عرض مشاركة واحدة
قديم 13-12-13, 07:39 PM   رقم المشاركة : 3
بحار400
عضو ماسي







بحار400 غير متصل

بحار400 is on a distinguished road


ابن تيمية والآخر (1)

عائض بن سعد الدوسري

(مقدمات ضرورية لفهم مسألة التكفير)

من المسائل المهمة والخطيرة والتي كثيراً ما يثيرها خصوم الدعوة السلفية عموماً وابن تيمية خصوصاً: (مسألة التكفير). حيث كتبوا بهذا الصدد الكثير من الكتب، لكن مما يؤسف له أنهم كثيراً ما يحيفون في حكمهم في هذه المسألة بالذات، ويتهمون ابن تيمية بشكل خاص بأنه مُنظر التكفير، ومؤسس الإقصاء !

ومن يتأمل جوهر مذهب ابن تيمية يعلم علماً يقينياً أنه بريء مما يتهمونه به، وأنه كذلك بريء من التفريط والإفراط، ولبيان هذه المسألة بشكل واضح لا بد من توضيح بعض الأمور المهمة في هذا الموضوع، كما يلي:

أولاً: مقدمات في مسألة التكفير.

قبل الحديث عن مسألة التكفير وموقف شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- منها، أود أن أضع بين يديّ القارئ الكريم بعض المقدمات والقواعد المنهجية التي أرى أنها ضرورية في معالجة هذه المسألة، حتى لا نهرب من إفراطٍ فيها إلى تفريط، والفضيلة هي الوسط العدل الذي يقع بين رذيلتين، وهذا الوسط هو حقيقة روح الإسلام ومعدن الشريعة التي فصلت وبيَّنت هذه المسألة، وسار على ذلك السلف الصالح رضوان الله عليهم.

وهذه مقدمات مهمة في مسألة التكفير:

(1) التكفير موجود في كل دين وفي كل مذهب وفي كل فكرة. ودين ليس فيه أصول يكفر من ينكرها ليس بدين، وهذا أمر تتفق عليه جميع الديانات السماوية كالإسلام واليهودية والنصرانية، بل إن الأيديولوجيات الوضعيّة كالشيوعية والعلمانية وغيرها يكون تكفيرها بإخراج من لم يؤمن بأصولها عن دائرتها.

(2) التكفير حكم شرعي لا يُنكر، فهو من أحكام الله و أحكام رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وإنما الإنكار على من توسع وغلا وأفرط فيه، أو كفر مسلماً.

(3) كل طائفة إسلامية قد تقرر عندها مبدأ التكفير، لكن أهل السنة والجماعة هم الوسط في هذا الباب، وهم أضبط وأعدل وأقسط الناس فيه، ومنهجهم في ذلك معلوم منضبط.

(4) أن عدم التكفير مطلقاً ليس مفخرة ولا منقبة؛ لأمرين: أن هذا منافٍ للواقع وتكذيب للوقائع، ثم هو يناقض فكرة الإيمان بفكرة محددة لها أصول ثابتة.

(5) لا توجد طائفة أو فرقة أو دين إلا ويمارس فيه الإقصاء للمخالف. وأعدل، وأضبط، وأرحم الخلق في تعاملهم مع المخالفين هم أهل السنة والجماعة.

(6) عقيدة أهل السنة والجماعة منهج ومبدأ وليست أشخاصاً، وهي الإسلام بنقائه وصفائه، وكما أن حال أفراد المسلمين اليوم ليسوا بحجة على الإسلام، فكذلك الحال بالنسبة لأفراد أهل السنة، فالحجة في منهجهم وأصولهم لا بأفرادهم.

(7) أن الواقع والتاريخ والنصوص تدل وتثبت أن أهل السنة والجماعة هم ضحية التكفير والعنف والإقصاء من قبل الآخرين الذين يوصفون بالعقلانية والتنوير والتسامح. فلقد كُفر الإمام أحمد واستحل دمه، وعذب وضرب بالسياط حتى سقط، وسجن، وقُتل خلق من أنصاره، ومنعوا من الحج، وضُربت عنق الإمام أحمد بن نصر المروزي، وصلب مدة طويلة، واُمتحن علماء السلف في إيمانهم في فتنة خلق القرآن، وفصلوا من أعمالهم، وقُطعت أرزاقهم، وكُفر ابن تيمية، وسجن وضرب وعذب، ونالته الألسن بالألفاظ البذيئة، في زمنه وحتى عصرنا هذا.. والقائمة طويلة.

(8) أن الأخطاء والانحرافات التي تتماشى وتتفق مع أصول المذهب ويقرها، هي ما يدان به المذهب أو تدان به الطائفة، وليست أخطاء الأفراد أو الجماعات التي أصولهم ومنهجهم ومذهبهم يرفضها ويدينها ويرد عليها.

عايض بن سعد الدوسري
[email protected]

============



ابن تيمية والآخر (2)

عائض بن سعد الدوسري

(موقف ابن تيمية من التكفير)

تناولت الكثير من الدراسات العلمية والأكاديمية المنصفة موقف شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- من التكفير، وأبانت بشكل واضح وجلي حقيقة آراء ابن تيمية وأنها لا تختلف في شيء عن مذهب أهل السنة والجماعة، مذهب العدل والرحمة بالمسلمين وبالناس جميعاً.

ونحن هنا لسنا بصدد عرض موقف ابن تيمية بالتفصيل، بل بصدد عرضٍ موجزٍ لأهم آراء وأقوال وأفكار ابن تيمية حول مسألة التكفير وموقفه من المخالفين؛ والتي أطال أهل الخلاف فيها الكلام؛ وامتدت ألسنتهم الحداد ضد ابن تيمية واتهموه بما ليس فيه، وقولوه ما لم يقله.

وأنا هنا أضع بين يديك –أخي القارئ الكريم- كلام ابن تيمية نفسه، وتطبيقاته العملية، ليتضح لك، ولكل منصف حقيقة موقف ابن تيمية.

إن أولَ أمر يقرره –رحمه الله- هو ما قرره أهل السنة والجماعة من أن التكفير حكم الله عز وجل، وحكم رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وأن التعدي على المسلم بالتكفير من أعظم الأمور شناعة، وأكثرها بشاعة، وأخطرها أثراً على الإسلام والمسلمين.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (وليس لأحد أن يكفر أحداً من المسلمين، وإن أخطأ وغلط، حتى تقام عليه الحجة، وتُبيّن له المحجة، ومن ثبت إسلامه بيقين، لم يزل ذلك عنه بالشك)( ).
وقال: (ولا يجوز تكفير المسلم بذنب فعله، ولا بخطأ أخطأ فيه، كالمسائل التي تنازع فيها أهل القبلة)( ).

وقال مؤكداً منهجه الذي لا يحيد عنه: (هذا مع أني دائماً، ومن جالسني يعلم ذلك مني، أني من أعظم الناس نهياً عن أن ينسب معين إلى تكفير وتفسيق ومعصية، إلا إذا علم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية التي من خالفها كان كافراً تارة، وفاسقاً أخرى، وعاصياً أخرى)( ).

وبعد بيان خطورة التكفير، وضرورة التحري فيه، يبيَّن المنهج السني في مسألة التكفير، وأن أهل السنة والجماعة يفرقون في أحكام التكفير بين التكفير المطلق (جنس التكفير) وبين تكفير المعيَّن، لأن للتكفير شروطاً لا بد من تحققها، وموانع لا بد من ارتفاعها حتى يتحقق الحكم.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (التكفير له شروط وموانع قد تنتفي في حق المعيّن، وإن تكفير المطلق لا يستلزم تكفير المعيّن، إلا إذا وجدت الشروط، وانتفت الموانع، يبيّن هذا أن الإمام أحمد وعامة الأئمة الذين أطلقوا هذه العمومات، لم يكفّروا أكثر من تكلم بهذا الكلام بعينه)( ).

ويقول: (وكنت أبيّن لهم إن ما ُنقل لهم عن السلف والأئمة من إطلاق القول بتكفير من يقول كذا وكذا فهو أيضاً حق، لكن يجب التفريق بين الإطلاق والتعيين، وهذه أول مسألة تنازعت فيها الأمة من مسائل الأصول الكبار وهي مسألة الوعيد فإن نصوص القرآن في الوعيد مطلقة كقوله: إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما الآية، وكذلك سائر ما ورد "من فعل كذا فله كذا". فإن هذه مطلقة عامة وهي بمنزلة قول من قال من السلف: "من قال كذا فهو كذا". ثم الشخص المعين يلتغي حكم الوعيد فيه بتوبة، أو حسنات ماحية، أو مصائب مكفرة، أو شفاعة مقبولة)( ).

ويعتبر ابن تيمية أن هذا المنهج الصارم المنضبط في التكفير هو من خصائص أهل السنة والجماعة، والذي فارقوا فيه أهل الخلاف الذين توسعوا في التكفير، وكفروا غيرهم من المسلمين لأجل مخالفتهم في مذهبهم الذي وضعوه من تلقاء أهوائهم وعقولهم وأذواقهم!

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (فمن عيوب أهل البدع تكفير بعضهم بعضاً، ومن ممادح أهل العلم أنهم يخطئون ولا يكفرون، وسبب ذلك أن أحدهم قد يظن ما ليس بكفر كفراً، وقد يكون كفراً لأنه تبيّن له أنه تكذيب للرسول وسب للخالق، والآخر لم يتبيّن له ذلك فلا يلزم إذا كان هذا العالم بحاله يكفر إذا قاله أن يكفر من لم يعلم بحاله)( ).

وقال: (وأئمة السنة والجماعة، وأهل العلم والإيمان، فيهم العلم و العدل و الرحمة، فيعلمون الحق الذي يكونون به موافقين للسنة سالمين من البدعة، ويعدلون على من خرج منها ولو ظلمهم؛ كما قال تعالى: كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى ويرحمون الخلق، فيريدون لهم الخير و الهدى و العلم، لا يقصدون الشر لهم ابتداءً، بل إذا عاقبوهم و بينوا خطأهم و جهلهم و ظلمهم؛ كان قصدهم بذلك بيان الحق و رحمة الخلق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا)( ).

ثم يبسط ابن تيمية كلامه في بيان منهج أهل السنة في عذر المخالف، وبيان أنهم من أرحم الناس بالمخالفين، ويقول راداً على أهل الخلاف ومبيناً لهم المنهج الوسط العدل لأهل السنة:

(قلت لهم وليس كل من خالف في شيء من هذا الاعتقاد يجب أن يكون هالكاً، فإن المنازع قد يكون مجتهدا مخطئا يغفر الله خطأه، وقد لا يكون بلغه في ذلك من العلم ما تقوم به عليه الحجة، وقد يكون له من الحسنات ما يمحو الله به سيئاته)( ).
وقال: (وأما التكفير، فالصواب أنه من اجتهد من أمة محمد -صلى الله عليه وآله وسلم- وقصد الحق فأخطأ لم يكفر، بل يغفر له خطأه، ومن تبين له ما جاء به الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- فشاق الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- من بعد ما تبين له الهدى واتبع غير سبيل المؤمنين فهو كافر، ومن اتبع هواه وقصر في طلب الحق وتكلم بلا علم فهو عاص مذنب، ثم قد يكون فاسقاً وقد تكون له حسنات ترجح على سيئاته. فالتكفير يختلف بحسب اختلاف حال الشخص فليس كل مخطئ ولا مبتدع ولا جاهل ولا ضال يكون كافراً بل ولا فاسقاً بل ولا عاصياً)( ).

وقال: (الأقوال التي يكفر قائلها قد يكون الرجل لم تبلغه النصوص الموجبة لمعرفة الحق، وقد تكون عنده ولم تثبت عنده، أو لم يتمكن من فهمها، وقد يكون قد عرضت له شبهات يعذره الله بها، فمن كان من المؤمنين مجتهداً في طلب الحق وأخطأ؛ فان الله يغفر له خطأه كائناً ما كان، سواء كان في المسائل النظرية أو العملية، هذا الذي عليه أصحاب النبي -صلى الله عليه وآله وسلم - وجماهير أئمة الإسلام)( ).
ثم يبيّن -رحمه الله- موقف أهل الخلاف من أهل السنة والجماعة، وموقف أهل السنة من أهل الخلاف، فيقول:

(والخوارج تكفر أهل الجماعة، وكذلك المعتزلة يكفرون من خالفهم، وكذلك الرافضة، ومن لم يكفر فسق، وكذلك أكثر أهل الأهواء يبتدعون رأيا ويكفرون من خالفهم فيه. وأهل السنة يتبعون الحق من ربهم الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ولا يكفرون من خالفهم فيه، بل هم أعلم بالحق وأرحم بالخلق)( ).

وقال: (الخوارج هم أول من كفر المسلمين، يكفرون بالذنوب، ويكفرون من خالفهم في بدعتهم، ويستحلون دمه وماله. وهذه حال أهل البدع يبتدعون بدعة ويكفرون من خالفهم فيها، وأهل السنة والجماعة يتبعون الكتاب والسنة ويطيعون الله ورسوله -صلى الله عليه وآله وسلم- فيتبعون الحق ويرحمون الخلق)( ).

ويبيّن ابن تيمية بكل وضوح موقفه الشخصي ممن كفره من أهل الخلاف، ليتبيَّن للمنصفين أنه –رحمه الله- هو العالم الذي يحتذي بكل تجرد منهج أهل السنة والجماعة في التعامل مع المخالفين، وأنهم لا يقابلون التكفير بالتكفير، ولا التفسيق بالتفسيق، ولا الشتم والسباب بمثلها.

يقول ابن تيمية: (هذا وأنا في سعة صدر لمن يخالفني فإنه وإن تعدى حدود الله فيَّ بتكفير، أو تفسيق، أو افتراء، أو عصبية جاهلية؛ فأنا لا أتعدى حدود الله فيه، بل أضبط ما أقوله وأفعله وأزنه بميزان العدل، وأجعله مؤتماً بالكتاب الذي أنزله الله وجعله هدى للناس حاكماً فيما اختلفوا فيه)( ).

وقال مبيناً أن ذلك هو منهج السلف الصالح أهل السنة والجماعة:

(فلهذا كان أهل العلم والسنة لا يكفرون من خالفهم، وإن كان ذلك المخالف يكفرهم. لأن الكفر حكم شرعي فليس للإنسان أن يعاقب بمثله، كمن كذب عليك وزنى بأهلك؛ ليس لك أن تكذب عليه و تزني بأهله، لأن الكذب و الزنا حرام لحق الله تعالى، وكذلك التكفير حق لله فلا يكفر إلا من كفره الله و رسوله)( ).

وهذا الكلام من ابن تيمية – رحمه الله- ليس كلاماً تنظيرياً بحتاً لا رصيد له من الواقع، بل تجد صداه في ممارساته العملية الكثيرة مع المخالفين، فكم مرة كفروه واعتدوا عليه، وهو يقابل ذلك بالصفح والعفو، والاعتذار لمخالفيه والتماس المبررات لهم.

يقول: (كنت أقول للجهمية من الحلولية و النفاة الذين نفوا أن الله تعالى فوق العرش لما وقعت محنتهم: أنا لو وافقتكم كنت كافرًا، لأني أعلم أن قولكم كفر، وأنتم عندي لا تكفرون لأنكم جهال، وكان هذا خطاباً لعلمائهم و قضاتهم و شيوخهم وأمرائهم. و أصل جهلهم شبهات عقلية حصلت لرؤوسهم في قصور من معرفة المنقول الصحيح و المعقول الصريح الموافق له)( ).

ثم يطبق ذلك عملياً، حيث قام أحد شيوخ الصوفية وهو الشيخ علي البكري بتكفير ابن تيمية والاعتداء عليه جسدياً، ومع ذلك لم يحد ابن تيمية عن منهجه المعتدل .

قال: (لم نقابل جهله -أي البكري الصوفي- وافتراءه بالتكفير بمثله، كما لو شهد شخص بالزور على شخص أو قذفه بالفاحشة كذباً عليه؛ لم يكن له أن يشهد عليه بالزور ولا أن يقذفه بالفاحشة)( ).

ثم يوصي ابن تيمية عموم الطوائف والفرق الإسلامية بوصية هامة جداً، وهي تجنب التكفير واستحلال الدم فيما بينها، حيث يقول:

(فلا يحل لإحدى الطوائف أن تكفر الأخرى ولا تستحل دمها ومالها، وإن كانت فيها بدعة محققة، فكيف إذا كانت المكِّفرة لها مبتدعة أيضاً، وقد تكون بدعة هؤلاء أغلظ، والغالب أنهم جميعا جهال بحقائق ما يختلفون فيه)( ).
ثم يبيّن –رحمه الله- بشكل جلي وواضح حقيقة مذهب السلف، ويزيل عنه اللبس، فيقول:

(طائفة تحكى عن أحمد في تكفير أهل البدع روايتين مطلقاً، حتى تجعل الخلاف في تكفير المرجئة والشيعة المفضلة لعلي، وربما رجحت التكفير والتخليد في النار، وليس هذا مذهب أحمد ولا غيره من أئمة الإسلام، بل لا يختلف قوله أنه لا يكفر المرجئة الذين يقولون : " الإيمان قول بلا عمل " ، ولا يكفر من يفضل علياً على عثمان، بل نصوصه صريحة بالامتناع من تكفير الخوارج والقدرية وغيرهم، وإنما كان يكفر الجهمية المنكرين لأسماء الله وصفاته، لأن مناقضة أقوالهم لما جاء به الرسول ظاهرة بينة، ولأن حقيقة قولهم تعطيل الخالق، وكان قد أبتلي بهم حتى عرف حقيقة أمرهم وأنه يدور على التعطيل، وتكفير الجهمية مشهور عن السلف والأئمة، لكن ما كان يكفر أعيانهم فإن الذي يدعو إلى القول أعظم من الذي يقول به، والذي يعاقب مخالفه أعظم من الذي يدعو فقط، والذي يكفر مخالفه أعظم من الذي يعاقبه، ومع هذا فالذين كانوا من ولاة الأمور يقولون بقول الجهمية: "إن القرآن مخلوق" و"إن الله لا يرى في الآخرة" وغير ذلك، ويدعون الناس إلى ذلك ويمتحنونهم ويعاقبونهم إذا لم يجيبوهم، ويكفرون من لم يجبهم حتى أنهم كانوا إذا أمسكوا الأسير لم يطلقوه حتى يقر بقول الجهمية: " إن القرآن مخلوق " وغير ذلك، ولا يولون متولياً ولا يعطون رزقاً من بيت المال إلا لمن يقول ذلك، ومع هذا فالإمام أحمد رحمه الله تعالى ترحم عليهم واستغفر لهم لعلمه بأنهم لم يتبيّن لهم أنهم مكذبون للرسول، ولا جاحدون لما جاء به، ولكن تأولوا فأخطأوا وقلدوا من قال لهم ذلك)( ).

ويقول -رحمه الله- أيضاً: (فإن الإمام أحمد مثلاً قد باشر الجهمية الذين دعوه إلى خلق القرآن، ونفى الصفات، وامتحنوه وسائر علماء وقته، وفتنوا المؤمنين والمؤمنات الذين لم يوافقوهم على التجهم؛ بالضرب، والحبس، والقتل، والعزل عن الولايات، وقطع الأرزاق، ورد الشهادة، وترك تخليصهم من أيدي العدو، بحيث كان كثير من أولى الأمر إذ ذاك من الجهمية من الولاة والقضاة وغيرهم يكفرون كل من لم يكن جهمياً موافقا لهم على نفي الصفات، مثل القول بخلق القرآن، ويحكمون فيه بحكمهم في الكافر، فلا يولونه ولاية ولا يَفْتَكُّونه من عدو، ولا يعطونه شيئاً من بيت المال، ولا يقبلون له شهادة ولا فتيا ولا رواية، ويمتحنون الناس عند الولاية والشهادة والافتكاك من الأسر وغير ذلك، فمن أقر بخلق القرآن حكموا له بالإيمان، ومن لم يقر به لم يحكموا له بحكم أهل الإيمان، ومن كان داعياً إلى غير التجهم قتلوه أو ضربوه وحبسوه، ومعلوم أن هذا من أغلظ التجهم، فإن الدعاء إلى المقالة أعظم من قولها، وإثابة قائلها وعقوبة تاركها أعظم من مجرد الدعاء إليها، والعقوبة بالقتل لقائلها أعظم من العقوبة بالضرب، ثم إن الإمام أحمد دعا للخليفة وغيره ممن ضربه وحبسه، واستغفر لهم وحللهم مما فعلوه به من الظلم والدعاء إلى القول الذي هو كفر، ولو كانوا مرتدين عن الإسلام لم يجز الاستغفار لهم فإن الاستغفار للكفار لا يجوز بالكتاب والسنة والإجماع، وهذه الأقوال والأعمال منه ومن غيره من الأئمة صريحة في أنهم لم يكفروا المعينين من الجهمية)( ).

ثم يقدم ابن تيمية رؤية أهل السنة والجماعة لأهل الخلاف، الرؤية القائمة على العدل والرحمة والرأفة بهم، وإجراء أحكام القرآن والسنة عليهم، بعيداً عن تحكم الأهواء المذهبيَّة، والرغبات الطائفيَّة، والتي كثيراً ما دفعت الطائفيين والمذهبيين إلى ظلم المخالف، والتعدي عليه بغير الحق.

يقول ابن تيمية: (إن المتأول الذي قصده متابعة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لا يكفر، بل ولا يفسق إذا اجتهد فأخطأ، وهذا مشهور عند الناس في المسائل العملية، وأما مسائل العقائد فكثير من الناس كفر المخطئين فيها، وهذا القول لا يعرف عن أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولا عن أحد من أئمة المسلمين وإنما هو في الأصل من أقوال أهل البدع الذين يبتدعون بدعة ويكفرون من خالفهم كالخوارج، والمعتزلة، والجهمية، ووقع ذلك في كثير من أتباع الأئمة كبعض أصحاب مالك، والشافعي، وأحمد وغيرهم)( ).

ويقول: (فأما من كان في قلبه الإيمان بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم وما جاء به، وقد غلط في بعض ما تأوله من البدع، فهذا ليس بكافر أصلاً)( ).

ثم يعرض ابن تيمية جملة من أصناف أهل الخلاف مبيناً موقفه منهم، كممارسة تطبيقية لآرائه وأقواله السالفة، ليقف القارئ الكريم على مصداقية توافق منهج ابن تيمية وأقواله مع أعماله وتطبيقاته، وليقف بنفسه أمام هذه النفسية الكبيرة القائمة على العدل والرحمة والإنصاف بحق المخالفين.

إن تلك النفس المؤمنة العظيمة هي التي أثرت في ابن تيمية في تعامله مع الطوائف والفرق المخالفة، فابن تيمية -أولاً وقبل كل شيء- باحث عن الحق، ومن مهمة الباحث العلمي أن يعري ويكشف حقائق الأفكار وزيفها وصدقها، لأنه يقوم بمهمة علمية يفترض فيه الأمانة والصدق والصراحة مع العدالة والرحمة، ومع ما يوصف به ابن تيمية من الحدة والقوة في الجدل، إلا أنه أنصف أشد الطوائف بُعداً عن عقيدة أهل السنة.
فحينما تناول شيخ الإسلام الجهمية والخوارج والشيعة بالنقد والتحليل، لم تمنعه مخالفتهم والرد عليهم ونقض أصولهم أن ينصفهم ويعدل معهم، ونصوصه في ذلك كثيرة.
فقد تحدث عن طائفة الخوارج، ومما قاله فيهم:

(والخوارج المارقون الذين أمر النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- بقتالهم، قاتلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أحد الخلفاء الراشدين واتفق على قتالهم أئمة الدين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، ولم يكفرهم علي بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص وغيرهما من الصحابة -رضي الله عنهم- بل جعلوهم مسلمين مع قتالهم، ولم يقاتلهم علي حتى سفكوا الدم الحرام وأغاروا على أموال المسلمين، فقاتلهم لدفع ظلمهم وبغيهم، لا لأنهم كفار، ولهذا لم يسب حريمهم، ولم يغنم أموالهم. وإذا كان هؤلاء الذين ثبت ضلالهم بالنص والإجماع لم يكفروا مع أمر الله ورسوله -صلى الله عليه وآله وسم- بقتالهم فكيف بالطوائف المختلفين الذين اشتبه عليهم الحق في مسائل غلط فيها من هو أعلم منهم)( ).

وحينما تحدث ابن تيمية عن المعتزلة وبعض رجالاتها، تكلم فيهم بعدل وصدق وإنصاف، ولم يدفعه خلافه معهم إلى الكذب عليهم، أو ظلمهم أو التعدي عليهم.

فهاهو يقول عن أحد أبرز رجالات المعتزلة: (فعمرو بن عبيد وأمثاله لم يكن أصل مقصودهم معاندة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم)( ).

وقال عن المعتزلة: إنهم مع مخالفتهم نصروا الإسلام في مواطن كثيرة وردوا على الكفار والملاحدة بحجج عقلية( ).

وقد عاب شيخ الإسلام ابن تيمية على ابن فورك الأشعري تكفيره المعتزلة، وتأليب الحكام عليهم. يقول –رحمه الله- عن ذلك:

(قصد بنيسابور القيام على المعتزلة في استتابتهم وكما كفرهم عند السلطان، ومن لم يعدل في خصومه ومنازعيه ويعذرهم بالخطأ في الاجتهاد، بل ابتدع بدعة وعادى من خالفه فيها أو كفره فإنما هو ظالم لنفسه، وأهل السنة و العلم و الإيمان يعلمون الحق، و يرحمون الخلق، و يتبعون الرسول –صلى الله عليه وآله وسم- فلا يبتدعون، و من اجتهد فأخطأ خطأ يعذره فيه الرسول –صلى الله عليه وآله وسم- عذروه)( ).
وهذا هو ابن تيمية يتحدث عن مخالفيه من أهل الكلام (الماتريدية و الأشاعرة) فيقول عنهم: (إنه ما من هؤلاء إلا من له في الإسلام مساع مشكورة، وحسنات مبرورة، وله في الرد على كثير من أهل الإلحاد والبدع والانتصار لكثير من أهل السنة والدين ما لا يخفى على من عرف أحوالهم وتكلم فيهم بعلم وصدق وعدل وإنصاف)( ).

ويتحدث عن الأشاعرة بالذات مع مخالفته لهم في كثير من الأصول والفروع، فيقول:

(إنهم أقرب طوائف أهل الكلام إلى السنة والجماعة، وهو يعدون من أهل السنة والجماعة عند النظر إلى مثل المعتزلة والرافضة وغيرهم، بل هم أهل السنة والجماعة في البلاد التي يكون أهل البدع فيها هم المعتزلة والرافضة ونحوهم)( ).

وحينما تحدث ابن تيمية عن الشيعة رد عليهم مخالفاتهم بأسلوب علمي رصين، قائم على البراهين والأدلة العقلية والنقلية، ومع مخالفتهم الكبيرة لأهل السنة، ومباينتهم العظيمة لأهل الجماعة؛ إلا أن ذلك لم يمنع ابن تيمية من إنصافهم والعدل معهم.

فيقول وهو يتحدث عن طائفة الشيعة الجعفرية الإمامية: (كثيراً منهم ليسوا منافقين ولا كفاراً، بل بعضهم له إيمان وعمل صالح، ومنهم من هو مخطئ يغفر له خطاياه، ومنهم من هو صاحب ذنب يرجى له مغفرة الله)( ).
وقال: (والرافضة فيهم من هو متعبد متورع زاهد)( ).

وقال منصفاً الشيعة: (وينبغي أيضاً أن يعلم أنه ليس كل ما ينكره بعض الناس عليهم يكون باطلاً، بل من أقوالهم أقوال خالفهم فيها بعض أهل السنة ووافقهم بعضهم، والصواب مع من وافقهم)( ).

وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن لهم جهوداً في دعوة الكفار إلى الإسلام فدخل على أيديهم أُناسٌ من الكفار، هذا مع إيمانه وتصريحه باشتمال مذهبهم على جملة من الضلالات والمكفرات في الإسلام.
ويبيّن ابن تيمية نقطة هامة جدًّا في أخلاقيات السلف الصالح أهل السنة والجماعة مع مخالفيهم، وهي الرحمة بهم والعدل معهم أكثر من رحمتهم لبعضهم البعض!

قال ابن تيمية: (فأهل السنة يستعملون معهم -أي المخالفين- العدل والإنصاف، ولا يظلمونهم، فإن الظلم حرام مطلقاً، كما تقدم، بل أهل السنة لكل طائفة من هؤلاء خير من بعضهم لبعض، بل هم للرافضة خير وأعدل من بعض الرافضة لبعض، وهذا مما يعترفون هم به، ويقولون: " أنتم تنصفوننا ما لا ينصف بعضنا بعضاً.. " ولا ريب أن المسلم العالم العادل أعدل عليهم وعلى بعضهم من بعض)( ).

وكان -رحمه الله- عموماً من أشد الناس رحمة بالمسلمين بشكل خاص، وبالمخالفين بشكل عام، فهذا الإمام الحافظ شمس الدين الذهبي يقول :

(رأيت للأشعري كلمة أعجبتني وهي ثابتة رواها البيهقي، سمعت أبا حازم العبدوي سمعت زاهر بن أحمد السرخسي يقول: لما قرب حضور أجل أبي الحسن الأشعري في داري ببغداد، دعاني فأتيته، فقال: "اشهد عليّ أني لا أكفر أحداً من أهل القبلة، لأن الكل يشيرون إلى معبود واحد، وإنما هذا كله اختلاف العبارات". قلتُ - أي الذهبي - : وبنحو هذا أدين، وكذا كان شيخنا ابن تيمية في أواخر أيامه يقول: أنا لا أكفر أحداً من الأمة، ويقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن" فمن لازم الصلوات بوضوء فهو مسلم)( ).

فانظر أخي القارئ الكريم -وأنت قد قرأت تلك النصوص، وقد عرفت مصدرها من كتب ابن تيمية- إلى موقف ابن تيمية من المسلمين، وكيف كان يتعامل مع مخالفيه بالرحمة والعدل والحق، وأظنه قد تبيَّن لك بشكل جلي وواضح أقوال الرجل ومنهجه في هذه المسألة، وعليه كيف نقبل قول القائل، وزعم الزاعم: (إن ابن تيمية كان مكفراً للمسلمين، ساعياً في تفريقهم، باذلاً جهده للطعن فيهم) وهذه نصوص ابن تيمية شاهدة بزيف هذا الادعاء وبطلانه جملة وتفصيلا؟!

عايض بن سعد الدوسري

[email protected]