قبل ثلاثين عاماً أو تزيد قليلاً كانت بدايات الصحوة الإسلامية التي استيقظ فيها شباب العالم الإسلامي بعد نومٍ عميق غاب فيها عن ذاته وأهدافه ورسالته فهب من رقدته واستشعر دوره الواجب في حقه وكانت صحوة أو إفاقة بعد سبات ، فانطلق الشباب من الجامعات والمدارس يعلنون نداء الحب والخير أنهم أتباع هذا الدين وأنصاره وأنهم على خطى الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم وعلى منهجه وأثره ، فتمسكوا بسنته وظهرت آثارها في هيئتهم ولباسهم ومعاملاتهم وتفانيهم في دعوتهم حتى غدا حب الدعوة في صدورهم يفوق الوصف والخيال ، وخالجهم شعور وربما لأول مرة أنهم متميزون عن العالم كلّه بدينهم وعقيدتهم وأخلاقهم بل بلغ الحب والتعلق بالله تعالى مبلغاً يعجز الواصفون عن وصفه ، فترى أحدهم إذا هبًّ للصلاة اشتاق أن يقف بين يدي ربه متمثلاً سنة النبي صلى الله عليه وسلم ، فكان الشوق إلى الخشوع ووضع اليدين على الصدر وتطبيق السنة فيها لا يدانيه فيها جمال ولا جلال ، حتى غدا الشباب شامة في جبين المساجد بعبادتهم وهيئتهم وتقربهم إلى ربهم بالتبكير إلى الصفوف الأولى ، وكأنهم جيلٌ غاب أو حُرم الهداية فكان العناق وكان اللقاء وما أحلاه من لقاء .
امتدت الصحوة الإسلامية الأولى في كل ميادين الحياة ونادى الشباب فيها إلى ضرورة التغيير وفي الفكر والأخلاق والسياسة والاقتصاد ، وأن تكون الحياة مصبوغة بصبغة الإسلام في كل مناحي الحياة وكان ما كان من أحداث وآمال وآلام ، ولكن استجاب الناس إلى الصوت الإسلامي ولم يخل من سنة المدافعة والممانعة كسنة قدرية فلا مناص من المخالفين والمعترضين ، بل ربما ازدانت الحياة بهم لتقوية الأفكار وتنضج التجربة وتتم مراجعة النفس واستدراك الخطأ ، وكم من صحوة حملت فى طياتها أملاً وألماً وجمالاً وبؤساً وعلماً وجهلاً ، وإذا لم يكن الخطأ فمتى يدرك الصواب ؟
لا أشك لحظة أن الصحوة الإسلامية الأولى كانت كالسيل الجرار حملت معها الحصى والأخشاب المؤلمة ، لكنها كانت أحياناً أخرى كالنهر الجاري الذي يُطل بجماله ومائه وعذوبته على كل دار وقرية ، فاستقى الجميع منه كلٌّ حسب حاجته وقوته وطاقته ...
أما اليوم وقد مضى على تلك الصحوة أكثر من ثلاثة عقود متتالية ، ألفت فيها النفوس وتعلقت به ، وغدت فيها حياة ذلك الجيل أشبه بالإنسان العادي ، ونامت تلك الرؤوس عن أهدافها ومالت إلى الدنيا بزينتها وشهوتها بل وهجرت القرآن والسنة بشكل كبير واستبدلت عنهما بكتب مترجمة من الغرب وحياته وعاداته وصارت هي الموضوعات الأكثر أهمية في اللقاءات والدورات والمؤتمرات التي يحضرها غالب الشباب وهجرت دروس الجامع إلا من كبار السن وقلة من الحريصين على العلم والمعرفة ، وغدا القلة القليلة هي التي تقرأ في تفسير القرآن أو كتب السنة
إن الحياة التي بُشر بها العالم الجديد في ثورته العلمية والتقنية والمعلوماتية ما هي إلا إغراق للإنسان في عالم المادة وإرهاق لأعصابه وعقله وقلبه ، لأن العالم المتمدن والمتحضر لا يعرف إلا هذه الأرض ولا يدرك إلا المادة المجردة وظواهر الأشياء ، كما قال تعالى " يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا "- الروم فهم يعلمون ويبدعون في صناعة الحياة ويتفننون في إضفاء البهجة عليها لأنهم لا يعرفون إلا هذه الحياة ، وسيرزح معهم أهل الإسلام وسيقتفون آثارهم ، وكلما زادوا في الإغراق زدنا في الإتباع ، حتى تنقلب حياة الكثيرين إلى إشباع للرغبات والنزوات والأموال والأنفس والأوقات جرياً خلف سراب الحضارة العرجاء التي تبني الدنيا وتغفل الآخرة ... فهل بعد أن غرق المسلمون في الحياة المادية بكل أشكالها وصورها وبعد أن أغرق العالم في لجج بحرها وأصاب المسلمين من آثارها وشهواتها ودهشتها ... هل نحن بحاجة إلى صحوة إسلامية ثانية ؟
إنني أقول جازماً ... نعم نحن بحاجة إلى صحوة إسلامية أخرى ولكنها تختلف في معالمها عن الصحوة الإسلامية الأولى ، فتلك كانت هزّة لنائم ليصحوا من سباته ، وهي اليوم هزة ليقظان ليفيق من سكرته ووهدته ويصحوا مما أحيط بأفكاره وعقله وقلبه وأخلاقه وشروده ، وحتى لا يطول مقالي هذا فيمل القارئ ويسهو ، فإني أُوجز معالم الصحوة الإسلامية الثانية في عشر معالم :
* إحياء مرجعية القرآن والسنة لمواجهة تعدد المرجعيات.
* تجديد الإيمان لمواجهة طغيان المادة.
* العلم لمقاومة الشبهات والتقوى لمقاومة الشهوات.
* الاكثار من العبادة في مواجهة الفتن.
* الوحدة الإسلامية في مواجهة الفرقة أو التكامل لا التصادم.
* الأمر بالمعروف في مواجهة انتشار المنكر.
* الحياة مع الجماهير لا الإغراق في النخبوية.
* إحياء التخصص لمواجهة الفوضى والارتجال.
* صناعة القوة المتكاملة في مواجهة القوة المتآكلة.
* الحفاظ على الهوية العربية والإسلامية لمواجهة هيمنة الهوية الغربية.
لا تنسونا من صالح دعائكم