الرد على المجسمة:
قال الإمام النووي في شرح " صحيح مسلم " :
قَالَ الْقَاضِي عِيَاض : لَا خِلَاف بَيْن الْمُسْلِمِينَ قَاطِبَة فَقِيههمْ وَمُحَدِّثهمْ وَمُتَكَلِّمهمْ وَنُظَّارهمْ وَمُقَلِّدهمْ أَنَّ الظَّوَاهِر الْوَارِدَة بِذِكْرِ اللَّه تَعَالَى فِي السَّمَاء كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاء أَنْ يَخْسِف بِكُمْ الْأَرْض } وَ نَحْوه لَيْسَتْ عَلَى ظَاهِرهَا , بَلْ مُتَأَوَّلَة عِنْد جَمِيعهمْ.انتهى
قال الإمام القرطبي في تفسيره " الجامع لأحكام القرآن " :
أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ
قَالَ اِبْن عَبَّاس : أَأَمِنْتُمْ عَذَاب مَنْ فِي السَّمَاء إِنْ عَصَيْتُمُوهُ . وَقِيلَ : تَقْدِيره أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاء قُدْرَته وَ سُلْطَانه وَعَرْشه وَ مَمْلَكَته . وَخَصَّ السَّمَاء وَإِنْ عَمَّ مُلْكه تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْإِلَه الَّذِي تَنْفُذ قُدْرَته فِي السَّمَاء لَا مَنْ يُعَظِّمُونَهُ فِي الْأَرْض . وَقِيلَ : هُوَ إِشَارَة إِلَى الْمَلَائِكَة . وَقِيلَ : إِلَى جِبْرِيل وَهُوَ الْمَلَك الْمُوَكَّل بِالْعَذَابِ . قُلْت : وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون الْمَعْنَى : أَأَمِنْتُمْ خَالِق مَنْ فِي السَّمَاء أَنْ يَخْسِف بِكُمْ الْأَرْض كَمَا خَسَفَهَا بِقَارُونَ ...
وَ قَالَ الْمُحَقِّقُونَ : أَمِنْتُمْ مَنْ فَوْق السَّمَاء ; كَقَوْلِهِ : " فَسِيحُوا فِي الْأَرْض " [ التَّوْبَة : 2 ] أَيْ فَوْقهَا لَا بِالْمُمَاسَّةِ وَ التَّحَيُّز لَكِنْ بِالْقَهْرِ وَ التَّدْبِير . وَ قِيلَ : مَعْنَاهُ أَمِنْتُمْ مَنْ عَلَى السَّمَاء ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوع النَّخْل " [ طَه : 71 ] أَيْ عَلَيْهَا . وَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ مُدِيرهَا وَمَالِكهَا ; كَمَا يُقَال : فُلَان عَلَى الْعِرَاق وَالْحِجَاز ; أَيْ وَالِيهَا وَأَمِيرهَا . وَالْأَخْبَار فِي هَذَا الْبَاب كَثِيرَة صَحِيحَة مُنْتَشِرَة , مُشِيرَة إِلَى الْعُلُوّ ; لَا يَدْفَعهَا إِلَّا مُلْحِد أَوْ جَاهِل مُعَانِد . وَ الْمُرَاد بِهَا تَوْقِيره وَ تَنْزِيهه عَنْ السُّفْل وَ التَّحْت . وَ وَصْفه بِالْعُلُوِّ وَا لْعَظَمَة لَا بِالْأَمَاكِنِ وَالْجِهَات وَالْحُدُود لِأَنَّهَا صِفَات الْأَجْسَام .
وَ إِنَّمَا تُرْفَع الْأَيْدِي بِالدُّعَاءِ إِلَى السَّمَاء لِأَنَّ السَّمَاء مَهْبِط الْوَحْي , وَمَنْزِل الْقَطْر , وَمَحَلّ الْقُدْس , وَمَعْدِن الْمُطَهَّرِينَ مِنْ الْمَلَائِكَة , وَإِلَيْهَا تُرْفَع أَعْمَال الْعِبَاد , وَفَوْقهَا عَرْشه وَجَنَّته ; كَمَا جَعَلَ اللَّه الْكَعْبَة قِبْلَة لِلدُّعَاءِ وَالصَّلَاة , وَلِأَنَّهُ خَلَقَ الْأَمْكِنَة وَهُوَ غَيْر مُحْتَاج إِلَيْهَا , وَكَانَ فِي أَزَلِهِ قَبْل خَلْق الْمَكَان وَالزَّمَان . وَلَا مَكَان لَهُ وَلَا زَمَان . وَهُوَ الْآن عَلَى مَا عَلَيْهِ كَانَ .انتهى
تدبّر كلامهُ رحمهُ الله فإنّهُ جدُّ نفيس...
قال أبو حيان الأندلسي في تفسيره " البحر المحيط " :
قرأ نافع وأبو عمرو والبزي: { أأمنتم } بتحقيق الأولى وتسهيل الثانية، وأدخل أبو عمرو وقالون بينهما ألفاً، وقنبل: بإبدال الأولى واواً لضمة ما قبلها، وعنه وعن ورش أوجه غير هذه؛ والكوفيون وابن عامر بتحقيقهما. { من في السماء }: هذا مجاز و قد قام البرهان العقلي على أن تعالى ليس بمتحيّز في جهة و مجازه أن ملكوته في السماء لأن في السماء هو صلة من ففيه الضمير الذي كان في العامل فيه و هو استقر أي من في السماء هو أي ملكوته فهو على حذف مضاف و ملكوته في كل شيء. لكن خص السماء بالذكر لأنها مسكن ملائكته و ثم عرشه و كرسيه و اللوح المحفوظ و منها تنزل قضاياه و كتبه و أمره و نهيه ، أو جاء هذا على طريق اعتقادهم إذ كانوا مشبهة فيكون المعنى : أأمنتم من تزعمون أنه في السماء ؟ وهو المتعالي عن المكان. وقيل : من على حذف مضاف أي خالق من في السماء. وقيل : من هم الملائكة. وقيل: جبريل، وهو الملك الموكل بالخسف وغيره. و قيل: من بمعنى على و يراد بالعلو القهر و القدرة لا بالمكان و في التحرير : الإجماع منعقد على أنه ليس في السماء بمعنى الاستقرار لأن من قال من المشبهة والمجسمة أنه على العرش لا يقول بأنه في السماء.انتهى
قال في تفسير " مفاتيح الغيب " للرازي :
{ ءَأَمِنتُمْ مَّن فِي ٱلسَّمَآءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ ٱلأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ }
واعلم أن هذه الآيات نظيرها قوله تعالى : { قُلْ هُوَ ٱلْقَادِرُ عَلَىٰ أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ } [الأنعام: 65] و قال :{ فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ ٱلأَرْضَ } [القصص: 81].
واعلم أن المشبهة احتجوا على إثبات المكان لله تعالى بقوله: { ءامِنتم مَّن فِى ٱلسَّمَاء } و الجواب عنه أن هذه الآية لا يمكن إجراؤها على ظاهرها باتفاق المسلمين لأن كونه في السماء يقتضي كون السماء محيطاً به من جميع الجوانب فيكون أصغر من السماء و السماء أصغر من العرش بكثير فيلزم أن يكون الله تعالى شيئاً حقيراً بالنسبة إلى العرش و ذلك باتفاق أهل الإسلام محال، ولأنه تعالى قال : { قُل لّمَن مَّا فِى ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ قُل لِلَّهِ } [الأنعام: 12] فلو كان الله في السماء لوجب أن يكون مالكاً لنفسه وهذا محال، فعلمنا أن هذه الآية يجب صرفها عن ظاهرها إلى التأويل، ثم فيه وجوه :
أحدها : لم لا يجوزأن يكون تقدير الآية : أأمنتم من في السماء عذابه ، و ذلك لأن عادة الله تعالى جارية بأنه إنما ينزل البلاء على من يكفر بالله ويعصيه من السماء فالسماء موضع عذابه تعالى، كما أنه موضع نزول رحمته ونعمته
و ثانيها : قال أبو مسلم : كانت العرب مقرين بوجود الإله، لكنهم كانوا يعتقدون أنه في السماء على وفق قول المشبهة، فكأنه تعالى قال لهم: أتأمنون من قد أقررتم بأنه في السماء، واعترفتم له بالقدرة على ما يشاء أن يخسف بكم الأرض.
و ثالثها : تقدير الآية : من في السماء سلطانه وملكه وقدرته، والغرض من ذكر السماء تفخيم سلطان الله وتعظيم قدرته، كما قال : { وَهُوَ ٱللَّهُ فِى ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَفِى ٱلأَرْضِ } [الأنعام: 3] فإن الشيء الواحد لا يكون دفعة واحدة في مكانين، فوجب أن يكون المراد من كونه في السموات وفي الأرض نفاذ أمره وقدرته ، وجريان مشيئته في السموات وفي الأرض ، فكذا ههنا.
و رابعها : لم لا يجوز أن يكون المراد بقوله: { مَّن فِى ٱلسَّمَاء } الملك الموكل بالعذاب و هو جبريل عليه السلام، والمعنى أن يخسف بهم الأرض بأمر الله وإذنه.انتهى
قال الشوكاني في تفسيره " فتح القدير" :
{ ءامَنْتُمْ مَّن فِى ٱلسَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ ٱلأَرْضَ } قال الواحدي: قال المفسرون: يعني : عقوبة من في السماء وقيل : من في السماء قدرته و سلطانه و عرشه و ملائكته و قيل : من في السماء من الملائكة و قيل: المراد جبريل .انتهى