بسم الله الرحمن الرحيم
حاول بعض من يتقفرون العلم التمييز بين الجهمية والأشاعرة وبين المعتزلة والأشاعرة في محاولة منهم لنفي أحكام التبديع والتكفير التي طبقها أئمة أهل السنة المتقدمين على الجهمية والمعتزلة عن الأشاعرة وفي هذا الباب سوف نبين إن شاء الله بعض أوجه الشبه بين هذه الفرق ليعلم طالب علم أنه لا فرق جوهري بين هذه الفرق وأنها متفقة تماما في أصول عقائدها ولكنهم يختلفون في مسائل يختلف فيها أهل المذهب الواحد عادة
فقد قال الإمام الترمذي في الجامع الكبير معلقا على الحديث رقم 662 ما نصه هذا حديث حسن صحيح وقد روي عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو هذا وقد قال غير واحد من أهل العلم في هذا الحديث وما يشبه هذا من الروايات من الصفات ونزول الرب تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا قالوا قد تثبت الروايات في هذا ويؤمن بها ولا يتوهم ولا يقال كيف هكذا روي عن مالك وسفيان بن عيينة وعبد الله بن المبارك أنهم قالوا في هذه الأحاديث أمروها بلا كيف وهكذا قول أهل العلم من أهل السنة والجماعة وأما الجهمية فأنكرت هذه الروايات وقالوا هذا تشبيه وقد ذكر الله عز وجل في غير موضع من كتابه اليد والسمع والبصر فتأولت الجهمية هذه الآيات ففسروها على غير ما فسر أهل العلم وقالوا إن الله لم يخلق آدم بيده وقالوا إن معنى اليد هاهنا القوة وقال إسحق بن إبراهيم إنما يكون التشبيه إذا قال يد كيد أو مثل يد أو سمع كسمع أو مثل سمع فإذا قال سمع كسمع أو مثل سمع فهذا التشبيه وأما إذا قال كما قال الله تعالى يد وسمع وبصر ولا يقول كيف ولا يقول مثل سمع ولا كسمع فهذا لا يكون تشبيها وهو كما قال الله تعالى في كتابه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير اهـ
وقال الإمام الدارمي في نقضه على المريسي وبلغنا أن بعض أصحاب المريسي قال له كيف تصنع بهذه الأسانيد الجياد التي يحتجون بها علينا في رد مذاهبنا مما لا يمكن التكذيب بها مثل سفيان عن منصور عن الزهري والزهري عن سالم وأيوب بن عوف عن ابن سيرين وعمرو بن دينار عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم وما أشبهها قال فقال المريسي لا تردوه تفتضحوا ولكن غالطوهم بالتأويل فتكونوا قد رددتموها بلطف إذ لم يمكنكم ردها بعنف كما فعل هذا المعارض سواء
ومن أوجه الشبه إجماع المعتزلة ومتأخري الأشاعرة على تأويل صفة الإستواء في قوله تعالى الرحمن على العرش استوى بالإستيلاء مخالفين بذلك ما تعرفه العرب من معاني كلامها فإن استوى تعني اعتدل ليس لها معنى ثان في لغة العرب فإذا عديت بعلى فمعناها اعتدل على عرشه بمعنى استقر على هذا التفسير أجمع السلف من الصحابة والتابعين وأئمة أهل السنة المتقدمين
ومن أوجه الشبه أيضا ما رواه الإمام ابن بطة المتوفى سنة سبع وثمانين وثلاثمائة للهجرة من أن الجهمية والمعتزلة كانوا يحتالون للقول بخلق القرآن فيقولون بأن القرآن الذي عند الله ليس بمخلوق والذي عندنا هو حكاية عنه وعبارة عنه ونقل الآجري مثله في كتابه الشريعة وهؤلاء الأشاعرة يقولون القرآن عبارة وحكاية فقط قال ابن بطة باب ذكر اللفظية والتحذير من رأيهم ومقالاتهم واعلموا رحمكم الله أن صنفا من الجهمية اعتقدوا بمكر قلوبهم وخبث آرائهم وقبيح أهوائهم أن القرآن مخلوق فكنوا عن ذلك ببدعة اخترعوها تمويها وبهرجة على العامة ليخفى كفرهم ويستغمض إلحادهم على من قل علمه وضعفت نحيزته فقالوا إن القرآن الذي تكلم الله به وقاله فهو كلام الله غير مخلوق وهذا الذي نتلوه ونقرؤه بألسنتنا ونكتبه في مصاحفنا ليس هو القرآن الذي هو كلام الله هذا حكاية لذلك فما نقرؤه نحن حكاية لذلك القرآن بألفاظنا نحن وألفاظنا به مخلوقة فدققوا في كفرهم واحتالوا لإدخال الكفر على العامة بأغمض مسلك وأدق مذهب وأخفى وجه فلم يخف ذلك بحمد الله ومنه وحسن توفيقه على جهابذة العلماء والنقاد العقلاء حتى بهرجوا ما دلسوا وكشفوا القناع عن قبيح ما ستروه فظهر للخاصة والعامة كفرهم وإلحادهم وكان الذي فطن لذلك وعرف موضع القبيح منه الشيخ الصالح والإمام العالم العاقل أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل رحمه الله وكان بيان كفرهم بينا واضحا في كتاب الله عز وجل وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وقد كذبهم القرآن والسنة بحمد الله قال الله عز وجل وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله. ولم يقل حتى يسمع حكاية كلام الله وقال تعالى وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا. فأخبر أن السامع إنما يسمع إلى القرآن ولم يقل إلى حكاية القرآن وقال تعالى وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا. وقال عز وجل وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن.
فهذه الأخبار تفيد
أن التأويل سنة جهمية سار عليها الأشاعرة والماتريدية والمعتزلة بمعنى أن هذه الطوائف الثلاث جهمية عند التحقيق إذ لا فروق جوهرية تفرق بينها سوى أن الجهمية القدماء كانوا يتأولون اليد بالقوة بينما أفراخهم الأشاعرة والماتريدية يتأولونها بالنعمة أي أن تأويل صفة اليد متفق عليها ولكن تفسير معناها مسألة اجتهادية بينهم
أن الأشاعرة والماتريدية يقولون بخلق القرآن ويحتالون على ذلك بمسألة اللفظ كالجهمية تماما
والأشاعرة يدركون بأنهم الجهمية ولذلك غضبوا من أبي الحجاج المزي لما قرأ فصل الرد على الجهمية من كتاب خلق أفعال العباد للإمام البخاري رضي الله عنه وقالوا ما المقصود إلا نحن وغضب لهم القاضي الشافعي - والأشاعرة عادة يتمسحون وينتسبون للشافعي تلبيسا على الناس وترويجا لمذهبهم بانتسابهم إلى هذا الإمام الكبير - فأمر بسجنه
قال ابن حجر الأشعري في كتاب الدرر الكامنة في ترجمة أبي الحجاج المزي ما نصه وأوذي مرة في سنة 705 بسبب ابن تيمية لأنه لما وقعت المناظرة له مع الشافعية وبحث مع الصفي الهندي ثم ابن الزملكاني بالقصر الأبلق شرع المزي يقرأ كتاب خلق أفعال العباد للبخاري وفيه فصل في الرد على الجهمية فغضب بعض الفقهاء وقالوا نحن المقصودون بهذا فبلغ ذلك القاضي الشافعي يومئذ فأمر بسجنه فتوجه ابن تيمية وأخرجه من السجن فغضب النائب فأعيد ثم أفرج عنه وأمر النائب وهو الأفرم بأن ينادى بأن من يتكلم في العقائد يقتل اهـ
والله أعلم وأحكم