استدلال المعتزلة بقوله تعالى [ قال لن تراني ] الأعراف : 143
هو حجة عليهم لثبوت الرؤية ..
فالاستدلال به على ثبوت رؤيته من وجوه :-
الوجه الأول : أنه لا يُظنُّ بكليم الله ورسوله الكريم , وأعلم الناس بربه في وقته أن يَسألَ ما لا يجوزُ عليه , بل هو عندهم من أعظم المحال .
الوجه الثاني : أن الله لم يُنكر عليه سؤاله , ولما سألَ نوحٌ عليه السلام ربَّه نجاةَ ابنه أنكر عليه سؤالَه , وقال [ إني أعِظُكَ أن تكون من الجاهلين ] هود :46
الوجه الثالث : أنه تعالى قال :[ لن تراني ] ولم يقل : إني لا أُرى , ولا تجوزُ رؤيتي , أو لستُ بمرئيٍّ , والفرق بين الجوابين ظاهر , ألا ترى أن من كان في كُمِّه حَجَرٌ , فظنَّه رجلٌ طعامًا , فقال , أطعمنيه , فالجواب الصحيح : إنه لا يُؤكل , أما إذا كان طعامًا , صحَّ أن يقال : إنك لن تأكُله , وهذا يدل على أنه سبحانه مرئي , ولكن موسى عليه السلام لا تحتملُ قواه رؤيته في هذه الدار , لضعف قوى البشر فيها عن رؤيته تعالى يوضحه :
الوجه الرابع : هو قوله [ ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوق تراني ] الأعراف :143 فأعلمه أن الجبل مع قوته وصلابته لا يثبتُ للتجلي في هذه الدار , فكيف بالبشر الذي خُلق من ضعفٍ ؟
الوجه الخامس : أن الله سبحانه قادرٌ على أن يجعل الجبل مستقرًا وذلك ممكن , وقد علَّق به الرؤية , ولو كانت محالًا , لكان نظيرُ أن يقول : إن استقر الجبل , فسوف أكل وأشرب وأنام , والكل عندهم سواء .
الوجه السادس : قوله تعالى [ فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا ] الأعراف : 143 فإذا جاز أن يتجلى للجبل الذي هو جماد لا ثواب له ولا عقاب فكيف يمتنع أن يتجلى لرسله وأوليائه في دار كرامته !
ولكن الله تعالى أعلم موسى عليه السلام أن الجبل إذا لم يثبت لرؤيته في هذه الدار , فالبشرُ أضعف .
الوجه السابع : أن الله كلَّم موسى وناداه وناجاه , ومن جازَ عليه التكلُّمُ والتكليمُ , وأن يسمع مخاطبه وكلامه بغير واسطة , فرؤيته أولى بالجواز , ولهذا لا يتمُّ إنكار رؤيته إلا بإنكار كلامه , وقد جمعوا بينهما , وأما دعواهم تأبيدَ النفي بـ [ لن ] وأن ذلك يدل على نفي الرؤية في الآخرة ففاسد , فإنها لو قيدت بالتأبيد لا يدل على دوام النفي في الآخرة . فكيف إذا أطلقت !
قال تعالى [ ولن يتمنوه أبدا ] البقرة : 95 , مع قوله [ ونادوا يا مالكُ ليقض علينا ربك ] الزخرف : 77 , ولأنها لو كانت للتأبيد المطلق , لما جازَ تحديدُ الفعلِ بعدها , وقد جاء ذلك , قال تعالى [ فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي ] يوسف : 80 فَثَبَتَ أن " لن " لا تقتضي النفي المؤبد .
قال الشيخ جمال الدين بن مالك رحمه الله تعالى :
ومن رأى النفي بـ (( لن )) مؤبدا ** فقوله أردُد وسواه فاعضُدا
نقلًا من شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الدمشقي