أسامة شحادة – كاتب أردني :
في اعتقادي أن كثرة المحن التي يتعرض لها المسلمون، هي دليل على العافية؛ لأن الجسم الميت لا تصيبه الأمراض والأسقام. وكما قال المتنبي: فربما صحت الأجسام بالعلل!
ونلاحظ أن الأمة الإسلامية لا تفنى برغم كل المحن التي مرت بها، بل العكس؛ إذ سرعان ما تنبت من بين ركام هذه المحن منح عظيمة، وسرعان ما تتبرعم الأزهار الجميلة على الأطلال، وتعود روضة غنّاء.
لعَمركَ إنَّ البلاءَ سَبيلٌ
لتَمكينِ قَلبكَ في الأَنفَسِ
قضَى اللهُ ذاكَ على عَبدهِ
وأَهدى لهُ عَزمةَ الفارِسِ
وألقَى عليهِ الرِّضا مِنحةً
وأَغناهُ عن غَيرهِ المُفلسِ
إلهٌ كريمٌ جوادٌ حَليمٌ
عَظيمُ العطاءِ، فَلا تَعبِسِ
بلاؤكَ سهلٌ ولَيس لهُ
سِوى الصبرِ.. هيَّا له فاكتَسِ
بلاؤكَ مهرٌ لجنَّاتِ عدنٍ
فصابرْ ولا تكُ ذاكَ النَّسي
صفاءُ فؤادكَ رهنُ ثباتِـ
كَ حيثُ طريقُ الهَنا الأَسلسِ
ولنتذكر دوماً قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له" (صحيح مسلم).
منذ أشهر، ومسلمو جمهورية أفريقيا الوسطى يتعرضون للترويع والقتل والتهجير، تحت سمع وبصر الحكومة هناك، وقوات حفظ السلام الفرنسية. ولم يتحرك أحد لنجدتهم، برغم إدراك الجميع لخطورة ما يتعرضون له على يد ميلشيات "مناهضي بالاكا" المسيحية. وتُعرف مليشيا مناهضي بالاكا (أو مناهضة السواطير بلغة السانغو) أيضا بالمليشيات المسيحية للدفاع الذاتي. وهي جماعات مسلحة محلية أنشأها الرئيس فرنسوا بوزيزيه، وتضم في صفوفها بعض جنود الجيش الذين خدموا في عهده.
وقد مارست ميلشيات بالاكا عمليات قتل وحشية ضد المدنيين المسلمين، تضمنت حرق الجثث وبتر الأعضاء وبقر بطون النساء وتدمير المساجد وتهجير أعداد كبيرة من السكان المسلمين.
وقد أكدت الأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية أن المليشيات المسلحة في "أفريقيا الوسطى" تشن تطهيراً عرقيّاً ضد المسلمين العُزّل. وذكرت وسائل الإعلام أن عشرات الآلاف من المسلمين ينتظرون دورهم في المطارات ليغادروا "أفريقيا الوسطى"، وينجوا بحياتهم. كما أعلنت الأمم المتحدة أن عدد النازحين بلغ 935 ألف شخص، ما دعا منظمة "هيومان رايتس ووتش" إلى التحذير من نتيجة هذا التهجير الذي قد يضطر جميع المسلمين في البلاد إلى مغادرتها.
وهناك اتهامات قوية للقوات الفرنسية لحفظ السلام بالانحياز للميلشيات المعتدية، من خلال تجريد مليشيات "سيلكا" من أسلحتها، وعزلها في بعض المعسكرات، لفتح المجال لمليشيات السواطير للقيام بجرائمها بحق المسلمين، بما يناقض حقوق الإنسان، ويتعارض مع القانون والمواثيق والأعراف الدولية، ويعد خرقا لمبادئ الاتحاد الأوروبي.
وبشأن خلفيات هذه المجازر والتهجير بحق المسلمين، فتتمثل في أسباب داخلية، تتعلق بحماية الفساد والفوضى في الدولة، ومنع المسلمين من الحصول على حقوقهم في المشاركة السياسية، وهم الذين يشكلون 20-25 % من سكان الدولة.
أما الأسباب الخارجية، فتتعلق بالمزيد من النهب والسرقة (القانونية) لخيرات أفريقيا الوسطى الغنية بالماس واليورانيوم وغيرها من المعادن والثروات الطبيعية.
ومع كل هذا، فلن تكون هذه المجازر إلا نوراً يضيء الطريق للمسلمين في كل مكان، بأن الحق لن يضيع، وبأن المجرمين سيخسرون ولا بد. ولنا في البوسنة والهرسك مثال. فرغم سيل الدماء وتواطؤ العالم أوقاتا طويلة، إلا أن الإسلام بقي فيها، بل بدأ يزدهر وينمو من جديد، ويرسم مستقبلاً واعداً.
إن هذه الجرائم بحق المسلمين، برغم ما فيها من آلام وتضحيات وفقد لمكتسبات وأحباء وأبرياء، تظل تؤكد لنا أننا نسير على الدرب الصحيح. فالمجرمون والسارقون والظالمون والمعتدون والكافرون، لا يقبلون أن يزدهر الخير ويعم الصلاح وتشرق العدالة، لأنهم يخسرون ويفقدون ما حازوه بغير حق، ولأنهم يدركون أن نور الإيمان يغطي على كل باطلهم ويفسده.
ولنا في قصة أصحاب الأخدود عبرة: "قُتل أصحاب الأخدود * النار ذات الوقود * إذ هم عليها قعود * وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود * وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا باللّه العزيز الحميد" (البروج، الآيات 4-8). فهؤلاء ما قُتلوا إلا لأنهم آمنوا بدعوة الغلام الصالح؛ فتعرضوا للحرق. ولكن هل دامت الدنيا لمن حرقهم؟ كلا! بل لقد زال ملكه وذكره، وبقيت ذكرى أصحاب الأخدود تملأ الدنيا عبرة وذكرى، ولهم عند الله "جنات تجري من تحتها الأنهار ذلك الفوز الكبير" (البروج، الآية 11).
إن المسلمين يزدادون بكل محنة قوة وبصيرة، لأنهم على الحق. ويكتسبون وعياً بذاتهم وهويتهم، وإصراراً على التمسك بدينهم وحقهم، ويكسبون كل يوم أنصاراً على الحق ومؤمنين جددا، ممن صفت قلوبهم وسلمت عقولهم، من الذين يحبون الحق والعدل والسلام والرحمة؛ وذلك حين يرون الظلم الواقع على المسلمين دون جناية، ويرون الصبر على المكاره دون عدوان، ويرون الشجاعة والحكمة والبطولة في استعادة الحقوق بالحق.
لهذا، لم ولن تتوقف عجلة انتشار الإسلام في العالم، مهما خطط المخططون أو تآمر المتآمرون؛ قال الله تعالى: "يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون" (التوبة، الآية 32). ويقيناً منا ببشارة النبي صلى الله عليه وسلم: "ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، عزا يعز الله به الإسلام وأهله، وذلا يذل الله به الكفر" (رواه أحمد وصححه الألباني).