الآثار السيئة للوضع في الحديث النبوي وجهود العلماء في مقاومته
إعداد: د. عبد الله بن ناصر الشقاري
الأستاذ المساعد في كلية الدعوة وأصول الدين في الرياض
المقدّمة
الحمد لله رب العالمين، أنزل كتابه الكريم، وتكفل بحفظه ورعايته على مر
السنين، فقال عز من قائل: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ
لَحَافِظُونَ}[1] والصلاة والسلام على رسوله الأمين، محمد سيد الأولين
والآخرين، أرسله ليبلغ الناس هذا الذكر ويبينه للعالمين، فقال سبحانه وتعالى:
{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ
إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}[2] فكان حفظ القرآن يتضمن حفظ سنة
نبيه الأمين وحمايتها من كيد الواضعين وعبث العابثين، صلوات الله وسلامه عليه
وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: فالقرآن والسنة هما مصدران أساسيان لمعرفة العقيدة والشريعة، لا يستغني
أحدهما عن الثاني، فإن السنة هي المبينة لمبهم القرآن والمفصلة لمجمله، بل هي
في حقيقة الأمر وواقعه تطبيق عملي للقرآن الكريم على يد رسول الإنسانية عليه
أفضل الصلاة وأتم التسليم.
ولما كانت السنة النبوية قد وصلت إلى درجة عالية في الكمال والشمول وخلت
أقواله صلى الله عليه وسلم وأفعاله من كل ما يكدر الرسالة أو يشوه الصورة
الصافية لمكانة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم, فقد أغاظ هذا أعداء الدين
من أولئك الذين آمنوا باللسان وكفروا بالقلوب.. فدسوا في الخفاء أحاديث
مكذوبة وضعوها على النبي صلى الله عليه وسلم, آملين أن تختلط بالثابت عنه،
وساعدتهم على الوضع ظروف أحاطت بالأمة الإسلامية في بعض فتراتها, من خلافات
سياسية وجهل بالدين وأهدافه ومراميه إلى غير ذلك من الظروف التي تراكمت
فأوجدت ركاماً من نزيف الأفكار وقيحها, وألصقت بالرسول صلى الله عليه وسلم
زوراً وبهتاناً, فأوجدت رد فعل من جانب العلماء المسلمين, لكن.. بعد أن
خلَّفت آثاراً سلبية في الأمة, ولا زالت تعاني من مخلفاتها في العصر الحديث!
نعم... في العصر الحديث, وفي هذه الفترة العصيبة والمنعطف التاريخي في
حياة الأمة الإسلامية, نادى بعض من يعيش على أنقاض مخلفات ماضية, تدفعه
خلفيات معينة إلى ترك السنة والاحتجاج بها, مدعياً أن فيها الكثير من المصنوع
والموضوع, محاولاً التشكيك في سلامتها, وزاد الطين بلّة, وضغثاً على إبّالة
ما مني به المسلمون في هذا العصر من ضعف في الثقافة الدينية الصحيحة عامة
وعلم أصول الحديث ومصطلحه خاصة, فاستولت الخرافة الكاذبة والمذاهب الفكرية
المنحرفة على عقول الكثير, فلو علم المنادي والمنادون ما قام به علماء الأمة
من أدوار خالدة وجهود جبارة في مقاومة الوضع وتعريف الأمة به وتحذيرها منه
لهان المصاب، ولكنهم جهلوا أو تجاهلوا هذه الجهود وحاولوا طمسها والقضاء
عليها.
لهذا كله, ولما رأيته من انتشار الأحاديث الموضوعة بين الناس, والأخذ بها
على أنها قضايا مسلمة وأحاديث ثابتة, مع أنها في أصلها موضوعة مكذوبة بل
ومدونة بهذه الصفة في كتب الأحاديث الموضوعة.
فلما تهيأت هذه الأسباب رأيت أن أدلي بدلوي في هذا الموضوع رغم علمي بكثرة
الأبحاث والدراسات التي كتبت في هذا المجال.
ومعلوم لدى القارئ كثرة عناصر الموضوع (الوضع في الحديث النبوي) وكثرة
المسائل والفصول التي يمكن أن يتطرق إليها الباحث فيه، لكني رأيت أن أقصر
بحثي في هذا المقام على موضوعين، لأنهما في نظري حديث الساعة والمجال فيهما
واسع يمكن لطالب العلم أن يبحر فيه وأن يأتي بالجديد والمفيد، وهما:
أولاً: بيان الآثار السيئة للوضع: فقد حاولت - قدر المستطاع - الإتيان بأسلوب
جديد في هذا المضمار وبجهد ذاتي عن طريق استقراء النصوص الموضوعة وتطبيقها
على الواقع المحسوس في عالمنا الإسلامي على مر العصور مع الحرص على الاستشهاد
بأقوال أهل العلم من السلف والخلف كأدلة على ما أقول.
ثانياً: جهود علماء الأمة من سلفها الصالح وخلفها الوفيّ في مقاومة الوضع
ومحاربته على شتى الجبهات واستماتتهم في القضاء عليه، فكلما فتح الوضاعون
وأعداء الدين باباً لهذه الفتنة سددوا إليه سهامهم وأغلقوه مما سنراه جلياً
في موضعه إن شاء الله.
ولأجل الوصول إلى هذين الموضوعين وتجليتهما قدر المستطاع وبما يناسب المقام
وضعت خطة بين يدي البحث أوضح فيها السبيل وأحدد معالم الطريق، وتتلخص فيما
يأتي:
مقدمة البحث: وهي ما نعيش فيه الآن من فاتحة للبحث وبيان لأسباب اختيار
الموضوع والخطة التي سأسير عليها في هذا البحث.
التمهيد: وأتحدث فيه بشكل مختصر عن تعريف الحديث الموضوع وعن حكم وضعه وحكم
روايته وحكم العمل به.
الباب الأول: الآثار السيئة للوضع: وفيه خمسة فصول:
الفصل الأول: الآثار الدينية.
الفصل الثاني: الآثار الاجتماعية.
الفصل الثالث: الآثار الاقتصادية.
الفصل الرابع: الآثار النفسية.
الفصل الخامس: ظاهرة القصاص.
الباب الثاني: جهود العلماء في مقاومة الوضع: وفيه ستة فصول:
الفصل الأول: جمع الأحاديث الثابتة.
الفصل الثاني: الاهتمام بالإسناد.
الفصل الثالث: مضاعفة النشاط العلمي في قواعد الحديث.
الفصل الرابع: نقد الرواة وتتبع الكذبة.
الفصل الخامس: التأليف في الوضاعين.
الفصل السادس: التأليف في الموضوعات.
ثم بعد ذلك ذيلت للبحث بخاتمة جامعة لنتائج البحث, تحدثت فيها عن ضرورة الحذر
من الوضع والوضاعين في المجالات المختلفة, ثم عن واجب المسلمين تجاه سنة
نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم وبها ختمت البحث.
وأخيراً: لا يسعني إلا أن أقدم شكري وامتناني لكل من ساعدني في إخراج هذا
البحث منذ كونه فكرة تعتلج في الصدر وتختمر في الذهن إلى كونه حقيقة واقعة
ماثلة للعيان.
كما أسأل الله عزّ وجلّ أن يجعل عملي هذا خالصاً لوجهه الكريم وأن يثقل به
موازين حسناتي يوم ألقاه, يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب
سليم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء
وسيد المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
التمهيد:
الحديث الموضوع
تعريفه:
أ- لغة: سم مفعول من وضع الشيء يضعه - بالفتح - وضعاً، وتأتي مادة (وضع) في
اللغة لمعاني عدة منها: الإسقاط، الترك، الافتراء والإلصاق[3].
ب- أما في اصطلاح المحدثين: فقد عرفه ابن الصلاح (ت643) بقوله: هو المختلق
المصنوع[4]، وعرفه غيره بأنه هو: ما نسب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم
اختلاقا وكذباً مما لم يقله أو يفعله أو يقره[5].
التعريف به:
الموضوع شر الحديث الضعيف جملة وتفصيلاً، وقد جعله العلماء آخر درجات الحديث
الضعيف، وإنما جعلوه من درجاته لأجل التقسيم المعرفي وبحسب إدعاء واضعه، وإلا
فهو ليس من أنواع الحديث أصلاً.
وللعلماء عبارات متعددة للتعريف به والإشارة إليه ومنها:
1- التصريح بوضعه فيقولون: موضوع، باطل، كذب.
2- قولهم في الحديث: لا أصل له، لا أصل له بهذا اللفظ، ليس له أصل، أو نحو
هذه الألفاظ.
3- قولهم في الحديث: لا يصح, لا يثبت, لم يصح في هذا الباب شيء.
أصله ومصدره:
الحديث الموضوع يكون مصدره من عدة طرق، أهمها:
أ - قد يخترعه الواضع من نفسه ابتداءً, وينسبه إلى الرسول صلى الله عليه
وسلم, وبعرف ذلك: إما بإقراره أو ما ينزل منزلة الإقرار: كأن يدعو الحديث إلى
مبدأ يدعو إليه الوضاع، أو تدل على ذلك قرائن الأحوال.
ب- قد يأخذ الواضع كلام غيره فينسبه إلى النبي صلى الله عليه وسلم, ويكون
الموضوع إما من كلام الصحابة أو من كلام التابعين أو بعض قدماء الحكماء..
ونحو ذلك[6].
ج- قد يهم الراوي فينسب كلام الغير إلى النبي صلى الله عليه وسلم عن غير قصد
وتعمد للوضع مثل "ومن كثرت صلاته في الليل حسن وجهه في النهار"[7]، ولذا عده
بعضهم في حكم المدرج[8].
حكم وضعه :
قال النووي (ت 676) في شرحه على صحيح مسلم: "وقد أجمع أهل الحل والعقد على
تحريم الكذب على آحاد الناس, فكيف بمن قوله شرع وكلامه وحي والكذب عليه كذب
على الله تعالى, قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ
وَحْيٌ يُوحَى} [9]"[10].
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم حكم وضعه, وتوعد بالعقاب الشديد والعذاب
الأليم لمن فعل ذلك, حيث قال صلى الله عليه وسلم: "حدثوا عني ولا حرج, بلغوا
عني ولو آية, إن كذباً علي ليس ككذب على أحد, - روايات متعددة جاء في نهايتها
كلها - ومن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار"[11] وقد حكي عن بعض
الحفاظ أنه قال: "لا يعرف حديث اجتمع على روايته العشرة المبشرون بالجنة إلا
هذا, ولا حديث يروى عن أكثر من ستين صحابيا إلا هذا"[12] وقد رواه ابن الجوزي
(ت 597) عن واحد وستين صحابيا, وسرد تلك الروايات في مقدمة موضوعاته[13]، بل
قال ابن دحيه (ت 633) "قد أخرج من أربعمائة طريق"[14]، ولهذا قال ابن الصلاح
(ت 643): "وليس في الأحاديث ما في مرتبته من التواتر "[15] فيكون ما دل عليه
من حكم الوضع والكذب ضروري العلم قطعي الثبوت.
عقوبة الواضع:
أما عقوبة الواضع في الدنيا, فقد قيل إن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بها,
حيث روي عنه أنه قال فيمن كذب عليه: "اذهبا فإن أدركتماه فاقتلاه" لكنها
رواية ضعيفة وفيها مقال[16]، أما حكمها فليس فيه مقال، ويعضده ويقويه ما رواه
عبدالرزاق في مصنفه عن ابن التيمي عن أبيه أن عليا رضي الله عنه قال في من
كذب على النبي صلى الله عليه وسلم: "تضرب عنقه"[17] وجدير بمن كذب على رسول
الله أن يلقى ذلك المصير الدنيوي, فقد أخبر الصادق المصدوق أن مصيره في
الآخرة إلى النار.
وقد تواترت الأخبار من التابعين على هذا الحكم, فهذا يحي بن معين ( ت 233)
لما ذكر له حديث "من عشق وعف وكتم فمات مات شهيداً"[18] وهو من رواية سويد
الأنباري, قال: لو كان لي فرس ورمح غزوت سويداً [19] وقال الشعبي (ت 104) وهو
يخاطب كاذبين: "لو كان لي عليكم سبيل ولم أجد إلا تبراً لسبكته ثم غللتكما
به"[20].
توبة الواضع وحكم روايته بعدها:
لا خلاف بين العلماء أن توبة الواضع مقبولة, فمن تاب تاب الله عليه {وَمَنْ
تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَاباً}[21] ولكن
مع قبول توبته هل تقبل روايته أم لا ؟ يرى الإمام أحمد (ت 241) وأبوبكر
الحميدي (ت 219) شيخ البخاري وغيرهم أنه لا تقبل روايته أبدا, قال أبو بكر
الصيرفي (ت 466): "كل من أسقطنا خبره من أهل النقل بكذب وجدناه عليه لم نعد
لقبوله بتوبة تظهر"[22], واختار النووي (ت 676) القطع بصحة توبته وقبول
روايته كشهادته، وحاله كحال الكافر إذا أسلم[23].
وذهب أبو المظفر السمعاني (ت 489) إلى أن من كذب في خبر واحد وجب إسقاط ما
تقدم من روايته[24].
حكم روايته:
اتفق العلماء على تحريم رواية الحديث الموضوع, فلا تحل روايته لأحد علم
حاله وعرف أنه موضوع، إلا مبينا حاله ومصرحاً بأنه موضوع، يقول الإمام مسلم
(ت 261): "إن الواجب على كل أحد عرف التمييز بين صحيح الروايات وسقيمها,
وثقات الناقلين لها من المتهمين, أن لا يروي منها إلا ما عرف صحة مخارجه..
وأن يتقي منها ما كان عن أهل التهم والمعاندين من أهل البدع, والدليل على أن
الذي قلناه هو اللازم دون غيره, قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا}[25] وقوله: {مِمَّنْ
تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ}[26] فدل بما ذكر من الآيتين أن خبر الفاسق
ساقط غير مقبول, وأن شهادة غير العدل مردودة"[27]اﻫ.
أما من السنة فها هو صلى الله عليه وسلم يصرح بذلك في حديثه المشهور: "من حدث
عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكذابين"[28]، وكفى بهذا الوعيد الشديد في حق
من روى حديثاً يظن أنه كذب، فضلاً عن أن يروي ما يعلم كذبه ولا يبينه.
ولاشك أن من روى حديثاً موضوعاً فلا يخلو من أحد أمور ثلاثة: إما أن يجهل أنه
موضوع, وإما أن يعلم بوضعه بواحد من طرق العلم به, وهذا إما أن يقرن مع
روايته تبيان حاله, وإما أن يرويه من غير بيان لها.
فأما الأول: وهو من يجهل أنه موضوع, فلا إثم عليه إن شاء الله[29], وإن كنا
نعتقد أنه مقصر في البحث عنه, لكن لا يؤمن عليه العقاب في تركه البحث عن حال
ما يحدث به, لاسيما وقد قال صلى الله عليه وسلم: "كفى بالمرء إنماً أن يحدث
بكل ما سمع"[30].
وأما الثاني: وهو من يعلم وضعه ويبين حاله فلاشيء عليه، إذ قد أمن ما كان
يخشى منه وهو علوقه في الأذهان منسوباً إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أما
إذا كانت روايته له قاصداً بها إبانة حاله, فهذا مأجور لنفيه الدخيل عن
الحديث الشريف وتنبيه الناس عليه, فهو من عدول خلف الأمة ومن خيارها الذين
امتازوا عمن سواهم بأنهم ينفون عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم تحريف
الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين.
وأما الثالث: وهو من رواه من غير بيان لحاله مع علمه بأنه موضوع فهو مأزور
وآثم, سواء ذكر إسناد الموضوع أم لا، إذ لا يكتفى بإيراد الإسناد في هذا
الزمان, بل لابد من التصريح بأنه موضوع وكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم,
فذكر الإسناد وعدمه سواء, يقول السخاوي (ت 902): "ولا تبرأ العهدة في هذه
الأعصار بالاقتصار على إيراد إسناده - أي الموضوع - لعدم الأمن من المحذور
به, وإن كان صنعة أكثر المحدثين في الأعصار الماضية"[31] وهذا في عصر السخاوي
في القرن التاسع فما بالك بعصرنا الحاضر ؟! فقد كانت طريقة الاكتفاء بالإسناد
معروفة لدى القدماء، لأن علماء عصرهم يعرفون الإسناد, فتبرأ ذمتهم من العهدة
بذكر السند، أما عصرنا هذا فقد سرت العدوى فيه من إضاعة الإسناد إلى إضاعة
المتون، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
عقوبة من روى الحديث الموضوع في الدنيا:
أما عقوبة من روى الحديث الموضوع في الدنيا فقد أجاب ابن حجر الهيتمي المكي
(ت 974) على سؤال ورد إليه ونصه كالتالي: لنا إمام يروي أحاديث لا يبين
مخرجيها ولا رواتها فما الذي يجب عليه؟ فأجاب: "من فعله وهو ليس من أهل
المعرفة بالحديث, ولم ينقلها عن عالم بذلك, فلايحل له ومن فعله عزر عليه
التعزيز الشديد.. ويجب على حكام بلد هذا الخطيب منعه من ذلك إن ارتكبه"[32]
هذا فيمن روى حديثاً مجهول الحال فضلاً عن أن يكون موضوعاً, أما عن الموضوع
بالذات: فقد كتب البخاري (ت 256) على ظهر كتاب ورده فيه سؤال عن حديث مرفوع
وهو موضوع, فكتب "من حدث بهذا استوجب الضرب الشديد والحبس الطويل" [33].
حكم العمل به:
العمل بالحديث الموضوع حرام بالإجماع، لأنه ابتداع في الدين بما لم يأذن به
الله, يقول صلى الله عليه وسلم: "وشر الأمور محدثاتها, وكل بدعة ضلالة"[34]
ويقول: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"[35] هذا في الأمور الدينية
التعبدية, أما في الأمور الدنيوية: فالعمل به على أنه عن الرسول صلى الله
عليه وسلم حرام أيضاً, أما على غير ذلك فحكمه يختلف باختلاف تلك الأعمال،
وتنطبق عليه الأحكام الشرعية والقواعد المرعية.
ومما يزيدنا يقيناً بحرمة العمل بالأحاديث الموضوعة ووجوب محاربتها ببيان
حالها وتطهير الأمة - ما أمكن - من أدرانها، ما سنعرفه في هذا البحث - إن شاء
الله - من آثارها السيئة على الأمة الإسلامية في شتى الأصعدة.. وهذا ما
سنعرفه بالتفصيل في الباب الأول من هذا البحث إن شاء الله تعالى.
الباب الأول: الآثار السيئة للوضع
لقد كان للوضع آثار سيئة على الأمة الإسلامية لبست الطابع العلمي وتغلغلت في
التفكير والسلوك وهذا أمر طبيعي, فكل مضر للمجتمع - أياً كان - إذا وجد
البيئة التي يرتع فيها والمناخ الذي يتنفس فيه, فإنه يترك آثاراً لا تنمحي
وجروحاً لا تندمل على مر الزمان, وكذلك الوضع والتزيد في الحديث النبوي. بل
يمكن القول بأن الوضع هو رأس الحربة المسموم الذي طعن الإسلام في الصميم,
بواسطة الغزو الفكري الذي لازالت آثاره ومخلفاته باقية إلى الآن.
ولم تكن حركة الوضع حركة ارتجالية عفوية في كل الأحيان, بل تطورت إلى حركة
مدروسة هادفة, وخطة مدبرة شاملة لها خطرها في جميع الميادين، يروي حماد بن
سلمة (ت 167) عن أحد كبار الوضاعين قوله: "كنا إذا اجتمعنا فاستحسنا شيءً
جعلناه حديثاً ونحتسب الخير في إضلالكم"[36] فقد كان للوضاعين - على اختلاف
منطلقاتهم - أبعاد حاولوا الوصول إليها عن طريق الدين, سواء منهم الأعداء
الماكرون أو الأتباع الحمقى, فألصقوا فيه ما ليس منه, و أحلوا القشور مواضع
اللباب, وألبسوا التفاهات ثوب المهمات, واستبدلوا الشرك بعقيدة التوحيد "
فكان من النتائج المباشرة لتلك الحركة المشبوهة على العديد من أجيال المسلمين
في العديد من أقطارهم, شيوع ما لا يحصى من الآراء الغريبة والقواعد الفقهية
الشاذة والعقائد الزائفة والافتراضات المضحكة التي أيدتها وتعاملت بها وروجت
لها فرق وطوائف معينة, لبست مسوح الدروشة والتصوف حينا, والفلسفة حيناً,,
والعبادة والزهد حيناً آخر..."[37].
ولقد ساعد على بلوغ الوضع مأربه, وبروز آثاره بشكل واضح, ما مني به المسلمون
في عصور الانحلال وإلى عصرنا الحاضر من ضعف في الثقافة الدينية الصحيحة, إلى
جانب انتشار المذاهب الهدامة, فصارت ظلمات بعضها فوق بعض, بلغت بالأمة إلى ما
نراه من جهل وذل وانكسار.
وسنتحدث الآن في هذه العجالة عن بعض آثاره التي تتلخص فيما يأتي:
الفصل الأول: الآثار الدينية
وأعني بها هنا دائرة الأعمال الدينية البحتة (العبادات)، وإلا فالمؤمن في
محيط التدين والعبادة مهما اتجه كما قال عز من قائل: {وَمَا خَلَقْتُ
الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}[38].
فقد دخل في الدين الإسلامي - أيام الفتوح - من دخل فيه رغبة في الدس عليه
والكيد له, فاعتنقوا الإسلام في الظاهر, ولكنهم في الحقيقة اعتنقوا الزندقة
والإلحاد, فوضعوا الحديث وحاولوا خلطه بالثابت من تلك الذخيرة الدينية ولكن
الله سَلّم, بل حاولوا ترويج بضاعتهم المزجاه, ومن ثم إضاعة الحديث وإماعته
في الموضوعات, حين قالوا على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم: "إذا حدثتم
بحديث يوافق الحق فخذوه, حدثت به أو لم أحدث"[39] قاتلهم الله أنى يؤفكون.
ويمكن تلخيص تلك الآثار في موضعين:
1- الآثار الاعتقادية:
إن أعظم ما يملكه الإنسان في الدنيا هو دينه, وأعظم أركان الدين هو الإيمان,
وأعظم أركان الإيمان هو الإيمان بالله, هذا الركن العظيم, لما استحال على
الوضاعين إسقاطه حاولوا هزه بشتى الوسائل, وأقرب مثال لذلك محاولتهم لفلسفة
خلق الله سبحانه وتعالى, فهاهم يقولون: "إن الله خلق الفرس فأجرها ثم خلق
نفسه منها"[40] إلى غير ذلك من تلك المحاولات التي باءت بالفشل والحمد الله.
ولما لم ينجحوا في ما تقدم عدلوا إلى مرحلة أدنى فوضعوا أصول الحلول، فوضعوا
" القلب بيت الرب" [41] وحديث "ما وسعني سمائي ولا أرضي، بل وسعني قلب عبدي
المؤمن "[42] وقد اعتنق هذه الخرافة فرقة منحلة تسمى بـ "الحلولية والاتحادية
" وتصُّور هذه العقيدة كاف في إسقاطها كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية.
ومن ناحية أخرى فقد حاولوا العودة بالأمة إلى الشرك، إلى تقديس الأحجار
والأشجار فقالوا: "لو أحسن أحدكم ظنه بحجر لنفعه"[43] يقول ابن القيم: هو من
وضع المشركين عباد الأصنام.
ولكن الطاّمة الكبرى أن هذا ومثله من أحاديث زيارة القبور والتبرك بها
والتمسح بأحجارها كان له أثر على إيمان الأمة في عهود تقدمت، وفي بعض البقاع
حتى الآن.
2 - الآثار العملية:
وقد حاز قصب السبق في إنتاج هذه الآثار جهلة الأمة وزهادها, فأرهقوا الأمة
وزادوا في الدين أشياء ما أنزل الله بها من سلطان, ووضعوا صلوات وأعمال تعبد
أخرى رفعوها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وحكموا لها بالأجر من الله فكذبوا
على الله ورسوله, ساء ما يحكمون, وذلك كصلاة عاشوراء والرغائب وصلاة ليالي
رجب وليلة النصف من شعبان وكأنهم لم يعلموا بأن الدين يسر, وأن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال: "يسروا ولا تعسروا, وبشروا ولا تنفروا"[44].
وقد كانت هذه الصلوات وأشباهها حجر عثرة في تقدم الإسلام في الدول الغربية
الآن, ويذكر أن أحدهم سأل شيخاً فاضلاً حين رأى هذه الصلوات وهاله الأمر
قائلاً: إننا فررنا من المسيحية إلى الإسلام، نظراً لما ترهقنا به من عبادات
!! فطمأنه الشيخ وأخبره أن ديننا ماهو إلا من خالق البشر الذي يعرف قدراتهم
حيث قال عز من قائل: {وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفاً}[45] وأما ما رآه فهو
محض افتراء وكذب, وليس من الدين في شيء.
وزاد الطين بلة أن الوضاعين حين أخبروا أنه صلى الله عليه وسلم قال: "كل بدعة
ضلالة"[46] استثنوا ما هم عليه من جهل وضلال, فوضعوا زيادة في الحديث فقالوا:
"كل بدعة ضلالة, إلا بدعة في عبادة"[47] ليجعلوا هذه الزيادة أصلاً ومستنداً
لأعمالهم البدعية، فوضعوا الحجة لمن بعدهم وفتحوا ثغرة في الإسلام بالبدع
التي شملت أرجاء العالم الإسلامي, تماماً كما فعلت الزنادقة حين قالوا على
لسان الرسول صلى الله عليه وسلم: "أنا خاتم النبيين ولا نبي بعدي, إلا أن
يشاء الله"[48] فكان هذا الاستثناء الموضوع باباً يلجه كل صفيق مأفون, ولعل
القادياني بنحلته المشهورة دخل مع هذا الباب الموضوع.
الفصل الثاني: الآثار الاجتماعية
المجتمع الإسلامي قائم على القرآن والسنة, فأي محاولة في التزيد في أحدهما
تكون مناورة لهز كيان المجتمع, وخاصة إذا كانت الزيادة في مواضيع اجتماعية -
كما سنتحدث - ولما كانت أعظم صفات المجتمع الإسلامي هي الاتحاد, فإن أكبر
ضربة يمكن أن توجّه إليه هي "الفرقة والاختلاف".
ولقد وجهت إليه هذه الضربة فعلاً, ومازالت الأمة تعاني من آثارها، وليس
غريباً أن أقول بأن هذه الضربة ماهي إلا أثر من آثار وضع الحديث.
ولقد أخذت الفرقة مسارين مختلفين, ترك الوضع بصماته فيهما على حد سواء, وهما:
أ - الخلاف السياسي:
لقد ولد الاختلاف السياسي مبكراً في التاريخ الإسلامي فنشأ معه من لحظته
الأولى الوضع, يذكي ناره إذا خبت ويزيد سعيرها إذا ارتفعت, فكما أن الرجال
كانوا وقوداً للحروب التي نشأت عن الاختلاف السياسي كذلك كان الوضع وقوداً
لتلك الخلافات, فاتسعت رقعتها واتسمت بالطابع الديني فتفرق المسلمون واختلفت
كلمتهم, بعد أن كانوا يداً واحدة وعلى قلب رجل واحد, فبدأ الانفراج في زاوية
المسلمين من ذلك الحين ثم أخذت تتسع مع مسار الزمن وتكاثر الأحداث, يغذيها
ركام الوضع والاختلاف, كما حدث بين الأمويين والعباسيين, حيث تكون تلك
الافتراءات طاقة عصبية تحمس الجند وتدفعهم إلى القتال، فمما وضع أنصار
الأمويين " أقبلت رايات بني العباس من قبل خرا سان جاءوا بنعي الإسلام.."[49]
ومما وضع أنصار العباسيين "رأيت بني أمية على منابر الأرض وسيملكونكم
فتجدونهم أرباب سوء"[50] وحين جاء المستعمرون لم يحتاجوا إلى سياسة "فرق تسد"
بل وجدوا الباب مفتوحاً على مصراعيه, فجَرّوا عليهم البلاء في الدين والدنيا
معاً.
ب - الخلاف المذهبي:
لقد وجدت المذاهب الإسلامية الأربعة ولا أثر للوضع في قيامها، إذ قامت على
المعين الصافي: القرآن والسنة, وإنما وجد الأثر السيئ للوضع في إذكاء تلك
الخلافات بين الأتباع وإشعال نارها, فقد جاء من بعدهم مقلدون أجلاء, لكن بعض
الجهال أو المتجاهلين تعصبوا لمذهب معين فعمدوا إلى إسناد رأيه بالدليل, وإذا
عجزوا عن ذلك أخذوا من بنات أفكارهم ألفاظاً هي إلى الفتاوى أقرب وألصقوها
بالرسول صلى الله عليه وسلم, وهكذا فعل الآخرون فاشتعلت نيران التعصب المذهبي
وأقفل باب الاجتهاد[51].
وعندما يسمع العامة والخاصة تلك الأحاديث المكذوبة يرونها عين الصواب، لأنها
صادرة عن الرسول صلى الله عليه وسلم حسب زعم الواضع, فيأخذون بهذا الرأي،
وكذلك يفعل المخالف, وتحصل الشحناء والنزاع والخلافات, والأعظم من ذلك, أنهم
وضعوا ما يشجع الخلاف وينادي به، فقالوا على لسان رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "اختلاف أمتي رحمة"[52] وزعموه حديثاً، وقد قال السبكي: "ليس بمعروف
عند المحدثين، ولم أقف له على سند صحيح ولا ضعيف ولا موضوع"[53]، يقول
الألباني: "بسبب هذا الحديث ونحوه ظل أكثر المسلمين بعد الأئمة الأربعة إلى
اليوم مختلفين في كثير من المسائل الإعتقادية والعملية ولو أنهم يرون الخلاف
شر - كما قال ابن مسعود وغيره - ودلت الآيات القرآنية على ذمه {وَلَوْ كَانَ
مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً}[54] وإن
شئت أن ترى أثر هذا الاختلاف والإصرار عليه, فانظر إلى كثير من المساجد، تجد
فيها أربعة محاريب، يصلي فيها أربعة أئمة !! وجملة القول أن الاختلاف مذموم
في الشريعة فالواجب محاولة التخلص منه ما أمكن، لأنه سبب ضعف الأمة {وَلا
تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}[55]"[56].
ونتيجة للخلافات السياسية والمذهبية, ونتيجة لما أصيبت به الأمة من انحلال في
بعض جهاتها.. نادى بعض من يغار على الدين عن جهل وضلال بالرهبانية والعزلة
وترك الدنيا.. وذمّوا الاختلاط بالآخرين, فقالوا على لسان الرسول صلى الله
عليه وسلم: "رهبانية أمتي القعود في المسجد"[57] مخالفين بذلك أصول الشرع
وقواعده, بل نادوا بالعزلة في البراري والقفار "إذا أتت على أمتي سنة 380 حلت
لهم العزلة والترهب على رؤوس الجبال "[58] وحببوا إلى الناس الخمول والكسل
"الخمول نعمه وكل يأباها"[59] بل حاولوا القضاء على الأمة كلياً بالقضاء على
نظام الأسرة يقولون ويزعمون أن ذلك مرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"إذا أحب الله عبداً اقتناه لنفسه ولم يشغله بزوجة ولا ولد"[60] من تلك
الخرافات وشبهها نشأت فكرة الصوفية, التي عمت وطمت أنحاء العالم الإسلامي,
فشَلَّت حركة المجتمع واتخذت الدروشة والرهبنة شعاراً والرقص والتواجد
وأشباهه دثاراً، و قضت على الحركة الفكرية بانتحالها لعلم الباطن, وما أدراك
ما علم الباطن, يقولون فيه على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم "علم الباطن
سر من أسرار الله.. يقذفه في قلب من يشاء من عباده"[61].
فزهَّدوا الناس في علم الحديث الذي يناوؤنه كما زهَّدوهم في الدنيا التي
يعادونها, ولاشك أن العامة حين تسمع هذه الأحاديث, تسير في فلكها تبعاً
لإيمانها الفطري عن جهل وضلال وما أعظم المصاب حين غزت الصوفية بأفكارها
الضحلة العقلية الإسلامية فأفقرت الأمة في علوم الدين كما أفقرتهم في متاع
الدنيا.
الفصل الثالث: الآثار الاقتصادية
في هذا الخضم الهائل من الأفكار الدخيلة على التصور الإسلامي للحياة، وفي تلك
الأجواء المكفهرة التي واكبها انفتاح المسلمين على الدنيا حين فتح الله لهم
أرجاء المعمورة وأظهر لهم كنوز الأرض المطمورة, فانشغل بعضهم في العمل
والإنتاج كليا وانصرفوا عن العبادة وانشغلوا عنها مما حدى ببعض الصالحين إلى
كبح جماح النفوس, وكسر حدة شهواتها, ولما كان جاهلاً بنظرة الدين الإسلامي
للحياة, أخذ يترجم ما في نفسه ويلصقه على الرسول صلى الله عليه وسلم زوراً
وبهتاناً, فذموا الدنيا وزينوا للناس الفقر وذموا العمل والإنتاج, وجعلوا كل
ذلك باسم الدين, ولما كان الإنتاج في المجتمع الإسلامي قائماً على الزراعة
والتجارة في الغالب, قالوا في حديث مكذوب "شرار الناس التجار والزرّاع" [62]
وفي رواية موضوعة: "شرار أمتي التجار والزرّاع"[63].
أما الفقر فحدث عن مدحه ولا حرج لقد جعلوه فخراً للرسول, فتقولوا عليه صلى
الله عليه وسلم: "الفقر فخري وبه افتخر"[64] مع أنه صلى الله عليه وسلم
استعاذ منه, وجعله قريناً للكفر في حديث صحيح حين قال: "اللهم إني أعوذ بك من
الكفر والفقر"[65] بل جعلوا الفقراء هم جلساء الله يوم القيامة[66], وقالوا:
"إنما سمي الدرهم لأنه دار هَمّ, وإنما سمي الدينار لأنه دار نار"[67].
ولاشك أن لهذه الأحاديث الموضوعة والخرافات المصنوعة أثر سلبي على الأمة التي
تدين بالإسلام, ولكلام الرسول صلى الله عليه وسلم فيها وزنه وقيمته، فنتيجة
لهذا وأشباهه ترك كثير من الناس الدنيا والاشتغال بها, فعطلت بذلك المنافع
وانقطعت بعض سبل المعيشة فعاش الشعب المسلم في فقر مدقع ومسغبة مهلكة, وخاصة
في العصور المتأخرة, التي واكبها التطور الفكري في الأمم الغربية, تلك الأمم
التي هجمت على المسلمين فوجدتهم لقمة سائغة, فهجموا عليهم واستذلوهم وأخرجوا
خيرات أرضيهم ونقلوها إلى بلادهم وهم ينظرون، علاوة على ما تركوه نتيجة
التنصير والاستعمار من مخلفات في القلوب والعقول, تركت آثارها في الجيل
الجديد, فقلب لدينه ظهر المجن على ما سنبينه في الفقرة التالية.
الفصل الرابع: الآثار النفسية
لقد خفف الوضع وزن الحديث الثابت في النفوس وأزال مقداره وهيبته عن بعض
القلوب, فبعد أن كان لكلام الرسول صلى الله عليه وسلم وزنه وقيمته في قلوب
العامة قبل الخاصة, أصبح عند البعض كلاماً عادياً, فلقد وصل الوضع إلى درجة
مزرية من حيث السخافة والمجون واستعمل كأداة في تفضيل بعض البقاع على بعض,
واستعمل كمروّج ومسير للبضائع, فبائع البطيخ يهذي عن الرسول بما لايدري,
وبائع الهريسة كذلك, وعلى هذا فقس صاحب العدس والفول!! وكل هؤلاء جميعاً
يروون عن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم قاتلهم الله أنى يؤفكون, بل
يروونه بسند متصل عن فلان عن علان عن الرسول, وإذا سمعتهم العامة صدقتهم في
ذلك ورووه لأبنائهم بما فيه من رزايا وبلايا, فينعكس أثره على نفسياتهم لما
فيه من سخافات تستهجنها النفوس.
وبالفعل فقد ترك الوضع تراكمات نفسية في القلوب, فخف وقع كلامه صلى الله عليه
وسلم صحيحه وموضوعه على النفوس، ولم يكن له ذلك التأثير الفعال في نفوس الناس
ثم جاء دور التفسخ والانحلال فقضى على تلك النواميس وتمرد على الدين كله،
بالإضافة إلى أن أعداء الإسلام استغلوا في إضلال هذا الجيل كثيراً من تلك
الأحاديث الموضوعة وصاغوا على أساسها - بمكر وخبث - شبهات تنهض دليلاً على
مازعموه من عدم صلاحية الإسلام للحياة, فَكوّن هذا وذاك ظلمات بعضها فوق بعض.
الفصل الخامس: ظاهرة القصاص
يمكن القول أن ظاهرة القصاص التي تفشت في المجتمع الإسلامي في بعض عصوره ما
هي إلا أثر من آثار الوضع، ذلك لأن الموضوعات هي الركن الذي عليه يقومون,
واللسان الذي به ينطقون, وهذا أمر طبيعي, لأن القصص يتطلب مادة كثيرة وجديدة
تجذب آذان العامة إلى القاص وتشوقهم في الإقبال عليه والإصغاء إليه, فاضطروا
إلى استعمال الخيال الخصب, ونسجوا منه الصور الغريبة وألصقوها على الرسول,
فقد انتحل القصص عدد كبير من الناس, اتخذوها مهنة لهم يعيشون من ورائها,
فكانت دوافع المبالغة والكذب عندهم قوية جداً حتى يجدوا المادة القصصية
المشوقة التي تجلب السامعين ومن ثم تجذب لهم العطايا والفلوس[68]، واتخذها
آخرون وسيلة للشهرة, فكان جل همهم أن يجتمع الناس حولهم ويستغربون ما يقولون,
فيضعون لهم ما يرضيهم ويثير عواطفهم, ولسان حال كل منهم يقول: "أنا فلان بن
فلان فاعرفوني" كما قال علي رضي الله عنه[69].
وعن آثارهم يقول الحافظ العراقي: "ومن آفاتهم أن يحدثوا كثيراً من العوام بما
لا تبلغه عقولهم, فيقعوا في الاعتقادات السيئة, هذا لو كان صحيحاً, فكيف إذا
كان باطلا[70]".
وإذا عرفنا أن جمهورهم المستمع والمشجع هم العامة الجهال, الذين يصدقون كل ما
يسمعون عرفنا عظيم أثرهم وجليل خطرهم, يقول ابن الجوزي "والقاص يروي للعوام
الأحاديث المنكرة, ويذكر لهم ما لو شم ريح العلم ماذكره, فيخرج العوام من
عنده يتدارسون الباطل فإذا أنكر عليهم عالم قالوا: قد سمعنا هذا بـ "أخبرنا"
و "حدثنا" فكم قد أفسد القصاص من الخلق بالأحاديث الموضوعة, كم لون قد اصفر
من الجوع, و كم هائم على وجهة بالسياحة.وكم مانع نفسه ما قد أبيح, وكم تارك
رواية العلم زعماً منه مخالفة النفس في هواها!! وكم موتم أولاده بالزهد وهو
حي ! وكم معرض عن زوجته لا يوفيها حقها فهي لا أيم ولا ذات بعل !! "[71]
ويقول أبو قلابة: "ما أمات العلم إلا القصاص يجالس الرجل القاص سنة فلا يتعلق
منه بشيء، ويجلس إلى العالم فلا يقوم حتى يتعلق منه بشيء" [72] ويقول أيوب
السختياني:"ما أفسد على الناس حديثهم إلا القصاص"[73].
الباب الثاني :جهود العلماء في مقاومة الوضع
الناظر في ركام الأحاديث الموضوعة الموجودة في بطون الكتب، وتتداولها الألسن،
قد يتساءل: ماذا كان موقف العلماء منها، وقد اختلطت بالأحاديث الصحيحة؟! وهو
تساؤل وارد, عُرضَ على الإمام عبد الله بن المبارك فقيل له: هذه الأحاديث
الموضوعة؟؟ فقال: تعيش لها الجهابذة[74] {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ
وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}[75] وصدق الله العظيم فقد قيض لهذه الأمة رجالاً
أمناء مخلصين, قاوموا الوضع والوضاعين وتتبعوهم, وميزوا بين الصحيح والسقيم,
وبذلوا جهوداً جبارة في سبيل حفظ الشريعة وأصولها.
فكل ما قدمته في هذا البحث من تعريف بالوضع وأحكامه, وإيضاح لآثاره وسلبياته،
وتشهير بالوضاعين وموضوعاتهم, ما هو إلا غيض من فيض مما فعلوه في مقاومة
الوضع.
يتبع