العودة   شبكة الدفاع عن السنة > المنتديات الخاصة > منتدى مقالات الشيخ سليمان بن صالح الخراشي رحمه الله

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 19-02-16, 08:59 PM   رقم المشاركة : 1
سليمان الخراشي
حفظه الله







سليمان الخراشي غير متصل

سليمان الخراشي is on a distinguished road


لماذا اختار معاوية - رضي الله عنه - ابنه يزيد للحكم ؟!

بسم الله الرحمن الرحيم


اختيار معاوية - رضي الله - لابنه يزيد للحُكم من بعده ، هو أحد الأمور التي شنّع بها عليه خصومه - وما أكثرهم ! - ، والحديث هنا ليس عن الرافضة المخذولين الذين يتناقضون ، فيلومون معاوية ، وهم يوجبون توريث الخلافة بالتسلسل في أئمتهم الاثني عشر ! فيصدق فيهم مايروونه في كتبهم عن علي - رضي الله عنه - : ( أكبر العيب أن تعيب غيرك بما هو فيك ) ( 1 ) !

أو قول الشاعر :
يا أيها الرجلُ المُعلّمُ غيرَه
هلاّ لنفسكَ كان ذا التعليم ؟

ومثلهم : مَن تبعهم من الزيدية ، والمعتزلة ، والإباضية - كما في كتاب شيخهم الخليلي " الاستبداد " ! - ، فهولاء كلهم عداوتهم لمعاوية - رضي الله عنه - عداوة دينية ؛ لأسباب كثيرة - ليس هذا موضعها - ، فمثلهم يُناقشون في مسائل أكبر من هذه وأهم .

إنما الحديث هنا مع مجموعة من التنويريين ، والثوريين ، ممن يُسمّون بالإسلاميين ؛ كمحمد مختار الشنقيطي وأمثاله ؛ من الذين جعلوا من معاوية - رضي الله عنه - شماعةً لفشلهم ، وتطاولو عليه بعبارات فجة ، وحمّلوه أوزار كل حكام الأمة ، إلى يومنا هذا ! دون خوف أو ورع ، وقد ورثوا هذا - حسب تتبعي - من مدرسة الثوري الشيعي جمال الدين الأفغاني ، ثم الكواكبي ، ثم حسن البنا - الذي كان يوصي بكتاب الكواكبي " طبائع الاستبداد " - ، ثم مَن تبعه من المنتمين أو المتأثرين بحركته : سيد قطب ، المودودي ، محمد الغزالي .. الخ .


فيُقال لهم - لعلهم يتبصرون - :
لقد خالفتم يا هؤلاء أهل السنة ، الذي تدّعون الانتماء لهم ؛ لأنهم حفظوا لصحابة محمد صلى الله عليه وسلم حقّهم ، وكانوا واضحين في موقفهم ؛ وهم وإن لم يدّعوا العصمة لأحدٍ منهم ، لكنهم عذروا ، وأحسنوا الظن ، وكفّوا ألسنتهم ، ودافعوا عنهم ، وردوا على خصومهم .

وهم يعلمون أن معاوية - رضي الله عنه - ليس من كبار الصحابة وأفضلهم ، ولكنهم اضطُروا لتكرار الحديث عنه ، لدفع بهتان خصومه ، ولو سكتَ أولئك لسكتَ أهل السنة .

ومعاوية - رضي الله عنه - وإن لم يكن من الخلفاء الراشدين المخبَر عنهم بحديث : " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين .." ، وحديث : " ..ثم تكون خلافة على منهاج النبوة " ، إلا أنه يُعد من الخلفاء الاثني عشر الذين بشّر بهم النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : " لا يزال الإسلام عزيزًا إلى اثني عشر خليفة .. كلهم من قريش " رواه مسلم . قال القاضي عياض : ( يُحتمل أن المراد من يَعز الإسلام في زمنه ، ويجتمع المسلمون عليه ) ( 2 ) .


وأما قضية توليته ليزيد ، التي هوّلتم بها عليه ، وأسقطتم عليها خيباتكم ، فقد تفهم أهل السنة الواقع ، والتمسوا له المعاذير اللائقة به ، لاسيما مع عدم وجود النص الشرعي الذي يُحرّم تولية الابن بعد أبيه ، مادام سيحكم بالشرع . ورغم هذا فهم وإن عذروه فإنهم - عند الاختيار - لا يعدلون بطريقة الخلفاء الراشدين غيرها . وهذا هو الفرق بينهم وبين أهل الأهواء المشنّعين ، دون بينة ولا برهان ، ولا فهمٍ للواقع ، أو عذرٍ لأهل الإيمان .


ولتوضيح ملابسات القضية ، وليظهر عُذر معاوية - رضي الله عنه - ؛ فإني أورد هنا ما ذكره الدكتور محمد بن عبدالهادي الشيباني - وفقه الله - من أسبابٍ دعت معاوية لهذا الفعل الاجتهادي ، وذلك من رسالته القيّمة : " مواقف المعارضة في خلافة يزيد بن معاوية " ( 3 ) .


قال - وفقه الله - عن أسباب تولية يزيد :

أولاً: السبب السياسي : الحفاظ على وحدة الأمة :
يجب أن نعرف أن الظروف التي بويع فيها أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، تختلف اختلافاً واضحاً عن تلك الفترة التي أخذ فيها معاوية البيعة لولده يزيد.
فقد كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه لا يشك أحدٌ في أنه أفضل شخص بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ ولهذا لم يبرز خلافٌ في أفضليته وأهليته بالخلافة، فشخصيته تحظى بتقدير واحترام المسلمين، وذلك لقاء ما قدمه من تضحيات، وتحمّله الآلام في سبيل هذا الدين.
ثم أوصى أبو بكر بالخلافة لعمر بن الخطاب، وهو من هو في الفضل والمكانة، ويعرف المسلمون أنه أفضل شخص بعد أبي بكر، ولهذا انعقدت له البيعة ، وانقاد المسلمون له ، ولم يخالفه أحد.
ولما أصيب عمر رضي الله عنه أوصى بأن يكون الخليفة أحد الستة المبشرين بالجنة وهم: " عثمان بن عفان ، وعلي بن أبي طالب ، والزبير بن العوام ، وعبدالرحمن بن عوف ، وسعد بن أبي وقاص ، وطلحة بن عبيد الله " رضي الله عنهم.

وهنا ؛ أصبحت الخلافة محصورة في واحدٍ من هؤلاء الستة، حيث كان لهم من الأهلية والفضيلة والسابقة المحمودة في الإسلام، والبشارة لهم بالجنة، ما يجعل الناس تُقر لهم، وتعترف لهم بالفضل والسابقة في الدين.
وبعد استشارة واستقصاء لآراء الصحابة رضي الله عنهم، وقع الاختيار على عثمان رضي الله عنه، وذلك باعتباره أفضل المرشحين الستة لخلافة المسلمين، وبرزت الفتنة في أواخر خلافته، وحوصر وقُتل مظلوماً شهيداً رضي الله عنه.
وتولى الخلافة من بعده عليٌ رضي الله عنه ، ولم يُجمع الناس على بيعته، حيث برزت التهم الموجهة له ولأهل المدينة بأنهم تواطؤا، أو تساهلوا ، مع الثوار ، حتى قُتل عثمان رضي الله عنه بين أظهرهم.
وكانت بلاد الشام بقيادة معاوية رضي الله عنه تُمثل هذا التيار المعارض، وكان يسيطر على أهل الشام شعورٌ جارفٌ بوجوب الانتقام من قتلة عثمان الذين يُمثلون قطاعاً من جيش علي رضي الله عنه، وحدث القتال والفرقة، وقُتل من قُتل من المسلمين، وهنا ظهرت فرقة الخوارج التي تكفّر المسلمين وتستحل قتالهم، وفرقة الشيعة التي بدأت تغالي في علي وأبنائه رضي الله عنهم.

وأمام هذا التغيّر في بعض معتقدات وأفكار فئة من المجتمع الإسلامي، حتّمت الظروف وواقع المجتمع - في تلك الفترة - على معاوية أن يعيد النظر ويتبصر فيمن سيكون خليفة للمسلمين من بعده .

فأهل الشام الذين انتصروا لقتل عثمان رضي الله عنه أثبتوا أنهم أناسٌ مخلصون لمبادئهم وأهدافهم، لهذا حقق بهم معاوية - بإرادة الله - انتصاراته على أهل العراق.
وأهل العراق الذين ينضوي تحت قبائلهم الثوارُ المتهمون بقتل عثمان رضي الله عنه لم يربط بينهم روابط دينية محددة، فيوجد في صفوفهم : الخوارج ، الذين يستحلون دماء المسلمين، ويوجد : الشيعة ، التي تبلورت لديهم نظرة متطرفة حول الإمامة، وأصبح البعض منهم يرى أن الخلافة إنما هي قصرٌ على آل البيت دون سواهم، وأصبح مذهبهم يميل إلى السرية ، علاوة على كثرة أهل الشقاق، ومحبي الفتن في هذا الإقليم، والذين كانوا أحد الأسباب في خذلان علي رضي الله عنه، وكانوا مصدر أذىً وبلاء عليه وعلى أبنائه من بعده .
وأما أهل الحجاز؛ ففيهم الصحابة وكبار التابعين، أهل الفقه ، والراسخون في العلم ، ويعتبر الحجاز في تلك الفترة المكان الذي يُمثل الإسلام أحسن تمثيل، فلا يوجد فيه أصحاب العقائد الفاسدة، ولم تظهر فيه المنكرات والبدع، وكانت بيئة أهل الحجاز بيئة علم ودين وتقى ؛ لوجود الصحابة وأبنائهم في كلٍ من مكة والمدينة.
ويبرز من أهل الحجاز أبناءُ الصحابة الكبار ؛ أمثال الحسين بن علي، وعبدالله بن الزبير، وعبد الله بن عمر، وعبد الرحمن بن أبي بكر، كأفضل المرشحين ليتولى أحدهم الخلافة بعد معاوية رضي الله عنهم .


وهنا يبرز سؤالٌ مُلح ، وهو : لماذا لم يُرشح معاوية أحدًا من هؤلاء الأربعة ؟

وللإجابة على هذا السؤال ؛ فإنه يلزمنا الرد على سؤال آخر يطرح نفسه: وهو من هم أهل الحل والعقد الذين يُمكن لهم اختيار الخليفة ، ومن ثمّ مبايعته ؟
ولكي لا نُبعد عن الحقيقة ، يمكننا أن نقول: إن تطبيقات النظام السياسي في الإسلام لم تأخذ حقها من الممارسة الطويلة حتى تتضح الصورة بجلاء حول اختيار الخليفة؛ والخلافة وما يتعلق بها من أحكام.
فمَن هم أهل الحل والعقد في عهد معاوية؟
أتراهم أهل الشام ، الذين يمثلون الثقل السياسي والعسكري والقيادي في الدولة؟
أم هم أهل الحجاز؟ وهل يدخل في نطاقهم الأنصار وغيرهم، أم هم قريش فقط ؟
ومَن أهل الحل والعقد في العراق ؟ أتراه الأمير المعين من قبل الدولة وأمراء الجند؟ أم هم زعماء القبائل العربية مع ما يمثلون من اختلاف في مشاربهم واتجاهاتهم ؟
ومَن يا ترى أهل الحل والعقد في مصر؟ هل هم العثمانية الذين برزوا كقوة مناصرة لمعاوية وأهل الشام أثناء النـزاع بين علي ومعاوية؟ أم يكونوا أمراء الجند ومن ينضم معهم من عليه القوم هناك ؟ ،
في الحقيقة ؛ إننا لا نستطيع أن نُحدد بدقة أهل الحل والعقد في كل بلد؛ ومن ثم يبدو افتراض أن معاوية سينجح في جمع الكلمة على رجل واحد أشبه بالمستحيل.
فأهل الشام ينظرون لأهل العراق كموطن للثوار الذين اغتالوا عثمان، وليس من المعقول أن يتنازل أهل الشام عن مكاسبهم ومبادئهم التي قاتلوا من أجلها ؛ وهي نصرة الخليفة المظلوم والأخذ بثأره .
فكيف يُمكن لأهل الشام أن يسمحوا بترشيح شخص يحظى بدعم أهل العراق ؟!

وأهل المدينة خصوصاً ، وأهل الحجاز عموماً ، ينظر الشاميون لهم على أنهم يشتركون اشتراكاً فاعلاً في تحمل المسؤولية عن قتل عثمان رضي الله عنه، فقد حوصر أكثر من شهر ، ثم تسور الثوار المنـزل عليه وقتلوه بين أظهر أهل المدينة، فإذن ليس من المعقول - حسب نظرة أهل الشام - أن يقبلوا بمرشحٍ من أهل المدينة.
هذا تقريب لنظرة أهل الشام لمن سيكون مرشحاً للخلافة من هذه الأقاليم.
ولا تبعد كثيرًا نظرة أهل العراق عن نظرة أهل الشام فيمن سيكون خليفة بعد معاوية رضي الله عنه ، فأهل العراق يؤيدون بقوة الحسين بن علي رضي الله عنه، ومن الصعوبة أن يقتنعوا بشخص آخر يحل محله .
ثم إن الأشخاص المرشحين لن يحظوا بتأييد كامل من أقرانهم، فالأمويون لا يرغبون في تحول الخلافة لشخص من غيرهم، فهم أكبر قبيلة في قريش، وهم أهل السيادة والإمارة، كما أنهم على خلاف مع بعض أبناء الصحابة في المدينة.

ثم إن نفس المرشحين للخلافة الذين يُفترض أن الخلافة ستنحصر في أشخاصهم لم يُجمعوا أمرهم على شخص بعينه، بل إن كل واحد منهم يرى في نفسه الأحقية والأهلية التي تجعل منه خليفة للمسلمين .
وحتى ابن عمر رضي الله عنه الذي ربما اجتمعت عليه الآراء، ويُجمع غالب المسلمين على ترشيحه، موقفه من الخلافة معروف، وهو من أزهد الناس فيها .

وحسماً للخلاف الذي ربما أدى بالأمة إلى نزاعات جديدة، وفتح ثغراث في كيانات الدولة، نظر معاوية إلى ابنه يزيد على أنه المرشح الذي سيحظى بتأييد أهل الشام ، الذين يُمثلون العامل الأقوى في استقرار الدولة.
وقد أبرز معاوية رضي الله عنه السبب الذي دعاه لاختيار ابنه يزيد ، وذلك أثناء جمع التأييد له من كبار أبناء الصحابة في رحلته الأخيرة للحج.

إذن ؛ كان الدافع لمعاوية رضي الله عنه عندما سارع في أخذ البيعة ليزيد هو خوفه من الاختلاف، الذي قد يطرأ على الأمة بعد موته، وربما تنخرط في قتال جديد لا يعلم سعته ومداه إلا الله عز وجل .


ثانياً: السبب الاجتماعي : قوة العصبية القبلية :

لقد خاض معاوية رضي الله عنه الحرب، وتولى الخلافة بنصرة من أهل الشام، وكانوا من أشد الناس طاعة لمعاوية ، ومحبة لبني أمية.
كانت عندهم نظرة متأصلة تجاه أهل المدينة وأهل العراق، بأنهم السبب في قتل خليفة المسلمين عثمان بن عفان رضي الله عنه .
ومن الدلائل على تلك الطاعة والمحبة : أن معاوية رضي الله عنه لما عرض خلافة يزيد بن معاوية على أهل الشام وافقوا موافقة جماعية ، ولم يتخلف منهم أحد، وبايعوا ليزيد بولاية العهد من بعد أبيه .
فهل كان أهل الشام سيرضون بأن يتولى الخلافة أحدٌ غير بني أمية ؟ بالمقابل : هل سيرضى كثير من أهل العراق أن يتولى الخلافة رجل من غير آل البيت؟ لقد كان هناك شعور قوي بأهمية بقاء الخلافة في بني أمية، وفي بلادهم.
فمثلاً : لما بايع بعضُ أهل الشام لابن الزبير ، اعترض كثيرٌ من أشراف أهل الشام على ذلك ، وقالوا: إن الملك كان فينا ، فينتقل إلى أهل الحجاز ؟ لا نرضى بذلك.

وكانت الدولة الإسلامية في بدايتها - أي في عصر الخلفاء الراشدين - يسيطر عليها الوازع الديني ، إلا أنه منذ خلافة معاوية كانت العصبية قد قويت، والوازع الديني قد ضعف في النفوس ، واحتيج إلى الوازع السلطاني والعصباني، فلو عُهد إلى غير من ترتضيه العصبية لردت ذلك العهد ، وانتقض أمره سريعاً، وصارت الجماعة إلى الفرقة والاختلاف.
إن نظرة ابن خلدون هذه ، واستنتاجه ؛ لجديرٌ بالاحترام والتأييد، وخصوصاً وأن ابن خلدون خاض الحياة السياسية ، ودخل في غمارها، فاستنتاجه هذا مبنيٌ على تجربة، هو أدرى بظروفها ونتائجها.

وبالذات ؛ فإن منعطفات السياسة، يكتنفها في الغالب الغموض وعدم الوضوح، فليس بوسع أي شخص أن يدرك هذه الحقائق منذ الوهلة الأولى.

ثم لا ننسى قوة قبيلة كلب من حيث الوجود والكثرة بين قبائل أهل الشام، وهم أخوال ليزيد.
وإذا أردنا أن نميز قوة القبيلة، وبالذات قبيلة كلب، ودورها في تقرير السلطة، لنتذكر ما عمله حسان بن مالك بن بحدل سيد قبيلة كلب ، وهو من أخوال يزيد، هذا الزعيم القبلي هو الذي شد الخلافة لمروان بن الحكم فيما بعد.
ويذهب إبراهيم شعوط إلى إعذار معاوية فيما اتخذه من العمل على أخذ البيعة ليزيد فيقول: " لما كانت العصبية والقوة في بني أمية، فقد أصبح تصرف معاوية بتولية يزيد أمراً طبيعياً يُقره المنصفون ويحرص عليه العقلاء".
ثم إنه من الناحية العملية كان نقل الخلافة من الأمويين إلى غيرهم في ذلك الوقت مطلباً يكاد يكون مستحيلاً، فالولاة على الأقاليم كانوا من بني أمية أو من أتباعهم، وإسناد الخلافة إلى أحد من أبناء الصحابة في الغالب هو عزل لهؤلاء الولاة، وقد يرفض البعض قرار العزل، ثم ستتكرر معارك الجمل وصفين على نطاق واسع.
ومن الدلالة على قوة العصبية في بلاد الشام لبني أمية، أن مروان بن الحكم تمكن من الانتصار بأهل الشام على عمال عبد الله بن الزبير، ثم تبعه بعد ذلك ابنه عبد الملك بن مروان، حتى تمكن من الانتصار بأهل الشام على ابن الزبير ، وقتله عام 73 ، رضي الله عنه، ومع ذلك لم نجد أهل الشام انقادوا لابن الزبير، بل إن أهل العراق غدروا بأخيه معصب بن الزبير، ومالوا مع عبد الملك بن مروان ! فلماذا لم تجتمع الأمة على ابن الزبير وهو في ذلك الحين لا يشاركه أحدٌ في فضائله ومكانته ؟
بل نجد العكس: أن عبد الملك بن مروان الذي يُعتبر في السن كأحد أبناء عبد الله بن الزبير، تمكن من تولي زعامة المسلمين.


السبب الثالث: أسباب شخصية في يزيد :

لقد تجلت في يزيد بعض الصفات الحسنة ؛ من الكرم والمروءة والشجاعة والإقدام، والقدرة على القيادة، هذه المزايا جعلت معاوية ينظر ليزيد نظرة إعجاب وإكبار وتقدير.
وليس معاوية ذلك الرجل الذي يجهل صفات الرجال ومكانتهم، وهو ابن سلالة الإمارة والزعامة في مكة، ثم هو الذي قضى أربعين سنة من عمره، وهو يسوس الناس، ويعرف مزايا القادة والأمراء والعقلاء، ويعرف لكل واحدٍ منهم فضيلته.
لا شك أن الصحابة وأبناءهم أفضل من يزيد وأصلح، ولكن مع ذلك فإن معاوية ربما رأى في ولده مقدرة لم تكن لغيره في قيادة الأمة، بسبب عيشته المتواصلة مع أبيه، ومناصرة أهل الشام وولائهم الشديد له، ثم اطلاعه عن قرب على معطيات ومجريات السياسة في عصره ، وقد أنس معاوية رضي الله عنه من ولده يزيد حرصاً على العدل، وتأسياً بالخلفاء الراشدين، فقد كان يسأله عن الكيفية التي سيسير بها في الأمة ؛ فيرد عليه يزيد بقوله: "كنتُ والله يا أبةِ عاملاً عمل عمر بن الخطاب".
لقد كان معاوية رضي الله عنه يُدرك أن كثيراً من المزايا موزعة بين الشباب القرشي، وأن هذه المزايا مع تلك الطموحات الشخصية التي ظهرت فيما بعد ربما تُدخل الأمة في حروب وفتن كثيرة، فمع أن يزيد يشارك بعضهم في بعض ما يمتازون به ، إلا أنه يمتاز عليهم بأعظم ما تحتاج إليه الدولة، أي القوة العسكرية.
بيد أن معاوية يرى هذا التدبير على ما فيه من غمط حقوق الكفاءة للخلافة أضمن لسلامة الدولة، وتتقى به شرورٌ قد تستطير بين الناس كلما مات لهم خليفة، أو قوي أعداؤه فأرادوا استلاب الخلافة منه، ويخشى إذا ظل المسلمون على تناحرهم، أن يجمع أعداؤهم شملهم، ويعيدوا الكرّة عليهم في صميم جزيرة العرب، والله أعلم ما تكون النتيجة على الإسلام والمسلمين.
ولايُتهم الإمام في هذا الأمر ، وإن عهد إلى أبيه أو ابنه ؛ لأنه مأمورٌ على النظر لهم في حياته، فأحرى أن لا يحتمل فيها تبعته بعد مماته، خلافاً لمن قال باتهامه في الولد والوالد، أو لمن خصص التهم في الولد دون الوالد.
فإنه بعيد عن الظن في ذلك كله، لا سيما إذا كانت هناك داعية تدعو إليه من إيثار مصلحة، أو توقع مفسدة، فتنتفي الظنة عند ذلك رأساً، كما وقع في عهد معاوية لابنه يزيد، ، وإن كان فعل معاوية مع وفاق الناس له حجة في الباب.
قال ابن بطال: " وعقد الخلافة من الإمام المتولي لغيره بعده جائز على عامة المسلمين ؛ لإطباق الصحابة ومن معهم على العمل بما عهده أبو بكر لعمر، وكذا لم يختلفوا في قبول عهد عمر إلى الستة: وهو شبيه بإيصاء الرجل على ولده لكون نظره فيما يصلح أتم من غيره فكذلك الإمام " .
لقد كان ابن عباس يشهد ليزيد بالفضيلة، وبايعه، وكذلك بايعه ابن عمر، ولم يبق إلا الحسين بن علي الذي كان رضي الله عنه يغرر به أهل الفتن في حياة معاوية، ونهاه الحسن عنهم، وعزم على الذهاب لهم بعد وفاة معاوية، وقد حذره الصحابة ونهوه عن ذلك ؛ فأبى عليهم ، وحدث ما حدث.
أما ابن الزبير رضي الله عنه فكان معاوية يُحذره من تصرفاته، ثم تمنى أخيراً بعد الحصار أن معاوية حياً فيخلصه مما هو فيه، وندور المخالف معروف.


لقد عدل معاوية عن الفاضل إلى المفضول حرصاً على الاتفاق واجتماع الأهواء، الذي شأنه أهم عند الشارع، ولا يُظن بمعاوية غير هذا ؛ فعدالته وصحبته مانعة من سوى ذلك.
لقد كان النجباء من أبناء الصحابة كثير، منهم: ابن عمر وابن عباس وابن الزبير والحسين بن علي وعبد الله بن عمرو بن العاص وغيرهم ، ولم يكن أبناء الصحابة فيما بينهم يُجمعون على شخصية واحدة، فهذا ابن عباس لم يبايع ابن الزبير بعد وفاة يزيد بن معاوية ومبايعة كثير من الأقطار له ، بل كان يوجه إليه الانتقادات ، ويلومه في بعض أعماله.
وكذلك محمد بن الحنفية، وابن عمر لم يبايعا ابن الزبير، إذن ؛ فمن الذي يضمن تراضي جميع الأطراف على شخصية واحدة؟!
لقد اشترط الفقهاء شروطاً عديدة فيمن يصلح للإمامة ؛ من ضمنها : القرشية، والاجتهاد، والعدالة، والعلم ، والقوة، والسياسة، والحنكة، وحسن التدبير ، وغيرها.
ويروى عن الإمام أحمد إسقاط اعتبار العدالة والعلم والفضل.
والذي يظهر من سيرة عمر في عمّاله الذين كان يؤمرهم في البلاد، أنه كان لا يراعي الأفضل في الدين فقط، بل يضم إليه مزيد المعرفة بالسياسة ، مع اجتناب ما يخالف الشرع منها، فلأجل هذا استخلف عمرًا ومعاوية والمغيرة بن شعبة، مع وجود من هو أفضل من كلٍ منهم في أمر الدين والعلم، كأبي الدرداء في الشام ، وابن مسعود في الكوفة.
ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إني لأبعث الرجل وأدع من هو أحب إلي منه، ولكن لعله يكون أيقظ عيناً وأشد بأساً - أو قال - مكيدة".
ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعمل خالد بن الوليد على الحرب ، مع أنه أحياناً يعمل ما ينكره النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان أبو ذر أصلح منه في الأمانة، والصدق، ومع ذلك فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا أبا ذر إني أراك ضعيفاً وإني أحبُ لك ما أحب لنفسي: لا تأمرن على اثنين، ولا تولين مال يتيم".
فنهى أبا ذر عن الإمارة والولاية ؛ لأنه يراه ضعيفاً.
وكذلك استعمل أبو بكر : خالد بن الوليد، مع أنه يرى منه هفوات، ولم يعزله من أجلها ، بل ذلك لرجحان المصلحة على المفسدة في بقائه.
ونزع شرحبيل بن حسنة وقال: "تحرجنا من الله أن نقرك وقد رأينا من هو أقوى منك".
وعن ثابت مولى سفيان قال: سمعت معاوية وهو يقول: "إني لست بخيركم وإن فيكم من هو خير مني: عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو، وغيرهما من الأفاضل، ولكني عسيت أن أكون أنكأكم في عدوكم ، وأعلمكم ولاية، وأحسنكم خلفاً".
فإذا تعين رجلان أحدهما أعظم أمانة، والآخر أعظم قوة، قُدم أنفعهما لتلك الولاية، وأقلهما ضرراً فيها، فيُقدم في إمارة الحرب : الرجل القوي الشجاع، وإن كان فيه فجور، على الرجل الضعيف، وإن كان أميناً. فالواجب في كل ولاية الأصلح بحسبها .
"سئل الإمام أحمد عن الرجلين يكونان أميرين في الغزو، أحدهما قوي فاجر، والآخر صالح ضعيف ، مع أيهما يُغزى؟ قال: أما الفاجر القوي، فقوته للمسلمين، وفجوره على نفسه، وأما الصالح الضعيف، فصلاحه لنفسه ، وضعفه على المسلمين، يُغزى مع القوي الفاجر".
ومعظم المقصود من نصب الأئمة حياطة المسلمين، ودفع عدوهم، والأخذ على يد ظالمهم، وإنصاف مظلومهم ، وتأمين سبلهم، وتفريق بيت مالهم فيهم، على ما أوجبه الشرع، فمن كان ناهضاً بهذه الأمور ونحوها ، فبه يحصل مقصود الإمامة، وينتفع الناس بولايته، ويشملهم الأمن والدعة، ويطيب عيشهم، ويأمنون فيه على أنفسهم وأموالهم، وحُرمهم، وإن كان غيره أكثر علماً منه، أو أوسع عبادة، أو أعظم ورعاً ؛ فإنه إذا كان غير ناهض بالقيام بهذه الأمور، فلا يعود على المسلمين من علمه أو ورعه وعبادته فائدة، ولا ينفعهم كونه مريداً للصلاح ، وإجراء الأمور مجاريها الشرعية ، مع عجزه عن ذلك ، وعدم قدرته على إنفاذه.
قال الجويني: "والذي صار إليه معظم أهل السنة أن يتعين للإمامة أفضل أهل العصر ، إلا أن يكون في نصبه هرْج وهيجان فتن، فيجوز نصب المفضول، إذا كان مستحقاً للإمامة، كيف ولو تقدم المفضول في إمامة الصلاة لصحت الإمامة".

وهكذا يتضح لنا من خلال النصوص السابقة أن ولاية المفضول ثابتة وجائزة شرعاً.

ويزيد بن معاوية لا شك أنه مفضول ، وليس بالأفضل ، مع وجود كبار الصحابة وأبنائهم رضي الله عنهم، ولكن هناك بعض الأسباب التي حاولنا مناقشتها والتي ظهرت لنا من عزم معاوية على تولية يزيد، وأيضاً هناك بعض الأمور التي قد تخفى علينا ، والتي من أجلها أكد معاوية بيعة يزيد .


الخلاصة :

لنتصور أن معاوية رضي الله عنه سلك إحدى الأمور الثلاث الآتية:
1- ترك الناس بدون خليفة من بعده، مثلما فعل حفيده معاوية بن يزيد.
2- نادي في كل مصرٍ من الأمصار بأن يرشحوا لهم نائبًا ، ثم يختار من هؤلاء المرشحين خليفة.
3- جعل يزيد هو المرشح، وبايعه الناسُ كما فعل.
لنأخذ الأمر الأول:
كيف ستكون حالة المسلمين لو أن معاوية تناسى هذا الموضوع، وتركه حتى توفي.
أعتقد أن الوضع سيكون أسوأ من ذلك الوضع الذي أعقب تصريح معاوية بن يزيد بتنازله عن الخلافة، وترك الناس في هرج ومرج، حتى استقرت الخلافة أخيرًا لعبد الملك بن مروان، بعد حروب طاحنة، استمرت قرابة عشر سنوات.
ثم لنتصور الأمر الثاني:

نادى منادٍ في كل مصر بأن يرشحوا نائبًا عنهم، حتى تكون مسابقة أخيرة ؛ ليتم فرز الأصوات فيها، ثم الخروج من هذه الأصوات بفوز مرشح من المرشحين، ليكون خليفة للمسلمين بعد وفاة معاوية.
سيختار أهل الشام، رجلاً من بني أمية بلا شك ، ربما أنه يزيد وربما غيره.
سيختار أهل العراق في الغالب الحسين بن علي رضي الله عنهما .
وسيختار أهل الحجاز: إما ابن عمر أو عبد الرحمن بن أبي بكر، أو ابن الزبير رضي الله عنهم .
وسيختار أهل مصر: عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه .
ولكن : هل سيرضى كل مِصرٍ بولاية واحدٍ من هؤلاء، ويسلموا له، أم ستكون المعارضة واردة؟!
أعتقد أن المعارضة ستظهر، وفي هذه الحالة هل يستطيع معاوية أن يُلزم كل مصر بما اختاره أهل المصر الآخر؟
ستجد الدولة نفسها في النهاية أمام تنظيمات انفصالية، وسيعمد أدعياء الشر الذين قهرتهم الدولة بسلطتها إلى استغلال هذه الفوضى السياسية، ومن ثم الإفادة منها في إحداث شرخٍ جديد في كيان الدولة الإسلامية.
نحن نورد هذه الاعتراضات، وربما حصل ما أشرنا إليه ، وربما حدث العكس من ذلك. ولكنا أوردنا ذلك حتى نتصور مدى صحة الآراء التي أحيانا يُطلقها ويتحمس لها البعض دون الرجوع إلى الواقع التاريخي المحتم آنذاك.
لقد تعرض المجتمع المسلم إلى هزة عنيفة بعد استشهاد عثمان رضي الله عنه ، وترك كيانات وتيارات سياسية وعقائدية خطيرة، استوجبت من معاوية أن يدرك خطورة الأمر ، والفرقة التي سوف تحصل للمسلمين إذا لم
يسارع بتعيين ولي عهد له، ثم إن غلبة أهل الشام وقوة تعصبهم لبني أمية ووجود الشك عندهم لأهل المدينة كان ذلك عاملًا مرجحًا لمعاوية على إقدامه على هذا الأمر.


ويبقى الأمر الثالث: وهو ما فعله معاوية رضي الله عنه ، وقد أيّده بعض الباحثين بسبب السلامة التي تنشأ من عدم التنازع على السلطة:

قال محمد كرد علي:
" إن بوضع قانون ولاية العهد في الإسلام يعطي بعض الحيطة، التي تنجي من انقسام الكلمة، وربما يخطئ رأس الملة في تولية من يريد ... ولكن العهد للأبناء والأخوة أو أبناء العم على شرط الكفاية في الجملة أقرب إلى سلامة الدولة من فتنة تنشب بين الأحزاب وأصحاب العصبيات، كل حزبٍ يرشح خليفة بالحق والباطل، حتى لا يكاد الصالح من المستخلفين أدنى مما يجد الطالح من المعونة والمظاهرة ".


ويقول إبراهيم شعوط:
"ونحن نعلم أنه إذا كانت دائرة اختيار الخليفة ضيقة ؛ كان ذلك أدعى للحفاظ على الوحدة، كما يحفظ للدولة سيرها في طريق التقدم والنفوذ. كما أننا نعلم أنه كلما اتسعت دائرة الاختيار كثر الراغبين في ترشيح أنفسهم ، وبخاصة إذا راعينا اتساع رقعة الدولة وشمولها عناصر مختلفة من أجناس مختلفة، مع صعوبة المواصلات بين هذه البلاد المفتوحة ".


كما أن ولاية العهد لا تنافي حق الأمة في الاختيار، والظاهر من أقوال الفقهاء أن التكليف الشرعي لولاية العهد أنها لا تزيد على ترشيح من يصلح للخلافة لتبايعه الأمة بعد ذلك برضاها، فإن بايعته انعقدت له الإمامة، وإن رفضت بيعته أو بايعت غيره ؛ سقط الترشيح السابق له وكأنه لم يكن، وبهذا تبقى الأمة هي صاحبة القول الفصل في اختيار الحاكم. ويدل على صحة ما ذكرنا على أن ولاية العهد لا تعدو كونها ترشيحًا ، ما قاله أبو يعلي: " يجوز للإمام أن يعهد إلى إمام بعده ... ولأن عهده إلى غيره ليس بعقدٍ للإمامة ؛ لأن الإمامة لا تنعقد للمعهود إليه بنفس العهد وإنما تنعقد بعقد المسلمين ، بدليل أنه لو كان عقدًا لها لأفضى ذلك إلى اجتماع إمامين في عصر واحد ، وهذا غير جائز ... إن إمامة المعهود إليه تنعقد بعد موته أي بعد موت الإمام القائم- باختيار أهل الوقت " .


ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " ولا يصير الرجل إمامًا حتى يوافقه أهل الشوكة الذين يحصل بطاعتهم له مقصود الإمامة، فإن المقصود من الإمامة إنما يحصل بالقدرة والسلطان، فإذا بويع بيعة حصلت بها القدرة والسلطة صار إمامًا ".


وباعتبار ولاية العهد مجرد ترشيح وأنه يُسبق بمشاورة أهل الحل والعقد وظهور رضاهم عن المرشح، فإنه لا شك مسلك سديد وحميد لاختيار الخليفة ، ولا يناقض حق الأمة في اختيار الخليفة، بل وقد يرجح على طريقة انتخاب أهل الحل والعقد للخليفة دون عهد منه إلى أحد، لما في العهد من حسمٍ لمادة الخلاف والنزاع، ولهذا رجح هذه الطريقة الإمام ابن حزم فقال: " وهذا -أي العهد- هو الوجه الذي نختار ونكره غيره ؛ لما في هذا الوجه من اتصال الإمامة، وانتظام أمر الإسلام وأهله، ورفع ما يُتخوف من الاختلاف والشغَب مما يتوقع في غيره، من بقاء الأمة فوضى ومن انتشار ، الأمر وحدوث الأطماع ".

ثم إن مسألة الأسلوب الذي يحسن اتباعه لاختيار خليفة أو رئيس دولة بوجه عام ، هي من المسائل التي لم يعرض لها القرآن والسنة الصحيحة، ثم إن الخلفاء الراشدين، لم يتم اختيارهم طبقًا لأسلوب واحد معين، بل جرى اختيارهم -كما هو معلوم- بناءً على أساليب مختلفة.
فمسألة الأسلوب الواجب اتباعه لتطبيق مبدأ من المبادئ ، أو لتحقيق هدف من الأهداف هي من المسائل التي تتأثر وتتغير بتغير ظروف الزمن والمكان.

ثم إن هذا العمل الذي عمله معاوية رضي الله عنه ليس بدعة خرج بها عن نصوص الشرع ، بل اجتهاد في أمرٍ لم تجتمع الأمة على خلافة.

وكان لتغير الزمن والظروف أثرٌ كبير في أخذ معاوية البيعة من الناس لولده يزيد، فالوقت الذي كان المجتمع الإسلامي فيه محصورًا في المدينة وكان العدد قليلًا، حيث كان من الممكن اجتماع الناس وتشاورهم، وكانوا من التقوى والورع بالمكان الذي كانوا فيه، وكان من الميسور اتفاقهم أو إجماعهم- هذا الوقت قد انقضى وتفرق المسلمون في الأمصار، وكثرت الجماعات وتعددت المذاهب وظهرت العصبيات، فصار من المتعسر اجتماع الناس أو اتفاقهم على أمر أو شخص، فنظام الشورى أو الاختيار والمبايعة العامة من كل فرد -وهو النظام المثالي والنظام الإسلامي الكامل- صار من الصعب تطبيقه في ذلك الزمن.
إن الظروف الواقعية صارت تقتضي أو تحتم إجراء مثل هذا العمل.
ولكن المثال أو النظام المثالي ينبغي في الوقت ذاته أن يظل ماثلًا في الأذهان ، ويحافظ عليه على أنه الذي يمثل نظام الحكم الحقيقي للإسلام، وتظل قواعد ومبادئ هذا النظام مقررة في النظريات الإسلامية، ومدروسة ومعروفة يجب العودة إليها وتطبيقها، كلما صار ذلك ممكنًا ، وكلما أتاحت الظروف.


وعلى كل تقدير ؛ فهذا لا يقدح فيما عليه أهل السنة، فإنهم لا ينزهون معاوية رضي الله عنه ولا من هو أفضل منه من الذنوب، فضلًا عن تنزيههم عن الخطأ في الاجتهاد، بل يقولون إن للذنوب أسبابًا تدفع عقوبتها من التوبة والاستغفار والحسنات الماحية، والمصائب المكفرة، وغير ذلك. وهذا أمر يعم الصحابة وغيرهم.
ومعاوية رضي الله عنه من خيار الملوك الذين غلب عدلهم على ظلمهم .

والذي يجب أن نعتقده في معاوية أن قلوبنا لا تنضوي على غلٍ لأحد من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، بل نقول: { وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ }.


ونقول بأن معاوية رضي الله عنه اجتهد للأمة خوفًا عليه من الانقسام والفتن، ولا يمكن أن يُحمّل تبعات كل أخطاء الملوك والأمراء الذين جاؤوا بعده !! كما يقرره بعض الإسلاميين الثوريين .


وللتنبيه ؛ فإن بيعة يزيد قد قبلها الكثير حتى من الصحابة رضوان الله عليهم ، فقد بايعه ستون من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فيهم ابن عمر رضي الله عنه .
وقد كانت معارضة بيعة يزيد مثار انتقاد وتعجب من بعض الصحابة رضوان الله عليهم.
عن حميد بن عبد الرحمن قال: دخلنا على أُسير ، رجل من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، حين استخلف يزيد في معاوية قال: يقولون إن يزيد ليس بخير أمة محمد، ولا أفقهها فقهًا، ولا أعظمها شرفًا، وأنا أقول ذلك ، ولكن والله لأن تجتمع أمة محمد صلى الله عليه وسلم أحبُ إليَّ من أن تفترق، أرأيتكم بابًا لو دخل فيه أمة محمد صلى الله عليه وسلم وسعهم ، أكان يعجز رجل واحد لو دخل فيه ؟ قال: قلنا : لا ، قال: أرأيتكم لو أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم قال كل رجل منهم لا أهريق دم أخي ولا آخذ ماله ، أكان هذا يسعهم؟ قال: قلنا : نعم، قال : فذلك ما أقول لكم .
توفي عبد الرحمن بن أبي بكر بُعيد خروج معاوية من المدينة أي حوالي سنة 53هـ ولم يبق من المعارضين إلا ثلاثة ؛ هم ابن عمر وابن الزبير والحسين بن علي رضي الله عنهم .
أما ابن عمر ؛ فلما رأى الناس مجتمعة على يزيد بايعه وأرسل بيعته بعد وفاة معاوية رضي الله عنه وقال: " إن كان خيرًا رضينا ، وإن كان بلاءً صبرنا " ، وكذلك ابن عباس ومحمد بن الحنفية.
وانحصرت المعارضة في شخص ابن الزبير والحسين بن علي رضي الله عنهما - كما هو معلوم - .


رضي الله عن الصحابة أجمعين ، وجعلنا الله ممن قال عنهم :
( وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ في قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ) .



الهوامش :

( 1 ) مستدرك الوسائل: ج11، ص315.
( 2 ) تُنظر : رسالة الدكتور خالد الغيث : " مرويات خلافة معاوية رضي الله عنه في تاريخ الطبري " ، ( ص 155-167) .
( 3 ) ( ص 126-140 ، 146 – 153 ) بتهذيب يسير . وهوامش النقولات الموجودة في هذا المبحث موثقة في رسالته . ويُنظر - أيضًا - : رسالة " العالم الإسلامي في العصر الأموي " ؛ للدكتور عبدالشافي محمد عبداللطيف ، ( ص 129 ) .






  رد مع اقتباس
إضافة رد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 05:14 AM.


Powered by vBulletin® , Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir
" ما ينشر في المنتديات يعبر عن رأي كاتبه "