان0 ثم ختم كلامه قائلاً : "أحب أن أكذب البخارى، من أن
أنسب إلى رسول الله ، أنه سحر"( )0

والجـواب على الشبه السابقة فيما يلى :
أولاً : إن الحديث صحيح، وثابت، بأصح الأسانيد فى أصح الكتب بعد كتاب الله  فقد رواه الشيخان فى صحيحيهما، ولا يصح لنا أن نقول بصدق
البخارى ثم نكذب شيوخه فإن ما يجرى على شيوخه، يجرى عليه، ولا يصح لنا أن نكذب البخارى وروايته، اعتماداً على رأى ليس له من حظ
فى توثيق الأخبار، وإقرار الحقائق من قريب أو بعيد، ولو أننا سلمنا جدلاً بصدق معطيات العقل لأتينا على كثير من السنة، بل وعلى كثير من
آيات القرآن الكريم نفسه( )0

يقول فضيلة الدكتور محمد الذهبى – رحمه الله - : "إن حديث سحر رسول الله ، راوية البخارى، وغيره من كتب الصحيح، ولكن الأستاذ
الإمام، ومن على طريقته لا يفرقون بين رواية البخارى وغيره، فلا مانع عندهم من عدم صحة ما يرويه البخارى، كما أنه لو صح فى
نظرهم فهو لا يعرف أن يكون خبر آحاد لا يثبت به إلا الظن( )0

وهذا فى نظرنا هدم للجانب الأكبر من السنة التى هى بالنسبة للكتاب بمنزلة المبين0 وقد قالوا : إن البيان يلتصق بالمبين( )0
يقول الدكتور عبد الغفار عبد الرحيم : "وأما قول الأستاذ الإمام عن حديث السحر، وعلى أى حال فلنا بل علينا أن نفوض الأمر فى الحديث، ولا
نحكمه فى عقيدتنا، ونأخذ بنص الكتاب، وبدليل العقل"0

فهذا كلام خطير جداً يفتح ثغرة ضد الثابت الصحيح من السنة كما يفتح مجالاً لقالة السوء فى الصدام بين الكتاب والسنة، بينما حدد لنا الرسول
فى حديثه الصحيح "تركت فيكم ما أن تمسكتم به لن تضلوا بعدى كتاب الله وسنتى"( )0

كما أن الأستاذ الإمام قد ترك للحاقدين فرصة الهجوم عليه بهذا السبب، وبجعله الأخذ بالكتاب، وبدليل العقل فقط، هذا أمر دفع تلميذه محمد
رشيد رضا إلى القول : بأن الأستاذ الإمام كان ضعيفاً فى الحديث، كما أنه وحتى الآن محل نقد من رجال السنة، مما جرهم إلى التهجم عليه،
وعلى أفكاره، بينما أبان هو عن هدفه من ذلك وجعله محدداً فى قوله: "وقد قال الكثير من المقلدين الذين لا يعقلون ما هى النبوة، ولا ما يجب
لها، أن الخبر بتأثير السحر فى النفس الشريفة قد صح فيلزم الاعتقاد به"0

ويبدو أن الأستاذ الإمام قد أبدى بعض التراجع عن هذه الفكرة عندما قال : "ثم إن نفى السحر عنه لا يستلزم نفى السحر مطلقاً"
مع أنه قد أقر سابقاً بأن السحر إما حيلة وشعوذة وإما صناعة علمية خفية، يعرفها بعض الناس، ويجهلها الأكثرون … إلى أن قال : "أن
السحر يتلقى بالتعليم، ويتكرر بالعمل فهو أمر عادى قطعاً بخلاف المعجزة"0

ثم يجعل بعد ذلك نفى السحر بالمرة ليس بدعة، لأن الله تعالى لم يذكره ضمن أية ءَامَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ ءَامَنَ
بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ( ) ويجعل سحر سحرة فرعون ضرباً
من الحيلة ويستدل بقوله تعالى : يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى( ) "وما قال أنها تسعى بسحرهم" مع أن أقوى دليل يمكن أن يرد به على
الأستاذ الإمام قوله تعالى : قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ( )0
فكيف غاب عن الأستاذ الإمام النظر فى هذه الآية، وكيف كان يمكن له أن يفسرها على خلاف ما هى عليه من إثبات حقيقة السحر لا كونه
تخييلاً أو وهما0

أما الحديث فقد ثبت فى صحيح البخارى، وهو مرجع أساسى للسنة، فلو شككنا فى حجية الثابت فى البخارى، فكيف يقبل الناس بعد ذلك حديثاً
ورد فى كتب الصحاح أو فى رواية عن غير طريق البخارى؟!

وما دفع الأستاذ الإمام من عاطفة تـنزيه مقام النبوة أو محاولة إظهار الإسلام بمظهر لا يكون فيه موضع اتهام من أعداء الإسلام، أو محاربة
السحر كخرافة بعد أن توسع الناس فى عمل أشياء تتنافى مع عظمة الإسلام،وإنكاره لمظاهر الكهانة والسحر،والشعوذة0

وهذه إن جاز أن تكون دوافع الأستاذ الإمام فلا يجوز أن تكون بحيث تصادم الثابت الصحيح، وهو الذى كثيراً ما وقف عند الثابت عن المعصوم
لا يتعداه، ولا يحاول تأويله، ويسلم به تسليم معتقد لما جاء به، حيث لا مجال للعقل فيه0

ثم ما هو الدافع؛ لأن يتأثر الأستاذ الإمام بالمعتزلة فى ذلك ويحاكى رأيهم وهو الذى كثيراً ما نعى على التقليد والمقلدين وكان أولى به أن يأخذ
برأى الإمام "ابن قيم الجوزية" عندما قال فى هذا الشأن : "وأما قولكم أن سحر الأنبياء ينافى حماية الله لهم فإنه سبحانه كما يحميهم،
ويصونهم، ويحفظهم، ويتولاهم، يبتليهم بما شاء من أذى الكفار لهم، ليستوجبوا كمال كرامته، وليتأسى بهم من بعدهم من أممهم، إذا أوذوا من
الناس، فرأوا ما جرى على الرسل والأنبياء، صبروا، ورضوا، وتأسوا بهم"( )0

ومن أجل ذلك أثبت علماء الإسلام هذا الحديث، وأوجدوا له مخرجاً يتفق مع سلامة النسبة إليه ومع مكانة النبوة، فقالوا :
أولاً : الزعم بأن الحديث يحط من منصب النبوة، ويشكك فيها، وأن تجويزه يمنع الثقة بالشرع، هذا الذى ادعاه هؤلاء المبتدعة باطل؛ لأن
الدلائل القطعية قد قامت على صدقه وصحته، وعصمته فيما يتعلق بالتبليغ، والمعجزة شاهدة بذلك، وتجويز ما قام الدليل بخلافه باطل( )0
ثانياً : أن سحر الرسول ، يرفع من مقام النبوة وشرفها ولا يحط من شأنها؛ فالرسول ، لم يكن معصوماً من الأمراض فلقد كان يأكل،
ويشرب، ويمرض، وتجرى عليه كل النواميس المعتادة التى أودعها الله فى ولد آدم، وليس فى السحر على الهيئة الواردة ما ينقص من قدره
كإمام لسائر الأنبياء والمرسلين( )0

قال القاضى عياض : "وقد جاءت روايات هذا الحديث مبينة أن السحر إنما تسلط على جسده، وظواهر جوارحه، لا على عقله
وقلبه واعتقاده0 ويكون معنى قوله فى الحديث : "حتى يظن أنه يأتى أهله ولا يأتيهن" ويروى : "يخيل إليه" بالمضارع كلها : أى يظهر له من
نشاطه ومتقدم عادته القدرة عليهن، فإذا دنا منهن أخذته أخذة السحر فلم يأتهن، ولم يتمكن من ذلك كما يعترى المسحور0

بل وكما يعترى الرجل السليم قوى البدن، المحطم للأرقام القياسية فى رفع الأثقال، يظن تحطيم رقم قياسى أعلى، وعند محاولة الرفع لا
يستطيع، ومثل ذلك أيضاً الإنسان فى حالة النقاهة من المرض،يظن أن به قدرة على الحركة،وعندما يهم بذلك لا تحتمله قدماه0

قال القاضى عياض : وكل ما جاء فى الروايات من أنه يخيل إليه فعل شئ ولم يفعله ونحوه، فمحمول على التخيل بالبصر، لا لخلل تطرق إلى
العقل، وليس فى ذلك ما يدخل لبساً على الرسالة ولا طعناً لأهل الضلالة"( )0
ثالثاً : أن عصمة الرسول ، الواردة فى قوله تعالى : يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ
مِنَ النَّاسِ( ) العصمة هنا المراد بها عصمته ، من القتل، والاغتيال، والمكائد المهلكة، وحمل بعض العلماء العصمة هنا على أنها عصمة
من الغواية، والهوى، والضلال، وعدم الوقوع فى المعاصى والمنكرات، وليست العصمة من الأمراض كما سبق أن ذكرنا، بل الأنبياء جميعاً
غير معصومين من المرض غير المنفر0 فهم جميعاً تجرى عليهم كل النواميس المعتادة التى أودعها الله فى ولد آدم( )0
رابعاً : إن القول بأن الحديث معارض للقرآن الكريم، ويصدق المشركين فى قولهم : إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا( ) مردود بأن المشركين
كانوا يقولون إن محمداً بشر، وأنه فقير، وأنه لا يعلم الغيب، فهل نكذبهم فى ذلك؟!

ثم إننا نعلم يقيناً، أن الكفار لا يريدون بقولهم هذا، أن يثبتوا لرسول الله ، ما أثبته هذا الحديث، وهو أن فلاناً من اليهود سحره بضعة أيام،
فأدركه شئ من التغير، وخيل إليه أنه يفعل بعض الشئ، وهو لا يفعله، ثم أن الله شفاه من ذلك، هم لا يريدون هذا، بل يريدون أن رسول الله
إنما يصدر عن خيال وجنون، وأنه لم يوح إليه شئ، فإذا آمنا بما دل عليه الحديث لم نكن مصدقين للمشركين فى دعواهم، فمفهوم الحديث
شئ، ودعواهم شئ آخر0

خامساً : زعمهم أن السحر من عمل الشياطين، وصنع النفوس الشريرة الخبيثة، أما من تحصن بعبادة الله كالأنبياء، فليس للشيطان، ولا
للشريرين عليهم من سلطان، قال تعالى : إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ( )0

هذا الزعم مردود عليهم بقوله تعالى عن أيوب عليه السلام : وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ
وَعَذَابٍ( ) وأخبر  عن سيدنا موسى – عليه السلام–أنه لما قتل القبطى قال:هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ( )0
والاستدلال بقوله تعالى : إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَعلى أن جميع عباد الله الصالحين ناجون
من أذى الشيطان، خلاف الإجماع، والمشاهد، والنصوص السالفة، والآية تفيد بلا شك أن العباد الصالحين سالمون من إغوائه وإضلاله، كما
قال فى الآية الأخرى : قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ(39)إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ( )0
وبعـد فإن الحجة على جواز السحر للأنبياء ثابتة بقول رب العزة : قَالُوا يَامُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى(65)قَالَ بَلْ أَلْقُوا
فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى(66)فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى(67)قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى(68)وَأَلْقِ مَا فِي
يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى( ) فقد صرحت الآية بأن سحر أولئك السحار، قد أوقع نبى الله موسى
فى التخييل، حتى تغيرت أمامه الحقائق، فحسب الحبال حيات، والساكنات متحركات…0
إذاً فالحديث صحيح الإسناد والمعنى ولا يعارضه القرآن الكريم ولا المعقول، فوجب قبوله والإيمان به"( )0
قال الإمام المازرى رحمه الله : "مذهب أهل السنة، وجمهور علماء الأمة على إثبات السحر، وأن له حقيقة، كحقيقة غيره من
الأشياء الثابتة، خلافاً لمن أنكر ذلك، ونفى حقيقته، وأضاف ما يقع منه إلى خيالات باطلة لا حقائق لها، وقد ذكره الله تعالى فى كتابه وذكر أنه
مما يتعلم، وذكر ما فيه إشارة إلى أنه مما يكفر به، وأنه يفرق بين المرء وزوجه، وهذا كله لا يمكن فيما لا حقيقة له0
وهذا الحديث أيضاً مصرح بإثباته، وأنه أشياء دفنت وأخرجت، وهذا كل يبطل ما قالوه، فإحالة كونه من الحقائق محال( ) أ0هـ0 والله
أعلم0





الفصـــــل الثامـــــن

حديث "وقــــــــوع الذبــــــــاب فــــــى الإنـــــــاء"

وتحته مبحثان :
المبحث الأول : شبه الطاعنين فـى أحاديـث الطـب النبـوى والـرد عليهـا0
المبحث الثانى : شبه الطاعنين فى حديث "وقوع الذباب فى الإناء" والرد عليها0

المبحـث الأول
شبه الطاعنين فى أحاديث الطب النبوى والرد عليها

الأحاديث الطبية التى أخبر عنها المعصوم ، طعن فيها المبتدعة قديماً بعقولهم0 وتأثر بذلك بعض علماءنا الأجلاء وتوسعوا فى
ذلك بحجة أن الأحاديث الطبية لم يقلها النبى ، بوحى، وإنما بالتجربة والعادة بصفته البشرية فهو لم يبعث ليعلم الناس الطب0

واتخذ أعداء السنة من هذا الكلام سلاحاً قوياً يطعنون به فى حجية السنة، وأنها كلها ليست وحياً0 كما سبق تفصيل ذلك فى اجتهاد النبى (
)0

يقول الإمام ابن خلدون – رحمه الله - : "الطب المنقول فى الشرعيات … ليس من الوحى فى شئ وإنما هو أمر كان عادياً للعرب ووقع فى
ذكر أحوال النبى  من نوع ذكر أحواله التى هى عادة وجبلة، لا من جهة أن ذلك مشروع على ذلك النحو من العمل، فإنه  إنما بعث ليعلمنا
الشرائع، ولم يبعث لتعريف الطب ولا غيره من العاديات، وقد وقع له فى شأن تلقيح النخل ما وقع فقال : "انتم أعلم بأمور دنياكم"( ) فلا ينبغى
أن يحمل شئ من الطب الذى وقع فى الأحاديث المنقولة على أنه مشروع؛ فليس هناك ما يدل عليه، اللهم إلا إذا استعمل على جهة
التبرك، وصدق العقد الإيمانى، فيكون له أثر عظيم فى النفع، وليس ذلك فى الطب المزاجى،وإنما هو من آثار الكلمة الإيمانية كما وقع فى
مداواة المبطون بالعسل( )أ0هـ0
وأيد الإمام ابن خلدون فى ذلك بعض علمائنا الأجلاء منهم فضيلة الأستاذ الدكتور يوسف القرضاوى وغيره ممن قسموا السنة
النبوية إلى سنة تشريعية، وغير تشريعية( )0

يقول فضيلة الدكتور القرضاوى:"وفى رأيى أن جل الأحاديث المتعلقة بـ "الوصفات الطبية" وما فى معناها … كوصف الرسول 
للمصاب بعرق النسا : ألْيَةُ شاة أعرابيةٍ …إلخ ما جاء فى الحديث( )، فهذا ليس من أمور الدين التى يثاب فاعلها، أو يلام تاركها، بل هو
إرشاد لأمر دنيوى نابع من تجربة البيئة العربية …، ولم يبعث عليه الصلاة والسلام ليقوم بطب الأجسام، فذلك له أهله، وإنما بعث بطب
القلوب، والعقول، والأنفس، ومهما يكن اعتزازنا بما سماه العلماء "الطب النبوى" فمن المتفق عليه : أن النبى ، لم يَدَّع العلم بالطب، ولا بعث
لذلك( ) أ0هـ0

والنتيجة : أن خرج علينا أحد أعداء السنة "نيازى عز الدين" يقول : "الأحاديث التى تحاول أن تنسب للرسول ، علوماً مثل الطب،
كلها أحاديث موضوعة، غايتها حرف الناس عن الحقائق، والعقلية العلمية التى فى آيات القرآن، إلى عقلية تؤمن بالأوهام والخرافات
والأباطيل( )0
ثم ضرب أمثلة على تلك الأحاديث الموضوعة تعمد اختيارها من صحيح الإمام البخارى – رحمه الله – وذلك كأحاديث الرقية "اللهم، رب الناس
مذهب الباس، اشف أنت الشافى، لا شافى إلا أنت، شفاء لا يغادر سقماً"0 وحديث "علاج المبطون بالعسل"0 وحديث "لا عدوى ولا صفر"0 و "







 
قديم 06-03-08, 05:24 AM   رقم المشاركة : 15
حسينا
موقوف





حسينا غير متصل

حسينا is on a distinguished road


الحبة السوداء شفاء من كل داء إلا السام"0 و"الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين"0 و"من تصبح بسبع تمرات عجوة لم يضره ذلك اليوم سم
ولا سحر" وغير ذلك من الأحاديث التى نقلها من صحيح الإمام البخارى فى كتاب الطب"( )0

وطعن كثير من دعاة الفتنة، وأدعياء العلم فى بعض الأحاديث الطبية، واتخذوا من تقسيم بعض علماء المسلمين "السنة تشريع، وغير تشريع"
متكأً قوياً وهم يطعنون فى حجية السنة المطهرة، ورواتها الثقات الأعلام0

وإذا كنا قد بينا سابقاً بالبرهان الواضح أن السنة النبوية كلها وحى، وبينا بطلان تقسيم السنة الشريفة إلى سنة تشريعية، وغير
تشريعية بما يغنى عن إعادته هنا( )0
فسوف نكتفى هنا فى الدفاع عن أحاديث "الطب النبوى" إجمالاً بالرد على ابن خلدون فيما ذهب إليه0
يقول الدكتور محمد أحمد السنهورى : أما قول ابن خلدون : "والطب المنقول فى الشرعيات ليس من الوحى فى شئ وأنه ، لم يبعث لتعريف
الطب"0
هذا الكلام يناقض الواقع، والحقيقة؛ لأنه من المعلوم والبديهى أن الرسول ، كان أمياً ولم يدرى ما الكتاب، والإيمان0
ومن أين له أن يعرف طبائع الدواء أو خصائصه سواء كان هذا الدواء نباتاً أو غذاء إلا إذا كان ربه قد أطلعه عليه؟!

والله  يقول عن العسل : فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ( ) ولم يبين فى القرآن الأمراض التى يشفيها هذا العسل0
ولكن الرسول عالج به المبطون أو صاحب الإسهال0
فما الذى جعل الرسول ، يحدد هذا الدواء بالذات لعلاج هذا المرض؟ وما الذى جعله يصر على أن يتناوله المبطون أكثر من مرة؟ لابد أن
يكون هذا عن طريق الوحى0

ثم ما الذى جعل الرسول يفضل فى دواء الإمساك "السنا" على "الشُّبْرُمُ" وهما نباتان يستعملان لهذا الغرض( )0 وقد فضَّل الأطباء بعد ذلك ما
اختاره الرسول  وتركوا "الشُّبْرُمُ" وبينوا ضرره وقالوا أنه غير مأمون0
فهل كان الرسول  يملك معملاً للتحليلات؟ كلا إن هذا الأمر لابد أن يكون قد عرف خصائصه من الوحى0

ثم إن كل قانون طبى وضعه الرسول  وكل دواء نوه عليه لم يستطع طبيب إلى الآن، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، أن يثبت عكس
كلامه فيه0 أو يخرم له قاعدة، بل كل يوم يظهر الطب، والعلم، صحة ما ذهب إليه المصطفى ، وصدق الله  إذ يقول : وَمَا يَنْطِقُ عَنِ
الْهَوَى(3)إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى( )0
أما كون ابن خلدون يريد أن يقيس طب النبى ، على قصة تأبير النخل، مدعياً أن طبه كان أمراً عادياً ورأياً شخصياً له0
فهذا قياس خاطئ ومن الواضح أن هناك فرقاً بين هذا وذاك0 فلم يتكلم النبى ، عن خصيصة دواء من الأدوية أو غذاء من الأغذية ورجع
عنه، بخلاف الأشياء التى كانت اجتهاداً منه، والتى لا تخرج عن الوحى أيضاً، على ما سبق تفصيله( )0

وأما ادعاؤه بأن الطب النبوى لا يأتى بثمرة ولا نتيجة إلا إذا استعمل على جهة التبرك0 ويستشهد على هذا بقصة دواء المبطون
بالعسل0
فالرد على هذا بأن أى دواء يستلزم من المريض ثقة منه فى مفعوله، وثقة فى طبيبه الذى يداويه0 وهذا الكلام معلوم عند الأطباء مسلمهم،
وغير مسلمهم قديمهم وحديثهم؛لأن القوى النفسية لها تأثير عجيب فى القوى الجسدية وهذا عام فى كل مريض وكل دواء( )0

والقصة التى وردت عن الرجل الذى شرب العسل بعد أربع جرعات لم تبين لنا حال المريض، وإنما تكلمت عن أخيه الذى كان
واسطة بينه وبين النبى ، ولا نستطيع أن نحكم هل كان الرجل يشرب العسل تبركاً أو كان يشربه على أنه دواء،ولا مانع من البركة أيضاً0

وأيّاً ما كان هذا الأمر : فإن الرجل قد شفى على كل حال، ولو لم تكن فى العسل خاصية ضد مرض الرجل لما شفى من مرضه،
وقد ثبت طبياً احتواء العسل على مواد قاتله للميكروبات، وثبت كونه دواء لهذا المرض0
هذا وقد تناول الرسول ، فى طبه أدواء كثيرة، وبين خصائص كثير من الأدوية، النباتى منها وغير النباتى( )0

يقول ابن قيم الجوزية مميزاً طبه ، عن طب الأطباء : "وليس طبه ، كطب الأطباء، فإن طبه ، متيقن قطعى إلهى صادر عن
الوحى، ومشكاة النبوة، وكمال العقل، وطب غيره أكثره حدس وظنون وتجارب"( )0
ويقول الأستاذ الدكتور محمد أبو شهبة – رحمه الله – فى معرض دفاعه عن حديث الذباب قال : "وقبل أن أذكر رأى الطب الحديث فى حديث
الذباب أحب أن أقول : "إننى لست مع النابتة التى نبتت – وبعضهم من أهل العلم، فزعمت أن الطب النبوى، من قبيل الأمور الدنيوية التى يجوز
على النبى ، فيها الخطأ، ويجعلونه من قبيل تأبير النخل، وقوله : " أنتم أعلم بأمور دنياكم"( )0

ولا أدرى كيف يقال ذلك فى حديث الذباب مع قوله ، فيه : "فإن فى أحد جناحيه داء وفى الآخر دواء"؟ وقد أتى رسول الله "بأن"
التى هى للتأكيد!!
وكيف يكون هذا الأسلوب المؤكد من قبيل الظن والتخمين فى أمر دنيوى؟!

بل كيف يكون قوله  : "من تصبح بسبع تمرات عجوة، لم يضره ذلك اليوم سم ولا سحر"( )من قبل الظن والتخمين فى أمر دنيوى؟!إن معظم
أحاديث الطب–إن لم تكن كلها– إنما ساقها ، مساق القطع واليقين مما يدل على أنها بوحى من الله – سبحانه وتعالى –0
والطب طبان : طب القلوب والأديان، وبه جاء الأنبياء والمرسلون – عليهم الصلاة والسلام – وطب الأبدان، وهذا نوعان : نوع روحانى
كالرقى والدعوات، ونوع مادى جسمانى كالاستشفاء بالعسل، والتمر والحبة السوداء، والكمأة ونحو ذلك( )0

ووظيفة النبى ، أولاً وبالذات هو طب القلوب والأديان، ولكن شريعته وسنته قد اشتملت على الكثير من طب الأبدان سواء أكان روحانياً أم
جسمانياً( )، وليس أدل على ذلك من الآيات القرآنية العديدة التى تتحدث عن ذلك كقوله تعالى : يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ
وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ( )0
والآيات القرآنية التى تتحدث عن تطور الجنين فى بطن أمه فى سورة المؤمنون وغيرها( )0

والآيات العديدة التى تتحدث عن الطهارة، وخطورة إتيان الرجل زوجته الحائض حتى تطهر0 قال تعالى:وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى
فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ( )0وقوله تعالى فى طب عسل النحل:فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ( )

وبالجملة : فقد جمع رب العزة الطب كله فى نصف آية : وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا( ) وقال  "ما ملأ آدمى وعاءً شراً
من بطنه، بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه …" الحديث( ) وقال بعض الحكماء : "المعدة بيت الداء والحمية رأس الدواء"( )0

يقول الدكتور أبو شهبة : وليس أدل على اشتمال السنة المطهرة على طب الأبدان سواء كان روحانياً أم جسمانياً مما اشتمل عليه الصحيحان :
صحيح البخارى، وصحيح مسلم وغيرهما من كتب الصحاح، والسنن، والجوامع من "كتاب الطب" ضمن كتبها، وقد جمع بعض العلماء
المحدثين فى ذلك كتباً مستقلة، ككتاب "الطب النبوى" لأبى نعيم، وكتاب "الطب النبوى" للسيوطى، وكتاب "الطب النبوى" لابن قيم الجوزية0

والذى يهمنى من كل هذا، أن أنزع من نفوس النابتة التى نبتت، فزعمت أن الطب النبوى من قبيل الأمور الدنيوية التى تحتمل الخطأ والصواب –
هذا الزعم الباطل الذى لم يقم عليه دليل، بل قامت ضده كثير من الأدلة0

ففى حديث أبى سعيد الخدرى  : "أن رجلاً أتى النبى  فقال : "أخى يشتكى بطنه فقال : اسقه عسلاً، ثم أتى الثانية فقال : اسقه
عسلاً، ثم أتاه الثالثة فقال : اسقه عسلاً، ثم أتاه الرابعة، فقال فعلت – يعنى فلم يبرأ – فقال  : "صدق الله، وكذب بطن أخيك، اسقه عسلاً
فسقاه – يعنى فى المرة الرابعة – فبرأ"( )0

ويعجبنى فى هذا المقام ما قاله الإمام ابن قيم الجوزية قال : "ونحن نقول : إن هاهنا أمراً آخر، نسبة طب الأطباء إليه؛ كنسبة طب الطرقية"( )
والعجائز إلى طبهم، وقد اعترف به بعض حذاقهم وأئمتهم، فإن ما عندهم من العلم، منهم من يقول : هو قياس، ومنهم من يقول : هو تجربة،
ومنهم من يقول : هو إلهامات ومنامات، وحدس صائب ومنهم من يقول : أخذ كثير منه من الحيوانات البهيمة … إلى أن قال : وأين وقع هذا
وأمثاله من الوحى الذى يوحيه الله إلى رسوله بما ينفعه ويضره، فنسبة ما عندهم من الطب إلى هذا الوحى، كنسبة ما عندهم من العلوم
إلى ما جاءت به الأنبياء، بل هاهنا من الأدوية التى تشفى من الأمراض ما لم يهتد إليه عقول أكابر الأطباء، ولم تصل إليها علومهم وتجاربهم،
وأقيستهم من الأدوية القلبية، والروحانية، من قوة القلب والاعتماد على الله والتوكل عليه، والالتجاء إليه، والانكسار بين يديه والتذلل له،
والصدقة، والدعاء، والتوبة والاستغفار، والإحسان إلى الخلق، وإغاثة الملهوف،والتفريج عن المكروب،فإن هذه الأدوية قد جربتها الأمم على
اختلاف أديانها ومللها، فوجدوا لها من التأثير فى الشفاء ما لا يصل إليه علم أعلم الأطباء،ولا تجربته،ولا قياسه0 وقد جربنا نحن وغيرنا من
هذا أموراً كثيرة، ورأيناها تفعل ما لا تفعل الأدوية الحسية، بل تصير الأدوية الحسية عندها بمنزلة أدوية الطرقية عند الأطباء( )0

يقول الدكتور نور الدين عتر : "ولقد أقر كبار الأطباء الذين اطلعوا على أحاديث "الطب النبوى" بما أتت به هذه الأحاديث، بل قال
لى أستاذ فى كلية الطب بجامعة دمشق : "إن النبى  لم يأت بوصفات طبية سابقة لعصرها فحسب، بل إنه فوق ذلك جاء مقنناً للطب والأطباء(
) أ0هـ0 والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم
المبحـث الثانـى
شبه الطاعنين فى حديث "وقوع الذباب فى الإناء"
والــرد عليهــا

روى الإمام البخارى فى صحيحه بسنده عن أبىهريرة  أن رسول الله  قال: "إذا وقع الذباب فى إناء أحدكم فليغمسه كله، ثم
ليطرحه، فإن فى إحدى جناحيه شفاءً، وفى الآخر داءً"( )0
هذا حديث صحيح ثابت عن النبى  وقد تلقته الأمة بالقبول، وآمنت بمضمون ما جاء فيه0 وهو معجزة من معجزات نبينا  الذى لا ينطق
عن الهوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى( )0

وقد طعن أهل البدع والضلال قديماً فى صحته بحجة أنه مخالف للعقل، والواقع، وأثاروا الشبه من حوله فانبرى للرد عليهم،
وكشف شبههم، ودحضها علماء أجلاء، فواجهوهم بالحجج الدامغة، والأدلة البينة، فأزالوا تلك الشبه، وبينوا فسادها0

من أولئك العلماء الأفاضل الإمام ابن قتيبة قال فى كتابه "تأويل مختلف الحديث" أن هذا الحديث صحيح ومن حمل أمر الدين على ما شاهد،فجعل
البهيمة لا تقول،والطائر لا يسبح ... والذباب لا يعلم موضع السم، وموضع الشفاء، واعترض على ما جاء فى الحديث، مما لا يفهمه، فإنه
منسلخ من الإسلام، معطل … مخالف لما جاء به الرسول ، ولما درج عليه الخيار من صحابته، والتابعين لهم بإحسان0

ومن كذب ببعض ما جاء به رسول الله ،كان كمن كذب به كله…وما علمت أحداً ينكر هذا إلا قوم من الدَّهرَّية( )، وقد اتبعهم على ذلك قوم
من أهل الكلام، والجهمية"( )0
وممن دافع عن الحديث الإمام الطحاوى – رحمه الله – فى كتابه (مشكل الآثار) فقال بعد ذكره للحديث، ومن رواه فى الصحابة 
: "قائل من أهل الجهل بآثار رسول الله  وبوجوهها : وهل للذباب من اختيار؟ حتى يقدم أحد جناحيه لمعنى فيه، ويؤخر الآخر لمعنى فيه خلاف
ذلك المعنى؟

فكان جوابنا فى ذلك له بتوفيق الله  وعونه أنه لو قرأ كتاب الله  قراءة متفهم لما يقرأ منه، لوجد فيه ما يدل على صدق قول رسول الله ،
هذا وهو قوله تعالى : وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ(68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ
رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ( )0 وكان وحى الله إليها هو إلهامه إياها أن تفعل ما أمرها به0
فمثل ذلك : الذباب ألهمه  ما ألهمه، مما يكون سبباً لإتيانه لما أراده منه، من غمس أحد جناحيه فيما يقع فيه مما فيه الداء،والتوقى بجناحه
الآخر الذى فيه الشفاء( ) أ0هـ0

وجاء المُحَدَثُون وأعداء السنة فطعنوا فى هذا الحديث( )، كما طعن فيه أسلافهم، أهل الابتداع من قبل، لم ينزجروا بردود العلماء
السابقين، فزادوا على شبه أولئك شبهاً أخرى أنتجتها عقولهم التى جهلت حرمة النصوص، وران عليها ظلام قائم فلم تستوعب، ولم تع معانى
تلك النصوص فسارعت إلى الإنكار والرد والطعن، كما هو ديدنها، ومنهجها بكل نص جهلت معناه0
وهذا ملخص شبه هؤلاء المحدثين حول هذا الحديث، والتى رددها أعداء السنة( ) :
أولاً : الحديث من رواية أبى هريرة وقد ردوا له أحاديث كثيرة، وقد انفرد به ابن حُنَين( )، ثم
طعن فيه بأوجه( )0
ثانياً : أنه حديث آحاد يفيد الظن، فلا إشكال فى رده، وهو غريب عن التشريع، لأنه ينافى قاعدة تحرير الضار، واجتناب النجاسة، وغريب عن
الرأى لأنه يفرق بين جناحى الذباب، فيدعى أن أحدهما به سم ضار، والآخر ترياق نافع0
ثالثاً : أثبت العلم بطلانـه، لأن العلـم يقطـع بمضـار الذبـاب0
رابعاً : موضوع متنه ليس من عقائد الإسلام، ولا من عباداته، ولا من شرائعه، ولم يعمل به أحد من المسلمين وهو فى أمر من أمور الدنيا
كحديث "تأبير النخل" وبالتالى من ارتاب فيه لم يضع من دينه شيئاً0
خامساً : تصحيحه من المطاعن التى تنفر عن الإسلام، ويفتح على الدين شبهة يستغلها أعداء الإسلام0
سادساً : البحث فيه عقيم، لا يجب أن يشغل الناس به، وقد وصلوا إلى مخترعات ومكتشفات من العلوم0 ولذا يجب ترك البحث فيه إلى ما
وصل إليه العلم من أحكام لا تنقض ولا ترد( )0

ويجاب على هذه الشبه بما يلى :
أولاً : لم ينفرد البخارى–رحمه الله–بإخراج هذا الحديث، كما أن أبا هريرة لم ينفرد بروايته عن النبى ، وعُبيد بن حُنين، لم ينفرد بروايته عن
أبى هريرة أيضاً0

فقد أخرجه أبو داود، وابن ماجة، والدارمى، وأحمد، والبيهقى، وابن خزيمة، وابن حبان، والبغوى، وابن الجارود، من حديث أبى هريرة (
)0
وأخرجه النسائى، وابن ماجة، وأحمد، والبيهقى، وابن حبان، والبغوى من حديث أبى سعيد الخدرى ، وأخرجه البزار، والطبرانى من حديث
أنس بن مالك ( )، ورواه عن أبى هريرة جماعة من التابعين( )0

ولو لم يرد هذا الحديث إلا فى صحيح البخارى، لكان صحيحاً مقبولاً، إذ البخارى هو أصح الكتب بعد كتاب الله وأحاديثه فى أعلى
درجات الصحة0

يقول فضيلة الدكتور أبو شهبة : "ولم أجد لأحد من النقاد، وأئمة الحديث طعناً فى سنده؛ فهو فى درجة عالية من الصحة، وكل ما
وقع فيه من الطعن من بعض المتساهلين، والجهلاء، والمبتدعة، إنما هو من جهة متنه( )0
ولو تفرّد به أبو هريرة  لما وجدوا إلى الطعن فى صحته سبيلاً0خلافاً لبعض غلاة الشيعة الجعفرية، ومن تبعهم من الزائغين،حين طعنوا فى
الصحابى الجليل لأن الحديث من روايته واتهموه بأنه يكذب فيه على رسول الله ، وحاشاه من ذلك0

فهذا هو التحقيق العلمى يثبت صدق أبى هريرة، وأنه برئ من طعن الطاعنين، وأن الطاعن فيه هو الحقيق بالطعن فيه، لأنهم رموا صحابياً
بالبهت، وردوا حديث رسول الله  لمجرد عدم انطباقه على عقولهم المريضة! وقد رواه غيره من الصحابة كما علمت0

وليت شعرى هل علم هؤلاء بعدم تفرد أبى هريرة بالحديث، وهو حجة لو تفرد، أم جهلوا ذلك؟
فإن كان الأول فلماذا يتعللون برواية أبى هريرة إ ياه، ويوهمون الناس أنه لم يتابعه أحد من الصحابة الأجلاء؟!
وإن كان الآخر فهلا سألوا أهل الاختصاص والعلم بالحديث الشريف؟ وما أصدق القائل:

فإن كنت تدرى فتلـك مصيبـة
*** وإن كنت لا تدرى فالمصيبة أعظم( )

وعُبَيد بن حُنَين ثقة لا مطعن فيه، ولم يذكره الحافظ فيمن تكلم فيهم من رجال البخارى فى هدى السارى، ولم أقف على من طعن فى توثيقه
من العلماء، ولعمرى لو تفرد برواية الحديث عن أبى هريرة لقبل تفرده، فإن تفرد مثله لا يقدح فى صحة الحديث0 كما هو مقرر فى علم
مصطلح الحديث( )0

ثانياً : وكون الحديث آحاداً ومن أجل ذلك سهل رده، قول مردود، وحجة داحضة، وقد سبق الكلام عن ذلك فلا إعادة ههنا( )0

وقول السيد رشيد رضا بأنه : غريب عن التشريع؛ لأنه ينافى قاعدة تحريم الضار، واجتناب النجاسة0
يرد عليه : بأن الحديث لم ينف ضرر الذباب بل أثبت ذلك، فذكر أن فى أحد جناحيه داء،ولكنه زاد ببيان أن فى الآخر شفاء،وأن ذلك الضرر
يزول إذا غمس الذباب كله( )0

يقول الإمام ابن قيم الجوزية – رحمه الله - : "وأعلم أن فى الذباب عندهم قوة سمية يدل عليها الورم، والحكمة العارضة عن
لسعة، وهى بمنزلة السلاح، فإذا أسقط فيما يؤذيه اتقاه بسلاحه، فأمر النبى  أن يقابل تلك السمية بما أودعه الله سبحانه فى جناحه الآخر من
الشفاء، فيغمس كله فى الماء والطعام، فيقابل المادة السمية المادة النافعة، فيزول ضررها، وهذا طب لا يهتدى إليه كبار الأطباء وأئمتهم، بل
هو خارج من مشكاة النبوة، ومع هذا فالطبيب العالم العارف الموفق يخضع لهذا العلاج، ويقر لمن جاء به، بأنه أكمل الخلق على الإطلاق،
وأنه مؤيد بوحى إلهى خارج عن القوة البشرية( )0

وقال الشوكانى – رحمه الله - : "والفائدة فى الأمر بغمسه جميعاً هى أن يتصل ما فيه من الدواء بالطعام أو الشراب كما اتصل
به الداء، فيتعادل الضار والنافع فيندفع الضرر"( )0
والقول بنجاسة الذباب لا دليل عليه؛ لأنه لا ملازمة بين الضرر والنجاسة، ولذا كان هذا الحديث من أدلة العلماء على أن الماء
القليل لا ينجس بموت ما لا نفس له سائلة فيه، إذ لم يفصل الحديث بين موت الذباب، وحياته عند غمسه( )0

قال الإمام الخطابى –رحمه الله- :"فيه من الفقه:أن أجسام الحيوان طاهرة، إلا ما دلت عليه السنة من الكلب وما لحق به فى
معناه0وفيه دليل:علىأن ما لا نفس له سائلة إذا مات فى الماء القليل لم ينجسه، وذلك أن غمس الذباب فى الإناء قد يأتى عليه0 فلو كان
نجسه إذا مات فيه، لم يأمر بذلك0 لما فيه من تنجس الطعام، وتضييع المال، وهذا قول عامة العلماء"( )0

والقول بأنه لا فرق بين جناحى الذباب بأن يحمل أحدهما سماً، والآخر شفاء0
قول يناهض الحديث، بل ويخالف الواقع من اجتماع كثير من المتضادات فى الجسم الواحد كما هو مشاهد معروف0 وقد أجاب عن ذلك العلماء
فى السابق0
ولا أدرى أجهل ذلك الشيخ رشيد رضا – رحمه الله – مع سعة إطلاعه ونصرته للسنة – أم تجاهله؟ وكلا الأمرين ذميم فى حقه، وقد ذكر ذلك
معاصروه( )0

قال الحافظ ابن حجر : "وقال الخطابى : تكلم على هذا الحديث من لا خلاق له فقال كيف يجتمع الشفاء والداء فى جناحى الذباب؟
وكيف يعلم ذلك من نفسه حتى يقدم جناح الداء، ويؤخر جناح الشفاء، وما ألجأه إلى ذلك؟ قلت : وهذا سؤال جاهل، أو متجاهل، فإن كثيراً من
الحيوان قد جمع الصفات المتضادة0 وقد ألف الله بينها وقهرها على الاجتماع، وجعل منها قوى الحيوان0
وإن الذى ألهم النحلة اتخاذ البيت العجيب الصنعة للتعسيل فيه، وألهم النملة أن تدخر قوتها أوان حاجتها، وأن تكسر الحبة نصفين لئلا تستنبت،
لقادر على إلهام الذبابة أن تقدم جناحاً، وتؤخر آخر0

وقال ابن الجوزى : ما نقل عن هذا القائل ليس بعجيب، فإن النحلة تعسل من أعلاها، وتلقى السم من أسفلها، والحية القاتل سمها تدخل
لحومها فى الترياق الذى يعالج به السم، والذبابة تسحق مع الإثمد لجلاء البصر"( ) أ0هـ0

ثالثاً : والقول بأن العلم يثبت بطلانه لأنه قطع بمضار الذباب، قول من جهل معنى الحديث، وعجز عن فهمه0 والحديث كما أسلفت لم ينف ضرر
الذباب بل نص على ذلك صراحة0 وهل علماء الطب وغيرهم أحاطوا بكل شئ علماً؟!!

حتى يصبح قولهم هو الفصل الذى لا يجوز مخالفته0 بل هم معترفون كل الاعتراف بأنهم عاجزون عن الإحاطة بكثير من الأمور(
)0 وهنالك نظريات كانت تؤخذ على وجه التسليم تبين فسادها فيما بعد، إذ علومهم خاضعة للتجارب والاختبارات0
بينما الذى نطق به رسول الله  وحى من عند الله تعالى، العليم بخفاء ما غاب عن الخلق جميعاً0 ولا زال علماء الطب يطِلّون
على العالم فى كل يوم باكتشافات جديدة لعقاقير طبية وأدوية واقية لم تكن عُرفت من قبل0

ثم هل يتوقف إيماننا بصدق كل حديث ورد فيه أمر طبى عن النبى ، حتى يكشف لنا الأطباء بتجاربهم صدقة أو بطلانه؟
وأين إيماننا إذن بصدق نبوة رسول الله ، ووحى الله إليه؟!

إن حديث رسول الله ، برهان قائم بنفسه لا يحتاج إلى دعم خارج عنه، فعلى الأطباء بل والناس جميعاً التسليم بما جاء فى هذا
الحديث والتصديق به إن كانوا مسلمين، وإن لم يكونوا كذلك فليزمهم التوقف إن كانوا عقلاء0
والمسلم لا يهمه كثيراً ثبوت الحديث من وجهة نظر الطب ما دام ثبت عن رسول الله ( )
هذا كله يقال على فرض أن الطب الحديث لم يشهد لهذا الحديث بالصحة0

ومع ذلك فقد وجد من الأطباء المعاصرين من أيد مضمون ما جاء فى هذا الحديث من الناحية الطبية، وهنالك كثير من البحوث
والمقالات فى هذا الجانب، منها المطول ومنها المختصر0
اختار منها ما ذكره أحد الأطباء المصريين العصريين بجمعية "الهداية الإسلامية" بالقاهرة قال – رحمه الله – : "يقع الذباب على المواد القذرة
المملوءة بالجراثيم التى تنشأ منها الأمراض المختلفة، فينقل بعضها بأطرافه، ويأكل بعضاً، فيتكون فى جسمه من ذلك مادة سامة يسميها
علماء الطب بـ "مبعد البكتريا" وهى تقتل كثيراً من جراثيم الأمراض، ولا يمكن لتلك الجراثيم أن تبقى حية أو يكون لها تأثير فى جسم الإنسان
فى حال وجود مبعد البكتريا0 وأن هناك خاصية فى أحد جناحى الذباب، هى أنه يحول البكتريا إلى ناحيته، وعلى هذا فإذا سقط الذباب فى شراب
أو طعام وألقى الجراثيم العالقة بأطرافه فى ذلك الشراب، فإن أقرب مبيد لتلك الجراثيم وأول واق منها هو مبعد البكتريا الذى يحمله الذباب فى
جوفه قريباً من أحد جناحيه0 فإن كان هناك داء فدواؤه قريب منه، وغمس الذباب كله وطرحه كاف لقتل الجراثيم التى كانت عالقة، وكاف فى
إبطال عملها0 وقد كتب بعض الأطباء الغربيين نحو ذلك0
وبذلك ظهر أن هذا الحديث صحيح السند والمتن، فهل بقى للمنكرين من حجة يحتجون بها؟ اللهم إلا الهوى( )0

رابعاً : الزعم بأن موضوعه ليس من عقائد الإسلام ولا من عباداته … إلخ0
زعم قُصِدَ من وراءه، تحقير الحديث وتهوين لأمره، وتنفير الناس عنه، وهى دعوى تتردد وتتكرر كلما عجزوا عن إقامة الدليل
على عدم صحة حديث ما، ولذلك يكثرون من ذكر هذه العبارات التى لا تدل إلا على تـنصل صاحبها من إتباع سنة رسول الله  والعمل بها
والإسلام دين كامل، بعقائده، وعباداته، ومعاملاته، وأخلاقه، لا يحقر جزء من جزئياته، ولا فرع من فروعه، ولا يستهان به0
وقد أمر الله المؤمنين بالتمسك بكل شعب الإيمان وشرائع الإسلام من غير تفريط فى جانب منها مع القدرة على ذلك قال تعالى : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ
ءَامَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ( )0

قال الحافظ ابن كثير فى معنى هذه الآية : "يقول الله تعالى آمراً عباده المؤمنين المصدقين برسوله أن يأخذوا بجميع عرى الإسلام وشرائعه،
والعمل بجميع أوامره، وترك جميع زواجره، ما استطاعوا من ذلك"( )0

والقول بأنه لم يعمل به أحد من المسلمين، قول عار عن الصحة، ودعوى جريئة جاء الحق بخلافها0

روى عبد الله بن المثنى( )، عن عمه ثمامه( )؛ أنه حدثه قال : كنا عند أنس، فوقع ذباب فى إناء فقال أنس( ) بأصبعه فغمسه فى ذلك الإناء
ثلاثاً ثم قال : بسم الله0 وقال : إن رسول الله ، أمرهم أن يفعلوا ذلك( )0

وروى أحمد من طريق سعيد بن خالد( ) قال : "دخلت على أبى سلمة فأتانا يزيد وكتلة( )،فأسقط ذباب فى الطعام، فجعل أبو سلمة( ) يمقله
بأصبعه فيه فقلت:يا خال! ما تصنع؟ فقال : إن أبا سعيد الخدرى حدثنى عن رسول الله  : "إن أحد جناحى الذباب سم، والآخر شفاء، فإن وقع
فى الطعام، فأمقلوه( )، فإنه يقدم السم، ويؤخر الشفاء"( )0
فأنس صحابى، وأبو سلمة تابعى، وقد عملا بمضمون هذا الحديث، فكيف يزعم بأن أحداً من المسلمين لم يعمل به؟( )0
هذه دعوى، وغيرها كثير، يطلقها أولئك القوم من غير علم ولا تحقيق؛ ليخدعوا بها السذج من الناس، ويحدث من جرائها شر وفساد عريض(
)0

والقول بأن الحديث لا دخل له فى التشريع، وأنه من أمور الدنيا0
قول يحتاج إلى ما يدل عليه، فالحديث فيه أمر إرشادى من النبى ، لعلاج حالة إذا وقعت ولا حيلة للمرء فى دفعها، وهى "إذا وقع الذباب" أى
رغماً عنكم، ولم يكن لكم حيلة فى دفعة، وأردتم الانتفاع بما وقع فيه من طعام أو شراب، فعليكم بغمسة كله0
فالأمر بالغمس أمر إرشاد لا أمر إ يجاب، يأثم تاركه، إذ لم يقل بذلك أحد( )0
أما قياس حديث الذباب بحديث تأبير النخل فغير صحيح0
فحديث الذباب حديث تشريعى، وأفاد حكماً شرعياً، بأن ما لا نفس له سائلة إذا مات فى الماء القليل لم ينجسه( )0
كما أفاد جواز أكل أو شرب ما وقع فيه الذباب بعد غمسه كله لمن شاء ورغب فى ذلك0 ولا شك أن كل ذلك حكم شرعى( )0

خامساً:أما القول بأن تصحيح الحديث من المطاعن التى تنفر عن الإسلام…إلخ ما ذكروه0
فقول ساقط يحمل بين طياته استدراكاً على النبى ، الذى كان أحرص الناس على دين الله ، وسد كل منافذ الطعن والقدح فيه0

وكيف يكون فى شريعة الله ما ينفر وهو القائل  : "بشروا ولا تنفروا0 ويسروا ولا تعسروا"( )0
وهل يعقل أن تكون أقواله التى نطق بها، وأفعاله التى فعلها منفرة للناس؟!

وأين موضع التنفير فى هذا الحديث؟ إلا أنه أثبت أن فى جناح الذباب شفاء؟ أيكون هذا تنفيراً؟ يالخفة العقول!
وأين هذه الشبهة التى يفتحها على الدين حتى يستغلها أعـداء الإسـلام؟
وهل وقف أعداء الإسلام فيما يثيرونه من شبه عند حديث الذباب وحده؟

بل قد أثاروا شبهاً لا حصر لها فى أمور لا تخفى على أحد، بل حتى القرآن الذى نقل بالتواتر جيلاً بعد جيل، وعصراً بعد عصر؛ هل سلم
وسلمت أحكامه من شبه أعداء الإسلام؟

وهل إذا رددنا حديث الذباب، بل ورددنا السنة كلها، يكف ذلك شبههم عنا؟! ويستجيبون بعد ذلك لديننا ويلتزمون بشريعتنا؟
بل لو تتبعنا شبههم – قاتلهم الله – ورددنا كل أمر اشتبهوا فيه ما بقى لنا من ديننا ما نتمسك به0
ولماذا هذه المجاملة، وهذا التنازل لأعداء الإسلام على حساب ديننا؟
وما الذى يضرنا من شبههم، ونحن موقنون بأن ما جاءنا به رسول الله هو الحق الذى لا مريه فيه، وما يقذف به أعداء الإسلام شبه باطلة
داحضة لا قيمة لها من الصحة0 وهل بعد ظهور ما يؤيد صدق الحديث من الناحية الطبية، تظل شبههم عالقة به؟( )0

سادساً : أما القول بأن البحث فى الحديث عقيم … إلخ0
فهو قول من جهل مقام النصوص، وضعف احترامه لها، إن لم يكن قد عدم تماماً0 إن ما بذله بعض الأطباء الأفاضل من جهود
حول تأييد هذا الحديث من الناحية الطبية، يجب أن يشكروا عليه ولا يذموا بما قدموا، إذا كانوا يهدفون من وراء ذلك دفع الشبه التى ألصقت
بهذا الحديث، وبيان أن العلم الحديث لا ينافيه0

والحقيقة إن هذه البحوث وإن كانت تزيد الإنسان إيماناً بصدق الحديث، إلا أن الإيمان لا يتوقف عليها، إذ الحديث حجة قائمة
بنفسه0

ويكفى فى فصل هذه البحوث أنها نقضت الذى طبل من أجله أعداء السنن وزمروا، من أمثال النظام، وأتباعه من المستشرقين،
وغلاه الشيعة، وأتباعهم أمثال محمود أبو ريه، الذى ذهب إلى وجوب ترك البحث فى هذا الحديث إلى ما وصل إليه العلم بأبحاثه الدقيقة،
وتجاربه الصحيحة التى لا يمكن نقضها، ولا يرد حكمها0

والذى يعجب منه الإنسان أن نظريات الغرب المتناقضة المختلفة التى لا تستقر على حال، تصبح عند هؤلاء أحكاماً مسلمة لا تنقض، ولا ترد،
وحديث النبى  الصادق الذى لا ينطق عن الهوى، يطعن فيه، ويرد بغير حجة، ولا دليل0

يقول الشيخ أحمد محمد شاكر : "والحق أنه لم يعجبهم هذا الحديث، لما وقر فى نفوسهم من أنه ينافى المكتشفات الحديثة، من الميكروبات
ونحوها، وعصمهم إيمانهم عن أن يجرؤوا على المقام الأسمى، فاستضعفوا أبا هريرة0
والحق أيضاً أنهم آمنوا بهذه المكتشفات الحديثة أكثر من إيمانهم بالغيب ولكنهم لا يصرحون! ثم اختطوا لأنفسهم خطة عجيبة :
أن يقدموها على كل شئ0 وأن يؤولوا القرآن بما يخرجه عن معنى الكلام العربى، إذا ما خالف ما يسمونه "الحقائق العلمية "وأن يردوا من
السنة الصحيحة ما يظنون أنه يخالف حقائقهم هذه! افتراء على الله، وحباً فى التجديد"( ) أ0هـ0
وبعـد
فهذه نماذج قليلة من الأحاديث الصحيحة التى وجهت إليها نقود من أعداء السنة قديماً وحديثاً، لا يهام المسلمين أنها غير
صحيحة، وأنها تتعارض مع عقولهم الزائغة، أو مع كتاب الله ،أو مع العلم أو غير ذلك من أصولهم الفاسدة التى حكموا بها على الأحاديث
صحة أو ضعفاً0
والحق أن هؤلاء الجاهلين من الغباء بحيث لا ينبغى أن يعبأ بهم أو يكترث بما يقولون0

فالتصدى للأحاديث الصحيحة، ومحاولة تضعيفها يكشف عن أن أصحابها لا يعرفون شيئاً أو يتجاهلون ليثبتوا كيدهم للسنة بل للإسلام"( )0

وحقيق بكل مسلم أن يعلم أن للحديث الصحيح ثمرات طيبات ونتائج باهرات نذكر بعضها فى الفصل التالى0


الفصــــل التاســـع
ثمـــــــرات ونتائــــج الحديــــــث الصحيـــح

للحديث الصحيح ثمرات طيبات ونتائج باهرات منها :
1- إذا صح الحديث وجب العمل به، حتى ولو لم يخرجه الشيخان ما دامت قد ثبتت صحة الحديث، وعلى ذلك اتفاق العلماء( )0

يقول فضيلة الدكتور مروان شاهين : "ودع عنك يا أخى ترهات المعاندين فى هذه المسألة، فإن القضية متعلقة بالإيمان وعدمه،
والمؤمنون لا يقدمون أبداً أى قول على قول الله تعالى ورسوله ، ولا يمكن لمسلم أبداً أن يتوقف فى العمل بحديث ثبتت صحته عند العلماء،
وحاشاه أن يكون من المعاندين، إن المؤمن يسارع إلى تنفيذ حكم الله تعالى، وتنفيذ ما ثبت صحته من حكم رسول الله ، وهكذا شأن أئمة
الإسلام جميعاً، الأئمة الأربعة وغيرهم، وتواترات على ذلك أقوالهم، والإمام الشافعى وغيره قد قال : "إذا صح الحديث فهو مذهبى"( )0
2- العمل بالحديث الصحيح واجب، حتى ولو كان عمل أكثر الأمة بخلافه، لأن الأصل المقدم دائماً هو قول الله تعالى، وقول رسوله ،
ومعنى وجوب العمل بالحديث الصحيح هنا، الاحتجاج والعمل به بوجه عام، باعتباره وحياً أوحى الله  به إلى رسوله ، أو أقره عليه( )0
3- لزوم العمل بالصحيح متى علمنا به بدون إبطاء، وقد تراجع كثير من الصحابة عن القول بآرائهم متى بلغهم حديث رسول الله 0
4- متى صح الحديث صار أصلاً من الأصول، ولا يحتاج إلى عرضه على أصل آخر والأصول تتوافق، وما يبدوا من ظاهرها من
التعارض أحياناً، فإن العلماء قد بينوا وجوه الجمع بينها بحيث يندفع التعارض فى النهاية بإذن الله( )0
5- ينبغى أن يفهم عن الرسول ، مراده من غير غلو ولا تقصير، فلا يحمل كلامه ما لا يحتمله، ولا يقصر به عن مراده، وما
قصده من الهدى والبيان0
وقد حصل بإهمال ذلك والعدول عنه من الضلال عن الصواب،مالا يعلمه إلا الله ، بل سوء الفهم عن الله ورسوله  أصل كل بدعة،
وضلالة، نشأت فى الإسلام0

وهل أوقع القدرية،والمرجئة،والخوارج،والمعتزلة،والجهمية،والرو افض،وسائر طوائف أهل البدع والإلحاد قديماً وحديثاً فى زيغهم؛إلا سوء الفهم
عن الله  ورسوله ؟!( )0
هذا وللعلامة القاسمى فى قواعد التحديث، كلام طيب ورائع، حول ثمرات الحديث الصحيح، فليراجعها من يشاء؛ فإنها مفيدة"( )0


الفصــــل العاشـــــر
"مضــــــار رد الأحاديـــث النبويـــــة الصحيحـــــة"

التشكيك والطعن فى الأحاديث النبوية الصحيحة، وردها، له مضاره الخطيرة على ديننا، وعلى وحدة أمتنا الإسلامية، ومن تلك
المضار :
أولاً : إخراج ما هو من الدين : فكما أن وضع الأحاديث بالإختلاف والكذب يدخل فى الدين ما ليس منه، فإن رد صحيحها يخرج من الدين ما
هو منه، وهذا عين الإبتداع، لأنه يكون بالزيادة والنقص0
ثانياً : إشاعة البلبلة الفكرية، وتلك مصيبة كبرى لا يدرك أخطارها الحالية والمستقبلية هؤلاء اللاعبون بالنار؛ لأنها تفتح الباب على مصراعيه
لفقد النصوص قداستها وحرمتها وتمهد السبل لأذناب العلمانية ومن يشاطرهم الكيد للإسلام، والتطاول، على النصوص، والاستخفاف بها، وأخذ
ما يتفق مع الأمزجة وهجر ما عداها( )0
وسيتحمل هؤلاء إثم تفرقة الأمة الإسلامية، وإثارة البلبلة بين صفوفها 0أهـ

وفى الختام … نسأله –جلا جلاله- أن يجعلنا ممن يكون هواه تبعاً لما جاء به المصطفى  قدوتنا فى حياتنا كلها، الشخصية، والاجتماعية،
وأن ينفع بهذا البحث أمة الإسلام فى مشارق الأرض ومغاربها وأن يكون سهاماً مسمومة فى نحور أعداء الإسلام فى كل زمان ومكان0

والله الموفق والهادى إلى سواء السبيل …






الخاتمـــــــــة
فـــــــــــــــى
نتائج هذه الدارسة
ومقترحـــــــــــــــــــــــــــــــــات
وتوصيــــــــــــــــــــــــــــــــــــات

الخاتمـــــــــــــــة

وفى نهاية المطاف نلخص أهم ما وصلت إليه هذه الرسالة من نتائج ومقترحات وتوصيات :
1- أن مؤامرة التشكيك فى حجية السنة المطهرة ومكانتها التشريعية أخذت طريقها إلى عقول بعض الفرق فى الماضى، كما أخذت
طريقها إلى عقول المستشرقين، ومن استمالوهم من أبناء المسلمين فى الحاضر0
2- أن معركة أعداء الإسلام مع السنة المطهرة تتسم من جهة أعدائها بالدقة، والتنظيم، والكيد المحكم، كما تتسم من جهة المسلمين
بالبراءة، والغفلة، والدفاع العفوى، دون إعداد سابق أو هجوم مضاد0
3- أن القواعد التى ينطلق منها أعداء السنة قديماً وحديثاً فى الكيد لها واحدة فشبهات القدماء هى نفسها شبهات المعاصرين0
وصدق الله العظيم إذ يقول : كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ( ) وقال  : أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ( )0
4- تأثر الفرق الكلامية بالفلسفة اليونانية، وأعطوها صبغة إسلامية ليستعينوا بها على نظرياتهم وجدلهم، فكان ذلك ذا أثر بالغ فى
رد النصوص بالعقل، وفتح باب شر عظيم على أمة الإسلام،دخل منه كثيرون من أعداء الإسلام،وتأثر بذلك بعض أبناء المسلمين
5- مخالفة الفرق الكلامية منهج السلف فى فهم النصوص، وعجز عقولهم عن الفهم الصحيح لها، أدى بهم إلى الاضطراب، وعدم
الاستقرار المنهجى0
6- أن أهل السنة والجماعة هى الفرقة الوحيدة التى حالفها الصواب والسداد فى فهم النصوص من الكتاب والسنة، حيث لم يقدموا
العقل على نصوص الوحى، ولم يلغوا عمله، بل وقفوا به عند حده الذى حده الله له، فأعملوه حيث جاز له أن يعمل، ووقفوا به حيث حق له أن
يقف0
7- فساد منهج المستشرقين فى دراستهم للإسلام، مهما حاولوا إدعاء المنهجية العلمية التى يزعمونها، وسبب ذلك عدم تخلصهم
من العصبية والعداء للإسلام وأهله0
8- نجاح الاستشراق فى استقطاب كثير من أبناء الإسلام الذين انخدعوا بأفكاره وآرائه وتأثروا بثقافاته ومناهجه، وكثير منهم يمثلون
رموزاً بارزة فى بلدانهم، فكان لذلك أثر بالغ فى نشر تلك الأفكار بين المسلمين،وانخداع السذج منهم بها،وتفلت كثير منهم بسببها من التمسك
بالشرع،فكان خطرهم أعظم،وفسادهم أكبر،لأنهم يهدمون السنة من داخلها0
9- أظهر البحث بما لا يدع مجالاً للشك، أنه لو سلمنا جدلاً أنه يكفى الاستناد على القرآن وحده فى تحليل، الحلال وتحريم الحرام …
ولم نعبأ بالسنة أبداً، وتركنا القرآن يخطئ فيه المخطئون، ويتعمد فيه الكذب الكذابون، ويتلاعب فيه الملحدون، ويخوض فيه المنافقون بما
تسوله لهم نفوسهم، وتمليه عليهم رؤساؤهم وشياطينهم، فإن الخلاف بين الناس لا يزول كما هو معلوم بالضرورة، وإنما سيزيد ويستفحل،
ويصل بهم إلى مدارك الهاوية، ويتفرق بهم فى دروب التيه0
10- أكد البحث أن عدم الأخذ بالسنة دعوة إلحادية، يريد أصحابها لنا الإعراض عن هدى النبوة، وينسون أنهم يتمسكون بتشريعات
واهية، لا أساس لها تقوم عليه، ولو سلمنا لهم جدلاً أنه يجب إبطال السنة، مع صحة نقلها بالإسناد المتصل؛ الذى هو منَّة عظيمة خص الله
بها الأمة الإسلامية دون سائر الأمم، لكان لزاماً علينا من باب أولى أن نبطل جميع التشريعات المتداولة فى الدنيا مهما كان مصدرها سماوياً
أو وضعياً لأن من المُسَلمَّ أن البقاء للأصح سنداً، والأصدق رواية0
11- إن منكرى السنة بجملتها تسول لهم نفوسهم المريضة وتصور لهم عقولهم المتحجرة، ادعاء العلم بدين الله وأسرار شريعته أكثر
من رسوله  - والعياذ بالله – وإلا فكيف يتجرؤون أن ينكروا سنته، وإذا كان ذلك كذلك فمن الذى يطاع : رسول الله ، أم الخارجين عن دين
الله؟!
12- قرر البحث أن السنة ضرورة دينية، وأن كثيراً من المسائل المعلومة من الدين بالضرورة، والتى أجمع عليها الفقهاء؛ متوقفة
على حجيتها، فلو لم تكن حجة، كيف يتوقف الضرورى – وهو الإجماع – على ما ليس بضرورى – وهى السنة؟!
13- إن الأدلة الشرعية جميعها متوافقة متآلفة متلائمة، لا اختلاف، ولا تنافر، ولا تضارب بينها، كما يشهد لذلك قول الحق تبارك
وتعالى : أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا( ) ومن هنا فالشريعة خالية البتة من كل تناقض،
وتعارض حقيقيين لإستلزامهما العجز والجهل المحالين على الله تعالى، هذا وإن أى تعارض يراه الباحث إنما يكون بحسب الظاهر فقط بالنسبة
إليه، أو لكونه يتوهم ما ليس بدليل دليلاً، أو لتصوره أن نصين من النصوص يدلان على حكمين متعارضين مختلفين،بينما النصان فى واقع
الأمر لا تعارض، ولا اختلاف فى حكمهما، بل لكل واحد منهما جهة غير جهة الآخر، فالتعارض حينئذ يكون سببه عجز الباحث وعدم
درايته،لكونه غير معصوم من الخطأ،لا فى النص ولا فى مدلوله على الحكم0
14- إن دعوى وجود عقليات مخالفة للشرع، لا حقيقة لها عند الاعتبار الصحيح، بل هى أوهام وخيالات، وشبه عارية عن الصواب،
إضافة إلى أنه لا ضابط عند من يرد النصوص بالقرآن والعقل يفرق به بين ما يرد، وما لا يرد0
15- رد النصوص عقلاً أوجد أثراً بالغاً فى زعزعة كثير من العقائد، وعدم احترام نصوص الوحى الاحترام اللائق، والتهوين من
شأنها0
16- أن جميع ما يتناقله الشيعة الرافضة، وأهل البدع فى كتبهم من المطاعن العامة والخاصة فى أصحاب رسول الله ، لا يعرج
عليها ولا كرامة، فهى أباطيل وأكاذيب مفتراه إذ دأب الرافضة، وأهل البدعة رواية الأباطيل، ورد ما صح من السنة المطهرة، والتاريخ0
17- وجدت من خلال صحبتى لبعض خصوم السنة، أنهم جميعاً من أصحاب الترف، والكبر، الذين لزموا البيوت، ولم يطلبوا العلم من
مظانه، ومن أهله، فهم كما تنبأ بهم المصطفى  بقوله "لا ألفينَّ أحدكم متكئاً على أريكته يأتيه الأمر من أمرى مما أمرت به أو نهيت عنه
فيقول لا ندرى، ما وجدنا فى كتاب الله اتبعناه"( )0

هذه أهم نتائج الدراسة فى موضوع : "السنة النبوية فى كتابات أعداء الإسلام فى الكتابات العربية" وإذا كان لى أن اقترح أو أوصى بشئ فى
هذا المقام؛ فإنى اقترح وأوصى بما يلى :
1- دراسة شبهات أعداء السنة قديماً وحديثاً، وبيان بطلانها من خلال تدريس تاريخ السنة وعلومها0
2- إخضاع الكتابات المتعلقة بما يمس السنة النبوية للتدقيق والتمحيص، وسد منافذ الاجتراء على السنة النبوية بديار المسلمين،
وتجريم ذلك فى جميع الوسائل0
3- الحكم بالارتداد على منكرى السنة النبوية، وتنفيذ أحكام الله فيهم بمعرفة القضاء؛ لأن منكر السنة منكر للقرآن0
4- الحكم بالابتداع على رادى الأحاديث النبوية الصحيحة، وإقامة عقوبة التعزير عليهم وإرشادهم إلى الحق0
قال نعيم بن حماد – رحمه الله - : "من ترك حديثاً معروفاً، فلم يعمل به، وأراد له علة، أن يطرحه، فهو مبتدع"( )0
5- العمل على أن يكون للمحدثين رابطة على مستوى العالم الإسلامى؛ تجمع شملهم، وتقنن أعمالهم، وتلم شعث جهودهم0
6- مواصلة العمل الجاد، وتضافر الجهود،وتشابك الأيدى،وإخلاص النية،كى نبين ما ينطوى عليه الغرض الخبيث الذى يلتقى عليه
أعداء الله للنيل من سنة رسوله ، ومن رواتها الثقات الأعلام، ومن ثم وقف هذه الحملة الشرسة المسعورة التى تستهدف هدم القرآن وكل
ما يتصل به من سنة، وتاريخ، وأمة تتداعى عليها الأمم كما تتداعى الأكلة على قصعتها0
وبعـد
فهذا آخر ما فتح الله على به، ووفقنى لكتابته فى هذا الموضع الجليل، والبحث الخطير، الذى اعترف فيه بالعجز والتقصير0

ولعلى أكون قد أصبت فى بعض مسائله، وشفيت الغليل فى شئ من مباحثه0 فإن يكن ذلك حقاً : فبفضل الله، وهدايته، وحسن
توفيقه، وعنايته0

وفـى الختــام0 أسأل الله  الصفح والغفران، فيما زلت فيه قدمى، وانحراف فيه عن جادة الحق قلمى0

اللهم تقبل هذا الجهد الضئيل خالصاً لوجهك الكريم
وانفع به المستفيدين، وارزقنى دعوة صالحة منهم، ينالنى بها عفوك ورضاك
وآخر دعوانا : "أن الحمـد لله رب العالميـن"
وصلى الله على نبينا محمد خاتم النبيين، وإمام المرسلين، المبعوث رحمة للعالمين
وعلى آله، وصحبه، والمتمسكين بسنته أجمعين0







 
قديم 06-03-08, 06:48 AM   رقم المشاركة : 16
حسينا
موقوف





حسينا غير متصل

حسينا is on a distinguished road


كتب للرد على منكري السنة



يمكن تنزيل كتب عماد السيد الشربيني / مجانا


السنة النبوية في كتابات أعداء الإسلام / عماد الشربيني

رد شبهات حول عصمة النبى صلى الله عليه وسلم في ضوء السنة النبوية الشريفة -

عقوبتا الزاني والمرتد في ضوء القرآن و السنة ودفع الشبهات

رد شبهات حول عصمة النبي في ضوء السنة النبوية الشريفة

عدالة الصحابة رضي الله عنهم في ضوء القرآن الكريم والسنة النبوية ودفع الشبهات




http://www.saaid.net/book/search.php...D1%C8%ED%E4%ED







 
 

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 06:39 AM.


Powered by vBulletin® , Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir
" ما ينشر في المنتديات يعبر عن رأي كاتبه "