سلسلة (10)
قذائف المنقول والمعقول
على بدعة الأمير المجهول
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد :
تفصيلاً لما سبق من البند الأول في شروط الإمام التي ذكرها المجاهد الشيخ أبو عمر سيف رحمه الله :
وأورد ذلك تحت عنوان :
" الأمير إما عالمٌ مُجتهد معلوم يحكم بين الناس بحكمه واجتهاده ، وإما هو تبعٌ للعلماء المجتهدين المعلومين فيلتزم حُكمهم واجتهادهم "
قال أبو عمر سيف رحمه الله في السياسة الشرعية ص 129 ما نصه :
" الشرط الأول:
أن يكون عالما مجتهدا يستطيع الاجتهاد فيما يعرض عليه من شؤون البلاد ، ويسوس الدولة سياسة شرعية, فكما أن العلماء ورثة الأنبياء ، فكذلك الحكام يسيرون في سياسة الدولة بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم وهديه ، ولا يمكن لمن يجهل أحكام الشريعة أن يسوس البلاد والعباد سياسة شرعية ، ولهذا فالواجب أن يكون الإمام عالما مجتهدا يقود الناس على علم وبصيرة, وقد قال تعالى: { قَالُوۤاْ أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ ٱلْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِٱلْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ ٱلْمَالِ قَالَ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي ٱلْعِلْمِ وَٱلْجِسْمِ وَٱللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}، وفي كتاب السنة للخلال قال رجل لعمر رضي الله عنه في أمر الاستخلاف: " يا أمير المؤمنين فأين أنت عن عبد الله بن عمر؟ فقال: قاتلك الله, والله ما أردت بها الله, استخلف رجلا لم يحسن يطلق امرأته "، فتأمل قول عمر في ابنه عبد الله رضي الله عنهما وهو من كبار علماء الصحابة رضي الله عنهم ، وقال عمر رضي الله عنه : " تفقهوا قبل أن تسودوا " أخرجه ابن أبي شيبة وغيره وصححه الحافظ ابن حجر، وقال البخاري بعد هذا الأثر: "وبعد أن تسودوا " حتى لا يفهم أن السيادة مانعة من التعلم ، وهذا الأثر يدل على أهمية التعلم قبل الولاية ، حتى يسوس الأمير الرعية على بصيرة وعلم بكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. "
وخير ما أفتتح به تفصيل الباب كلام الملك الوهاب ، القائل في مُحكم الكتاب :
قال تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59النساء)
قال ابن كثير رحمه الله : وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس: { وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ } يعني: أهل الفقه والدين . وكذا قال مجاهد ، وعطاء ، والحسن البصري ، وأبو العالية: { وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ } يعني: العلماء. والظاهر -والله أعلم-أن الآية في جميع أولي الأمر من الأمراء والعلماء ، كما تقدم.
قال القرطبي رحمه الله في التفسير وكان ينتصر بأنهم العلماء : وقال جابر بن عبدالله ومجاهد : { أُولُو الأَمْرِ} أهل القرآن والعلم ؛ وهو اختيار مالك رحمه الله ، ونحوه قول الضحاك قال: يعني الفقهاء والعلماء في الدين .
ويقول رحمه الله : " وأصح هذه الأقوال الأول والثاني ؛ أما الأول فلأن أصل الأم منهم والحكم إليهم . "
إلى أن قال : القول الثاني _ يريد العلماء _ يدل على صحته قوله تعالى {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ } . فأمر تعالى برد المتنازع فيه إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، وليس لغير العلماء معرفة كيفية الرد إلى الكتاب والسنة؛ ويدل هذا على صحة كون سؤال العلماء واجبا، وامتثال فتواهم لازما. قال سهل بن عبدالله رحمه الله: لا يزال الناس بخير ما عظموا السلطان والعلماء؛ فإذا عظموا هذين أصلح الله دنياهم وأخراهم، وإذا استخفوا بهذين أفسد دنياهم وأخراهم .
يقول البغوي في تفسير الآية : { أُولِي الأمْرِ } قال ابن عباس وجابر رضي الله عنهم: هم الفقهاء والعلماء الذين يعلِّمون الناس معالِمَ دينهم، وهو قول الحسن والضحاك ومجاهد، ودليله قوله تعالى: "ولو رَدُّوُه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لَعَلِمَهُ الذين يَسْتَنْبِطٌونَهُ منهم"( النساء -83 )
وقال أبو هريرة: هم الأمراء والولاة.
يقول الإمام أبو بكر بن العربي في أحكام القرآن ج1ص534 ما نصه :
"والصحيح عندي أنهم الأُمراء والعلماء جميعًا؛ أما الأمراء، فلأن أصل الأمر منهم والحكم إليهم، وأما العلماء، فلأن سؤالهم واجب متعيَّن على الخلْق، وجوابهم لازمٌ، وامتثال فتواهم واجب، لا سيَّما وقد قدَّمنا أن كل هؤلاء حاكمٌ، وقد سمَّاهم الله تعالى بذلك، فقال: ﴿ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ ﴾ [المائدة: 44].
فأخبر تعالى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حاكمٌ، والربَّاني حاكم، والحَبْر حاكم، والأمر كله يرجع إلى العلماء؛ لأن الأمر قد أفضى إلى الجُهَّال، وتعيَّن عليهم سؤال العلماء؛ ولذلك نظَر مالك إلى خالد بن نزار نظرة منكرة ، كأنه يشير بها إلى أن الأمر قد وقَف في ذلك على العلماء ، وزال عن الأُمراء لجهْلهم واعتدائهم، والعادل منهم مُفتقر إلى العالم كافتقار الجاهل"
قلتُ : قد يقول قائل أنه قد يكون في ذكرهم توريط لهم - أي أمير دولة العراق والشام وعلمائه - فنقول الرد على هذا من وجوه
1 : تقدم معنا أن غير ذي الشوكة القادر على القيام بمهام الإمام ما ينبغي أن يستعجل البيعة وقد تقدم أن الإمام جُنة ، أي من يُحتمى به ، فإليه ملاذ الضعيف والمظلوم وعليه القيام بواجباتهم فكيف يكون أميراً عليهم وهم قد جهلوه ..
2 : هب أنه مجهول عن العامة أيُعقَلُ أن أهل الحل والعقد عنده ومجلس شورته مجاهيل ؟!؟!
3 : إن لم يكونوا مجاهيل وهذا مالا ينبغي فعليه لا يمكن أن يُكتم أمرهم إن كانوا علماء ، فلا بد أن ينتشر صيته أو صيتهم بين أهل العلم .
قال الشوكاني رحمه الله في السيل الجرار ص938 ما نصه :
" فإن انضم له إلى هذه الإمامة كونه إماما في العلم مجتهدا مطلقا في مسائله فلا شك ولا ريب أنه أنهض من الإمام الذي لم يبلغ رتبة الإجتهاد لأنه يورد الأمور ويصدرها عن علو ولكن لا دليل على أنه لا يولي الأمر إلا من كان بهذه المنزلة من الكمال وفي هذه الغاية القصوى من محاسن الخصال وليس النزاع في الأكمل ولا في الأفضل بل المراد فيمن يصلح لتولي هذا المنصب ومن قام بتلك الأمور ونهض بها فهو المراد من الإمامة والمراد بالإمام وعليه أن ينتخب من العلماء المبرزين المجتهدين المحققين من يشاوره في الأمور ويجريها على ما ورد به الشرع ويجعل الخصومات إلى أهل هذه الطبقة فما حكموا به كان عليه إنفاذه وما أمروا به فعله ومعرفة أهل هذه الطبقة لا يخفى على العقلاء الذين لا نصيب لهم في العلم فإنه لا بد أن يرفع الله لهم من الصيت والشهرة ما يعرف به الناس أنهم الطبقة العالية من جنس أهل العلم وليس للإمام إذا لم يكن مجتهدا أن يستبد بما يتعلق بأمور الدين ولا يدخل نفسه في فصل الخصومات والحكم بين الناس فيما ينوبهم لأن ذلك لا يكون إلا من مجتهد كما قدمنا من القضاء
والحاصل أنه لا دليل في المقام يوجب علينا اشتراط اجتهاد الأئمة حتى يجب المصير إليه ولا إجماع حتى يكوت التعويل عليه وليس في المقام إلا مجرد المجادلة بمباحث راجعة إلى الرأي البحت كما يعرف ذلك من يعرفه وما أهون مثلها على المحققين من علماء الدين المتقيدين بالدليل المحكمين للشرع ..انتهى كلامه رحمه الله ..
فإن احتججت بالصيت بين المتحمسين من الشباب فأقول أن الشباب المتحمس الذي سلم نفسه لتلقي الأوامر عن المجاهيل لا يُعتد بقوله ، فعقله مغلق إلا عن المجاهيل الذين استحكموا قبضتهم على عقله ، وما يقرؤه على المنتديات هو عنده بمثابة الوحي المنزل ، وقد أعظموا الجرم في حقه عندما أسقطوا علماء الأمة من عينه واستفردوا به ، وما هذا والله إلا تحقيقاً لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : كما عند مسلم قال حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا جرير عن هشام بن عروة عن أبيه سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يترك عالما اتخذ الناس رؤوسا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا "
قال النووي رحمه الله : هذا الحديث يبين أن المراد بقبض العلم في الأحاديث السابقة المطلقة ليس هو محوه من صدور حفاظه ، ولكن معناه أنه يموت حملته ، ويتخذ الناس جهالا يحكمون بجهالاتهم فيضلون ويضلون .
وأختم بقول الشاطبي رحمه الله والذي أدفع به قول المُتحمسة الذين يرفضون القوانين العلمية ويتبعون أهواءهم ولا يجدون ما يردون به على حقِّنا إلا العواطف والشنشنات وكيل الاتهامات ولم نستفد منهم يوماً في ردودهم علماً ، لا يملكون سوى لغة البتر والقطع وهم مجاهيل فلو كانوا رجالاً عدولاً لقارعوا الحجة بالحجة ، ولكنهم تعودوا الجهاد الكيبوردي ، ومن نفر منهم وهو في قعوده على غير أصولٍ علمية لا يوفق إلا لمن شاكله ، فالغلو لا ينسجم إلا مع جنسه وقد جرت سنة الله أن الغلو يأكل بعضه بعضاً ، ولم تنفصم فئة عن عدل أهل السنة والجماعة إلا وأُغري بينها الشحناء والبغضاء وأكلت بعضها ..
وإليك قول الشاطبي رحمه الله :
" فاتباع نظر من لا نظر له واجتهاد من لا اجتهاد له محض ضلالة ، ورمي في عماية "
الاعتصام ج 2 ص 314 تحقيق مشهور سلمان...
فعليه نقول لدولة العراق والشام من يشهد من العلماء العدول المعلومين بعلم أبي بكر البغدادي وأهليته للإمامة ، فإن لم يكن عالماً مجتهداً فمن هم علماؤكم المجتهدون وأين صيتهم ومن الذي شهد لهم من العدول المعلومين من أهل السنة والجماعة !!!؟؟؟
فإن لم تجدوا جواباًَ فإن دعواكم في تطبيق الشريعة دعاوى خداعة وجوفاء إذ لا تقوم دولة الإسلام إلا بالعلم قال تعالى " وأن احكم بينهم بما أنزل الله "
ولا يصيب الحكم بما أنزل الله إلا العالمون بأمر الله ، الذين علموا الكتاب والسنة وبلغوا رتبة الاجتهاد وكانوا أهلاً له قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " "إذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ فَأصَابَ فَلَهُ أجْرَانِ، وَإذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ فَأَخْطَأ فَلَهُ أجْرٌ" والاجتهاد ليس لأي أحد ، كما يفعله الكثير اليوم ادعاءً الاجتهاد ، يقول الخطابي رحمه الله :
" فأما من لم يكن محلا للاجتهاد فهو متكلف ولا يعذر بالخطأ بل يخاف عليه الوزر "
أما اليوم فقد هدر بعض أفراد الدولة الدماء واحتجوا لهم بذريعة الاجتهاد وهم ليسوا أهلاً لذلك ولا نصيف ذلك والله المستعان .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين..
يُتبع إن شاء الله ..
كتبه : مصباح بن نزيه الحنون
طرابلس الشام
الإثنين
22-محرم-1435