ثم إنه قد نشأ في الأمة فرقتان ضلتا في هذا الباب . فرقة كان ضلالها بنفي القدر , وأخرى بالغلو في إثباته , وكلاهما على طرفي نقيض , وكلا طرفي قصد الأمور ذميم , وخير الأمور الوسط .
وغلاة منكري القدر كانوا ينكرون القدر بمراتبه الأربعة , وهؤلاء ذكر غير واحد من أله العلم أنهم انقرضوا , ثم صار أمر خَلَفِهم إلى إثبات العلم والكتابة وإنكار المشيئة والإيجاد , فيقولون ( إن الله علم فعل الإنسان وكتبه ولكنه لم يشأه ولم يوجده وإنما خلقه الإنسان )
وكان أحمد رحمه الله يقول ( ناظروا القدرية بالعلم فإن جحدوه كفروا وإن أقروا به خصموا ) وهؤلاء يسمون القدرية النفاة , وهم المعتزلة وهو الذين ورد فيهم أنهم مجوس هذه الأمة , لقولهم بخالقين , كالمجوس الذين قالوا بإثبات خالقين النور والظلمة , والمعتزلة أثبتوا خالقين : الله وهو خالق الأعيان , والإنسان وهو خالق أفعاله .
ويقابل هؤلاء القدرية المجبرة وهو الجبرية الجهمية , وهؤلاء غلوا في إثبات القدر , قالوا أفعال العباد بقدرة الله ولا قدرة ولا مشيئة للعبد فيها بل هو كالورقة في مهب الريح مجبور على فعل نفسه , والفاعل الحقيقي هو الله والإنسان ليس له مشيئة بل هو مثل الورقة في مهب الريح , ومن هنا سموا جبرية , وهؤلاء لا يطبقون مذهبهم في كل شئ بل يطبقونه في حالات دون حالات , وهذا تناقض , والتناقض دليل فساد المذهب , وهذه عادة أهل البدع الوقوع في التناقض . فإنه لو زنى الجبري وترك الصلاة وارتكب الموبقات فاعترض عليه أحد قال أنا مجبور كالورقة في مهب الريح .
بينما هو نفسه لو جاء شخص وضربه أو اعتدى على ماله أو حق من حقوقه وقال أنا كالورقة في مهب الريح لم يقبل منه الجبري ذلك , وهذا هو التناقض , فهو في الأمور التي يحبها يقول أنا مجبور , وإذا فُعل به ما يكره ترك مذهبه . ومن هنا يعلم أن مذهب أهل البدع ليس عن عقيدة وإنما هو عن أهواء وشهوات . ولذا قال بعض أهل العلم لأحدهم ( أنت عند الطاعة قدري , وعند المعصية جبري ) , لأنه إذا فعل الطاعة : أنا الفاعل لها بمشيئتي ولا قدرة لله عليها , وإذا فعل المعاصي قال : أنا مجبور ولا مشيئة لي . وهذا يبين أنهم أهل أهواء ومتبعون لحظوظ النفس .
ويُرد على الفرقتين بقوله تعالى ( لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ )(التكوير29,28) . ففي قوله ( لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ ... ) رد على الجبرية , وفي قوله ( وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ) رد على القدرية .
( وبالقدر المقدور أيقن ) أي آمن بالقدر المقدور , أي الصادر عن الربِّ سبحانه مقدراً محكماً , وقد عرفنا أنه لا إيمان بالقدر إلا بالإيمان بمراتبه الأربعة .
وقوله ( أَيْقِن ) اليقين ضد الشك والمراد أي لا يكن في قلبك أي شك في ذلك , فاليقين انتفاء الشك , وهو تمام العلم وكماله فإذا وجد شك أو تردد أو ظن ذهب اليقين . ولا يكفي العلم فقط بل لابد من اليقين .
( فإنه دِعامة عقد الدين ) ( الدعامة ) : بكسر الدال : عماد البيت وأساس البناء , و ( العِقْد ) بكسر العين القلادة , فالدين عبارة عن عِقد ينتظم أموراً كثيرةً , وله شعب متنوعة وأجزاء متعددة وأعمال وفيرة وله أعمدة ودعائم يقوم عليها بناؤه , والإيمان بالقدر هو أحد هذه الأعمدة والدعائم التي يقوم عليها هذا البناء , وهذا يؤكد أن زوال هذا الركن يؤدي إلى زوال الدين والإيمان , وانفراط هذا العقد المبارك .
( والدين ) أل هنا للعهد وهو إما ذهني أو ذكري , وهو هنا ذهني أي الدين المعهود وهو دين الإسلام ( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ... )(آل عمران19) وهو الدين الذي ارتضاه الله لعباده ( ... الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ... )(المائدة3) , ولا يقبل الله من أحدٍ دين سواه ( وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ )(آل عمران85)
( أفيح ) أي واسع , فيه أعمال كثيرة , وطاعات عديدة , وعبادات متنوعة وأحكام جليلة , ولكنه يقوم على أعمدة راسخة وأسس متينة , ومن تلك الأعمدة الإيمان بالقدر .
وينبغي أن يعلم أنه لا يتنافى مع الإيمان بالقدر فعل الأسباب بل إن من تمام الإيمان بالقدر فعل الأسباب , ويوضحه حديث علي رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما قال له بعض الصحابة : فيما العمل ؟ أفي أمر مستأنف أم في قدر وقضي ؟ ( بل فيما قدر وقضى ) قالوا ففيما العمل ؟ قال ( اعملوا فكل مسير لما خلق له , فمن كان من أهل السعادة يسره الله لعمل أهل السعادة ومن كان من أهل الشقاوة يسره لعمل أهل الشقاوة )(7) .
وهذه الكلمة من النبي صلى الله عليه وسلم فيها برد اليقين والشفاء . ولذا لما قال لهم ذلك كان منهم أمران : آمنوا بالقدر , وتنافسوا في فعل الأعمال واجتهدوا في الإتيان بالطاعات . وقوله صلى الله عليه وسلم ( اعملوا ) لا يُوجه لمن لا مشيئة له , بل هو موجه لمن لا مشيئة يختار بها ما يريد , وهذا يدل على أن الإنسان عنده مشيئة بها يختار ما يريد وهذا متقرر عند كل الناس في أمر الدنيا . وقوله صلى الله عليه وسلم ( فكل مسير لما خلق له ) أي : أن مشيئة العبد التي يعمل بها تحت مشيئة الله فالعبد له مشيئة بها يختار ويريد وليس مجبراً كالورقة في مهب الريح . فإذا كان الأمر كذلك فإن علينا أن نحرص على ما ينفعنا ونستعين بالله ونطلب منه العون والتوفيق كمال قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه أبوهريرة ( احرص على ما ينفعك واستعن بالله )(8) .
وإلى اللقاء في البيت الثاني والعشرون
ــــــــ
(7) أخرجه البخاري برقم4948 ومسلم برقم2647
(8) أخرجه مسلم برقم2664