المطلب الأول: الرواة الشيعة:
سأكتفي بإيراد نموذجين لرواة الشيعة، ونموذجين آخرين للمصنفات الشيعية، لا بقصد الحصر لأثر نزعة التشيع في الكتابة التاريخية بقدر ما أقصد منها إبراز نموذج لأثر هذه النزعة في مروياتنا ومصنفات أسلافنا .
(أ) لوط بن يحيى (أبو مخنف) وهو من رواة المتقدمين (ت 157 هـ) والمكثرين حتى بلغت مروياته في تاريخ الطبري رواية، وفي فترة مهمة من فترات التاريخ الإسلامي ابتدأت من وفاة الرسول حتى سقوط الدولة الأموية سنة 132هـ .
وهذا الراوي غارق في التشيع من أخمص قدميه حتى شحمة أذنيه ولهذا قال عنه ابن عدي: شيعي محترق .
ولئن كان أمره مكشوفا لعلماء الجرح والتعديل وأرباب التاريخ المتقدمين، فليس الأمر كذلك لبعض المؤرخين المتأخرين الذين تناقلوا مروياته دون نظر أو تمحيص، ويكشف لنا المتقدمين حقيقته فيقول ابن معين: ليس بشيء .
وقال ابن حيان: رافضي يشتم الصحابة ويروي الموضوعات عن الثقات .
وقال فيه الذهبي: إخباري تالف لا يوثق به ومثله قال ابن حجر .
أما ابن عدي فقد فضل القول فيه فقال: حدث بأخبار من تقدم من السلف الصالحين، ولا يبعد منه أن يتناولهم، وهو شيعي محترق صاحب أخبارهم، وإنما وصفته للاستغناء عن ذكر حديثه فإني لا أعلم من الأحاديث المسندة ما أذكره ، وإنما له من الأخبار المكروه الذي لا أستجيز ذكره .
وقد ذكره العقيلي في الضعفاء مشيراً إلى تضعيف ابن معين له .
تلك نصوص تكفي لإدانة أبي مخنف وتعرف بها وإليكم ما يثبت إدانته من خلال بعض مروياته وسأقتصر كذلك على نموذجين.
الرواية الأولى في سقيفة بني ساعدة :
ذكر الطبري ضمن أحداث سنة (11) للهجرة خبر ما جرى بين المهاجرين والأنصار في أمر الإمامة في سقيفة بني ساعدة- بسنده عن أبي مخنف قال:
اجتمعت الأنصار في سقيفة بني ساعدة، فقالوا: نولي هذا الأمر بعد محمد عليه السلام سعد بن عبادة، وأخرجوا سعداً وهو مريض، فلما اجتمعوا تكلم فيهم بصوت ضعيف كان يبلغ القوم عنه ابن له أو بعض بني عمه، وكان مما قاله – بعد أن ذكره سابقة الأنصار وجهادهم وأن لهم سابقة في الدين وفضيلة في الإسلام ليست لقبيلة من العرب !! وأن العرب دانت لرسول الله بأسيافهم وتوفي الله رسوله وهو راض الناس " .
ثم إن القوم أجابوه بأجمعهم: أن قد وفقت في الرأي وأصبت في القول ولن نعدوا ما رأيت ونوليك هذا الأمر، ثم ترادوا الكلام بينهم فقالوا: فإن أبت مهاجرة قريش فقالوا: نحن المهاجرون وصحابة رسول الله الأولون ونحن عشيرته وأولياؤه فعلام تنازعوننا هذا الأمر بعده !
فقالت طائفة منهم: فإنا نقول إذاً: منّا أمير ومنكم أمير، ولن نرضى بدون هذا الأمر أبداً، فقال سعد بن عبادة حين سمعها : هذا أول الوهن .
وأتى عمر الخبر فأقبل إلى منزل النبي ، فأرسل إلى أبي بكر وأبو بكر في الدار، وعلي بن أبي طالب دائب في جهاز رسول الله وبعد مجيئه تكلم أبو بكر، ثم عمر، ثم قام الحباب بن المنذر فتكلم، ومما قال:
" يا معشر الأنصار املكوا على أيديكم ولا تسمعوا مقالة هذا وأصحابه فيذهبوا بنصيبكم من هذا الأمر، فإن أبوا عليكم ما سألتموه فأجلوهم عن هذه البلاد .. فأنتم والله أحق بهذا الأمر منهم ... إلى أن قال: أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب، أما والله لئن شئتم لتقيدنها جذعة، فقال عمر: إذاً يقتلك الله ! قال: بل إياك يقتل ... .
وعن أبي مخنف قال عبد الله بن عبد الرحمن: فأقبل الناس من كل جانب يبايعون أبا بكر وكادوا يطؤون سعد بن عبادة، فقال ناس من أصحاب سعد، اتقوا سعداً لا تطؤوه، فقال عمر: اقتلوه قتله الله ! ثم قام على رأسه فقال: لقد هممت أن أطأك حتى تندر عضدك، فأخذ يعد بلحية عمر فقال: والله لو حصصت منه شعرة ما رجعت وفي فيك واضحة، فقال أبو بكر: مهلا يا عمر!
الرفق ها هنا أبلغ، فأعرض عنه عمر ، وقال سعد: أما والله لو أن بي قوة ما أقوى على النهوض لسمعت مني في أقطارها وسككها زئيراً يحجرك وأصحابك ... الخ .
هذه مقتطفات من رواية أبي مخنف الطويلة في حادثة السقيفة ويظهر منها التعدي على الصحابة وتصويرهم بصورة لا تليق بمن هو أقل منهم من صالحي المسلمين فكيف بخيار الأمة وأصحاب رسول الله ؟
فهو يصوّر القضية صراعا على السلطة يتناسى معه الأصحاب كل فضيلة وسابقة في الدين لمن سواهم ، وهل يليق بالأنصار أن ينسبوا لأنفسهم فضلا دون المهاجرين فيعتبروا أنفسهم أصحاب سابقة في الدين وفضيلة في الإسلام ليست لقبيلة من العرب!
وهو يعلمون تقديم المهاجرين عليهم في القرآن، أو أن يستبدوا لهذا الأمر دون الناس ؟
وهل يعقل أن يعتبر زعماء الأنصار أن اختيار أمير من المهاجرين وآخر من الأنصار أول الوهن !
كما يلاحظ رائحة التشيع التي تفوح من الرواية وأبو مخنف يبرز عليا وحده مهتما بجهاز رسول الله ، وغيره من أمثال أبي بكر في داره وعمر لا يعلم حتى يأتيه الخبر؟
وليت شعري أيليق بنبلاء الرجال الذين جمع الله قلوبهم على التقى، وآخى الرسول بينهم حتى كان الرجل منهم يرث أخاه بعد موته – حتى نسخ ذلك – هل يليق بهؤلاء أن تصدر منهم لإخوانهم عبارات الجلاء عن بلادهم ؟ " فإن أبو عليكم ما سألتم فأجلوهم عن هذه البلاد " .
أما إعادة نعرات الجاهلية، فتلك قد اندثرت في نفوس أولئك الأخيار، لكنها حية في نفوس الشعوبيين وأصحاب النزعات المذهبية المنحرفة، وبالتالي يحاولون إسقاطها على أولئك القرون الظاهرة وهم منها براء .
وهكذا تمتلئ الرواية بألفاظ المهاترة والكلمات البذيئة ، بل ربما وصلت إلى الاعتداء والضرب بين الصحابة! وتلك آفة الروايات المختلقة، وهي أثر من آثار معتقد الشيعة في سب الصحابة والنيل منهم، فهل ينتبه قرّاء التاريخ لمثل هذه المرويات الساقطة، وهل يستتبع ذلك همم عالية لنقدها سنداً ومتناً ؟!
خاصة إذا علم أن هناك مرويات أخرى في مصادر أخرى، وعن طريق رواة موثقين في هذه الحادثة أو غيرها .
الرواية الثانية: في قصة الشورى :
وقد ساقها الطبري في تاريخه بسند فيه" أبو مخنف " وبمتن طويل أقتبس منه الفقرات التالية :
قال العباس لعلي (رضي الله عنهما) – بعد أن حدّد عمر الستة النفر الذين تكون فيهم – لا تدخل معهم، قال علي: أكره الخلاف، فقال له العباس: إذاً ترى ما تكره .
وهكذا يبدأ أبو مخنف الرواية بامتعاض العباس من دخول علي ويحذره مما يكره إن قبل، وكأنه بذلك يصوّر العباس مدركاً لأمر غاب عن علي، وأن الأمر مبيت على غير ما يأملون ؟! قال علي للعباس – حين تلقاه – عدلت عنّا، فقال: وما علمك ؟
قال: قرن بي عثمان، وقال: كونوا مع الأكثر فإن رضي رجلان رجلاً، ورجلان رجلاً، فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف، فسعد لا يخالف ابن عمه عبد الرحمن، وعبد الرحمن صهر عثمان ، فلو كان الآخران معي لم ينفعاني، بله أني لا أرجو إلا أحدهما … فرد عليه العباس مذكرا بما قاله له حين سمي في الستة ثم أوصاه قائلا: احفظ عني واحدة: كلما عرض عليك القوم فقل: لا ، إلا أن يولوك، واحذر هؤلاء الرهط فإنهم لا يبرحون يدفعوننا عن هذا الأمر حتى يقوم لنابه غيرنا ... فقال علي: أما لئن بقي عثمان لأذكرنه ما أتى، ولئن مات ليتداولنها بينهم ، ولئن فعلوا ليجدني حيث يكرهون .
وأعتقد أن ما ورد في الرواية من عبارات نابية غريبة، واتهام مشين بين الصحابة كاف لسقوطها متناً، فضلا عن سقوطها سنداً!!
كما ورد في الرواية أن عبد الرحمن بن عوف دعا علياً فقال: عليك عهد الله وميثاقه لتعملن بكتاب الله وسنة رسوله وسيرة الخليفتين من بعده ؟ قال: أرجو أن أفعل وأعمل بمبلغ علمي وطاقتي، ودعا عثمان فقال له مثل ما قال لعلي، قال: نعم فبايعه، فقال علي: حبوته حبو دهر ، ليس هذا أول يوم تظاهرتم فيه علينا، فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون، والله ما وليت عثمان إلا ليرد الأمر إليك، والله كل يوم هو في شأن … .
وهذا الجزء من الرواية لا يختلف في غرابته عما قبله، وقد كفانا الحافظ ابن كثير مؤنة الرد عليه، حيث أبان في تاريخه بكلام جزل تفرد الرواة الشيعة وغيرهم من القصاص برواية هذه الأخبار الساقطة حيث قال ما نصه :
" وما يذكره كثير من المؤرخين كابن جرير وغيره عن رجال لا يعرفون أن علياً قال لعبد الرحمن: خدعتني، وإنك إنما وليته لأنه صهرك وليشاورك كل يوم في شأنه …
إلى غير ذلك من الأخبار المخالفة لما ثبت في الصحاح فهي مردودة على قائليها وناقليها، والله أعلم.
والمظنون بالصحابة خلاف ما يتوهم كثير من الرافضة وأغبياء القصاص الذين لا تمييز عندهم بين صحيح الأخبار وضعيفها ومستقيمها وسقيمها وميادها وقويمها والله الموفق للصواب .
وهكذا تمتلئ الرواية بكثير من الأخطاء والتجاوزات والمغالطات ويكشف عورها غيرها من الروايات الصحيحة .
(ب) هشام بن محمد بن السائب الكلبي :
وهذا راو آخر من رواة الشيعة، وممن أكثر الرواية عنهم إمام المؤرخين ابن جرير الطبري، إذ بلغت رواياته في تاريخ الطبري ما يقرب من ثلاثمائة رواية شملت تاريخ الأنبياء والسيرة النبوية وتاريخ الخلفاء وطرفا من أخبار الدولة الأموية .
وقد تحدث أئمة الجرح والتعديل عن تشيعه وغرابة مروياته قال العقيلي: حدثنا عبد الله بن أحمد قال: سمعت أبي يقول: هشام بن محمد بن السائب الكلبي من يحدّث عنه؟! إنما هو صاحب سمر ونسب، ما ظننت أن أحداً يحدّث عنه .
وقال عنه ابن حبان: من أهل الكوفة، يروي عن أبيه ومعروف مولى سليمان والعراقيين العجائب والأخبار التي لا أصول لها، وكان غالياً في التشيع ، وأخباره في الأغلوطات أشهر من أن يحتاج إلى الإغراق في وصفها .
وقال الذهبي: هشام لا يوثق به، ونقل عن ابن عساكر قوله: رافضي ليس بثقة، مات سنة أربع ومائتين، وقيل: أن مصنفاته أزيد من مائة وخمسين مصنفاً ؟! .
وهاك نموذجين من مروياته:
النموذج الأول: اتهام معاوية باختلاق الكتب:
روى الطبري من حديث هشام عن أبي مخنف: أن معاوية لما أيس من قيس أن يتابعه على أمره شق عليه ذلك لما يعرف من حزمه وبأسه وأظهر للناس قيله أن قيس بن سعد قد تابعهم فادعوا الله له وقرأ عليهم كتابه الذي لان له فيه وقاربه، قال: واختلق معاوية كتابا من قيس بن سعد فقرأه على أهل الشام.
ثم أورد الطبري نص الخطاب، وموقف علي بن أبي طالب واستنكاره لذلك، ثم رد قيس بن سعد عليه، وما جرى بينهما من محاورة في كلام يطول .
هكذا يقتفي هشام أثر شيخه أبي مخنف في النيل من الصحابة وتشويه صورتهم، مستخدما في ذلك تزوير الحقائق، وهل بعد اتهام معاوية باختلاق الكتب لتدعيم موقفه شيء ؟!
النموذج الآخر: وصف معاوية بأوصاف مشينة
وفي مقابل الصورة الأخرى يختلق هشام رواية أخرى، يتهم فيها معاوية – على لسان قيس بن سعد – بالزيغ والضلال، وقول الزور، بل وفوق ذلك بكونه طاغوتا من طواغيت إبليس ؟! وإليك قطعة من نص هذه الرسالة :
" ... من قيس بن سعد إلى معاوية بن أبي سفيان أما بعد: فإن العجب من اغترارك بي وطمعك في واستسقاطك رأيي، أتسومني الخروج من طاعة أولى الناس بالإمرة، وأقولهم للحق، وأهداهم سبيلا، وأقربهم من رسول الله وسيلة، وتأمرني بالدخول في طاعتك، طاعة أبعد الناس من هذا الأمر، وأقولهم للزور، وأضلهم سبيلا وأبعدهم من الله عز وجل ورسوله ، ولد ضالين مضلين، طاغوت من طواغيت إبليس !! ... .
أكتفي بهذين النموذجين من رواة الشيعة، وأكتفي بهذه النماذج الواقعية من مروياتهم، لأن الدراسة لا تهدف إلى حصر النماذج والمرويات قدر ما تهدف إلى إبراز النزعة وأثرها في المرويات التاريخية، لأنتقل بعد ذلك إلى نماذج المصادر الشيعية وما تفصح به من غثاء المرويات السقيمة والأخبار الواهية والتشويه المتعمد خير قرون الأمة !
نزعة التشيع وأثرها في الكتابة التاريخية لسليمان بن حمد العودة