[ب]
أبو هريرة وعثمان بن عفان:
لم يذكر مصدر موثوق أنَّ عثمان كَذَّبَ أبا هريرة كما ادَّعَى النظَّام وغيره، كما لم يثبت أنه طعن فيه أو منعه من التحديث، وكل ما هنالك رواية ذكرها ابن خلاَّد قال: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ هَارُونَ بْنِ عِيسَى، - يَنْزِلُ جَبَلَ رَامَهُرْمُزَ - حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ بِسْطَامٍ، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ مُحَمَّدٍ، قَالَ: أَظُنُّهُ ابْنَ يُوسُفَ قَالَ: سَمِعْتُ السَّائِبَ بْنَ يَزِيدَ يُحَدِّثُ قَالَ: أَرْسَلَنِي عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ إِلَى أَبِي هُرَيْرَةَ فَقَالَ: قُلْ لَهُ: «يَقُولُ لَكَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ: مَا هَذَا الْحَدِيثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَقَدْ أَكْثَرْتَ، لَتَنْتَهِيَنَّ أَوْ لأَلْحَقَنَّكَ بِجِبَالِ دَوْسٍ، وَأْتِ كَعْبًا، فَقُلْ لَهُ: «يَقُولُ لَكَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانُ: مَا هَذَا الْحَدِيثُ؟ قَدْ مَلأْتَ الدُّنْيَا حَدِيثًا، لَتَنْتَهِيَنَّ أَوْ لأَلْقِيَنَّكَ بِجِبَالِ الْقِرَدَةِ» (2).
إلاَّ أنَّ الخبر رُوِيَ عن عمر بن الخطاب، ولم نر إلاَّ هذه الرواية عن عثمان - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - وقد كانت صلة أبي هريرة قوية بأمير المومنين عثمان - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، مِمَّا لا يتصور أنْ يهدِّدهُ بالنفي، والمعقول أنْ ينصحه بالحُسنى، ولو صحَّت هذه الرواية، فليس فيها طعن في أبي هريرة، لأنه ينهاه عن الإكثار من الرواية عندما لا تكون هناك حاجة إلاَّ الإكثار منها، وأبو هريرة نفسه لم ير في هذا مطعناً، ولم يترك كل هذا أثراً في نفسه، فنراه يوم الدار يدافع عن الخليفة الراشد الثالث - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -
[ج] أبو هريرة وعَلِيٌّ بن أبي طالب - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -:
لم يحمل مصدر موثوق بين دفَّتيه ما يثبت أنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - كَذَّبَ أبا هريرة أو نهاه عن التحديث، إلاَّ أنَّ بعض أعداء أبي هريرة يستشهدون برواية عن أبي جعفر الإسكافي أنَّ عَلِيًّا لما بلغه حديث أبي هريرة قال: «أَلاَ إِنَّ أَكْذَبَ النَّاسِ - أَوْ قَالَ أَكْذَبَ الأَحْيَاءِ - رَسُولِ اللَّهِ أَبُو هُرَيْرَةَ الدَّوْسِيُّ» (1). هذه رواية ضعيفة مردودة لأنها من طريق الإسكافي وهو صاحب هوى دَاعٍ إلى هواه غير ثقة.
ومنها ما أروده النَظَّام على أبي هريرة أنَّ عَلِيًّا بلغه قول أَبِي هُرَيْرَةَ: «قَالَ خَلِيلِي، وَحَدَّثَنِي خَلِيلِي» فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: «مَتَى كَانَ النَبِيُّ خَلِيلُكَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟» (2). ومن الغريب أنَّ عبد الحُسين ينقل هذا في كتابه ويعزوه إلى ابن قتيبة (3)، بينما ينقله ابن قتيبة عن النظَّام ليرُدَّ عليه، وهذا خطأ كبير، إنْ لم يكن تدليساً لا يغتفر مثله مِمَّنْ ادَّعَى البحث العلميَّ والذوق الفني.
وَرَدَّ ابن قتيبة قول النظَّام بما مُلخَّصُهُ: أنَّ الخُلَّة بمعنى المصافاة والصداقة درجتان إحداهما ألطف من الأخرى، فمن الخلة التي هي أخص قول الله تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} (4).
وقول رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ خَلِيلاً لاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلاً». وأما الخلة التي تعم هي الخلة التي جعلها الله تعالى بين المؤمنين فقال: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} (5).
فَعَلِيٌّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - يقصد النوع الأول فأنكر عليه قوله لأنَّ رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يتَّخّ خليلاً من هذا النوع ولو اتَّخذ لاتَّخذ أبا بكر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، وذهب أبو هريرة إلى الخلة التي جعلها الله تعالى بين المؤمنين، والولاية فإنَّ رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من هذه الجهة خليل كل مؤمن ووَلِيُّ كل مسلم (1). وهل في هذا تكذيب لأبي هريرة!؟.
ومن أعجب ما رأيت في هذا الباب ما ادَّعاهُ النظَّام إذ قال: «وَبَلَغَ عَلِيًّا أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يَبْتَدِئُ بِمَيَامِنِهِ فِي الْوُضُوءِ، وَفِي اللِّبَاسِ. فَدَعَا بِمَاءٍ فَتَوَضَّأَ، فَبَدَأَ بِمَيَاسِرِهِ، وَقَالَ: لأُخَالِفَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ» (2). وقد نقل هذا الخبر عبد الحُسين، ومِمَّا يؤسف له أنه عزاه إلى ابن قتيبة (3)، وابن قتيبة بريء منه إنما أورده للردِّ على النظَّام، وهكذا نعود ثانية فنكشف عن عدم الأمانة العلمية التي ثبتت على المؤلف في أكثر من موضع.
هل يقبل إنسان يحب عَلِيًّا - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، ويرى فيه إمام أهل البيت وحامل راية الحق، وأمير المؤمنين الذي «مع القرآن والقرآن مع عَلِيٍّ لن يفترقا حتى يَرِدَا الحوض على رسول الله، وعَلِيٌّ مع الحق والحق مع عَلِيٍّ يدور معه كيف دار» (4). هل يقبل إنسان يؤمن بهذا أنْ يصدر عن إمامه مثل هذا الخبر؟. بل هل يُصَدِّقُ مثل تلك الرواية؟. وأغرب من هذه وتلك أنه يورد هذه القصة ليستشهد بها على طعن أمير المؤمنين عَلِيٌّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، وإنَّ عَلِيًّا بريء من هذا الحادثة، وإني لأؤكد أنَّ هذه الرواية موضوعة وقد صنعتها يد أعداء أمير المؤمنين، بل إنَّ كل من يدَّعِي صحتها نشك في حُبِّهِ لعَلِيٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -. وهو الذي ثبت عنه في الصحاح: أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، فَدَعَا بِوَضُوءٍ، ... فَقَالَ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، أَلا أَتَوَضَّأُ لَكَ وُضُوءَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ - قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - قُلْتُ: بَلَى، فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي. قَالَ: " فَوُضِعَ لَهُ إِنَاءٌ ... ، ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ الْيُمْنَى إِلَى الْمِرْفَقِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ يَدَهُ الأُخْرَى مِثْلَ ذَلِكَ (1). وهذا الخبر صحيح يعارض الخبر السابق الضعيف. وإنَّ من الخطأ الذي لا يغتفر، أنْ ينساق المرء وراء ميوله وأهوائه، حتى ينتهي إلى ما يخالف به أصوله وسيرة قدوته. ويستشهد بما يطعن في مرشده ومعلمه، لقد ثبت تمسك عَلِيٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - بسُنَّة رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فهل يعقل أنْ يخالف سُنَّة الرسول الكريم، لأنه يسيء الظن بأبي هريرة؟ لا يقول هذا أحد قط وإنْ قاله فهو من أعداء عَلِيٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - لا من شيعته. فكان من الخير لعبد الحسين الذي يدَّعي أنه من أتباع المؤمنين أنْ يَعَضَّ على حجر، أو على جمرة حتى يحترق لسانه من أنْ يستشهد بما يخالف الحقيقة والتاريخ.
...
[د] أبو هريرة وعائشة:
لقد طال العهد بعائشة أم المؤمنين وبأبي هريرة، فاحتاج الناس إليهما كثيراً، فروى عنهما من الحديث ما لم يرو عن غيرهما، وقد كان أبو هريرة يُحَدِّثُ، فتستدرك عليه السيدة عائشة تارة، وتصدُّقه أخرى، كما كان يُحَدِّثُ مع غيره من الصحابة، فقد استدركت (2) على أبي بكر وعمر وعثمان وعَلِيٍّ، وعلى ابن عمر، وعلى أبي هريرة ... وكل ذلك كان من باب التفاهم والسؤال عن الحديث، أو الدليل في المسألة التي يفتي بها المسؤول، كما استدرك غيرها عليها، كما أنها كانت توجه من يسألها أحياناً إلى من هو أعرف منها في تلك المسألة، وقد ثبت أنها وجَّهت من سألها عن مسح الخف إلى عَلِيٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - (3)، وفي كل هذا لم يشعر الصحابة بغضاضة أو حرج، لأنَّ هدفهم واحد، وهو تطبي الشريعة، وما كان الصحابة يُكَذِّبُ بعضهم بعضاً. إلاَّ أنَّ من جاء بعدهم من أهل الأهواء استغلوا ما دار بين الصحابة من النقاش العلميِّ، أو التثبت في الحديث، وجعلوا منه مادة طيبة ينفذون من خلالها إلى مآربهم، ويحقِّقُون غاياتهم. ولكنهم لم يفلحوا، لأنَّ الأمَّة لم تعدم العلماء المخلصين، والساهرين النابهين، الذي بَيَّنُوا الحق من الباطل، ووضعوا كل شيء في موضعه.
ومِمَّا أخذه النظَّام على أبي هريرة حديث: «مَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا، فَلاَ صِيَامَ لَهُ» (1) وإليكم الحديث كما رواه مسلم قال:
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، - وَاللَّفْظُ لَهُ - حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ (2)، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، يَقُصُّ (و) يَقُولُ فِي قَصَصِهِ: «مَنْ أَدْرَكَهُ الْفَجْرُ جُنُبًا فَلاَ يَصُمْ». قَالَ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ (فَذَكَرَهُ) (3) - لأَبِيهِ - فَأَنْكَرَ ذَلِكَ، فَانْطَلَقَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَانْطَلَقْتُ مَعَهُ، حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فَسَأَلَهُمَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَنْ ذَلِكَ، قَالَ: فَكِلْتَاهُمَا قَالَتْ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصْبِحُ جُنُبًا مِنْ غَيْرِ حُلُمٍ، ثُمَّ يَصُومُ» قَالَ: فَانْطَلَقْنَا حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى مَرْوَانَ (4)، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، فَقَالَ مَرْوَانُ: عَزَمْتُ عَلَيْكَ إِلاَّ مَا ذَهَبْتَ إِلَى أَبِي هُرَيْرَةَ، فَرَدَدْتَ عَلَيْهِ مَا يَقُولُ: قَالَ: فَجِئْنَا أَبَا هُرَيْرَةَ، وَأَبُو بَكْرٍ حَاضِرُ ذَلِكَ كُلِّهِ، قَالَ: فَذَكَرَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَهُمَا قَالَتَاهُ لَكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: هُمَا أَعْلَمُ، ثُمَّ رَدَّ أَبُو هُرَيْرَةَ مَا كَانَ يَقُولُ فِي ذَلِكَ إِلَى الْفَضْلِ بْنِ الْعَبَّاسِ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: سَمِعْتُ ذَلِكَ مِنَ الْفَضْلِ، وَلَمْ أَسْمَعْهُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: فَرَجَعَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَمَّا كَانَ يَقُولُ فِي ذَلِكَ. قُلْتُ لِعَبْدِ الْمَلِكِ: أَقَالَتَا: فِي رَمَضَانَ؟ قَالَ: كَذَلِكَ كَانَ يُصْبِحُ جُنُبًا مِنْ غَيْرِ حُلُمٍ ثُمَّ يَصُومُ.
فهل هذا ينتقص من عدالة أبي هريرة؟ إنَّ عائشة وأم سلمة لم تقولا فيه شيئاً بل رَوَتَافعل رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصومه.
ثم إنَّ أبا هريرة عندما بَلَّغُوهُ قول عائشة وأم سلمة، تأكد منهم «أَهُمَا قَالَتَاهُ لَكَ؟»، لم يتأخَّر عن أن يقول: «هُمَا أَعْلَمُ» ويُبَيِّنُ لهم مِمَّنْ سمع ذلك. فأبو هريرة أمين في ذلك كله، إنه لم يُصَّرِّحْ في حديثه قط أنه سمع (1) ذلك من رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بل كان يقص على الناس ويفتيهم، ومع هذا فإنَّ لقول أبي هريرة وجهات يمكن أنْ أبيِّنها.
أولاً: أنْ يكون قوله محمولاً على النسخ، وذلك أنَّ الجماع كان في أول الإسلام محرماً على الصائم في الليل بعد النوم كالطعام والشراب، فلما أباح الله الجماع إلى طلوع الفجر جاز للجنب إذا أصبح قبل أنْ يغتسل أنْ يصوم ذلك اليوم، لارتفاع الحظر، وكان أبو هريرة يفتي بما سمعه من الفضل على الأمر الأول، ولم يعلم بالنسخ، فلما سمع من عائشة وأم سلمة صار إليه (2).
ثانياً: أنْ يكون حديث أبي هريرة هذا خاصاً بمن تجنَّب من الجماع بعد طلوع الفجر فإنه يؤمر بالإمساك، ولا يعتدُّ له بصوم ذلك اليوم (1).
ثالثاً: حمل حديث أبي هريرة على كمال الصوم، وأنه إرشاد إلى الافضل وهو الاغتسال قبل الفجر، وقد تركه رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لذلك في حديث عائشة وأم سلمة، لبيان الجواز (2).
وبالرأي الأول أقول وإليه أذهب، وإني أراه أقوى الأوجه علماً بأنَّ الرأي الثالث يوفق بين الحديثين من غير أنْ يكون هناك ناسخ ومنسوخ. ذلك هو الحديث ووجهه، إلاَّ أنَّ أَبَا رِيَّة، بعد أنْ ذكر قول عائشة - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا -، ورجوع أبي هريرة. قال: «فلم يسعه إزاء ذلك إلاَّ الإذعان والاستحذاء!! وقال: إنها أعلم مني، وأنا لم أسمعه من النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإنما سمعته من الفضل بن العباس، فاستشهد ميتاً، وأوهم الناس أنه سمع الحديث من رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كما قال ابن قتيبة في " تأويل مختلف الحديث "» (3).
نأخذ على أَبِي رِيَّة في هذا التعليق أمرين:
الأول: لم يستشهد أبو هريرة ميتاً بل ثبت أنه عزا الحديث إلى الفضل بن العباس، وإلى أسامة بن زيد (4)، في رواية. وأسامة بن زيد توفي سَنَةَ [54] وفي قول [58 أو 59] والحادثة وقعت في ولاية مروان على المدينة، وكانت قبل سنة [57]، فمن المحتمل أنْ تكون وقعت في حياة أسامة بن زيد قبل سَنَةِ [54]، وإن كانت وفاته على الرواية الثانية فإنها تؤكِّدُ لنا وقوع الحادثة في حياة أسامة، فلا يكون أبو هريرة قد استشهد ميتاً، كما قال أَبُو رِيَّة.
الثاني: أنَّ أَبَا رِيَّة عزا الرواية إلى ابن قتيبة، إلاَّ أنَّ القائل هو النَظَّام، وابن قتيبة بريء من أنْ يفتري على أبي هريرة، إنما ساق قول النَظَّام ليرد عليه: (انظر " تأويل مختلف الحديث ": ص 28) ومن يتهاون في نسبة الآراء إلى أصحابها على هذا النحو - هل يؤتمن في قول؟ أو يقبل قدحه في أبي هريرة؟!.
وأما قول مروان لعبد لرحمن: «عَزَمْتُ عَلَيْكَ إِلاَّ مَا ذَهَبْتَ إِلَى أَبِي هُرَيْرَةَ، فَرَدَدْتَ عَلَيْهِ مَا يَقُولُ». فإنَّ مروان يريد أنْ ينتقم ويثأر لنفسه من أبي هريرة، الذي رَدَّ عليه رَدًّا مُفحماً، حين عارض في دفن الحسن إلى جوار جده، ولعله أراد أنْ يرده إلى الصواب والحق.
وليس في كل ما سبق ذكره أي دليل على تكذيب أبي هريرة - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، ومنها أنه روى حديثاً في النهي عن المشي بالخف الواحد فبلغ ذلك عائشة فمشت بخف واحد، وقالت: «لأُخَالِفَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ» (1).
فالحديث احتجَّ به النظَّام ليطعن في أبي هريرة، وَرَدَّ ابن قتيبة عليه افتراءه. وقد ذكر أبو القاسم البلخي هذا الحديث عن عائشة - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - أنها دخلت في خفها حسكة فمشت في خف واحد وقالت: «لأُحَنِّثَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ ... إِنَّهُ يَقُولُ لاَ يَمْشِي فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ وَلاَ خُفٍّ وَاحِدٍ» (2).
هذه الرواية تبيِّنُ سبب مشيها في الخف الواحد. وأما قولها: «لأُحَنِّثَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ» فإنه لا يتجاوز باب المزاح والمرح، الذي عُرِفَ به الصحابة.
وقد أخرج حديث (النهي عن المشي في خف أو نعل واحدة) الشيخان، كما رواه مسلم عن جابر. ورواه الإمام أحمد عن أبي هريرة (3).
ويُرْوَى عن عائشة من طريق مندل بن علي بن ليث بن أبي سليم: «أنَّ رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، رُبَّمَا انْقَطَعَ شِسْعُ (4) نَعْلِهِ فَمَشَى فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ»، ومندل وليث ضعيفان لا حُجَّة فيما نقلا منفردين (5).
وقد رُوِيَ عنها أنها مشت في خف واحد وقالت: «لأُخُشَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ» (1) فعائشة لم تُكَذِّبْ أبا هريرة، وإنْ صحَّ عنها ما روي من مخالفته فهو مجرد رأي، والرأي لا يعارض السُنن، ثم إنَّ أبا هريرة لم يتفرَّدْ بالحديث.
ومن هذا ما رواه ابن شهاب أنَّ عُروة بن الزبير حدَّثه أنَّ عائشة قالت: «أَلاَ يُعْجِبُكَ أَبُو هُرَيْرَةَ؟ جَاءَ فَجَلَسَ إِلَى جَانِبِ حُجْرَتِي، يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يُسْمِعُنِي ذَلِكَ، وَكُنْتُ أُسَبِّحُ (2) فَقَامَ قَبْلَ أَنْ أَقْضِيَ سُبْحَتِي، وَلَوْ أَدْرَكْتُهُ لَرَدَدْتُ عَلَيْهِ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَسْرُدُ الحَدِيثَ كَسَرْدِكُمْ» (3) كأنها تنتقد أبا هريرة في سرعة إلقائه وعدم تَرَيُّثِهِ.
إنَّ إنكار عائشة - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - على أبي هريرة لم يكن مُوَجَّهاً إلى ما يُحَدِّثُ به، إنما أنكرت عليه أنْ يسرد حديث رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ويظهر هذا فيما رُوِيَ عنها: إِنَّمَا «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَدِّثُ حَدِيثًا، لَوْ عَدَّهُ الْعَادُّ لأَحْصَاهُ» (4).
ولو أنكرت عائشة عليه غير سرده للحديث لقالت وبيَّنَتْ، وهي الجريئة الصريحة، فأبو هريرة لم يَكْذِبْ على رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولم يخطئ أثناء تحديثه حتى تُكَذِّبَهُ عائشة، فكل ما كان منه أنه كان يسرد الحديث ويكثر منه في مجلسه، فأي شيء يضير أبا هريرة إذا كان مُتَيَقِّظاَ متنبِّهاً عارفاً لما يروي؟!.
قال أبو حاتم بن حبان: «قَوْلُ عَائِشَةَ: " لَرَدَدْتُ عَلَيْهِ " أَرَادَتْ بِهِ سَرْدَ الْحَدِيثِ لاَ الحَدِيثَ نَفْسَهُ» (1). قال ابن حجر: واعتذر «عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِأَنَّهُ كَانَ وَاسِعَ الرِّوَايَةِ كَثِيرَ الْمَحْفُوظِ فَكَانَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنَ الْمَهَلِ عِنْدَ إِرَادَةِ التَّحْدِيثِ كَمَا قَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ أُرِيدُ أَنْ أَقْتَصِرَ فَتَتَزَاحَمُ الْقَوَافِي عَلَى فِيَّ» (2).
ومن العجيب أنَّ بعض الكُتَّابِ الذين ناصبوا أبا هريرة العداء، يستشهدون ببعض الأخبار الضعيفة أو الثابتة التي تدل على خلاف بين أبي هريرة والصحابة، ولا يتعرَّضون للروايات التي تُبَيِّنُ صدقه وأمانته وثناء الصحابة عليه، فهم دائماً ينظرون إليه من جانب واحد ويتناسون الجانب الآخر الذي يُبَيِّنُ علمه ومنزلته بين أصحابه. وجميع ما استشكله هؤلاء قد أجيب عنه إجابة علمية مقنعة، ولولا ضيق المقام، لذكرت جميع ما دار بين عائشة وأبي هريرة - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -، فحديث «إِنَّمَا الطِّيَرَةُ فِي الْمَرْأَةِ» حَلَّلَهُ وأجاب عنه الزركشي وبَيَّنَ الأحاديث المروية في ذلك وبَيَّنَ أنَّ أبا هريرة لم ينفرد به، بل ذكر أيضاً ما يعارضه وبَيَّنَ أنه لا مأخذ على أبي هريرة (3) كما بَيَّنَ قول أبي هريرة «مَنْ غَسَّلَ مَيِّتًا اغْتَسَلَ وَمَنْ حَمَلَهُ تَوَضَّأَ» (4).
ولا بد لي من أنْ أُنْهِي هذه الفقرة عن موقف عائشة من أبي هريرة بمناقشة صاحب كتاب " أضواء على السُنَّة " فيما قاله، قال: «ولما قالت له (لأبي هريرة) عائشة: إنك لتُحَدِّثُ حديثاً ما سمعته من النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أجابها بجواب لا أدب فيه، ولا وقار: إذ قال لها - كما رواه ابن سعد والبخاري وابن كثير وغيرهم: شغلك عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المرآة والمكحلة! وفي رواية - ما كانت تشغلني عنه المكحلة والخضاب ولكن أرى ذلك شغلك!!! على أنه لم يلبث أنْ عاد فشهد بأنها أعلم منه وأنَّ المرآة والمكحلة لم يشغلاها» (1).
إنَّ القصة التي يشير إليها الكاتب رواها ابن سعد عَمْرُو بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الأُمَوِيُّ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ لأَبِي هُرَيْرَةَ: «إِنَّكَ لَتُحَدِّثُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَدِيثًا مَا سَمِعْتُهُ مِنْهُ». فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: «يَا أُمَّهْ! طَلَبْتُهَا وَشَغَلَكِ عَنْهَا الْمِرْآةُ وَالْمُكْحُلَةُ وَمَا كَانَ يَشْغَلُنِي عَنْهَا شَيْءٌ» (2).
وروى الذهبي القصة من طريق إسحاق بن سعيد عن أبيه قال: دَخَلَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَلَى عَائِشَةَ، فَقَالَتْ لَهُ: «أَكْثَرْتَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُوْلِ اللهِ». قَالَ: «إِيْ - وَاللهِ - يَا أُمَّاهُ، مَا كَانَتْ تَشْغَلُنِي عَنْهُ المِرْآةُ وَلاَ المُكْحُلَةُ وَلاَ الدُّهْنُ». قَالَتْ: «لَعَلَّهُ» (3). وروى نحو هذا ابن عساكر وابن كثير (4).
هل خرج أبو هريرة عن حدود الأدب مع السيِّدة عائشة - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا -!؟ إنه يدافع عن نفسه عندما استكثرت ما يُحَدِّثُ به، فبيَّن لها أنه كان يطلب الحديث وأنها شغلت عما استكثرته من أبي هريرة بحياتها المنزلية، وهو شأن كل امرأة في بيت الزوجية، عليها مسؤوليات كثيرة لا تتيح لها أنْ تسير مع زوجها في كل مكان، أو ترافقه في جميع أنواع حياته.
فلم تُكَذِّبْهُ السيِّدة أم المؤمنين، بل قالت: «لَعَلَّهُ». ونرى الروايات تعيد الضمير في قوله: (شغلك عنه) إلى كثرة الحديث ولكن أَبَا رِيَّةَ أعاده للرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لِيُصَوِّرَ شناعة قول أبي هريرة وكيف رأى أدبه خروجاً على الأدب والوقار؟ وهذا لا يليق بالبحث العلمي.
أما قوله بعد ذلك (أنه لم يثبت أنْ عاد فشه بأنها أعلم منه). فهذا غير صحيح ولا يقوله إلاَّ متحامل، لأنه لا يوجد أي تعارض بين الروايتين، فهذه القصة تتناول حفظ أبي هريرة وكثرة حديثه، ولم يتراجع أبو هريرة عما رواه، بل سَمِعَتْ منه عائشة دفاعه عن نفسه واقتنعت بما قال.
وهناك ما يثبت أنَّ السيِّدة عائشة أم المؤمنين - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - لم تنكر على أبي هريرة - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - كثرة ما يَرْوِي بل صَدَّقَتْهُ، فقد روى الرامهرمزي بسنده عَنْ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ: قِيلَ لِعَائِشَةَ: إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يُكْثِرُ الْحَدِيثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: «أَدْنُوهُ مِنِّي»، فَأَدْنُوهُ فَقَالَتْ: «أَذَكَّرْتَنِي شَيْئًا سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» وَذَكَرَ الْحَدِيثَ (1).
وأما القصة الثانية «مَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا، فَلاَ صَوْمَ عَلَيْهِ» وتراجع أبي هريرة فقد بيَّنتُ فيما سبق وجهتها، ولا شك أنَّ عائشة أعلم بهذا منه، لأنَّ هذا خاص لم يطَّلِعْ عليه أبو هريرة، فهل في دعوته عن رأيه تكذيب من عائشة له؟ ثم من تعمق في البحث يجد أنَّ أبا هريرة عاد عن فتواه التي بناها على ما أخبره به الفضل بن العباس في رواية وأسامة بن زيد في رواية أخرى. وأنَّ رجوعه هذا لم يكن رجُوعاً عن حديث حَدَّثَ به (2).
وهذه الأفضلية لأبي هريرة يشكر عليها، لأنه تمسَّك بالحق وعدل عن رأيه. ثم إنَّ السيدة عائشة لم تكن معارضة لأبي هريرة دائماً بل ناصرته في مواقف كثيرة، قالت: «صَدَقَ أَبُو هَرَيْرَةُ»، وقد مَرَّ بنا شيء من هذا في ترجمته وسَيَمُرُّ بعض ذلك فيما يلي.
http://shamela.ws/browse.php/book-29...e-153#page-210