بسم الله الرحمن الرحيم
ليت شعراءنا وأدباءنا الذين مرّوا بالصبوة في شبابهم ؛ إما بالانخراط في تيار الحداثة ، أو الانشغال بقصائد الغزل واللهو يقتدون بالأديب ابن عبد ربه الأندلسي – رحمه الله – صاحب الكتاب الشهير " العقد الفريد " .
فقد قال ياقوت الحموي في ترجمته من " معجم الأدباء " ( 1 / 609 – 617 ) : ( إن ابن عبد ربه، أقلع في آخر عمره عن صبوته، وأخلص لله في توبته، فاعتبرَ أشعاره التي قالها في الغزل واللهو، وعمل على أعاريضها وقوافيها في الزهد، وسماها " المُمحِّصات " ) .
فمن ذلك : قوله وقد أزمعت من كان يغازلها على الرحيل في غد، فأتت السماء بمطر عظيم حال بينها وبين الرحيل، فقال ابن عبد ربه:
هلا ابتكرتَ لبينٍ أنت مبتكر
هيهات ! يأبى عليك اللهُ والقدَرُ
ما زلتُ أبكي حذار البين ملتهفًا
حتى رثى لي فيك الريحُ والمطرُ
يا بردة من حيا مزنٍ على كبدٍ
نيرانها بغليل الشوق تستعرُ
آليت أن لا أرى شمسًا ولا قمرًا
حتى أراكِ فأنتِ الشمس والقمرُ
فلما تاب ، قال في معارضتها :
يا عاجزاً ليس يعفو حين يقتدر
ولا يقضَّى له من عيشه وطرُ
عاين بقلبك إن العين غافلة
عن الحقيقة واعلم أنها سقرُ
سوداء تُزفر من غيظ إذا سعرت
للظالمين فلا تبقي ولا تذرُ
إن الذين اشتروا دنيًا بآخرة
وشقوة بنعيم ساء ما تجروا
يا من تلهّى وشيب الرأس يندبه
ماذا الذي بعد شيب الرأس تنتظرُ
لو لم يكن لك غير الموت موعظة
لكان فيه عن اللذات مزدجرُ
أنت المقول له ما فات مبتدئاً
(هلا ابتكرت لبين أنت مبتكرُ)
ومن أشعاره بعد التوبة – رحمه الله - :
ألا إنما الدنيا غضارة أيكة
إذا اخضرّ منها جانب جف جانب
هي الدار ما الآمال إلا فجائع
عليها، ولا اللذات إلا مصائب
وكم سخنت بالأمس عينٌ قريرة
وقرت عيون دمعها اليوم ساكب
فلا تكتحل عيناك فيها بعبرة
على ذاهب منها فإنك ذاهب
ومن ذلك قوله قبل موته بأحد عشر يوماً، وهو آخر شعر قاله، وفيه بيان مبلغ سنه:
كلانى لما بي عاذلي كفاني
طويت زماني برهة وطواني
بليت وأبلتني الليالي وكرها
وصرفان للأيام معتوران
وما لي أبلى لسبعين حجة
وعشر أتت من بعدها سنتان
فلا تسألاني عن تباريح علتي
ودونكما مني الذي تريان
وإني بحمد الله راجٍ لفضله
ولى من ضمان الله خير ضمان
ولست أبالي عن تباريح علتي
إذا كان عقلي باقيًا ولساني
هما ما هما في كل حال تلم بي
فذا صارمي فيها، وذاك سناني
رحمه الله ، وتقبّل توبته ، ووفق أدباءنا للاقتداء به .. والله الهادي .