والله نسيت وما أنسانيه الا الشيطان ان اذكره ويا له من ناصبي
مع أنني قد مضيت شوطا في كتابة الردود. وسوف اكتفي اليوم بالجواب على شبهتين فقط.
1- يتهم الاشاعرة البخاريَ بتأويله لوجه الله بأنه ملكه ..وذلك في صحيحه...
أولا: إن كان التأويل منهجا للبخاري فما له تأول صفة واحدة وتعطل منهجه في غيرها من الصفات؟
ثانيا: لا بد من تحرير معنى التأويل. فإن التأويل عندنا الذي معناه التفسير غير محرم. وإنما المحرم عندنا ما قلد فيه الأشاعرة سلفهم المعتزلة من التحريف الجهمي. كقولهم استوى أي استولى. وتحريمهم ان يتكلم الله بصوت وأن يتكلم متى شاء.
فالبخاري لم يؤول صفة من الصفات على المعنى الجهمي للتأويل، لا سيما وأن الآية هنا ليست متعلقة بإثبات صفة الوجه لله. والمعروف عن البخاري أنه مثبت لصفات الله، وقد تضمن صحيحه كتابا كاملا في التوحيد تضمن إثبات صفات الله تعالى، وهو مستدل دائما بكلام السلف في كثير من كلامه، والمطلع على كتبه يستطيع ان يؤكد أن منهجه على منهج السلف كأحمد والسفيانين والأوزاعي في إثبات الصفات لله تعالى. ومن ذلك مثلا اعتقاد البخاري أن الله يتكلم متى شاء. قال الحافظ: « غرض البخاري في هذا الباب إثبات ما ذهب إليه أن الله يتكلم متى شاء » (فتح الباري 13/496). فاعتقاد البخاري مماثل لعقيدة أحمد التي خالفها الأشاعرة كما حكاه الحافظ عن أحمد أنه يثبت أن الله يتكلم بصوت، في حين أن الأشاعرة قالوا: إن كلام الله ليس بصوت (فتح الباري 13/460).
وفي الاستواء روى البخاري تفسير السلف قوله تعالى: استوى على العرش قال مجاهد: أي علا على العرش. وقال أبو العالية استوى أي ارتفع.
ولو كان مؤولا شيئا لأول الاستواء مثلما قلد الأشاعرة فيه سلفهم المعتزلة الذين أولوا الاستواء بالاستيلاء.
واذا لم يجد الأشاعرة عند البخاري من تأويل الصفات إلا واحدة فقط: فليقتدوا به فيثبتوا جميع الصفات إلا واحدة فقط وهي هذه الآية: وهيهات أن يفعلوا. وبالمناسبة فإن البخاري يثبت الصوت لله بل ويثبت حدثا لله ليس كحدث مخلوقاته. فهل الأشاعرة مستعدون لإثبات الصوت والحدث لله تعالى؟
فهل هم مستعدون لتطبيق هذه الفقرة من صحيح البخاري: « ثُمَّ عَلاَ بِهِ فَوْقَ ذَلِكَ بِمَا لاَ يَعْلَمُهُ إِلاَّ اللَّهُ ، حَتَّى جَاءَ سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى وَدَنَا الْجَبَّارُ رَبُّ الْعِزَّةِ فَتَدَلَّى حَتَّى كَانَ مِنْهُ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى فَأَوْحَى اللَّهُ فِيمَا أَوْحَى إِلَيْهِ خَمْسِينَ صَلاَةً عَلَى أُمَّتِكَ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ» (البخاري7517).
الأمر الآخر أن الآية لا تتكلم عن الوجه كصفة وإنما تتكلم عما يبتغى به الله وجهه. وإذا لم تكن من آيات الصفات فلا جناح على البخاري أن يفسرها بما يراه حقا في ذلك. إذ ليست هي من آيات الصفات التي تثبت بها صفة الوجه لله تعالى، وإنما يثبت صفة الوجه بنصوص أخرى ذكرها البخاري من غير أن يتعرض لها بتأويل، فقد روى قوله : « أعوذ بوجهك » وقوله: « إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله » « ولا عتاقة إلا لوجه الله » لكنه لم يؤول شيئاً منها، مما يدل على أن الآية ليست عند البخاري من آيات الصفات.
2- ينكر الاشاعرة اقرار مشركي قريش بتوحيد الربوبية مستدلين بآيات مثل (((الذين اخرجوا من ديارهم بغير حق الا ان يقولوا ربنا الله .(ولم يقل :الا أن يقولوا الهنا الله)).قل اغير الله ابغي ربا (ولم يقل : ابغي الها ),,ان الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا ,,وبقول الملكين للميت من ربك ولا يقولون له من الهك ...وايضا أأرباب متفرقون خير ام الله الواحد القهار ...وكذلك آية مهمة .(لو كان فيهما آية الا الله لفسدتا ..حيث ان الاية تدل على الالوهية وليس الربوبية مما يعني استواء معنى الربوبية والالوهية ..وغيرها
الجواب:
لا يجوز الاكتفاء بآية دون آية أخرى أكثر تفصيلا. وإلا كان ذلك تلاعبا بالقرآن.
وتأمل قوله تعالى ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون ونجيناه وأهله من الكرب العظيم وجعلنا ذريته هم الباقين فالله لم يستثن في هذه الآية امرأة نوح. وإنما ورد استثناؤها في آية أخرى.
وكذلك أثبت الله في آيات أخرى ان المشركين يقرون بتوحيد الربوبية.
قال تعالى وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّه وقد أمر الله رسوله أن يسأل المشركين: قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ , قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم , سيقولون لله قل أفلا تتقون [المؤمنون 84-87]، ثم قال: قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ [المؤمنون 88، 89].
ـ وقال قوم عاد لأنبيائهم: إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ [فصلت 14]. فأثبتوا لله الربوبية مع أنهم مشركون.
ـ وقال قوم يس: قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلاّ بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْء [يس 15]، فلم يجهلوا أن الرحمن من أسماء الله الحسنى.
ـ وهذا إبليس يقول: قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [ص 79]، وقال: رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي [الحجر 39]، بل شهد لله بالعزة قائلاً: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [ص 82].
وهاهو صاحب الجنة يشهد بربوبية الله قائلاً: وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْهَا مُنْقَلَبًا [الكهف 36]، فلما أحيط بثمره قال: يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا [الكهف 42]، فشهد على نفسه بأنه كان مشركاً بالرغم من شهادته لله بالربوبية.
قال قتادة: « لا تسأل أحداً من المشركين من ربك؟ إلا ويقول ربي الله وهو يشرك في ذلك »
وأكد ابن الجوزي أن: « ما يقال عن الفلاسفة من جحد الخالق محال فإن أكثر القوم يثبتون الصانع » [تلبيس إبليس49].
ولا يرد على ذلك قول الملائكة للميت من ربك. لأن الربوبية التي أقر بها المشركون وشهد لهم القرآن بالإقرار بها ما يُمتحن بها أحد. وكقوله تعالى: إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا [الأحقاف 13]، الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ [الحج 40]، قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا [الأنعام 164]، فالربوبية في هذه الآيات هي الألوهية ليست قسيمة لها كما تكون قسيمة عند الاقتران.
فإذا قيل: فقولوا بأن آية الميثاق: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ ، أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْل [الأعراف 172]، تتعلق بالألوهية وليس الربوبية. فالجواب:
أولاً: أن هناك قرينة تثبت أن الربوبية هي المراد هنا دون الألوهية، وهي أن الكافر بعد أن يُعرَض عليه مقعده من النار يقول: « ربّ لا تقم الساعة » فهذا يدل على أنه مؤمن به مقرّ بوجوده كيف يسأل عنه؟
وقد حرمه الله أن يجيب عن هذه الحقيقة التي فُطِر عليها ولم يثبّته عند السؤال عقوبة له، والجزاء من جنس العمل: فكما أنه نسي الله في الدنيا فقد أنساه الله الإجابة عما فيه نجاته في الآخرة. فقال عند السؤال (هاه هاه لا أدري). وقال بعد السؤال (رب لا تقم الساعة).
وقد شهد الله على المشركين أنهم ما غفلوا عن ربوبيته حين اتخذوا معه آلهة أخرى وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان 25]، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزخرف 87]، فإذا سألتهم إذن لماذا عبدتم غيره قالوا: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر 3]. والتجربة تثبت أنه حتى النصارى المثلثة ما زالوا يقولون: نحن نؤمن بالرب الواحد.
ثانياً: أن الرب: المقصود به الإله، ويقويه رواية البخاري: « إذا أقعد المؤمن أُتِيَ ثم شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله » فهذه الرواية تفسر الرواية الأخرى الواردة بلفظ: « من ربك » ففي آية الميثاق شهدوا بربوبيته، وفي حديث القبر شهد المؤمنون الموحدون منهم بألوهيته دون سواه.
والحجة في ذلك أنه لم يثبت على قول (الله ربي) كما أن كثيرين ممن لم يعملوا بلا اله الا الله لم يثبتوا عليها عند الموت وصرفت عنهم.
فكذلك كاد أن يقولها المفتون في القبر وإنما صرف عنها بقوله (هاه هاه) ولكن بعد انتهاء الفتنة قال: رب لا تقم الساعة. فترى أنه بعد ذلك قالها ولم تحسب له.