الْفَصْلُ الثَّالِثُ
خِلَافَةُ أَمِيرِ الْـمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، مِنْ سَنَةِ 23 إِلَى 35 هـ
الْـمَبْحَثُ الْأَوَّلُ:
كَيْفِيَّةُ تَوَلِّي عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ الْخِلَافَةَ
* قِصَّةُ الشُّورَى:
لَـمَّا طُعِنَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، جَعَلَ الْخِلَافَةَ فِي سِتَّةِ نَفَرٍ: عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ، الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ، عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَقِصَّةُ الشُّورَى رَوَاهَا الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ (حَتَّى نَعْلَمَ أَنَّ التَّارِيخَ لَا يَضِيعُ)
فهَذَا الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ رَوَى لَنَا أَعْظَمَ قِصَّتَيْنِ كَثُرَ حَوْلَهُمَا الْجَدَلُ.
وَلَقَدْ ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ قِصَّةً طَوِيلَةً فِي مَقْتَلِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ حَتَّى وَصَلَ إِلَى أَنَّهُ قِيلَ لِعُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَوْصِ يَا أَمِيرَ الْـمُؤْمِنِينَ اسْتَخْلِفْ.
قَالَ:
مَا أَجِدُ أَحَقَّ بِهَذَا الْأَمْرِ مِنْ هَؤُلَاءِ النَّفَرِ، أَوِ الرَّهْطِ الَّذِينَ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ عَنْهُمْ رَاضٍ، فَسَمَّى عَلِيًّا، وَعُثْمَانَ، وَالزُّبَيْرَ، وَطَلْحَةَ، وَسَعْدًا، وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ.
وَقَالَ:
«يَشْهَدُكُمْ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ وَلَيْسَ لَهُ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ، فَإِنْ أَصَابَتِ الْإِمْرَةُ سَعْدًا فَهُوَ ذَاكَ، وَإِلَّا فَلْيَسْتَعِنْ بِهِ أَيُّكُمْ مَا أُمِّرَ، فَإِنِّي لَمْ أَعْزِلْهُ عَنْ عَجْزٍ وَلَا خِيَانَةٍ»
(وَكَانَ عُمَر قَدْ عزل سَعْد بْن أَبِي وَقَّاصٍ عَنِ الْكُوفَة).
فَلَـمَّا فُرِغَ مِنْ دَفْنِهِ اجْتَمَعُوا رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ:
« اجْعَلُوا أَمْرَكُمْ إِلَى ثَلَاثَةٍ مِنْكُمْ ».
فَقَالَ الزُّبَيْرُ:
جَعَلْتُ أَمْرِي إِلَى عَلِيٍّ(1).
وَقَالَ طَلْحَةُ:
جَعَلْتُ أَمْرِي إِلَى عُثْمَانَ.
وَقَالَ سَعْدٌ:
جَعَلْتُ أَمْرِي إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ».
وَهَكَذَا تَنَازَلَ ثَلَاثَة: تَنَازَلَ طَلْحَةُ، وَالزُّبَيْرُ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ.
الْـمُرَشَّحُونَ إِذًا ثَلَاثَةٌ: عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ.
«فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: أَيُّكُمَا تَبَرَّأَ مِنَ الْأَمْرِ فَنَجْعَلُهُ إِلَيْهِ، وَاللهُ عَلَيْهِ وَالْإِسْلَامُ لَيَنْظُرَنَّ أَفْضَلَهُمْ فِي نَفْسِهِ». فَأَسْكَتَ الشَّيْخَانِ.
فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ:
أَفَتَجْعَلُونَهُ إِلَيَّ وَاللهُ عَلَيَّ أَنْ لَا آلُو عَنْ أَفْضَلِكُمَا.
قَالَا: نَعَمْ.
فَأَخَذَ بِيَدِ أَحَدِهِمَا فَقَالَ: لَكَ قَرَابَةٌ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْقَدَمُ فِي الْإِسْلَامِ مَا قَدْ عَلِمْتَ، فَاللهُ عَلَيْكَ لَئِنْ أَمَّرْتُكَ لَتَعْدِلَنَّ، وَلَئِنْ أَمَّرْتُ عُثْمَانَ لَتَسْمَعَنَّ وَلَتُطِيعَنَّ.
ثُمَّ خَلَا بِالْآخَرِ –وَهُوَ عُثْمَانُ- فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ.
فَلَـمَّا أَخَذَ الْـمِيثَاقَ قَالَ:
ارْفَعْ يَدَكَ يَا عُثْمَانُ، فَبَايَعَهُ، وَبَايَعَ لَهُ عَلِيٌّ، وَوَلَجَ أَهْلُ الدَّارِ فَبَايَعُوهُ».
(«صَحِيح الْبُخَارِيِّ»، كِتَاب فَضَائِل الصَّحَابَة، بَاب قِصّة الْبَيْعَة، حَدِيث (3700).
(1) هَذِهِ الرِّوَايَةُ تُبينُ لَنَا حَقِيقَةَ الْأَمْرِ بصورةٍ دَامغةٍ، وَهِيَ أنّ الزُّبَيرَ بْنَ الْعَوَّامِ لَم يَكُنْ مِنْ مُبغضي عَلِيٍّ، كَيْفَ وَهُوَ ابْنُ عَمَّتِهِ صَفِيَّةَ، وَقَدْ رشَّحَهُ لِلخِلافَةِ كَمَا هُوَ ظاهر مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَةِ.
(1) هَذِهِ الرِّوَايَةُ تُبينُ لَنَا حَقِيقَةَ الْأَمْرِ بصورةٍ دَامغةٍ، وَهِيَ أنّ الزُّبَيرَ بْنَ الْعَوَّامِ لَم يَكُنْ مِنْ مُبغضي عَلِيٍّ، كَيْفَ وَهُوَ ابْنُ عَمَّتِهِ صَفِيَّةَ، وَقَدْ رشَّحَهُ لِلخِلافَةِ كَمَا هُوَ ظاهر مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَةِ.
(1) هَذِهِ الرِّوَايَةُ تُبينُ لَنَا حَقِيقَةَ الْأَمْرِ بصورةٍ دَامغةٍ، وَهِيَ أنّ الزُّبَيرَ بْنَ الْعَوَّامِ لَم يَكُنْ مِنْ مُبغضي عَلِيٍّ، كَيْفَ وَهُوَ ابْنُ عَمَّتِهِ صَفِيَّةَ، وَقَدْ رشَّحَهُ لِلخِلافَةِ كَمَا هُوَ ظاهر مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَةِ.
هَذِهِ رِوَايَةُ الْبَيْعَةِ لِعُثْمَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ كَمَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ.
وَهُنَاكَ تَفْصِيلَاتٌ أُخْرَى فِي الصَّحِيحِ أَن عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ جَلَسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ يَسْأَلُ الْـمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ حَتَّى قَالَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
« وَاللهِ مَا تَرَكْتُ بَيْتًا مِنْ بُيُوتِ الْـمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ إِلَّا وَسَأَلْتُهُمْ فَمَا رَأَيْتُهُمْ يَعْدِلُونَ بِعُثْمَانَ أَحَدًا»
(«صَحِيح الْبُخَارِيِّ »، كِتَاب الْأحكام، بَاب كَيْفَ يُبَايع الْإِمَام النَّاس، حَدِيث (7207).
أَيْ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ لَمْ يَكُنْ مُبَاشَرَةً فِي الْبَيْعَةِ، وَإِنَّمَا جَلَسَ بَعْدَ أَنْ أَخَذَ الْعَهْدَ عَلَيْهِمَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ اخْتَارَ عُثْمَانَ.
وَمِنَ الْـمُحْزِنِ أَنَّنَا نَرَى كُتُبَ التَّارِيخِ الْـحَدِيثَةِ الَّتِي تَتَكَلَّمُ عَنْ حَيَاةِ الصَّحَابَةِ تُعْرِضُ عَنْ رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ، وَتَأْخُذُ برِوَايَةِ أَبِي مِخْنَفٍ الْـمَكْذُوبَةِ فِي تَارِيخِ الطَّبَرِيِّ، وَهَذَا نَصُّهَا:
« لَـمَّا طُعِنَ عُمَرُ بْنُ الْـخَطَّابِ قِيلَ لَهُ: يَا أَمِير الْـمُؤْمِنِينَ لَوِ اسْتَخْلَفْتَ،
قَالَ:
مَنْ أَسْتَخْلِفُ؟ لَوْ كَانَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ حَيًّا اسْتَخْلَفْتُهُ،
فَإِنْ سَأَلَنِي رَبِّي قُلْتُ:
سَمِعْتُ نَبِيَّكَ يَقُولُ: إِنَّهُ أَمِينُ هَذِهِ الْأُمَّةِ.
وَلَوْ كَانَ سَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ حَيًّا اسْتَخْلَفْتُهُ، فَإِنْ سَأَلَنِي رَبِّي قُلْتُ:
سَمِعْتُ نَبِيَّكَ يَقُولُ: إِنَّ سَالِـمًا شَدِيدُ الْحُبِّ لِلهِ.
فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: أَدُلُّكَ عَلَيْهِ؟ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ،
فَقَالَ: قَاتَلَكَ اللهُ، وَاللهِ مَا أَرَدْتَ اللهَ بِهَذَا، وَيْحَكَ كَيْفَ أَسْتَخْلِفُ رَجُلًا عَجَزَ عَنْ طَلَاقِ امْرَأَتِهَ، لَا أَرَبَ لَنَا فِي أُمُورِكُمْ، مَا حَمِدْتُهَا فَأَرْغَبُ فِيهَا لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي، إِنْ كَانَ خَيْرًا فَقَدْ أَصَبْنَا مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ شَرًّا فَشَرٌّ عَنَّا(هَكَذَا فِي الْأَصْل، وَلعلَّ معناهُ: فشَر يبعدُ عنا) آلَ عُمَرَ، بِحَسْبِ آلِ عُمَرَ أَنْ يُحَاسَبَ مِنْهُمْ رَجُلٌ وَاحِدٌ وَيُسْأَلَ عَنْ أَمْرِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ، أَمَا لَقَدْ جَهَدْتُ نَفْسِي وَحَرَمْتُ أَهْلِي، وَإِنْ نَجَوْتُ كَفَافًا لَا وِزْرَ وَلَا أَجْرَ إِنِّي لَسَعِيدٌ، وَانْظُرْ فَإِنِ اسْتَخْلَفْتُ فَقَدِ اسْتَخْلفَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي (يَعْنِي: أَبَا بَكْرٍ)،وإِنْ أَتْرُكْ فَقَدْ تَرَكَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي (يَعْنِي: رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، وَلَنْ يُضَيِّعَ اللهُ دِينَهُ.
فَخَرَجُوا ثُمَّ رَاحُوا فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ الْـمُؤْمِنِينَ لَوْ عَهِدْتَ عَهْدًا؟ فَقَالَ: قَدْ كُنْتُ أَجْمَعْتُ بَعْدَ مَقَالَتِي لَكُمْ أَنْ أَنْظُرَ فَأُوَلِّي رَجُلًا أَمْرَكُمْ هُوَ أَحْرَاكُمْ أَنْ يَحْمِلَكُمْ عَلَى الْـحَقِّ وَأَشَارَ إِلَى عَلِيٍّ، وَرَهَقَتْنِي غَشْيَةٌ فَرَأَيْتُ رَجُلًا دَخَلَ جَنَّةً قَدْ غَرَسَهَا فَجَعَلَ يَقْطِفُ كُلَّ غَضَّةٍ وَيَانِعَةٍ فَيَضُمُّهُ إِلَيْهِ وَيُصَيِّرُهُ تَحْتَهُ، فَعَلِمْتُ أَنَّ اللهَ غَالِبُ أَمْرِهِ وَمُتَوَفٍّ عُمَرَ، فَمَا أُرِيدُ أَتَحَمَّلُهَا حَيًّا وَمَيِّتًا، عَلَيْكُمْ هَؤُلَاءِ الرَّهْطَ الَّذِينَ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ»: سَعِيدُ بْنُ زَيْدِ بْنْ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ مِنْهُمْ وَلَسْتُ مُدْخِلَهُ، وَلَكِنِ السِّتَّةُ: عَلِيٌّ، وَعُثْمَانُ ابْنَا عَبْدِ مَنَافٍ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَسَعْدٌ خَالَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ حَوَارِيُّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَابْنُ عَمَّتِهِ، وَطَلْحَةُ الْخَيْرِ ابْنُ عُبَيْدِ اللهِ، فَلْيَخْتَارُوا مِنْهُمْ رَجُلًا فَإِذَا وَلَّوْا وَالِيًا فَأَحْسِنُوا مُؤَازَرَتَهُ وَأَعِينُوهُ، وَإِنِ ائْتَمَنَ أَحَدًا مِنْكُمْ فَلْيُؤَدِّ إِلَيْهِ أَمَانَتَهُ.
فَخَرَجُوا فَقَالَ الْعَبَّاسُ لِعَلِيٍّ: لَا تَدْخُلْ مَعَهُمْ.
قَالَ: أَكْرَهُ الْخِلَافَ. قَالَ: إِذًا تَرَى مَا تَكْرَهُ.
فَلَـمَّا أَصْبَحَ عُمَرُ دَعَا عَلِيًّا، وَعُثْمَانَ، وَسَعْدًا، وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ، وَالزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ، فَقَالَ: إِنِّي نَظَرْتُ فَوَجَدْتُكُمْ رُؤَسَاءَ النَّاسِ وَقَادَتَهُمْ، وَلَا يَكُونُ هَذَا الْأَمْرُ إِلَّا فِيكُمْ، وَقَدْ قُبِضَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ عَنْكُمْ رَاضٍ، إِنِّي لَا أَخَافُ النَّاسَ عَلَيْكُمْ إِنِ اسْتَقَمْتُمْ، وَلَكِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمُ اخْتِلَافَكُمْ فِيمَا بَيْنَكُمْ فَيَخْتَلِفُ النَّاسُ، فَانْهَضُوا إِلَى حُجْرَةِ عَائِشَةَ بِإِذْنٍ مِنْهَا فَتَشَاوَرُوا وَاخْتَارَوا رَجُلًا مِنْكُمْ.
ثُمَّ قَالَ: لَا تَدْخُلُوا حُجْرَةَ عَائِشَةَ وَلَكِنْ كُونُوا قَرِيبًا، وَوَضَعَ رَأْسَهُ وَقَدْ نَزَفَهُ الدَّمُ.
فَدَخَلُوا فَتَنَاجَوْا ثُمَّ ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمْ فَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَر:
سُبْحَانَ اللهِ إِنَّ أَمِيرَ الْـمُؤْمِنِينَ لَمْ يَمُتْ بَعْدُ، فَأَسْمَعَهُ فَانْتَبَهَ، فَقَالَ: أَلا أَعْرِضُوا عَنْ هَذَا أَجْمَعُونَ، فَإِذَا مِتُّ فَتَشَاوَرُوا ثَلَاثَة أَيَّامٍ وَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ صُهَيْبٌ، وَلَا يَأْتِيَنَّ الْيَوْمُ الرَّابِعُ إِلَّا وَعَلَيْكُمْ أَمِيرٌ مِنْكُمْ، وَيَحْضُرُ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ مُشِيرًا وَلَا شَيْءَ لَهُ مِنَ الْأَمْرِ، وَطَلْحَةُ شَرِيكُكُمْ فِي الْأَمْرِ، فَإِنْ قَدِمَ فِي الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ فَأَحْضِرُوهُ أَمْرَكُمْ، وَإِنْ مَضَتِ الْأَيَّامُ الثَّلَاثَةُ قَبْلَ قُدُومِهِ فَاقْضُوا أَمْرَكُمْ. مَنْ لِي بِطَلْحَةَ؟ فَقَالَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ: أَنا لَكَ بِهِ وَلَا يُخَالِفُ إِنْ شَاءَ اللهُ، فَقَالَ عُمَرُ: أَرْجُو أَنْ لَا يُخَالِفَ إِنْ شَاءَ اللهُ، وَمَا أَظُنُّ أَنْ يَلِيَ هَذَا الْأَمْرَ إِلَّا أَحَدُ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ، عَلِيٌّ، أَوْ عُثْمَانُ.
فَإِنْ وَلِي عُثْمَانُ فَرَجُلٌ فِيهِ لِينٌ، وَإِنْ وَلِي عَلِيٌّ فَفِيهِ دُعَابَةٌ، وَأَحْرَى بِهِ أَنْ يَحْمِلَهُمْ عَلَى طَرِيقِ الْحَقِّ.
وَإِنْ تُوَلُّوا سَعْدًا فَأَهْلُهَا هُوَ، وَإِلَّا فَلْيَسْتَعِنْ بِهِ الْوَالِي فَإِنِّي لَمْ أَعْزِلْهُ عَنْ خِيَانَةٍ وَلَا ضَعْفٍ، وَنِعْمَ ذُو الرَّأْيِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، مُسَدَّدٌ رَشِيدٌ لَهُ مِنَ اللهِ حَافِظٌ، فَاسْمَعُوا مِنْهُ.
وَقَالَ لِأَبِي طَلْحَةَ الْأَنْصَارِيِّ: يَا أَبَا طَلْحَة إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ طَالَـمَا أَعَزَّ الْإِسْلَامَ بِكُمْ، فَاخْتَرْ خَمْسِينَ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ فَاسْتَحِثَّ هَؤُلَاءِ الرَّهْطَ حَتَّى يَخْتَارُوا رَجُلًا مِنْهُمْ.
وقَالَ لِلْمِقْدَادِ بْنِ الْأسْوَدِ: إِذَا وَضَعْتُمُونِي فِي حُفْرَتِي فَاجْمَعْ هَؤُلَاءِ الرَّهْطَ حَتَّى يَخْتَارُوا رَجُلًا مِنْهُمْ.
وَقَالَ لِصُهَيْبٍ: صَلِّ بِالنَّاسِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَأَدْخِلْ عَلِيًّا، وَعُثْمَانَ، وَالزُّبَيْرَ، وَسَعْدًا، وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ، وَطَلْحَةَ إِنْ قَدِمَ، وَأَحْضِرْ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَر وَلَا شَيْءَ لَهُ مِنَ الْأَمْرِ، وَقُمْ عَلَى رُؤُوسِهِمْ، فَإِنِ اجْتَمَعَ خَمْسَةٌ وَرَضُوا رَجُلًا وَأَبَى وَاحِدٌ، فَاشْدَخْ رَأْسَهُ، أَوِ اضْرِبْ رَأْسَهُ بالسَّيْفِ.
وإِنِ اتَّفَقَ أَرْبَعَةٌ فَرَضُوا رَجُلًا مِنْهُمْ، وَأَبَى اثْنَانِ فَاضْرِبْ رُؤُوسَهُمَا.
فَإِنْ رَضِيَ ثَلَاثَةٌ رَجُلًا مِنْهُمْ، وَثَلَاثَةٌ رَجُلًا مِنْهُمْ، فَحَكِّمُوا عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَر، فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ حُكِمَ لَهُ فَلْيَخْتَارُوا رَجُلًا مِنْهُمْ، فَإِنْ لَمْ يَرْضَوْا بِحُكْمِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ فَكُونُوا مَعَ الَّذِينَ فِيهِمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَاقْتُلُوا الْبَاقِينَ إِنْ رَغِبُوا عَمَّا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ النَّاسُ.
(« تَارِيخ الطَّبَرِيِّ » (3/292).
قُلْتُ:
هَذِهِ رِوَايَةُ أَبِي مِخْنَفٍ وَفِيهَا مُخَالَفَاتٌ ظَاهِرَةٌ لِلرِّوَايَةِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي أَخْرَجَهَا الْبُخَارِيُّ، ثُمَّ فِيهَا زِيَادَاتٌ مُنْكَرَةٌ، مِنْهَا:
اسْتِبَاحَةُ عُمَرَ دِمَاءَ مَنْ قَالَ هُوَ عَنْهُمْ: «إِنَّ رَسُولَ اللهِ مَاتَ وَهُوَ عَنْهُمْ رَاضٍ»!!
سُبْحَانَ اللهِ! كَيْفَ يَسْتَحِلُّ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ رِقَابَ أُولَئِكَ الصَّحَابَةِ الْأَجِلَّةِ: عُثْمَانَ، وَعَلِيٍّ، وَطَلْحَةَ، وَالزُّبَيْرِ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ،
فهَذَا يُظْهِرُ لَكَ كَذِبَ هَذِهِ الرِّوَايَةِ، ثُمَّ مَنْ سَيَجْرُؤُ عَلَى التَّنْفِيذِ؟ وَهَلْ سَيُتْرَكُ؟
إِنَّهُ التَّلْفِيقُ، وَلَا شَيْءَ غَيْرُ التَّلْفِيقِ ثُمَّ التَّلْمِيحُ بَلِ التَّصْرِيحُ بِأَن عَلِيًّا هُوَ الْأَحَقُّ بِالْخِلَافَةِ.
* عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَحَقُّ بِالْخِلَافَةِ:
فَاجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَى عُثْمَانَ وَبَايَعُوهُ، وَهُوَ أَفْضَلُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: مَا كُنَّا نَعْدِلُ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَبِي بَكْرٍ أَحَدًا، ثُمَّ عُمُرَ، ثُمَّ عُثْمَانَ، ثُمَّ نَتْركُ بَقِيَّةَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا نُفَاضِلُ بَيْنَهُمْ.
(«صَحِيح الْبُخَارِيّ »، كِتَاب فَضَائِل الصّحَابَة، بَاب مَنَاقِب عُثْمَان، حَدِيث (3697).
وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ قَالَ: وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَسْمَعُنَا وَلَا يُنْكِرُهُ.
«الْـمعحم الْكَبِير » للطّبَرانيّ (12/13132)، وَ « السُّنَّة » للخلّالِ (ص 398) وَ « السّنة » لابْنِ أَبِي عَاصمٍ (553) وَقَالََ مُحقّقُهُ الْعلّامةُ الْأَلْبَانِيّ « إِسْنَادُه صَحِيح».
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ عَنْ بَيْعَةِ عُثْمَانَ: وَلينا أَعْلَاهَا ذَا فَوق.
« السُّنَّة » للخلالِ (ص 320).
وَلِذَلِكَ قَالَ الْإِمَامُ أَيُّوبُ بْنُ أَبِي تَمِيمَةَ السِّخْتِيَانِيُّ، وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالْإِمَامُ الدَّارَقُطْنِيُّ:
مَنْ قَدَّمَ عَلِيًّا عَلَى عُثْمَانَ فَقَدْ أَزْرَى بِالْـمُهَاجِرِينَ والْأَنْصَار.
وَذَلِكَ لِأَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنْ عَوْفٍ قَالَ: مَا تَرَكْتُ مِنْ بُيُوتِ الْـمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ بَيْتًا إِلَّا طَرَقْتُهُ فَمَا رَأَيْتُ أَحَدًا يَعْدِلُ بِعُثْمَانَ أَحَدًا. كُلُّهُمْ يُفَضِّلُون عُثْمَانَ.
وَبُوْيعَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ بِالْخِلَافَةِ بَيْعَةً عَامَّةً.
قالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ رَحِمَهُ اللهُ:
«مَا كَانَ فِي الْقَوْمِ أَوْكَدَ بَيْعَةٍ مِنْ عُثْمَانَ كَانَتْ بِإِجْمَاعِهِمِ»
«السُّنَّة» للخلالِ (ص 320).
وَالَّذِي عَلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ:
أَنَّ مَنْ قَدَّمَ عَلِيًّا عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فإِنَّه ضَالٌّ مُبْتَدِعٌ، وَمَنْ قَدَّمَ عَلِيًّا عَلَى عُثْمَانَ فَإِنَّهُ مُخْطِئٌ، وَلَا يُضَلِّلُونَهُ وَلَا يُبَدِّعُونَهُ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ قَدْ تَكَلَّمَ بِشِدَّةٍ عَلَى مَنْ قَدَّم عَلِيًّا عَلَى عُثْمَانَ بِأَنَّهُ قَالَ:
«مَنْ قَدَّمَ عَلِيًّا عَلَى عُثْمَانَ قَدْ زَعَمَ أَنَّ أَصْحَابَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، خَانُوا الْأَمَانَةَ حَيْثُ اخْتَارَوا عُثْمَانَ عَلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَنْهُمَا».