قوله تعالى [ لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ]
ففيها إثبات للرؤية من وجهٍ حسنٍ لطيف , وهو أن الله تعالى إنما ذكرها في سياق التمدُّح , ومعلومٌ أن المدح إنما يكون بالصفات الثبوتية , وأما العدم المحض , فليس بكمال , فلا يمدح به , وإنما يُمدحُ الربُّ تعالى بالنفي إذا تضمن أمرًا وجوديًا , كمدحه بنفي السنِّة والنوم , المتضمن كمال القيُّومية , ونفي الموت المتضمن كمال الحياة , ونفي اللغوب والإعياء , المتضمن كمال القدرة , ونفي الشريك والصاحبة والولد والظهير , المتضمن كمال ربوبيته وإلاهيته وقهره , ونفي الأكل والشرب المتضمن كمال صمديته وغناه , ونفي الشفاعة عنده إلا بإذنه المتضمن كمال توحده وغناه عن خلقه , ونفي الظلم المتضمن كمال عدله وعلمه وغناه , ونفي النسيان , وعزوب شيء عن علمه المتضمن كمال علمه وإحاطته , ونفي المثل المتضمن لكمال ذاته وصفاته .
ولهذا لم يتمدَّح بعدم محض لا يتضمن أمرًا ثبوتيًا , فإن المعدوم يُشارك الموصوف في ذلك العدم , ولا يُوصفُ الكامل بأمر يشترك هو والمعدوم فيه , فإذن : المعنى : أنه يُرى ولا يُدرك ولا يُحاط به , فقوله [لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ] الأنعام :
103
يدلُّ على كمال عظمته , وأنه أكبر من كل شيء , وأنه لكمال عظمته لا يُدركُ بحيثُ يُحاط به , فإن " الإدراك " هو الإحاطةُ بالشيء , وهو قدر زائدٌ على الرؤية , كما قال تعالى [ فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) ] الشعراء : 61 – 62
فلم ينفِ موسى عليه السلام الرؤية , وإنما نفى الإدراك فالرؤية والإدراك كل منهما يوجد مع الاخر وبدونه , فالربُّ تعالى يُرى ولا يُدرك , كما يُعلمُ ولا يُحاطُ به علمًا , وهذا هو الذي فهمه الصحابة والأئمة من الاية , كما ذكرت أقوالهم في تفسير الاية , بل هذه الشمس المخلوقة لا يتمكن رائيها من إدراكها على ما هي عليه .
وأما الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم الدالة على الرؤية , فمتواترة , رواها أصحاب الصحاح والمساند والسنن .
فمنها حديث أبي هريرة رضي الله عنه : ( أنَّ ناسًا قالوا : يا رسول الله , هل نرى ربنا يوم القيامة ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "هل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر " ؟ قالوا : لا يا رسول الله , قال : " هل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب "؟ قالوا : لا , قال : " فإنكم ترونه كذلك " ) البخاري ومسلم وغيرهم
وحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مثله .
وحديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه , قال : ( كنا جلوسًا مع النبي صلى الله عليه وسلم , فنظر إلى القمر ليلة أربع عشرة فقال : " إنكم سترون ربكم عيانًا كما ترون هذا لا تضامون في رؤيته " ) البخاري ومسلم وغيرهم
وحديث صهيب رضي الله عنه الذي في صحيح مسلم , قال صهيب , قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم [ للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ] يونس : 26
قال " إذا دخل أهل الجنةِ الجنةَ , وأهل النارِ النارَ , نادى مُنادٍ : يا أهل الجنة , إن لكم عند الله موعدًا ويريد أن ينجزكموه , فيقولون : ما هو ؟ ألم يثقل موازيننا , ويبيض وجوهنا , ويدخلنا الجنة , ويجرنا من النار ؟ فيكشف الحجاب فينظرون إليه , فما أعطاهم شيئًا أحب إليهم من النظر إليه وهي الزيادة " صحيح مسلم .
وحديث أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم , قال " جنتان من فضة , انيتهما وما فيهما , وجنتان من ذهب , انيتهما وما فيهما , وما بين القوم وبين أن يروا ربهم تبارك وتعالى إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن " الصحيحين
ومن حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه : " وليلقينَّ الله أحدكم يوم يلقاه , وليس بينه وبينه حجاب ولا ترجمان يترجم له , فليقولنَّ : ألم أبعث إليك رسولًا يبلغك ؟ فيقول : بلى يا رب , فيقول : ألم أعطك مالًا وأفضل عليك ؟ فيقول : بلى يا رب " البخاري
وقد روى أحاديث الرؤية نحو ثلاثين صحابيًا ومن أحاط بها معرفة يقطع بأن الرسول قالها .
انتهى ملخصًا من شرح العقيدة الطحاوية / بتصرف .