الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو على فراش الموت:
اللحظات الأخيرة للفاروق لم تنسه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلم يتخل عنه حتى وهو يواجه الموت بكل آلامه وشدائده، ذلك أن شاباً دخل عليه لما طُعن، فواساه، وقال: أبشر يا أمير المؤمنين ببشرى الله لك، من صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقَدَم في الإسلام ما قد علمت، ثم وُلِّيت فعدلت، ثم شهادة، قال -أي عمر- ودِدْت أن ذلك كفاف، لا عليّ ولا لي، فلما أدبر إذا إزاره يَمسُّ الأرض، قال رُدُّوا عليّ الغلام، قال:
يا ابن أخي، ارفع ثوبك فإنه أنقَى لثوبك وأتقى لربك، وهكذا لم يمنعه رضي الله عنه ما هو فيه من الموت عن الأمر بالمعروف ولذا، قال ابن مسعود رضي الله عنه فيما رواه عُمر بن شبة: يرحم الله عمر لم يمنعه ما كان فيه من قول الحق...
مع حفصة ينصحها ويحذرها:
من عنايته الفائقة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو على فراش الموت، لما دخلت عليه ابنته حفصة رضي الله عنها فقالت: يا صاحب رسول الله، ويا صهر رسول الله، ويا أمير المؤمنين، فقال عمر لابنه عبدالله بن عمر رضي الله عنهما: يا عبد الله: أجلسني فلا صبر لي على ما أسمع، فأسنده إلى صدره، فقال لها: (
إنّي أحرج عليك بمالي عليك من الحق أن تندبيني بعد مجلسك هذا، فأما عينك فلن أملكها)، وعن أنس بن مالك قال: لما طُعن عمر صرخت حفصة فقال عمر: (يا حفصة أما سمعتِ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ن المعول عليه يعذب؟)...
ومع صهيب له موقف:
وجاء صُهَيب رضي الله عنه فقال: "واعمراه" فقال: (ويلك يا صهيب، أما بلغك أن المعول عليه يعذب؟)، ومن شدته في الحق رضي الله عنه حتى بعد طعنه ونزف الدم منه أنه عندما قال له رجل: استخلف عبد الله بن عمر، فرد الفاروق غاضبا: والله ما أردت الله بهذا.
عبدالله بن عباس يبشر الفاروق:
عبدالله بن عباس حبر هذه الأمة يصف اللحظات الأخيرة في حياة الفاروق حيث يقول: دخلت على عمر حين طُعنْ، فقلت: أبشر بالجنة، يا أمير المؤمنين، أسلمت حين كفر الناس، وجاهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خذله الناس، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنك راضٍ، ولم يختلف في خلافتك اثنان، وقُتلت شهيداً..
فقال عمر: أعد عليَّ، فأعدت عليه، فقال: والله الذي لا إله إلا هو، لو أن لي ما في الأرض من صفراء وبيضاء لافتديت به من هول المطلع، وجاء في رواية البخاري، أما ما ذكرت من صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضاه فإن ذلك من الله جل ذكره منَّ به علي، وأما ما ترى من جزعي فهو من أجلك وأجل أصحابك، والله لو أن لي طِلاع الأرض ذهباً لافتديت به من عذاب الله عز وجل قبل أن أراه).
من كان بالله أعرف كان من الله أخوف:
لقد كان عمر رضي الله عنه يخاف هذا الخوف العظيم من عذاب الله تعالى مع أن النبي صلى الله عليه وسلم شهد له بالجنة، ومع ما كان يبذل من جهد كبير في إقامة حكم الله والعدل والزهد والجهاد وغير ذلك من الأعمال الصالحة، وهذا عثمان رضي الله عنه يحدثنا عن اللحظات الأخيرة في حياة الفاروق فيقول: أنا آخركم عهداً بعمر، دخلت عليه، ورأسه في حجر ابنه عبد الله بن عمر فقال له: ضع خدي بالأرض، قال: فهل فخذي والأرض إلا سواء؟ قال ضع خدي بالأرض لا أم لك، في الثانية أو في الثالثة، ثم شبك بين رجليه، فسمعته يقول: ويلي، وويل أمي إن لم يغفر الله لي حتى فاضت روحه، فهذا مثل مما كان يتصف به أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه من خشية الله تعالى، حتى كان آخر كلامه الدعاء على نفسه بالويل إن لم يغفر الله جل وعلا له،
مع أنه أحد العشرة المبشرين بالجنة، ولكن من كان بالله أعرف كان من الله أخوف، وإصراره على أن يضع ابنه خده على الأرض من باب إذلال النفس في سبيل تعظيم الله عز وجل، ليكون ذلك أقرب لاستجابة دعائه، وهذه صورة تبين لنا قوة حضور قلبه مع الله جل وعلا.
ثلاث وستون سنة سن الأصحاب الثلاثة:
قال الذهبي: استشهد يوم الأربعاء لأربع أو ثلاث بقين من ذي الحجة، سنة ثلاث وعشرين من الهجرة، وهو ابن ثلاث وستين سنة على الصحيح، وكانت خلافته عشر سنين ونصفاً وأياماً، وجاء في تاريخ أبي زرعة عن جرير البجلي قال: كنت عند معاوية فقال:
توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاث وستين، وتوفي أبو بكر رضي الله عنه وهو ابن ثلاث وستين وقتل عمر رضي الله عنه وهو ابن ثلاث وستين.
في غسله والصلاة عليه ودفنه:
عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنه- غسل وكُفِّن، وصلي عليه، وكان شهيداً، وقد اختلف العلماء فيمن قتل مظلوماً هل هو كالشهيد لا يغسل أم لا؟ على قولين:
أحدهما: أنه يغسل، وهذا حجة لأصحاب هذا القول،
والثاني: لا يغسل ولا يصلى عليه، والجواب عن قصة عمر أن عمر عاش بعد أن ضرب وأقام مدة، والشهيد حتى شهيد المعركة لو عاش بعد أن ضرب حتى أكل وشرب أو طال مقامه فإنه يغسل، ويصلى عليه، وعمر طال مقامه حتى شرب الماء، وما أعطاه الطبيب، فلهذا غسل وصلي عليه رضي الله عنه.
من صلى عليه؟:
قال الذهبي: صلى عليه صهيب بن سنان، وقال ابن سعد: وسأل علي بن الحسين سعيدَ بن المسيب: من صلى على عمر؟ قال: صهيب، قال كم كبر عليه؟ قال: أربعاً، قال: أين صُلي عليه؟ قال: بين القبر والمنبر، وقال ابن المسيب: نظر المسلمون فإذا
صهيب يصلي لهم المكتوبات بأمر عمر رضي الله عنه فقدموه، فصلى على عمر، ولم يقدم عمر رضي الله عنه أحداً من الستة المرشحين للخلافة حتى لا يُظن تقديمه للصلاة ترشيحاً له من عمر، كما أن صهيباً كانت له مكانته الكبيرة عند عمر والصحابة رضي الله عنهم وقد قال في حقه الفاروق: نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه.
في دفنه رضي الله عنه:
الفاروق لم ينسَ رغبته في صحبة النبي وأبي بكر بعد موته، وقد كان عبدالله بن عمر واقفا مع أبيه الفاروق بعد طعنه، فالتفت إليه الفاروق وأوصاه بسداد دينه، ثم قال: وانطلق إلى عائشة أم المؤمنين فقل، يقرأ عليك عمر السلام، ولا تقل أمير المؤمنين، فإني لست اليوم للمؤمنين أميراً، وقل يستأذن عمر بن الخطاب أن يبقى مع صاحبيه.. فسلّم عبد الله بن عمر، واستأذن ثم دخل عليها فوجدها قاعدة تبكي، فقال: يقرأ عليك عمر بن الخطاب السَّلام، ويستأذن أن يدفن مع صاحبيه، فقالت: كنت أريده لنفسي، ولأوثرنّه به اليوم على نفسي، فلما أقبل، قيل: هذا عبد الله بن عمر قد جاء، قال: ارفعوني، فأسنده رجل إليه فقال: ما لديك؟ قال: الذي تحب يا أمير المؤمنين، أذنت، قال: الحمد لله، ما كان من شيء أهمُّ إليّ من ذلك.. فإذا أنا قضيت فاحملني ثم سلم فقل: يستأذن عمر بن الخطاب فإن أذنت لي فأدخلوني، وإن ردتني ردوني إلى مقابر المسلمين. قال:
فلما قبض خرجنا به، فانطلقنا نمشي، فسلّم عبد الله بن عمر، قال: يستأذن عمر بن الخطاب، قالت عائشة: أدخلوه، فأدخل، فوضع هنالك مع صاحبيه، فدفن في الحجرة النبوية، وذكر ابن الجوزي عن جابر قال: نزل في قبر عمر عثمان وسعيد بن زيد وصهيب وعبد الله بن عمر... ودفن رضي الله عنه مع صاحبيه..
لأبي الحسن علي بن أبي طالب مقالة عن صهره عمر:
قال ابن عباس: وضع عمر على سريره فتكنفه الناس يدعون ويصلون، قبل أن يرفع، وأنا فيهم، فلم يَرُعني إلا رجل آخذ منكبي، فإذا علي بن أبي طالب، فترحم على عمر وقال:
(ما خلفت أحداً أحبّ إليَّ أن ألقى الله بمثل عمله منك، وأيم الله إن كنت لأظن أن يجعلك الله مع صاحبيك، وحسبت أني كنت كثيراً أسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ذهبت أنا وأبو بكر وعمر، ودخلت أنا وأبو بكر وعمر وخرجت أنا وأبو بكر وعمر)...
مولى المغيرة لا جادتك غاديـةمن رحمة الله ما جادت غواديها
مزقت منه أديمـا حشـوه همـمفي ذمة الله عاليهـا و ماضيهـا
طعنت خاصرة الفاروق منتقمـامن الحنيفة في أعلـى مجاليهـا
فأصبحت دولة الإسـلام حائـرةتشكو الوجيعة لما مـات آسيهـا
مضى و خلّفها كالطود راسخـةو زان بالعدل و التقوى مغانيهـا
تنبو المعاول عنها و هي قائمـةو الهادمون كثير فـي نواحيهـا
حتـى إذا مـا تولاهـا مهدمهـاصاح الزوال بها فاندك عاليهـا
واها على دولة بالأمس قد ملأتجوانب الشرق رغدا في أياديهـا
كم ظللتها و حاطتهـا بأجنحـةعن أعين الدهر قد كانت تواريها
من العناية قد ريشـت قوادمهـاو من صميم التقى ريشت خوافيها
و الله ما غالها قدما و كـاد لهـاو اجتـث دوحتهـا إلا مواليهـا
لو أنها في صميم العرب ما بقيتلما نعاها علـى الأيـام ناعيهـا
ياليتهم سمعوا مـا قالـه عمـرو الروح قد بلغت منـه تراقيهـا
لا تكثروا من مواليكم فـإن لهـممطامع بَسَمَاتُ الضعف تخفيهـا
يتبع..