بين الصوفية والرهبنة النصرانية
رمضان عبد الرحمن
23 - 8 - 2009
إذا كانت معالم الإسلام واضحة، بل شديدة الوضوح، وإذا كان أهم ما يميز هذا الدين الحنيف هو أن عقيدته شديدة الوضوح والبساطة و بعيدة عن التعقيد مما جعلها مفهومة للناس، كما عبر الأعرابي عندما سئل عن دليل على وجود الله؟ فقال: البعرة تدل على البعير، والأثر يدل على المسير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، ألا تدل على العليم الخبير [تفسير ابن كثير، (1/197)].
فالعقيدة الإسلامية ابتعدت عن الغموض والتعقيد الذي قامت علية النصرانية مثلًا، والتي تغرق أتباعها في تعقيدات لا يمكن للعقل البشري البسيط أن يفهمها، مثل خصائص اللاهوت والناسوت، والأقانيم الثلاثة في واحد ... إلخ، هذه التعقيدات التي لم تستطع إقناع الناس بهذا الباطل، إذا كان ذلك واضحًا؛ فإن الصوفية ابتعدوا كل البعد عن بساطة عقيدة الإسلام وذهبوا بأرجلهم وإرادتهم ورغبتهم إلى مشابهة رهبانية النصارى وبدعها، التي قال الله تعالى فيها: {ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَ رَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ}[الحديد27].
وإذا بدأنا من الشكل لوجدنا أن التزام الصوفية لبس الصوف كشعار وعلامة لهم، لوجدنا أنه مأخوذ من رهبنة النصرانية؛ لأنه كان زيهم الخاص بهم، فينقل ابن عبد ربه في "العقد الفريد" عن حماد بن سلمة أنه قال لفرقد السنجي حينما رآه لابسًا الصوف: (دع عنك هذه النصرانية) [انظر: العقد الفريد، ابن عبد ربه، (2/487)].
واستنكر سفيان الثوري لبس الصوف, وعده بدعة, واستنكر كذلك غيره من المسلمين لأنهم اعتبروه رمزًا للمسيحية وعلامة على الرياء.
وهكذا كان ارتداء الملابس الصوفية أو التصوف الذي نشأ عنه كلمة الصوفية من عادات الرهبان المسيحيين, ثم صار فيما بعد شعارًا للزهد عند الصوفية.
والدلق الذي ورد ذكره في أشعار الصوفية وكتبهم استعمل في معنى لباس الصوفية، أي الخرقة التي كانوا يرتدونها فوق جميع الملابس، والظاهر أنها كانت من صوف.
وأما اتخاذهم الخانقاوات والتكايا والزوايا, وانعزالهم عن الدنيا فلم تكن إلا مأخوذة من الرهبنة المسيحية أيضًا، وهي تشبه تمامًا أديرة الرهبان النصارى ذات الأسوار العالية البعيدة عن عالم الناس والعمران.
ويعترف بعض مؤرخي النصارى أن النصرانية استطاعت أن تعلم صوفية المسلمين آدابًا وعادات كثيرة عن طريق زمرة المتقشفين وفرق الرهبان المتجولين, ولاسيما الجماعات السورية المتجولة في كل مكان ممن كانوا على الأغلب من فرق النصارى النسطوريين, في حين أن تأثير كنائس المسيحية في المسلمين كان في نطاق محدود جدًا.
ولم يدرك المتصوفة أن بناء الأمكنة الخاصة للتعبد والذكر والأوراد ليس إلا تقليلًا لشأن المساجد, وصرف الناس عنها وإعطاء التكايا والزوايا والربط مكانتها وشأنها, وفي هذا مخالفة لأوامر الله وتعاليم رسوله صلوات الله وسلامه عليه.
وفي ذلك يقول ابن الجوزي: (أما بناء الأربطة فإن قومًا من المتعبدين الماضين اتخذوها للانفراد بالتعبد, وهؤلاء إذا صح قصدهم فهم على الخطأ من ستة أوجه:
أحدها: أنهم ابتدعوا هذا البناء وإنما بنيان أهل الإسلام المساجد.
والثاني: أنهم جعلوا للمساجد نظيرًا يقلل جمعها.
والثالث: أنهم أفاتوا أنفسهم نقل الخطى إلى المساجد.
والرابع: أنهم تشبهوا بالنصارى بانفرادهم في الأديرة.
والخامس: أنهم تعزبوا وهم شباب وأكثرهم محتاج إلى النكاح.
والسادس: أنهم جعلوا لأنفسهم علما ينطق بأنهم زهاد فيوجب ذلك زيارتهم والتبرك بهم.
وإن كان قصدهم غير صحيح فإنهم قد بنوا دكاكين للكوبة ومناخًا للبطالة وأعلامًا لإظهار الزهد) [تلبيس إبليس، ابن الجوزي، ص(217)].
وكثير من العلماء يربط المصطلحات التي روجها الصوفية بين الناس إلى أنهم أخذوها من مصادر غير إسلامية، لذلك فقد جاءت أجنبية في لغتها ومبناها العقائدي، بل جاءت مقتبسة ومأخوذة من المسيحية بحروفها وألفاظها مثل: (ناموس, رحموت, رهبوت, لاهوت, جبروت, نفساني, جثماني, عشعاني, وجدانية, فردانية, رهبانية، ... إلخ).
والباحثون المحققون لا ينكرون تأثر بعض الصوفية المتفلسفين بالمسيحية, على نحو ما نجد عند الحلاج الذي استخدم في تصوفه اصطلاحات مسيحية كالكلمة واللاهوت والناسوت وما إليها.
وأوجه الشبه كبيرة بين حياة الزهاد ولباسهم وبعض تعاليم الصوفية وطرقهم في العبادة ومذاهبهم في الحب الإلهي, وبين حياة الرهبان ولباسهم, وبعض ما أثر عن المسيح وحوارييه من أقوال في المحبة وغيرها من شئون الحياة الروحية.
وابن عربي تأثر مذهبه بالاتحاد الأقنومي في العقيدة النصرانية، ونقل عنها عقيدة التجسيد، وابن عربي اعترف بأن مرشديه في الطريق الروحي هم الهداة الثلاثة: موسى وعيسى ومحمد.
وإذا كان محمد هو خاتم النبوة، فإن عيسى هو ختم الولاية على الإطلاق، ونموذج في الكمال؛ لأن روحه خلقها الله مباشرة مثل: روح آدم، وكانت وليّة منذ مولده، وكاملة بالفطرة بفضل الروح القدس، وليس كما شأن سائر الأولياء.