كتاب صور من تأذي النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن الكريم
(من المشركين واليهود والنصارى وضعاف الإيمان من المسلمين)
الدكتور عثمان قدري مكانسي
سورة النور / [ الآية 11 ]
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{ إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ }.
القسم الثاني والأخير
ولقد روي أنه لما مرَّ صفوان بن المعطل بهودج أم المؤمنين وابنُ سلول في ملأ من قومه قال: من هذه؟ فقالوا: عائشة رضي الله عنها.. فقال: والله ما نجت منه ولا نجا منها. وقال:امرأة نبيكم باتت مع رجل حتى أصبحت؛ ثم جاء يقودها!. وهي قولة خبيثة راح يذيعها عن طريق عصبة النفاق بوسائل ملتوية. بلغ من خبثها أن تموج المدينة من الفرية التي لا تصدق، والتي تكذبها القرائن كلها. وأن تلوكها ألسنة المسلمين غير متحرجين. وأن تصبح موضوع أحاديثهم شهراً كاملاً. وهي الفرية الجديرة بان تنفى وتستبعد للوهلة الأولى.
وإن الإنسان ليدهش حتى اليوم كيف أمكن أن تروج فرية ساقطة كهذه في جو الجماعة المسلمة. حينذاك، وأن تحدث هذه الآثار الضخمة في جسم الجماعة، وتسبب هذه الآلام القاسية لأطهر النفوس وأكبرها على الإطلاق!.
لقد كانت معركة خاضها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخاضتها الجماعة المسلمة يومذاك. وخاضها الإسلامُ معركةً ضخمة لعلها أضخم المعارك التي خاضها رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج منها منتصراً كاظماً لآلامه الكبار، محتفظاً بوقار نفسه وعظمة قلبه وجميل صبره. فلم تؤثر عنه كلمة واحدة تدل على نفاد صبره وضعف احتماله. والآلام التي تناوشه
لعلها أعظم الآلام التي مرت به في حياته. والخطر على الإسلام من تلك الفرية من أشد الأخطار التي تعرض لها تاريخه.
ولو استشار كل مسلم قلبَه يومها لأفتاه؛ ولو عاد إلى منطق الفطرة لهداه. والقرآن الكريم يوجه المسلمين إلى هذا النهج في مواجهة الأمور، بوصفه أول خطوة في الحكم عليها:
{ لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ } .
نعم كان هذا هو الأولى.. أن يظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً. وأن يستبعدوا سقوط أنفسهم في ظل هذا الحمأة.. وامرأة نبيهم الطاهرة وأخوهم الصحابي المجاهد هما من أنفسهم. فظن الخير بهما أولى. لكن ما لا يليق بهم لا يليق بزوج رسول الله ولا يليق بصاحبه الذي لم يعلم عنه إلَّا خيراً..
كذلك فعل أبو أيوب خالد بن زيد الأنصاري وامرأته رضي الله عنهما كما روى الإمام محمد بن إسحاق:
أن أبا أيوب قالت له امرأته أمُّ أيوب: يا أبا أيوب أما تسمع ما يقول الناس في عائشة رضي الله عنها؟
قال: نعم. وذلك الكذبُ. أكنت فاعلة ذلك يا أم أيوب؟
قالت: لا والله ما كانت لأفعله.
قال فعائشة والله خير منك..
ونقل الإمام محمود بن عمر الزمخشري في تفسيره: " الكشاف :
" أن أبا أيوب الأنصاري قال لأم أيوب: ألا ترين ما يقال؟
فقالت: لو كنت بدل صفوان أكنت تظن بحرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم سوءاً؟
قال: لا.
قالت: ولو وكنت أنا بدل عائشة رضي الله عنها ما خنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فعائشة خير مني، وصفوان خير منك..
وكلتا الروايتين تدلان على أن بعض المسلمين رجع إلى نفسه واستفتى قلبه، فاستبعد أن يقع ما نسب إلى عائشة، وما نسب إلى رجل من المسلمين: من معصية لله وخيانة لرسوله، وارتكاس في حمأة الفاحشة، لمجرد شبهة لا تقف للمناقشة!.
هذه هي الخطوة الأولى في المنهج الذي يفرضه القرآن لمواجهة الأمور. خطوة الدليل الباطني الوجداني.
فأما الخطوة الثانية فهي طلب الدليل الخارجي والبرهان الواقعي :
{ لَوْلَا جَاؤُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاء فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ } وهذه الفرية الضخمة التي تتناول أعلى المقامات، وأطهر الأعراض، ما كان ينبغي أن تمر هكذا سهلة هينة؛ وأن تشيع هكذا دون تثبت ولا بينة؛ وأن تتقاذفها الألسنة وتلوكها الأفواه دون شاهد
ولا دليل: " لَوْلَا جَاؤُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء ! " وهم لم يفعلوا فهم كاذبون إذن. كاذبون عند الله الذي لا يُبدَّل القول لديه، والذي لا يتغير حكمه، ولا يتبدل قراره. فهي الوصمة الثابتة الصادقة الدائمة التي لا براءة لهم منها، ولا نجاة لهم من عقابها.
هاتان الخطوتان: خطوة عرض الأمر على القلب واستفتاء الضمير. وخطوة التثبت بالبينة والدليل غفَلَ عنهما المؤمنون في حادث الإفك؛ وتركوا الخائضين يخوضون في عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أمر عظيم لولا لطفُ الله لمسَّ الجماعة كلها البلاءُ العظيم. فالله يحذرهم أن يعودوا لمثله أبداً بعد هذا الدرس الأليم:
{ لَوْلَا جَاؤُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاء فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ } (1) .
لقد احتسبها الله للجماعة المسلمة الناشئة درساً قاسياً. فأدركهم بفضله ورحمته ولم يمسهم بعقابه وعذابه. فهي فعلة تستحق العذاب العظيم. الذي يتناسب مع العذاب الذي سببوه للرسول صلى الله عليه وسلم وزوجه وصديقه وصاحبه الذي لا يعلم عليه إلَّا خيراً. والعذاب الذي يتناسب مع الشر الذي ذاع في الجماعة المسلمة وشاع؛ ومس كل المقدسات التي تقوم عليها حياة الجماعة، والعذاب الذي يناسب خبث الكيد الذي كادته عصبة المنافقين للعقيدة لتقتلعها من جذورها حين تزلزل ثقة المؤمنين بربهم ونبيهم وأنفسهم طوال شهر كامل، حافل بالقلق والقلقلة والحيرة بلا يقين! ولكن فضل الله تدارك الجماعة الناشئة، ورحمته شملت المخطئين، بعد الدرس الأليم.
والقرآن يرسم صورة لتلك الفترة التي أفلت فيها الزمام؛ واختلت فيها المقاييس، واضطربت فيها القيم، وضاعت فيها الأصول:
{ إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ }
وهي صورة فيها الخفة والاستهتار وقلة التحرج، وتناول أعظم الأمور وأخطرها بلا مبالاة ولا اهتمام:
" إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ"، (لسان يتلقى عن لسان) بلا تدبر ولا فحص ولا إنعام نظر. حتى لكأن القول لا يمر على الآذان، ولا تتملاه الرؤوس، ولا تتدبره القلوب!
" وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ ".. بأفواهكم لا بوعْيِكم ولا بقلبكم. إنما هي كلمات تقذف بها افواه، قبل أن تستقر في المدارك، وقبل أن تتلقاها العقول..
" وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً " أن تقذفوا عرض رسول الله، وأن تدعوا الألم يعصر قلبه وقلب زوجه وأهله؛ وأن تلوثوا بيت الصديق الذي لم يُرْمَ في الجاهلية؛ وأن تتهموا صحابياً مجاهداً في سبيل الله. وأن تمسوا عصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصلته بربه، ورعاية الله له.. "وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً.. "
" وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ ".. وما يعظم عند الله إلَّا الجليل الضخم الذي تزلزل له الرواسي، وتضج منه الأرض والسماء.
ولقد كان ينبغي أن تجفل القلوب من مجرد سماعه، من مجرد النطق به، وأن تُنكر أن يكون هذا موضعاً للحديث؛ وأن تتوجه إلى الله تنزهه عن أن يدع نبيه لمثل هذا؛ وأن تقذف بهذا الإفك بعيداً عن ذلك الجو الطاهر الكريم:
{ وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ } .
وعندما تصل هذه اللسمة إلى أعماق القلوب فتهزها هزاً؛ وهي تطلعها على ضخامة ما جنت وبشاعة ما عملت.. عندئذٍ يجيء التحذير من العودة إلى مثل هذا الأمر العظيم:
{ يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ }
" يَعِظُكُمُ ".. في اسلوب التربية المؤثر. في أنسب الظروف للسمع والطاعة والاعتبار. مع تضمين اللفظ معنى التحذير من العودة إلى مثل ما كان:
" يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً ".. ومع تعليق إيمانهم على الانتفاع بتلك العظة:
" إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ".. فالمؤمنون لا يمكن أن يكشف لهم عن بشاعة عمل كهذا الكشف. وأن يحذروا منه مثل هذا التحذير، ثم يعودوا إليه وهم مؤمنون:
{ وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }
" وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ ".. على مثال مابين في حديث الإفك، وكشف عما وراءه من كيد؛ وما وقع فيه من خطايا وأخطاء:
" وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ " يعلم البواعث والنوايا والغايات والأهداف؛ ويعلم مداخل القلوب. ومسارب النفوس. وهو حكيم في علاجها. وتدبير أمرها. ووضع النظم والحدود التي تصلح بها..
ثم يمضي في التعقيب على حديث الإفك؛ وما تخلف عنه من آثار؛ مكرراً التحذير من مثله. مذكراً بفضل الله ورحمته، متوعداً من يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات بعذاب الله في الآخرة. ذلك مع تنقية النفوس من آثار المعركة؛ وإطلاقها من ملابسات الأرض، وإعادة الصفاء إليها والإشراق.. كما تتمثل في موقف أبي بكر رضي الله عنه من قريبه مسطح بن أثاثة الذي خاض في حديث الإفك مع من خاض:
{إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } .
والذين يرمون المحصنات- وبخاصة أولئك الذين تجرأوا على رمي بيت النبوة الكريم- إنما يعملون على زعزعة ثقة الجماعة المؤمنة بالخير والعفة والنظافة؛ وعلى إزالة التحرج من إرتكاب الفاحشة، وذلك عن طريق الإيحاء بان الفاحشة شائعة فيها.. بذلك تشيع الفاحشة في النفوس، لتشيع بعد ذلك في الواقع.
من أجل هذا وصف الذين يرمون المحصنات بأنهم يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، وتوعدهم بالعذاب الأليم في الدنيا والأخرة. وذلك جانب من منهج التربية، وإجراء من إجراءات الوقاية. يقوم على خبرة بالنفس البشرية، ومعرفة بطريقة تكيُّفِ مشاعرها واتجاهاتها.. ومن ثَمَّ يعقب بقوله:
" وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ " .. ومن ذا الذي يعلم أمر هذه النفس إلَّا الذي خلقها؟ ومن ذا الذي يدبر أمر هذه الإنسانية إلَّا الذي برأها؟ ومن ذا الذي يرى الظاهر والباطن، ولا يخفى على علمه شيء إلَّا العليم الخبير؟
ومرة أخرى يذكِّرُ المؤمنين بفضل الله عليهم ورحمته:
{ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّه رَؤُوفٌ رَحِيمٌ } .
إن الحدث لعظيم، وإن الخطأ لجسيم، وإن الشر الكامن فيه لخليق أن يصيب الجماعة المسلمة كلها بالسوء. ولكن فضل الله ورحمته، ورأفته ورعايته.. ذلك ما وقاهم السوء.. ومن ثم يذكرها به المرة بعد المرة؛ وهو يربيهم بهذه التجربة الضخمة التي شملت حياة المسلمين.
فإذا تمثلوا أن ذلك الشر العظيم كان وشيكاً أن يصيبهم جميعاً، لولا فضل الله ورحمته، صوّرَ لهم عملهم بأنه اتباع لخطوات الشيطان. وما كان لهم أن يتبعوا خطوات عدوهم وعدو أبيهم من قديم. وحذرهم ما يقودهم الشيطان إليه من مثل هذا الشر المستطير:
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } .
وإنها لصورة مستنكرة أن يخطو الشيطان فيتبع المؤمنون خطاه. وهم أجدر الناس أن ينفروا من الشيطان، وأن يسلكوا طريقاً غير طريقه المشؤوم! صورة مستنكرة ينفر منها طبع المؤمن. ويرتجف لها وجدانه. ويقشعر لها خياله! ورسْمُ هذه الصورة ومواجهة المؤمنين بها يثير في نفوسهم اليقظة والحذر والحساسية:
" وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ ".. وحديث الإفك نموذج من هذا المنكر الذي قاد إليه المؤمنين الذين خاضوا فيه. وهو نموذج منفر شنيع. وإن الإنسان لضعيف. معرض للنزعات. عرضة للتلوث. إلَّا أن يدركه فضل الله ورحمته. حين يتجه إلى الله، ويسير على نهجه.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } .
فنور الله الذي يشرق في القلب يطهره ويزكيه.
ولولا فضل الله ورحمته لم يُزكَّ من أحد ولم يتطهر. والله يسمع ويعلم، فيزكي من يستحق التزكية، ويطهر من يعلم فيه الخير والاستعداد " وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ "..
وعلى ذكر التزكية والطهارة تجيء الدعوة إلى الصفح والمغفرة بين بعض المؤمنين وبعض- كما يرجون غفران الله لما يرتكبونه من أخطاء وذنوب-:
{ وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }.
نزلت في أبي بكر رضي الله عنه بعد نزول القرآن ببراءة الصديقة. وقد عرف أن مسطح بن أثاثة كان ممن خاضوا فيه قريبه. وهو من فقراء المهاجرين. وكان أبو بكر رضي الله عنه ينفق عليه. فآلى على نفسه لا ينفع مسطحاً بنافعة أبداً.
نزلت هذه الآية تذكر أبا بكر، وتذكر المؤمنين، بأنهم يخطئون ثم يحبون من الله أن يغفر لهم. فليأخذوا أنفسهم بعضهم مع بعض بهذا الذي يحبونه، ولا يحلفوا أن يمنعوا البر عن مستحقيه، إن كانوا قد أخطأوا وأساءوا..
وهنا نطلع على أفق عال من آفاق النفوس الزكية، التي تطهرت بنور الله. أفق يشرق في نفس أبي بكر الصديق رضي الله عنه، أبي بكر الذي مسّه حديث الإفك في أعماق قلبه، والذي احتمل مرارة الاتهام لبيته وعرضه. فما يكاد يسمع دعوة ربه إلى العفو؛ وما يكاد يلمس وجدانُه ذلك السؤال الموحي:
" أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ لكم؟ " حتى يرتفع على الآلام، ويرتفع على مشاعر الإنسان، ويرتفع على مناطق البيئة، وحتى تشف روحه وترف وتشرق بنور الله. في طمأنينة وصدق يقول: بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لي. ويعيد إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه، ويحلف: والله لا أنزعها منه أبداً. ذلك في مقابل ما حلف: والله لا أنفعه بنافعة أبداً.
بذلك يمسح الله على آلام ذلك القلب الكبير، ويغسله من أوضار المعركة، ليبقى أبداً نظيفاً طاهراً زكياً، مشرقاً بالنور..
ذلك الغفران الذي يذكر الله المؤمنين به. إنما هو لمن تاب عن خطيئة رمي المحصنات وإشاعة الفاحشة في الذين آمنوا.
فأما الذين يرمون المحصنات عن خبث وعن إصرار، كأمثال ابن أبَيٍّ فلا سماحة ولا عفو. ولو افلتوا من الحد في الدنيا، لأن الشهود لم يشهدوا فإن عذاب الله ينتظرهم في الآخرة. ويومذاك لن يحتاج الأمر إلى شهود:
{ إنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25)}(النور) .
ويجسم التعبير جريمة هؤلاء ويبشعها؛ وهو يصورها رمياً للمحصنات المؤمنات وهن غافلات غارّات، غير آخذات حذرهنَّ من الرمية. وهن بريئات الطوايا مطمئنات لا يحذرْن شيئاً، لأنهن لم يأتين شيئاً يحذرنه! فهي جريمة تتمثل فيها البشاعة كما تتمثل فيها الخسة. ومن ثم يعاجل مقترفيها باللعنة. لعنة الله عليهم، وطردهم من رحمته في الدنيا والآخرة.
ثم يرسم ذلك المشهد الأخّاذ: " يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم ".. فإذا بعضهم يتهم بعضاً بالحق، إذ كانوا يتهمون المحصنات الغافلات المؤمنات بالإِفك! وهي مقابلة في المشهد مؤثرة، على طريقة التناسق الفني في التصوير القرآني.
" يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ ".. ويجزيهم العدل، ويؤدي لهم حسابهم الدقيق. ويومئذٍ يستيقنون مما كانوا يستريبون:
" وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ "..
ويختم الحديث عن حادث الإفك ببيان عدل الله في اختياره الذي ركبه في الفطرة، وحققه في واقع الناس. وهو أن تلتئم النفس الخبيثة بالنفس الخبيثة، وأن تمتزج النفس الطيبة. وعلى هذا تقوم العلاقات بين الأزواج.
وما كان يمكن أن تكون عائشة رضي الله عنها كما رموها، وهي مقسومة لأطيب نفس على ظهر هذه الأرض:
{ الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُوْلَئِكَ مُبَرَّؤُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ }.
ولقد أحبت نفسُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة حباً عظيماً. فما كان يمكن أن يُحبّبَها الله لنبيه المعصوم، إن لم تكن طاهرة، هذا الحب العظيم.
أولئك الطيبون والطيبات " مُبَرَّؤُونَ مِمَّا يَقُولُونَ " بفطرتهم وطبيعتهم، لا يلتبس بهم شيء مما قيل. " لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ".. مغفرة عما يقع منهم من أخطاء. ورزق كريم. دلالة على كرامتهم عند ربهم الكريم.
بذلك ينتهي حديث الإفك. ذلك الحادث الذي تعرضت فيه الجماعة المسلمة لأكبر محنة. إذ كانت محنة الثقة في طهارة بيت الرسول، وفي عصمته الله لنبيه أن لا يجعل في بيته إلَّا العنصر الطاهر الكريم. وقد جعلها الله معرضاً لتربية الجماعة المسلمة، تشف وترف؛ وترتفع إلى آفاق النور.. في سورة النور.
انتهى القسم الثاني والأخير
يتبع