بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى اله وصحبه واتباعه
من كتاب الشيخ عبد الرحمن دمشقية رحمه الله في رده على فرقة الاحباش
الشرك باسم التوحيد
يدسون السم في الدسم
أحذر الذين يضعون السم في الدسم : يسمون الشرك والاستغاثة بغير الله توسلا ، قد بدلوا اللغة كما بدلوا الشريعة . يستعملون ألفاظاً شرعية ويجعلونها طعما ، ويختارون لها معاني غير شرعية لتقريب شركهم إلى العوام ، فيستسيغونها ويألفونها ولا ينفرون منها ، وهم يرجون أن لا يكشف الناس هذه الحقيقة وهذا التلبيس فسحقاً لمن ورث اليهود في تلبيس الحق بالباطل .
لذا كان من الواجب الاعتناء بالألفاظ الشرعية ومعرفة معانيها وما أراد الشارع منها لكل من يجاهد هؤلاء بل لكل مسلم ، وذلك حتى لا تختلط المفاهيم ويتمكن المبطلون من التلبيس ، الذين ضيقوا معنى العبادة حتى صار مفهومها قاصراً على السجود ، وأفرغوا من معانيها : الدعاء والاستغاثة والنذر ( ) والذبح.
وهم وإن زعموا أن استغاثتهم توسلا فليس بأمانيهم : إذ تبديل الألفاظ لا يغير من الحقيقة شيئا فإن العبرة بالحقائق لا بالتسميات ، كما أن الحقائق تتغير بتغير أسمائها ، فالحكم يدور مع الحقيقة وجوداً وعدماً .
إنهم يتعلقون بالأسماء ويغيرون حقائق النصوص ، قد خالفوا المشركين في التسمية ووافقوهم في الحقيقة ، كما عبد المشركون الأوائل من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم وقالوا { هَـؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ } فسموا شركهم (شفاعة) ولم يرتض الله هذه التسمية بل سماها شركاً . ثم جاء بعدهم من لم يعرف حقيقة جاهليتهم ، فنحا نحوهم وسمى- مثلهم- الشرك توسلاً وشفاعة .
الاستغاثة غير التوسل
الاستغاثة ليست بمعنى التوسل لما يلي:
1) أن السلف ما فهموا التوسل والاستغاثة بمعنى واحد . ولو فهموا ما فهمه السبكي وغيره لاستغاثوا لكنهم لم يفعلوا .
2) أن السلف تركوا التوسل به ïپ¥ بعد موته بالإجماع كما في قصة القحط عن عمر حيث قال " اللهم كنا إذا أجدبنا سألناك بنبيك " ( ) . فإذا تركوا التوسل به بعد موته ïپ¥ فكيف يعقل أن يستغيثوا به بعد موته ؟
3) الاستغاثة طلب الغوث وهو إزالة الشدة ، وهو مستعمل لمعنى الطلب من المستغاث به لا بمعنى التوسل .
وإذا طلب العبد من غير الله ما لا يقدر عليه إلا الله فقد أشرك بالله في عبادته ، والشرك محبط للعمل ، قال تعالى لنبيه محمد ïپ¥ { وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } . وبما أن الله خاطب بذلك سيد الخلق وأعظم الموحدين . فنحن أولى أن نخاف ونحذر من الوقوع في الشرك كل الحذر حتى لا يخدعنا الشيطان ويوحي إلينا أننا ما دمنا مسلمين نقر بالشهادتين فلن نقع في الشرك .
تنبيه على تناقض الأحباش
يتساءل الأحباش : كيف تتهمون من يقول لا إله إلا الله بالشرك لدعائه غير الله ؟ وجوابنا مستفاد مما يقولونه هم دائما أن " من قال لا إله إلا الله وهو يعتقد أن الله في السماء فإن هذه الشهادة لا تنفعه وهو كافر لأن الشهادة تنفع مع الاعتقاد الصحيح ، أما من تلفظ بها بلسانه وعقيدته فاسدة فإنها لا تنفعه " ( ).
وهذا ما نقوله لهم : إن من دعا من دون الله ما لا يضره ولا ينفعه فإنه مخالف بعقيدته ما يتلفظ به لسانه .
وكيف يكفر من وافق قول القرآن { أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء } ؟ ووافق شهادة النبي ïپ¥ للجارية بالإيمان لقولها أن الله في السماء ؟ فإن كان الكتاب والسنة غير كافيين لكم فعليكم بما قاله شيخكم ابن فورك الأشعري " اعلم أنه ليس ينكر قول من قال : إن الله في السماء ؟ لأجل أن لفظ الكتاب قد ورد به ، وهو قوله { ءأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء } ومعنى ذلك أنه فوق السماء" ( ).
4) لو كانت الاستغاثة بمعنى التوسل لصار معنى { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ } أي تتوسلون بربكم ؟ إلى من؟ ولصار معنى قوله تعالى { فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ } أي فتوسل به الذي من شيعته على الذي من عدوه ! توسل به إلى من ؟
5) الاستغاثة بالله طلبٌ منه لا طلبٌ به . والمستغيث بالشيء طالب منه سائل له . والمستغاث هو المسئول منه لا المسئول به.
ومن المعلوم أن المتوسل به لا يدعى ولا يسأل ولا يطلب منه ، وإنما يطلب به لا منه . وهذا التفريق بين المدعو وبين المدعو به ضروري لا يعرفه عامة الناس وبالتالي لا يتفطنون لهذا المكر الحبشي بهم .
6) أنك قد تجد في إحدى الروايات عن أحمد جواز التوسل بالنبي ïپ¥ إن صحت ، أما أن تجد أحداً من الأئمة المعتبرين يجيز الاستغاثة بغير الله فهذا مستحيل .
ولهذا حكى ابن حجر الهيتمي إجماع الحنابلة على أن من يجعل بينه وبين الله تعالى وسائط يدعوهم ويسألهم كفر إجماعاً ( ). ولم يعترض الهيتمي على هذا الإجماع بل أقره وأورده مستحسنا له ، بينما أجاز التوسل بالنبي ïپ¥ في حاشيته على إيضاح المناسك للنووي .
• وحكى الحافظ ابن رجب عن أحمد أنه كان يدعو فيقول " اللهم كما صنت وجهي عن السجود لغيرك فصنه عن المسألة لغيرك " ( ).
مفاجأة من السبكي
7) أن تعلقهم بالسبكي على أن " التوسل والاستغاثة بمعنى واحد" مع تجاهل القرآن { فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا } والحديث "إذا سألت فاسأل الله " ليس من صفات المسلم. ولقد كان السبكي يقصد بـ ( الاستغاثة بالنبي ) : الاستغاثة إلى الله بالنبي ïپ¥ ولذلك قال " اعلم أنه يجوز التوسل والاستغاثة والتشفع بالنبي إلى ربه " . ثم استدل على ذلك بحديث "يا رب أسألك بحق محمد" ( ) .
ثم قال " ولسنا في ذلك سائلين غير الله تعالى ولا داعين إلا إياه ، فالمسئول في هذه الدعوات كلها هو الله وحده لا شريك له ، والمسئول به مختلف ، ولم يوجب ذلك إشراكاً ولا سؤال غير الله ، كذلك السؤال بالنبي ïپ¥ ليس سؤالاً للنبي ïپ¥ بل سؤال لله به ". وضرب لذلك مثلا أن تقول " استغثت الله بالنبي ïپ¥ كما يقول : سألت الله بالنبي ïپ¥ " ( ). وهذا يفيد : أن سؤال غير الله شرك عند السبكي . وأن الاستغاثة بالنبي معناها عنده : الاستغاثة بالله بالنبي ïپ¥ ولكنه عادة يختصر العبارة ويقول : ( الاستغاثة بالنبي ) . ولذلك قال " وقد يحذف المفعول به ( أي الله المستغاث ) ويقال : استغثت بالنبي ïپ¥ " ( ). على أن هذا خطأ من السبكي أدى إلى استغلاله فيما بعد .
• بل قال السبكي في قوله تعالى { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } " إن هذه الآية تفيد العلم بأنه لا يستعان غير الله " وأكد أن تقديم المعمول يفيد الاختصاص ( ).
ونحن مع اختلافنا مع السبكي في استخدام عبارة " استغثت بالنبي " وحول التوسل ، إلا أننا نتفق معه على عدم جواز سؤال غير الله . وبهذا ينكشف تلبيس الأحباش وتحريفهم للنصوص .
وهذا السبكي الابن ينقل عن القماح شعراً يقول فيه ( ) :
فاضرع إلى الله الكريم ولا تسل بشراً فليس سواه كاشـف الضر
مفاجأة من عند أبي حنيفة
8) ونقلب السحر على الساحر فنقول : إن كان التوسل والاستغاثة بمعنى واحد فحينئذ نقرر لكم أن أبا حنيفة نهى عن الاستغاثة بالنبي ïپ¥ ونلبس عليكم ما تلبسون .
فإن قلتم : أين صرح بهذا ؟ قلنا : ألم ينه أبو حنيفة عن التوسل بالنبي ïپ¥ ورواه عامة الأحناف عنه ؟
قال المرتضى الزبيدي " وقد كره أبو حنيفة وصاحباه أن يقول الرجل : أسألك بحق فلان ، أو بحق أنبيائك ورسلك ، إذ ليس لأحد على الله حق " ( ) وهو ما جاء عند البلدجي في شرح المختارة . والقدوري في شرح الكرخي ، ونصه ( ) " لا ينبغي ( ) لأحد أن يدعو الله إلا به ، والدعاء المأذون فيه ، المأمور به : هو ما استفيد من قوله تعالى { وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ } (الأعراف 180) وقال أيضا " وأكره أن يقول : بحق فلان أو بحق أنبيائك ورسلك " ( ).
وقد نقل الحبشي كلام أبي حنيفة وقول أصحابه كابي يوسف " لا يدعى الله بغيره " وقد ذكرها الحبشي عنه ولم يشك في نسبتها إليه وإنما زعم أن قوله لا حجة فيه ( ).
فإذا خلطنا التوسل بالاستغاثة حملنا نهي أبي حنيفة عن التوسل على معنى الاستغاثة . وهذا اللائق بمن لا يفرق بين النوعين تمويها وغشاً للناس .
ولئن كنا بذلك نفاةً للتوسل ، صفوا بذلك عمر بن الخطاب لقوله بعد موت النبي ïپ¥ فيما رواه البخاري ( اللهم كنا نتوسل بنبيك " ثم صفوا بذلك أبا حنيفة ثانياً .
فلسنا نفاة كل توسل إذ ليس كل توسل حراماً ، كالتوسل بدعاء الرجل الصالح لا بذاته .
ولسنا نفاة كل استغاثة ، فالاستغاثة بالحاضر الحي جائزة . مثالها استغاثة الناس بآدم يوم الموقف .
ولسنا ضد كل أنواع التبرك فإن السلف الذين كانوا يتبركون به ïپ¥ وهو حي : قد تركوا التبرك به بعد موته ولم يتبرك بعضهم ببعض .
نعم ، لقد استغاث الصحابة بالنبي ïپ¥ في حياته ولكنهم لم يكونوا يستغيثونه إلا أمامه وهو حي ويطلبون منه أن يدعو الله لهم لنزول المطر كما في كتاب الاستسقاء عند البخاري ، وعلى المخالف أن يثبت ولو حادثة واحدة تناقض ذلك . فيلزمه إن كان أشعرياً أن لا يأتي من الأخبار في العقائد إلا بما كان متواتراً ، فإن عجز عن الإتيان بدليل صحيح يثبت به الاستغاثة به وهو حي غائب ، فهو أعجز عن الإتيان بدليل على الاستغاثة به بعد موته .
لا إله إلا هو : لا غياث إلا هو
• قال البيهقي " ومن أسمائه الغياث ومعناه : المدرك عباده في الشدائد . قال ïپ¥ في حديث الاستسقاء " اللهم أغثنا اللهم أغثنا " ( ).
فأنتم تتوجهون بالاستغاثة إلى من كان يستغيث الله وحده . فكيف يكون من بين المستغيثين من يكون غياثاً للمستغيثين في آن واحد .
والله وحده غياث المستغيثين مطلقاً لا يستثنى من ذلك نبي ولا ولي . قال القرطبي عند شرح اسم الله (غياث المستغيثين) " يجب على كل مكلف أن يعلم أنه لا غياث ولا مغيث على الإطلاق إلا الله " ( ). فهل الله عندكم وحده غياث المستغيثين مطلقاً ؟ أم أن هناك غياثاً آخر للمستغيثين يستحق أن يشارك الله في هذا الاسم ؟
أليس الله بكاف عبده ؟
دعاء غير الله قبيح عند الزبيدي
قال الزبيدي " وقبيح بذوي الإيمان أن ينزلوا حاجتهم بغير الله تعالى مع علمهم بوحدانيته وانفراده بربوبيته وهم يسمعون قوله تعالى { أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ } .
أضاف " ليعلم العارف أن المستحق لأن يلجأ إليه ويستعان في جميع الأمور ويعول عليه هو الواجب الوجود المعبود بالحق الذي هو مولى النعم كلها ... ويشغل سره بذكره والاستغناء به عن غيره " ( ) وذكر أن إبراهيم الخواص قرأ قوله تعالى { وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ } ثم قال "ما ينبغي للعبد بعد هذه الآية أن يلجأ إلى أحد غير الله " ( ) .
فالاستغاثة بغير الله استغناء عن الله بغيره وسوء ظن به وادعاء بأنه غير كاف لدعاء عباده ، ولو كان عندكم كافياً لما لجأتم إلى غيره { فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ } .
كلمات ذهبية للجيلاني
• قال الشيخ عبد القادر الجيلاني (يا من يشكو الخلق مصائبه ، ايش ينفعك شكواك إلى الخلق لا ينفعونك ولا يضرونك وإذا اعتمدت عليهم وأشركت في باب الحق عز وجل يبعدونك ، وفي سخطه يوقعونك... أنت يا جاهل تدعي العلم ، تطلب الخلاص من الشدائد بشكواك الخلق .. ويلك أما تستحيي أن تطلب من غير الله وهو أقرب إليك من غيره ".
• قال " لا تدعو مع الله أحداً كما قال { فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا } " .
• قال لولده عند مرض موته "لا تخف أحداً ولا ترجه ، وأوكل الحوائج كلها إلي الله ، واطلبها منه ، ولا تثق بأحد سوى الله عز وجل ، ولا تعتمد إلا عليه سبحانه ، التوحيد ، وجماع الكل التوحيد" ( ) .
واستغاثة العبد الضعيف بعبد ضعيف مثله كاستغاثة الغريق بغريق مثله . ومن الأقوال المنقولة عن الشيخ أحمد الرفاعي " أن أحد الصوفية استغاث بغير الله فغضب الله منه وقال " أتستغيث بغيري وأنا الغياث " ؟ ( ) غير أنكم سويتم الرفاعي برب العالمين ووصفتموه بأنه غوث الثقلين . يستغيث به الجن والإنس بل حتى النعجة التي ينقض عليها الذئب تصيح : خلصني يا سيدي أحمد . وقد كذبوا عليك أيتها النعجة بينما أنت على ملة هدهد سليمان .
والله تعالى هو الغياث { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ } . فجعلتم الرفاعي شريكاً معه في ذلك . والله { يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } فجعلتم الرفاعي شريكاً له في هذه الآية وغوث الثقلين يسأله الجن والإنس في السماء والأرض ، فكيف يكون غضب الله عليكم ؟
وإذا كانت الاستغاثة بمحمد ïپ¥ جائزة فلماذا نوبخ النصارى الذين يستغيثون بالمسيح ؟ أليس هذا إقراراً منكم بجواز قول النصارى يا مسيح ؟ وجواز قول الشيعة "يا حسين " " يا صاحب الزمان " ؟
ونحن نحتج عليكم بما تحتجون به على النصارى إذ تقولون : أين قال المسيح اعبدوني مع الله ؟ ونحن نقول لكم : أين قال محمد ïپ¥ إدعوني مع الله ؟ لا فرق بين " يا محمد يا بدوي لا عبد القادر يا رفاعي " وبين "يا مسيح " "يا حسين ". قال تعالى { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ } وقال { يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ } .
وهل يمكن للنبي ïپ¥ سماع أدعية الآلاف في وقت واحد؟ فلو قدر أن هناك ألفاً في مصر يسألونه ïپ¥ وألفاً في أندونيسيا وألفاً في الصين ، كلهم يستغيثون به : فهل يستطيع استيعاب كل أدعيتهم في وقت واحد مهما كثر عددهم واختلفت أمكنتهم ؟
إن قلتم نعم فقد زعمتم أن النبي ïپ¥ لا يشغله سمع عن سمع وأضفتم إليه العلم المطلق . وجعلتموه شريكاً مع الله في قوله { مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ } وجعلتم كل مقبور مستحقاً صفات : سميع ، بصير ، مجيب ، كاشف .
• إن النبي الذي تدعونه مع الله لجلب النفع ودفع الضر كان هو يتوجه إلى الله وحده لذلك . هو يتوجه إلى الله وأنتم تتوجهون إليه ؟ ما وافقتم من تزعمون محبته . وهو الذي أمره الله أن يقول { قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا } . وإذا كان الذي يدعونه من دون الله لا يسمع من دعاه عن بعد حين كان حياً : فكيف يقبل من عنده عقل الاعتقاد أن النبي أو الصالح يسمع من يناديه ولو من بعيد وتصير حواسه بعد موته ترصد وتسمع كل من يدعوه بعد موته ولو كان في أمريكا ؟ قال تعـالى { وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ } .
ويوم أن يحال بينه ïپ¥ وبين أناس عند الحوض يقول " أصيحابي أصيحابي ، فيقال له : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك " (متفق عليه) .
فيدل على أنه لم يكن على علم بتفاصيل ما يجري لأمته .
وهذا عيسى عليه السلام يقول يوم القيامة { مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ } .
فما بال أناس يعتقدون أنه ïپ¥ يسمع مناديه في المشرق والمغرب ؟ هل فسد دين المسلمين إلا بمخلفات التعصب والتقليد والعمى وهل مكن الله للكفار إلا لأن عقائد المسلمين صارت تشتمل على أشياء مما عندهم { يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ } .
الاستعاذة بغير الله جائزة عنده
والحبشي لا يفتي فقط بجواز الاستغاثة برسول الله ïپ¥ ، ولكنه يجيز الاستعاذة به مع الله ، فقال " وليس مجرد الاستعاذة بغير الله تعتبر شركاً " واستدل بحديث الحارث بن حسان " أعوذ بالله ورسوله أن أكون كوافد عاد" ( ).
وهذه ستناقش بتفاصيلها بعد قليل ولكن يهمنا هنا بيان أن هذا الرجل قد تفرد عن باقي المنحرفين بجواز الاستعاذة بغير الله وهذا ما لم أسمعه من غيره.
بل حتى الشعراني على ضلالاته فإنه قد صرح بأن الله لم يأذن لأحد أن يستعيذ بغيره .
قال الشعراني ما نصه " ولو أن أحداً من الخلق كان يكفي أن نستعيذ به لأمرنا الله أن نستعيذ بمحمد ïپ¥ أو بجبريل أو غيرهما من الأكابر ، ولكن علم الله عجز الخلق عن رد كيده إلا مع استعاذتهم بالله عز وجل " ( ).
القرآن يحكم بيننا
مناقشة قرآنية حول الاستغاثة بغير الله
القرآن مليء بالآيات الناهية عن دعاء غير الله ، فلنذكر جملة من هذه الآيات حيث أن الله تعالى أمرنا بالرد إليه وإلى رسوله ïپ¥ عند التنازع فقال { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } والقرآن ما ترك شيئاً إلا بيّنه كما قال تعالى { مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ } .
الآية الأولى : قوله تعالى { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا } ما أوضح هذه الآية لطالب الحق ، وهل بعدها مبرر للنزاع والجدل ؟
فقوله { أَحَدًا } نكرة في سياق النهي تعم كل مدعو من دون الله . والمسجد ليس مكانا للسجود فقط وإنما للدعاء أيضاً ، فالصلاة التي تتضمن السجود تتضمن أكثر منه : وهو الدعاء ، فهل يجيز أحد أن يُدعا غيرُ الله في الصلاة ؟ فما الذي يجعل دعاء غير الله داخل الصلاة محرماً وخارجها جائزاً ؟
• وأي مضادة لله أعظم : من أن يقول الله { فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا } فيقول الحبشي: بل ادعوا مع الله أحداً : ادعوا البدوي والدسوقي والرفاعي!
وأي مخالفة أعظم من أن يقول الله { إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ } فيخالف الحبشي ربه ويقول: إن تدعوهم يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا استجابوا لكم بل خرجوا من قبورهم لقضاء حوائجكم ولو من مكان بعيد ، ويقول الله { وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ } فيقول الحبشي: القائل بأنهم غافلون طعن بهم .
قصة الصالحين مبتدأ عبادة الأصنام
• قال الحافظ " وقصة الصالحين كانت مبتدأ عبادة قوم نوح لهذه الأصنام ، ثم تبعهم من بعدهم على ذلك ".
وذكر أنهم كانوا يتبركون بدعاء سواع وغيره من الصالحين ويتمسحون بصورته ( ).
ومن لم يعِ هذه الحقيقة لم يفهم الشرك الذي كان عليه المشركون .
الآية الثانية : قوله تعالى { وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا } (نوح 23) قال ابن عباس : هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوحٍ عليه السلام فلما ماتوا بنوا لهم الصور والتماثيل ( ).
• روى ابن جرير " حدثنا ابن حميد قال حدثنا مهران عن سفيان عن موسى بن محمد بن قيس : أن يغوث ويعوق ونسرا كانوا قوماً صالحين من بني آدم ، وكان لهم أتباع يقتدون بهم ، فلما ماتوا قال أصحابهم : لو صورنا صورهم كان أشوق لنا إلى العبادة ، فصوروهم: فلما ماتوا ، وجاء آخرون : دبّ اليهم ابليس فقال : إنما كانوا يعبدونهم ، وبِهِم يُسقَوْن المطر ، فعبدوهم " وذكر مثله ابن الجوزي ( ).
الآية الثالثة : { أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى } ( النجم 19) عن مجاهد قال : كان رجل صالح يلتُ السويق للحجاج فلما مات عكفوا على قبره ( ) وأما مناة فكانت أكمة يذبحون لآلهتهم عندها يرجون بركتها . فلما قصدوا الانتفاع بالموتى قادهم ذلك إلى عبادة الأصنام .
• فهؤلاء المشركون الذين قاتلهم رسول الله ïپ¥ منهم من يعبد الأصنام المصورة على صور الصالحين : وُدّ وسواع ويغوث فيستسقون بها . ولا يزال كثيرون يجهلون أن أصنام مشركي الأمس ما هي إلا رموز تذكارية للصالحين ، وأنهم ما عبدوا أصناماً لمجرد حبهم للحجر والحديد وإنما عبدوا الصالحين الذين صورت الأصنام بصورهم .
الآية الرابعة : قوله تعالى { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ } ( الأحقاف ه ) فحكم على من دعا غيره بغاية الضلال ، ولم يستثن من الضلالة من يدعون الأنبياء والأولياء ، وأن هذا المدعو لا يستجيب له ، بل هو غافل عن دعائه .
الآية الخامسة : قوله تعالى { وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ } فيقف العابدون والمعبودون { فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ } أي فرقنا بينهم { وَقَالَ شُرَكَآؤُهُم مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ } ما كانت عبادتكم لنا { فَكَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ } كنا موتى لا نسمع ولا نعلم بعبادتكم لنا كما قال تعالى { وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ } وقوله { وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِّيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا 81 كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا } وقوله { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ } .
{ هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ وَرُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } أي عاينت وتحققت أن هذا العمل كان في حقيقته شركاً ظنوه استشفاعاً مشروعاً وإذا بهؤلاء المعبودين يتبرأون من عابديهم ويحلفون أنهم كانوا غافلين عما كانوا يشركونهم به مع الله ، فهذا موقف عظيم يحشر الله فيه الذين كانوا يدعون الصالحين الذين كانوا أمواتاً غافلين عما كان يحدث عند قبورهم من طواف واستغاثة .
الآية السادسة : قوله تعالى { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاء إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ } فيقولون { قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ } وفي آية أخرى { تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ } .
فهذا مآل دعوتهم : لم يكونوا يدعون الجيلاني في حقيقة الأمر ولا البدوي ولا الدسوقي ولا يغوث ويعوق ونسراً : بل كانوا يدعون الشيطان { إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثًا وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَانًا مَّرِيدًا } ( النساء 117 ) وفي النهاية يتضح لهم الأمر فيندمون ويقولون { بَل لَّمْ نَكُن نَّدْعُو مِن قَبْلُ شَيْئًا } . تلك حقيقة يتعامى عنها مشركو اليوم الذين يروجون للتوجه إلى الأنبياء والصالحين بالدعاء , إنهم يدعون الناس إلى عبادة الشيطان والجن .
الله ينفي استجابة الميت والحبشي يخالفه
الآية السابعة : قوله تعالى { إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } والنبي ïپ¥ عبد مثلنا { قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ } . فالنهي عام عن دعاء جميع العباد وتخصيص الدعاء بالمعبود وحده .
الله تعالى يتحدى الذين تدعونهم من دونه أن يستجيبوا . والحبشي يقول : بل يستجيبون ، فيخرجون من قبورهم ويغيثون الملهوف ثم يعودون إلى قبورهم.
وهذا نص واضح في أن المشركين كانوا يدعون بشراً لا أصناماً . ولك أن تتأمل وصف الله للمدعوين هنا بأنهم {عِبَادٌ } لله مثل الذين يدعونهم . مما يدل على أن المراد بذلك الصالحين الذين نُحِتَتْ الأصنام على صورهم ، فإن الأصنام لا توصف بأنها عباد لله. ولا يقال إن الأصنام مثل البشر! ومعنى الآية " أنتم عباد وهم عباد أمثالكم : فكيف يتوجه العباد بالدعاء إلى العباد ؟
الآية الثامنة : قوله تعالى { إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ } (الحج 73 ) . فالأصنام والقبور تشترك في صفات الضعف : فكلها لا تقدر على خلق ذبابة ولا على استعادة ما يسلبه الذباب منها .
{ قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ } .
{ هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ } .
{ وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا } . { لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا } .
{ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ } . { مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ } { لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلآ أَنفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ } { فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً } . وهذا كله شامل للأصنام والقبور . بل وللأنبياء .
قال إبراهيم عليه السلام لأبيه { وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ } .
وأمر الله نبينا أن يقول { قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا } . وقال له { وَمَن يُرِدِ اللّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللّهِ شَيْئًا } .
الآية التاسعة : قوله تعالى { وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ 20 أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَاء وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ } ( النحل 20 ) هل تتحدث الآية عن بعث الأصنام إلى الحياة بعد الموت ؟ لا يمكن ذلك:
• لأن ( الذين ) من الأسماء الموصولة , والأسماء الموصولة من صيغ العموم عند الأصوليين والنحويين ، فهي عامة في كل من دُعِيَ من دون الله . وهي لا يُخبَر بها إلا عن العقلاء , ولو كان المراد بها الأصنام والحجارة لكان حق الكلام أن يقال ( والتي تدعونها من دونه ما تملك من قطمير . إن تدعوها لا تسمع دعاءكم ولو سمعت ما استجابت لكم ) . والأصنام لا يحل بها موت ولا بعث لأنها خارجة عن قانون الحياة والموت والبعث ، ولأن الشعور يستعمل فيمن يعقل لا في الأحجار.
• ولأن { أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَاء } لا يصح إضافتها إلى الأحجار التي صنع منها الصنم ، إذ هي جمادٌ لا يصح وصفه بالحياة ولا بالموت . فلم يبق إلا أن الكلام متعلق بالصالحين الذين نُحِتَتْ الأصنام على صدرهم .
اتفقنا أنهم لا يخلقون واختلافنا هل يملكون
ومن تلبيسات الأحباش قولهم " عقيدة أهل السنة أن محمداً لا يخلق نفعاً " لكنهم يعتقدون أن الأنبياء والأولياء يملكون في قبورهم نفعاً ويدفعون ضراً بإذن الله , ويلبسون الأمر على الناس فيظن العامي أنهم موحدون ما داموا يعتقدون أن محمداً ïپ¥ لا يخلق النفع .
ولقد قال رسول الله ïپ¥ لأحد الموحدين حين قال له " ما شاء الله وشئت " " أحعلتنى لله نداً ؟ " وقال لمجموعة من الموحدين من الصحابة حين قالوا له " إجعل لنا ذات أنواط " : " قلتم كما قال بنو إسرائيل لموسى { اجْعَل لَّنَا إِلَـهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ } ؟ وقال لمن حلف بغير الله " من حلف بغير الله فقد أشرك " .
المشركون لا يعتقدون استقلال معبوداتهم
وحرفوا المصطلحات الشرعية فزعموا أنهم ما داموا لا يعتقدون استقلال الأنبياء والأولياء بالنفع والضر فهم غير مشركين . فيقال لهم : قد وافقكم أبو جهل على أن اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى لا تخلق نفعاً ولا ضراً ، إذ كان يراها مملوكة لله , كما كانوا يقولون في الحج :
" لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك " ( ). مما يؤكد أنهم لم يكونوا يعتقدون استقلال شركائهم مع الله بالنفع والضر .
ولقد استفتح أبو جهل يوم بدر بالرب دون اللات والعزى وهُبَل فقال " اللهم أقطَعَنا الرحم ، وأتانا بما لا نعرف فأحنه الغداة " فكان ذلك استفتاحاً منه ، فنزلت { إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الْفَتْحُ } ( ).
فتعريفاتكم ليست بأما************م ولا منجية لكم عند الله . فقد قامت عليكم الحجة بقول النبيïپ¥ " الدعاء هو العبادة " ( ) ، فمخالفتكم للتعريف النبوي مردود عليكم . فإنه إذا عُرف التفسير من جهة النبي ïپ¥لم يحتج في ذلك إلى أقوال اللغة .
الآية العاشرة : قوله تعالى { فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } قال الطبرى " كانت العرب تقر بوحدانية الله غير أنها كانت تشـرك به في عبـادته " ( ).
فمجرد اعتقاد أن غير الله لا يخلق نفعاً لا يبرّىء من الشرك بل لابد من إخلاص التوحيد وذلك بأن يكون الدعاء لله وحده .
فإن محمداً ïپ¥ نهى عن دعاء الله مطلقاً من غير استثناء فقال لابن عباس " إذا سألت فاسأل الله " ولم يكن ابن عباس ولا الصحابة يعتقدون أن أحداً غير الله ينفع أو يضر ، ولم يقل لهم النبي ïپ¥ ما دمتم تعتقدون أن النفع والضر من الله جاز لكم أن تسألوا غير الله .
وقوم إبراهيم لم يكونوا يعتقدون أن أصنامهم تملك نفعاً فضلاً عن أن تخلقه ، فلما سألهم { هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ 72 أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ } ما قالوا بلى تنفع وتضر .
ولما كان دعاء غير الله عند إبراهيم شركاً قال لهم : { وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ } فحكم عليهم في الآية التي تليها أن دعاءهم لها عبادة من دون الله { فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ } ( مريم 48 و 49 ) وأكد ذلك في آية واحدة فقال { قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِن رَّبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } وقد دلت الآية على أن دعاء غير الله عبادة تتعارض مع الإسلام لرب العالمين .
ولو كان يعلم عنهم أنهم كانوا يعتقدون فيها النفع والضر لما حاجّهم بذلك ولأجابوا عن سؤاله { هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ } " نعم , إنها تنفع وتضر . فلما عجزوا عن الإجابة قالوا { بَلْ وَجَدْنَا آبَاءنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ } قال { أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ } فقال لهم أولاً { تَدْعُونَ } ثم قال { تَعْبُدُونَ } وفى آية أخرى { أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ } .
استغاثتهم بهم مسبوقة باعتقادهم فيهم
هذا ولا يوجد على الأرض من يدعو من يعتقد فيه أنه لا يملك الإجابة والنفع والضر إلا أن يكون مجنوناً . فهل هناك عاقل يقول : أغثني يا من لا تملك نفعاً ولا ضراً ؟! إلا أن يكون معتقداً فيهم التأثير وكشف الضر وتحصيل النفع اللهم إلا أن يكون مجنوناً فحينئذ لا يؤاخذه الله على شرك أكبر ولا أصغر.
الحق أنه لم يلتجئ إليهم إلا لاعتقاده فيهم النفع والضر . فإن ما في القلب من الاعتقاد الفاسد قد عبّر عنه اللسان فصار يلهج بنداء غير الله : أغث يا رفاعي ، المدد يا جيلاني ، شيء لله يا سيدي دسوقي ، ثم عبّر عنه العمل فصار يقبّل جدران القبور ويمسحها بيده ويذبح النـذور عنـدها على نيـة الشفاء ( ) .
قال الآلوسي " ولا أرى أحداً ممن يقول ذلك ( يشير إلى قولهم يا سيدي فلان أغثني ) إلا وهو يعتقد أن المدعو الحي الغائب أو الميت يعلم الغيب أو يسمع النداء ويقدر على جلب الخير ودفع الأذى ، وإلا لما دعاه ولا فتح فاه " . واعتبر الآلوسي هؤلاء من جملة من قال الله فيهم ، { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ } ( ).
• تصور رجلاً جائعاً فقيراً يخير بين أن يذهب إلى فقير مثله أو إلى غني : فإلى من يذهب ؟ بالطبع سيذهب الى الغني ويترك الفقير . لا تنس أن ذهابه إلى الغني قد سبقه علمه بأن هذا الغني يملك نفعاً وإلا : فذهابه إلى فقير مثله مع علمه بفقره يعتبر جنوناً . وكذلك المستغيث بغير الله : يعلم في قرارة نفسه أن من يطلب منهم لا يملكون تحقيق شيء له ، وإن أنكر ذلك باللسان .
الآية الحادية عشرة : قوله تعالى { يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ } { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ } . وقد أمرنا الله أن نعتقد أن النبي ïپ¥ لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً { قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا } { قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ } هذا وهو حي . فكيف وهو ميت ؟ أفيجوز أن يقال إنه كان لا يملك النفع والضر قبل موته فلما مات صار يملكهما ؟
وكيف يقول لابنته فاطمة " لا أملك لك من الله شيئا " بينما يحث المسلمين على الاستغاثة به عند قبره بعد موته ؟
اتركوا دعاء من لا يملك نفعاً ولا ضراً
الآية الثانية عشرة : قوله تعالى { وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ } (يونس 106) أي المشركين ، فليس في شرع ربنا جواز دعاء من لا يملك نفعا ولا ضراً ولم يقل تعالى : ولا تدع ما لا يخلق نفعا وإنما المعنى : لا تدع من تعلم أنه لا يضر ولا ينفع كما قـال تعالى { فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } .
الآية الثالثة عشرة : قوله تعالى { وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلآ أَنفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ } (الأعراف 197) ، لم يستثن الله نبياً ولا ولياً . فهذه الآية نص صريح على تحريم دعاء من لا يملك نفعا ولا ضرا ولا يملك نصراً وإلا فإن فعل فقد رد على أعقابه إلى الضلالة بعد إذ هداه الله كما قـال تعـالى { قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللّهُ } (الأنعام 71) .
- ودعاء من لا يغنى من الله شيئاً محرم في القرآن وهو من خصال المشركين قال تعالى { فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ مِن شَيْءٍ }. ولم يقل (التي يسجدون لها من دون الله) .
تدعون من صرّح بأنه لا يغني !
فهذا رسول الله ïپ¥ بأنه لا يغني عن أحد من الله شيئاً ولا حتى لابنته فاطمة . وهو موافق في هذا للقرآن . فقد نهى إبراهيم أباه أن يدعو من دون الله ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنه شيئاً ؟ ويعقوب يقول لأولاده { وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ } ورسولنا ïپ¥ يعلن بالكلمة نفسها إلى فاطمة وأقربائه وجميع قريش .
وإذا كان لا يملك شيئاً لفلذة كبده فاطمة وهو حي : أفيملكه لغيرها وهو ميت ؟ قال لابنته " يا فاطمة بنت محمد ، أنقذي نفسك من النار : فإني لا أملك لكِ من الله ضرا ولا نفعا " وفي رواية " لا أغني عنك من الله شيئا " وفى رواية " لا أملك " فكيف نستغيث بمن كان يقول وهو حي " لا أملك لكم [لا أغني عنكم] ، من الله شيئا " (متفق عليه) .
وهو الذي إذا استغاث به الناس يوم القيامة وهو حي حاضر يقول " لا أملك لك من الله شيئاً قد بلّغتُك " ! ولا نجد في القرآن جواز سؤال من يملك نفعاً لكنه لا يخلق نفعاً !
لما أراد نوح أن يدعو الله لإنقاذ ولده قال الله تعالى : { قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ }.
فالذي يدعو الصالحين إن كان مستحقا للعقاب فالنبي أو الولي لا يعين على ما يكرهه الله ولا يسعى فيما يبغضه الله، فقد مات أبو طالب على الشرك ، ولو كان الأمر بيد النبي ïپ¥ لما مات على ذلك .
{ لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذَّبَهُمْ } .
{ لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء } .
{ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ } .
وإذا ثبت أن دعاءكم لغير الله شرك فقد قال الله تعالى :
{ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ }
{ أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ اللّهُ }
حجة رازية أشعرية
• قال الرازي " إعلم أن الكفار أوردوا سؤالا فقالوا: نحن لا نعبد هذه الأصنام لاعتقاد أنها آلهة تضر وتنفع وإنما نعبدها لأجل أنها تماثيل لأشخاص كانوا عند الله من المقربين ، فنحن نعبدها لأجل أن يصير أولئك الأكابر شفعاء لنا عند الله فأجاب الله تعالى { أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَاء قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ } .
وتقرير الجواب :
أن هؤلاء الكفار : إما أن يطمعوا بتلك الشفاعة من هذه الأصنام أو من أولئك العلماء والزهاد الذين جعلت هذه الأصنام تماثيل لها .
والأول باطل : لأن هذه الجمادات وهي الأصنام لا تملك شيئاً ولا تعقل شيئاً ، فكيف يعقل صدور الشفاعة منها ؟
والثاني باطل : لأن في يوم القيامة لا يملك أحد شيئاً ولا يقدر أحد على الشفاعة إلا بإذن الله . فيكون الشفيع في الحقيقة هو الله الذي يأذن في تلك الشفاعة. فكان الاشتغال بعبادته أولى من الاشتغال بعبادة غيره " ( ) انتهى كلام الرازي رحمه الله .
بين قبر اليوم وصنم الأمس عند الرازي :
وذكر الرازي كذلك أن المشركين " وضعوا هذه الأصنام والأوثان على صور أنبيائهم وأكابرهم ، وزعموا أنهم متى اشتغلوا بعبادة هذه التماثيل فإن أولئك الأكابر تكون شفعاء لهم عند الله تعالى.
قال : ونظيره في هذا الزمان: اشتغال كثير من الخلق بتعظيم قبور الأكابر على اعتقادهم أنهم إذا عظموا قبورهم فإنهم يكونون لهم شفعاء عند الله " ( ) 0 انتهى كلامه وهو نفيس جدا . وصدور مثل هذا الكلام من رجل من عظماء الأشاعرة هو حجة على متأخريهم ، فهل يصير الرازي عندهم " وهابياً " بعد هذا ؟.
• وذكر التفتازاني أن شرك المشركين وقع حين " مات منهم من هو كامل المرتبة عند الله اتخذوا تمثالا على صورته وعظموه تشفعاً إلى الله تعالى وتوسلاً " ( ) .
وهذا ما نؤكده دائماً أن نوع شرك المشركين السابقين : هو شرك تشفع وتوسل بالصالحين ليقربوهم إلى الله زلفى .
وإنما يقع اليوم في نفس الفخ من لم يعرف نوع الفخ الذي نصبه الشيطان لمشركي الأمس .
سؤال قرآني موجه إلى المشركين
الآية الرابعة عشرة : قوله تعالى { قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ } [ الزمر 38 ] . فمن لم يكتف بدعاء الله وحده لم يكن حسبه الله ، قال قتادة في هذه الآية " سأل النبي ïپ¥ المشركين فسكتوا " أي سألهم : هل هن كاشفات ضره ؟ هل هن ممسكات رحمته ؟ فسكتوا لأنهم لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق الضر والنفع ولو كانوا يعتقدون العكس لأجابوا . وإنما كانوا يتخذونها وسائط وشفعاء عند الله .
النصارى لا يعتقدون أن مريم تخلق نفعاً
الآية الخامسة عشرة : قوله تعالى { وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ } . فالذين يدعون غير الله وإن كانوا يعتقدون أن من يدعونه لا يخلق نفعاً إلا أنه ما زالت هناك مشابهة بينهم وبين النصارى الذين يعتقدون أن مريم لا تخلق نفعاً ولكنهم يطلبون منها أن تشفع لهم عند الرب وتخلصهم وتقضي حوائجهم، فحكم الله بأنهم يؤلهونها لأنهم كانوا يدعونها مع الله كما في تفسير قوله تعالى { قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً } . قال ابن عباس ومجاهد "وهم: عيسي وأمه وعزير والملائكة والشمس والقمر والنجوم " ( ) . وكل من دعا ميتا أو غائباً من الأنبياء والصالحين فقد دعا من لا يملك كشف الضر عنه ولا تحويلا .
وقد اعترف الرازي بأنه " ليس المراد بالآية الأصنام لأنه تعالى قال في صفته { أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ } قال : وابتغاء الوسيلة إلى الله تعالى لا يليق بالأصنام " ( )
دعاء غير الله تأليه لغير الله
فالنصارى يعترفون بأنهم اتخذوا المسيح إلهاً ، لكنهم يرفضون اتهامهم بتأليه مريم ويقولون : نحن لم نؤله مريم ، بل نعتبرها بشراً ، ولا نعتقد أنها تخلق نفعاً ولا ضراً ، غير أننا نتخذها شفيعة لنا عند الرب. لكن الله ألزمهم بعبادتها وإن رفضوا، لأنهم يدعونها من دون الله ويطلبون منها ما يطلبه الأحباش من الجيلاني والرفاعي .
ولو سمعوا ما استجابوا
الآية السادسة عشرة : قوله تعالى { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ } [ الأحقاف 5 ]. وهذه صفات مشتركة بين الأصنام والقبور ، وقد جمع الله بينهما في آية واحدة فقال { إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاء } [ النمل 80 ] . وقد استدل ابن الهمام بهذه الآية على عدم سماع الأموات وأن عدم سماع الكفار فرع عدم سماع الموتى ( ) . وهذه الآية مفسرة بقوله تعالى { وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ } . وأفضل التفسير : تفسير القرآن بالقرآن .
وجاء في الفتاوى البزازية " من قال إن أرواح المشايخ حاضرة تعلم : يكفر. وقال الشيخ فخر الدين أبو سعيد عثمان الجياني : ومن ظن أن الميت يتصرف في الأمور دون الله واعتقد بذلك فقد كفر " ( ) .
• وقد احتج مشايخ الحنفية رحمهم الله على عدم سماع الموتى بقصة أصحاب الكهف { فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا } إلى قوله { وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } فإنهم من أولياء الله ، وقد أنامهم نوماً ثقيلا لا توقظهم الأصوات . فلو كانوا يعلمون لكان كلامهم هذا كذبا .
الآية السابعة عشرة : قوله تعالى { قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَاء لاَ يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا } [ الرعد 16 ] و { هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ - أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ } فغير الله لا يقضون بشيء ولا يملكون نفعاً ولا ضراً ولا يسمعون وإذا سمعوا لا يستجيبون ، وهؤلاء يقولون : بلى ، يقضون بشيء ويستجيبون لمن شاءوا .
الدعاء أفضل العبادة
هل أجاز النبي عبادة غير الله مع الكراهة ؟!
والدعاء عبادة كما قال رسولنا ïپ¥ " الدعاء هو العبادة " ( ) ، وفي رواية "الدعاء مخ العبادة " ( ) . ثم إن الاستشهاد بقول رسول الله ïپ¥ خير من الاستشهاد بعلماء اللغة. وإذا عُرف التفسير من جهة النبي ïپ¥ لم يحتج في ذلك إلى أقوال اللغة.
• وما سماه النبي عبادة لا يجيز للناس صرفه لغير الله مع الكراهة كما زعم الحبشي وغيره. بل ما كان عنده عبادة لا يصرف إلا لله .
• قال الزبيدي " قال القاضي: لما حكم بأن الدعاء هو العبادة الحقيقية التي تستحق أن تسمى عبادة من حيث أنه يدل على أن فاعله مقبل بوجهه إلى الله تعالى، معرض عما سواه، لا يرجو ولا يخاف إلا منه: استدل عليه بالآية فإنها تدل على أنه أمر مأمور به إذا أتى به المكلف قُبل منه لا محالة وترتب عليه المقصود ترتب الجزاء على الشرط وما كان كذلك كان أتم العبادة وأكملها ويمكن حمل العبادة على " المعنى اللغوي أي الدعاء ليس إلا إظهار غاية التذلل والافتقار". وعن معنى رواية "الدعاء مخ العبادة" قال الزبيدي " أي خالصها، وإنما كان مخا لها لأن الداعي إنما يدعو الله عند انقطاع أمله مما سواه وذلك حقيقة التوحيد والإخلاص، ولا عبادة فوقها لما فله فيه من إظهار الافتقار والتبري من الحول والقوة وهو سمة العبودية استشعار ذلة البشرية " ( )
وإذا كانت العبادة هي الذلة والتذلل: فهؤلاء يتوجهون إلى غير الله بأفضل العبادة وهو الدعاء كما قال ابن عباس {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} قال " أفضل العبادة الدعاء " ( ) .
وهذا التفسير لغويٌّ وشرعي: علَّمنا إياه سيد البشر وأفصحهم ïپ¥ والذي لا يجيز صرف عبادة لغير الله . والتوجه بالدعاء لغير الله تأليهٌ لغير الله . فقد قال رسول الله ïپ¥ " إذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله " فدل على أن الدعاء مدق أعظم أنواع العبادة ، لأنه يجمع من أنواع العبادة ما لا يجتمع في غيره من أنواع العبادات كتوجه الوجه والقلب واللسان وحصول التذلل والخضوع والرغبة فيما عند المدعو والرهبة منه وهذه حقيقة العبادة بل مخها .
قال الفيومي في المصباح المنير " دعوت الله : أي رغبت فيما عنده من الخير، وأما الاستغاثة فهي طلب الغوث والنصرة ، والاستعاذة هي الالتجاء والاعتصام . عاذ به أي التجأ واعتصم " ( ) .
ووصف الخطابي الدعاء بأنه ( ) " استمداد المعونة [ من الله ] وحقيقته إظهار الافتقار إليه وهو سمة العبودية واستشعار الذلة البشرية ". ثم احتج بقول النبي ïپ¥ " الدعاء هو العبادة " .
{ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } قال الطبري أي اعبدوني ( )
قال القرطبي " فدل على أن الدعـاء هو العبـادة وكذا عليه أكثر المفسرين " ( ) .
قلت : فسرها قبلهم رسول الله ïپ¥ فأبى الأحباش إلا الهروب من هذه الأقوال الصريحة عن جمهور العلماء إلى التفسـيـر الغريب المرجوح للآية وهو " أطيعوني أُثبْكم " ( ) . قال الحافظ " وشذت طائفة فقالوا: المراد بالدعاء في الآية ترك الذنوب . وأجاب الجمهور بأن الدعاء من أعم العبادة " ، واعتبر قول النبي ïپ¥ " الدعاء هو العبادة " كقوله في الحديث الآخر " الحج عرفة " ( )
{ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي } [ غافر ] قال السدي : أي دعائي ( ) قال الحافظ وضع عبادتي موضع دعائي " ( ) وقال القسطلاني في إرشاد الساري كلاماً بنحوه .
شبهة : العبادة نهاية التذلل
الدعاء توحيد عند الزبيدي
• واعترض الأحباش على ذلك فقالوا " العبادة نهاية التذلل " هكـذا أثبتـها علماء اللغة " ( ) .
ويقال لهم : إذا كان الشرع يعتبر دعاء قضاء الحوائج عبادة فقد ألزمكم الشرع بالوقوع في غاية التذلل. يؤكد ذلك قول الحافظ ابن حجر " الدعاء هو غاية التذلل والافتقار" ( ) . وأن فائدة الدعاء " إظهار العبد فاقته لربه وتضرعه إليه ". وقال مثله الزبيدي ( ) ، وزاد عليه لأن وصف لفظ الدعاء يطلق ويراد به التوحيد كما في قوله تعالى { وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ } وقوله { إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ } ، فهذه شهادة من الزبيدي ضدكم بأنكم صرفتم التوحيد إلى غير الله .
فإذا كان الدعاء غاية التذلل والافتقار وإظهار الفاقة والتضرع وهو التوحيد : فمثل هذا لا يجوز صرفه لغير الله وإلا كان شركاً .
الدعاء عند الرازي أعظم مقامات العبودية
• قال الفخر الرازي " المقصود من الدعاء إظهار الذلة والأنكسار" وقال " وقال الجمهور الأعظم من العقلاء : الدعاء أعظم مقامات العبادة " ( ).
وفسر قوله تعالى { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } فقال : كأنه سبحانه وتعالى يقول : عبدي أنت إنما تحتاج إلى الوساطة في غير وقت الدعاء . أما في مقام الدعاء فلا واسطة بيني وبينك فأنت العبد المحتاج ، وأنا الإله الغني " ( ) .
كما نقل عن الخطابي قوله " الدعاء هو العبادة " معناه أنه أعظم العبادة " و " حقيقة الدعاء استمداد العبد المعونة من الله " ( ) .
فهذا هو الرازي يصرح بأن الله لم يجعل واسطة بينه وبين عباده في رفع الحوائج ودفع المضار، محتجا بهذه الآية .
وذكر الحليمي أن الدعاء من التخشع والتذلل لأن كل من سأل ودعا فقد أظهر الحاجة وباح واعترف بالذلة والفقر والفاقة لمن يدعوه ويسأله " ( ) . وعرّف صاحب القاموس الدعاء بالرغبة إلى الله ( ) .
السجود لغير الله ليس هو الشرك الوحيد
وهؤلاء لم يفهموا من العبادة إلا الركوع والسجود . وهم بذلك يقصرون العبادة على بعض أفرادها كقولهم " العبادة نهاية التذلل " .
ولا ننسى أن المحبة والخضوع والتوكل والإنابة والخوف والرجاء والطاعة والتقوى كل ذلك عبادة لا ركوع فيها ولا سجود .
ورمي الجمار ليس فيه سجود ومع ذلك فهو عبادة ؟
والصيام عبادة لا سجود فيها .
والوقوف عند عرفة ركن الحج وهو عبادة لا سجود فيها .
وقراءة القرآن عبادة ليس فيها سجود .
فلماذا لا يكون الدعاء عبادة وإن لم يكن فيه ركوع ولا سجود .
فالرسول ما علّمنا أن الصوم والصلاة والحج عبادة فقط ، بل علمنا أيضاً أن الدعاء عبادة ، وقد بلّغ فقال " الدعاء هو العبادة " .
فكما أن ( الحج عرفة ) وعرفة أعظم مواقف الحج . فكذلك ( الدعاء عبادة ) بل من أعظم أنواع العبادة ولبّها وركنها الأعظم ، كما أن عرفة أفضل الوقوف ، يؤكد ذلك حديث أنس " الدعاء مخ العبادة " وهو ما قال مثله الرازي والزبيدي ( ) .
لا يفقهون ما يتلون في صلاتهم
وهؤلاء إذا دخلوا في الصلاة قالوا { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }
فإذا خرجوا منها قالوا : إياك نستعين ونستمد يا محمد يا رفاعي يا بدوي.. فلم تنههم صلاتهم عن الفحشاء والمنكر ، وإن الشرك لهو أعظم المنكر.
ولو أنهم تدبروا ما يقرءون لكان خيراً لهم ، فإن { إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } جاءت بعد آيات بينت ربوبية الله المطلقة لكل العوالم ورحمته الواسعة وأنه هو المالك ليوم الدين فهو المنجي وهو الراحم وهو الذي يملك الشفاعة والمغفرة، فلا تجوز الاستعانة بمن لا يتصف بهذه الصفات.
وقد نص الحافظ ابن رجب ( ) في ( جامع العلوم والحكم 281) أن قوله ïپ¥ " إذا سألت فاسأل الله " منتزع من قوله تعالى { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } لأن الدعاء هو العبادة " وتلا قوله تعالى { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } وقال { وَاسْأَلُواْ اللّهَ مِن فَضْلِهِ } ولم يأمرنا أن نسأل غيره . ولم يقل (وقال ربكم ادعو أنبيائي وأوليائي) ولم يقل رسوله ïپ¥ " إذا سألت فاسأل الأنبياء والأولياء ".
وقال السبكي بأن هذه الآية تفيد العلم بأنه لا يستعان غير الله " ( ) وأكد أن تقديم المعمول يفيد الاختصاص .
الآية التي قطعت جميع وسائل الشرك
الآية الثامنة عشرة : قوله تعالى { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ } فهذه الآية قطعت طرق الشرك كلها وسدت أبوابه أمام المشركين .
فإن الداعي غير الله إنما يتعلق قلبه بالقبور:
1- لما يرجو فيها من حصول منفعة أو دفع مضرة وحينئذ :
فلا بد أن يكون معتقداً أن هذا الولي يملك أسباب المنفعة ، فنفى الله ذلك قائلاً { لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } .
2- أو أن يكون هذا الولي المدعو شريكاً مع الله ، فنفى الله ذلك قائلاً { وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ } .
3- أو أن يكون وزيرا معاوناً لله ذا حرمة وقدر يمكن الانتفاع به عند المالك . فنفى الله ذلك قائلاً { وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ } .
4- فلم يبق للمشرك إلا حجة واحدة يتعلق بها وهى الشفاعة فيقول { هَـؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ } فنفى الله ذلك وقال { وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } ونفى عن غيره النفع والضر والشراكة في الملك وامتلاك الشفاعة وإنما الشفاعة حق يملكه الله ، فلا يسألها من لا يملكها وحتى إذا أعطي نبينا الشفاعة فإنه لا يشفع فيمن يشاء ولكن فيمن يأذن الله .
الآية التاسعة عشرة : قوله تعالى { لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ } ولم تستثن الآية ممن { لاَ يَسْتَجِيبُونَ } نبياً أو ولياً ، والآية ترد ما يدعيه الأحباش أن قبر السيدة نفيسة " معروف بالإجابة " ( ) ؟ فإن الله تعالى يقول { لاَ يَسْتَجِيبُونَ } ! فمن أصدق عندكم : الله أم الحبشي ؟
الآية العشرون : قولـه تعالى { أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ } ويناقض الحبشي هذه الآية فيقول : الأنبياء والأولياء : يجيبون المضطر إذا دعاهم ويكشفون السوء ، وليس الله وحده ، وقد قال الشيعة من قبله : الأئمة والسادة يجيبون المضطر إذا دعاهم ، وقالها النصارى من قبلهم : المسيح ومريم والقديسون .