كل المعاهدات التي كتبها الولاة لأهل البلدان المفتوحة أن لهم جوار الله وذمة رسوله على أموالهم وبيعهم، كما فعل الفاروق عمر لأهل إيلياء وفيه نص على حفظ كنائسهم وحريتهم الدينية، فلا تـُسكن ولا تـُهدم ولا ينتقص منها ولا من صليبها ، وأن يضربوا نواقيسهم فى أى وقت شاؤا من ليل أو نهار .
قارنوا هذا بما بما قاله الدكتور الفرد ج . ميكر عن الحكم الروماني في مصر :
(إن حكومة مصر ( الرومية ) لم يكن لها إلا غرض احد وهو أن تبتز الأموال من الرعية لتكون غنيمة للحاكمين ، ولم يساورها أن تجعل قصد الحكم توفير الرفاهية للرعية أو ترقية حال الناس والعلو بهم في الحياة ، أو تهذب نفوسهم ، أو إصلاح أمور أرزاقهم فكان الحكم على ذلك حكم الغرباء لا يعتمد إلا على القوة ولا يحس بشيء من العواطف على الشعب المحكوم).
ويقول المؤرخ أميان مارسيلينوس عن وضع إيران في عهد الساسانيين الكسرويين:
(كان الجباة لا يتحرزون من الخيانة، واغتصاب الأموال في تقدير الضرائب وجباية الأموال، وما قام به كسرى أنو شروان من إصلاح النظام المالي كان في مصلحة مالية المملكة أكثر منه في مصلحة الرعية، فلم تزل العامة يعيشون في الجهل والضنك كما كانوا في السابق، وكان الفلاحون في شقاء وبؤس عظيم ، وكانوا مرتبطين بأراضيهم ، وكانوا يُستخدمون مجاناً ، ويُكلفون كل عمل) ، ثم يقول: (إن هؤلاء الفلاحين البؤساء كانوا يسيرون خلف الجيوش مشاة كأنه قد كتب عليهم الرق الدائم ، ولم يكونوا ينالون إعانة أو تشجيعاً من راتب أو أوجرة وكانت علاقة الفلاحين بالملاك أصحاب الأراضي كعلاقة العبيد بالسادة).
أما الإسلام، فقد أتى بالعدل والقسطاس المستقيم، وقد شهد بعدل الإسلام وعدل أبي بكر وعمر كريستوفر داوسون عندما قال:
(إن محمدا كان هو إجابة الشرق على تحدي الإسكندر، فقد كان محمد هو مؤسس الدولة الإسلامية التي سرعان ما اتسعت لتصبح دولة كبرى)، فجاءت إجابة أهل الشرق على تحدي وظلم الإسكندر الأكبر لهم بأن آمنوا بمحمد رسولا من الله إلى الناس جميعا، وتحولوا بذلك من المسيحية إلي الإسلام، وساهموا في بناء الدولة الإسلامية التي قامت على العدل والسماحة والإنصاف لكل بني البشر في زمن قياسي قصير.
أما الحقوق التي أعطاها الإسلام أهل الذمة وطبقها الفاروق كما طبقها الرسول ومن بعده أبي بكر:
1- حرية الإعتقاد للذمي والتدين وممارسة الشعائر في دور العبادة دون منع.
2- حق الحماية من العدوان الخارجي ومن الظلم الداخلي "من آذى ذميًا فقد أذاني ومن أذاني فقد أذى الله".
3- إسقاط الضريبة عنه في حالة العجز، بل وإعطائه كفايته من بيت مال المسلمين في حالة الشيخوخة أو العجز والمرض، وقد مرّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه بباب قوم وعليه سائل يسأل: شيخ كبير ضرير البصر، فضرب عضده من خلفه وقال: من أي أهل الكتاب أنت؟ قال: يهودي، قال: فما ألجأك إلي ما أرى؟ قال: أسأل الجزية والحاجة والسن، قال: فأخذ عمر بيده وذهب به إلى منزله فأطعمه وسقاه وتلطف مع في الكلام، وأعطاه بعض ما يحتاجه، ثم أرسل إلى خازن بيت المال فقال: (انظر هذا وضرباءه فوالله ما أنصفناه أن أكلنا شبيبته ثم نخذله عند الهرم)، إنما الصدقات للفقراء والمساكين، والفقراء هم المسلمون، وهذا من المساكين من أهل الكتاب)، ووضع عنه الجزية وعن ضربائه، وكتب للولاة أن لا يكلفوا الناس إلا ما يطيقون وأن يسقطوا الجزية عن الكبير والعاجز ويفرضوا لهم من بيت مال المسلمين ما يكفيهم...
وجاءته امرأة عجوز يهودية تشتكي لعمر حالها وتصفه بالفقر والعوز، ولديها إبن مريض لم تستطع علاجه، وعندما فرغت من شكواها وعمر يصغي إليها بأدب وتواضع جم، رحم حالها الفاروق، ورق قلبُه لها وأخذها إلى البنك المركزي "بيت مال المسلمين"، وفرض لها ما يكفيها ويكفي علاج ابنها، ففرحت وشكرته ونادته بأمير المؤمنين..
رأى عمر الفاروق والحاكم العادل، وصاحب القلب الرحيم في وجه اليهودية الرضا والفرحة بعد أن شكرته على موقفه النبيل، موقف مستمد من مبدأ الإسلام الذي تربى عليه عمر على يد رسول الرحمة عليه الصلاة والسلام، فاستغل عمر هذه الفرصة واللحظات المناسبة للموقف ليطلب من اليهودية شيئا لمصلحتها دنيا وأخرى، فقال لها مشفقا:
" يا أمة الله، إني أدعوك إلى الإسلام ففيه خيري الدنيا والآخرة"، ومع هذا اللطف والتلطف في القول، ومع مهابة عمر، قالت اليهودية في حرية وأمان واعتراض:
"أما هذه فلا يا أمير المؤمنين"، ونادته بالإمارة كأنها مقرة له بذالك، ولكن العصبية منعتها من دعوة عمر "إنك لا تهدي من أحببت"، فماذا كان رد عمر تجاه رفض اليهودية العجوز؟
ندم على استغلال هذه الحاجة لدعوتها إلى الإسلام، وتمنى لو دعاها في ظرف زماني آخر، وفرصة غير فرصة الحاجة والعوز، وخاطب نفسه يؤنبها قائلا: "يا عمر!! أليس هذا من الإكراه في الدين؟"، ويؤثر عنه قوله:
"يومان يؤرقان عمر، يوم الحديبية، ويوم قصته مع اليهودية".
عظمة الزعامة والعبقرية لم تكن في الفاروق عمر قبل إسلامه، فما كان يؤثر عنه غير الغلظة وشدة البطش مع صفات أخرى فيها المحمود وفيها المذموم، وبعد أن أسلم ظهرت شخصية أخرى لعمر، وبرزت عبقريته الفذة بعد أن تتلمذ على يد مربيه وقائده رسول الله عليه الصلاة والسلام ومن بعده صاحبه الصديق الخليفة الأول، فصلى الله على شيخه ومعلمه رسول الله، ورضي الله عن صاحبه أبي بكر، ورضي الله عن الفاروق، ورزق الأمة برجل ليس مثله، وإنما برجل يحاول تقليد سيرته وقيادته وزهده وورعه..