وقفة مع تكذيبه لشيخ الإسلام:
نقل سعيد هلهوطه في "كاشفه" (ص327) عن شيخ الإسلام في "منهاج السنة" لما ذكر اختلاف الناس في مسألة الكلام :
أحدها: قول من يقول إن كلام الله ما يفيض على النفوس من المعاني التي تفيض إما من العقل الفعال عند بعضهم, وإما من غيره، وهذا قول الصابئة والمتفلسفة الموافقين لهم كابن سينا وأمثاله ومن دخل مع هؤلاء من متصوفة الفلاسفة ومتكلميهم كأصحاب وحدة الوجود, وفي كلام صاحب "الكتب المضنون بها على غير أهلها" بل "المضنون الكبير", و"المضنون الصغير", و"رسالة مشكاة الأنوار", وأمثاله ما قد يشار به إلى هذا, وهو في غير ذلك من كتبه يقول ضد هذا لكن كلامه يوافق هؤلاء تارة, وتارة يخالفه, وآخر أمره استقر على مخالفتهم ومطالعة الأحاديث النبوية(منهاج السنة" (2/359)).
قال سعيد هلهوطه : هذا القول الأول الذي ذكره ابن تيمية في مسألة الكلام, ونسبه إلى الإمام الغزالي في بعض كتبه, وهو في هذه النسبة قريب من الكذب على الإمام الحجة رحمه الله تعالى؛ فما كان ينبغي له أن ينسب إلى الغزالي ما هو خلاف الدين؛ فالغزالي رحمه الله في هذه الكتب إنما يشرح, ويبين قول الفلاسفة, ولم يقل أن هذا القول الذي يقول به, ولكن ابن تيمية يهمه جداً أن يظهر الإمام الغزالي, وغيره من السادة الأشاعرة على أنهم من المترددين المتشككين .. والحق أن كل ما نسبه ابن تيمية من تردد علماء الأشاعرة في بعض المسائل, وفي تراجع بعضهم عن بعض الأقوال لا يعدو أن يكون تحريفاً لحقيقة الحال, وهو قد تعمد هذا الوصف الكاذب.
اكيد في كلام سعيد هلهوطه من الزيغ ما يلي:
أولاً: تكذيبه لشيخ الإسلام, وسوء أدبه مع هذا الإمام رحمه الله، مع أن كلام شيخ الإسلام واضح جلي, وحقيقة قوله الدفاع عن الغزالي؛ فهو يبين أن للغزالي قولين، وآخر أقواله مخالفته للفلاسفة في هذا القول, وكتاب الغزالي "المضنون" بعضهم ينكر أن يكون للغزالي لما فيه من الأقوال الشنيعة, ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وفي الكتب المضنون بها على غير أهلها وغيرها من كتب مصنفيها قطعة من هذا؛ وبسبب ذلك وقع ابن عربي وأمثاله من ملاحدة المتصوفة مع هؤلاء, ولهذا كثر كلام علماء المسلمين في مصنفيها, ومن الناس من ينكر أن تكون من كلام أبي حامد لما رأى ما فيها من المصائب العظيمة, وآخرون يقولون بل رجع عن ذلك وختم له بالاشتغال بالبخاري ومسلم كما قد ذكر ذلك في سيرته (الرد على المنطقيين" (ص282)).
وقال شيخ الإسلام عن كتاب الغزالي "المضنون": والمقصود هنا أن كثيراً من كلام الله ورسوله يتكلم به من يسلك مسلكهم, ويريد مرادهم لا مراد الله ورسوله كما يوجد في كلام صاحب الكتب المضنون بها وغيره مثل ما ذكره في اللوح المحفوظ حيث جعله النفس الفلكية, ولفظ القلم حيث جعله العقل الأول, ولفظ الملكوت و الجبروت والملك حيث جعل ذلك عبارة عن النفس والعقل, ولفظ الشفاعة حيث جعل ذلك فيضاً يفيض من الشفيع على المستشفع, وإن كان الشفيع قد لا يدرى وسلك في هذه الأمور ونحوها مسالك ابن سينا كما قد بسط في موضع آخر(مجموع الفتاوي" (1/245).).
ثانياً: إن الغزالي له من الأقوال الشنيعة الكثيرة في الإحياء وغيرها.
ثالثاً: إن الأشاعرة من أكثر الناس حيرة وشكاً وتوقفاً, ومثالاً على ذلك الرازي الذي ألف هذا المعترض كتابه "الكاشف" للدفاع عنه؛ فهو مثلاً يقول في مسألة حدوث العالم, وأنه ليس من شرطه أن يكون مسبوقاً بالعدم، قال بعد ذكر الأدلة: وعلى هذه الطريقة إشكال ثم ذكره.
وقال: فقد بطلت هذه الحجة فهذا شك لابد وأن يتفكر في حله.
ويقول في مسألة أخرى: ولكن لابد من فرق بين البابين وهو مشكل جداً . وفي الأربعين قال: حول حدوث العالم: هذا مما نستخير الله فيه، وقال هذا سؤال صعب.
وأما تناقضه؛ فمثلاً في "أساس التقديس" قال بتماثل الأجسام محتجاً به على نفي العلو والصفات الخبرية , ولكنه في "المباحث المشرقية" و"شرح الإشارات" رد ذلك وقال بعدم تماثلها.
وفي صفة المحبة قال بتأويلها بالإرادة كما فعل الأشاعرة, ولكنه في أحد مواضع من التفسير قال: ثبت أن جزم المتكلمين بأنه لا معنى لمحبة الله إلا إرادة إيصال الثواب ليس لهم على هذا الحصر دليل قاطع بل أقصى ما في الباب أن يقال لا دليل على إثبات صفة أخرى سوى الإرادة؛ فوجب نفيها لكنا بينا في كتاب "نهاية العقول" أن هذه الطريقة ضعيفة ساقطة .
ثم ذكر في موضع آخر في مسألة أدلة الأشاعرة على وجوب حصر الصفات بالسبع أن هذه القاعدة من أدلتهم فقال: أقوى ما قيل فيه أن الله تعالى كلفنا بمعرفته فلا بد من طريق إلى ذلك, وإلا وقع التكليف بالمحال, والطريق لنا إلى ذلك ليس إلا أفعال الله تعالى, وأفعال الله تعالى لا تدل إلا على هذا العدد من الصفات بدليل أنا لو قدرنا ذاتاً موصوفة بهذا القدر من الصفات؛ فإنه يصح منه الإلهية فثبت أن ما وراء هذه الصفات لم يوجد عليه دلالة أصلا فوجب نفيها. ثم قال معقباً: وقد عرفت ما يمكن أن يقال على هذه الطريقة, وما فيها.
ومن أبرز الأمثلة على تناقض الرازي أنه في جميع كتبه قرر أن الأدلة النقلية لا تفيد القطع واليقين فلا يحتج بها في العقائد, ومن هذه الكتب: "نهاية العقول" حيث فصل الكلام وأطال فيه فلما وصل في هذا الكتاب إلى مسألة صفة السمع والبصر ضعف دليل الأشاعرة العقلي في إثباتها ثم رجح أن الأولى الاستدلال لهما بنصوص السمع (موقف ابن تيمية من الأشاعرة" (2/673)).