عرض مشاركة واحدة
قديم 13-04-03, 05:11 PM   رقم المشاركة : 8
city oki
عضو ذهبي





city oki غير متصل

city oki


نحو مرجعية شيعية مستقلة في الخليج
سعود صالح السرحان *


حافظت النجف، لفترة طويلة، على مكانتها كأكبر معقل علمي للمذهب الشيعي، وساعد على احتلالها هذه المكانة كونها احدى «العتبات المقدسة» عند الشيعة، اذ تضم ضريح علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، وهو الإمام الأول عندهم، وكونها أكبر «حوزة علمية»، تخرِّج علماء مجتهدين في المذهب الشيعي، ظهر منهم مراجع كبار، وإن كان غالبهم من الفرس، وقد عاش أغلب هؤلاء المراجع في النجف.
يمارس المرجع الديني عند الشيعة دوراً اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً، ويتبع كل مرجع مجموعة من «المقلدين» تقل أو تكثر، وهؤلاء المقلدون يدفعون للمرجع التزاماتهم الدينية التي تتراوح بين أمور واجبة مثل «الخمس» أو شديدة التأكيد مثل «رد المظالم» أو مستحبة مثل «الوصية بالثلث» والهبات والصدقات.
ولا تقتصر مهمة المرجع على ذلك فقط، بل انه يضطلع بوظائف اجتماعية تكسبه الحظوة والقبول والمصداقية بين اتباعه، كتقديم مساعدات مالية ومعنوية لأتباعه ومقلديه، وإصلاحه بين المنازعات والخصومات، ويبرز كقائد اجتماعي يدافع عن حقوقهم ويتمثل مطالبهم.
أما الدور السياسي للمرجع، فهناك شواهد كثيرة عليه وعلى تطوره، وأبرز مثال في ذلك هو «ثورة التنباك» سنة 1891 ـ 1892، التي قامت بسبب فتوى الميرزا محمد حسن الشيرازي، الذي اعترض على منح الشاه الإيراني «امتياز بيع وشراء التنباك» لشركة بريطانية فأصدر الشيرازي فتوى بتحريم «التنباك» زراعة وتدخيناً وبيعاً وشراء، التزم بها جميع الشعب الإيراني حتى زوجة الشاه، مما اضطر الشاه إلى إلغاء الامتياز للشركة البريطانية.
وقد أخذ هذا الدور السياسي للمراجع شكله الفاعل وقيمته المؤثرة عندما ترسخت نظرية «ولاية الفقيه» في المذهب الشيعي، وبلغت «ولاية الفقيه» قمتها في الثورة الإيرانية سنة 1979، حين تحولت من نظرية إلى واقع مطبق، وصارت النخبة الحاكمة في إيران هي نخبة دينية شيعية غالبها من المراجع ورجال الدين.
وفي أوائل القرن الماضي قدّمت «قم» نفسها بوصفها حوزة دينية ناشئة، فمع أن «قم» عريقة في التشيّع، ويروى عنها في ذلك طرائف، إلا أن مركزها بين الحوزات العلمية لم يتعزز إلا بعد انتقال المرجع الشيعي الشيخ عبد الكريم الحائري إليها سنة 1920، ورسخ موقع «قم» بعد وفاة المرجع الشيعي الكبير أبي الحسن الأصفهاني سنة 1946، وظهور حسين بروجردي مرجعاً أكبر للشيعة، حيث كان مقيماً في «قم» إلى وفاته سنة 1961، وكان قيام الثورة الإيرانية سنة 1979، يمثل التعزيز العملي لدور «قم»، والترجمة الفعلية لما صارت تمثله من مرجعية علمية، وقدسية سياسية ودينية، إذ تحولت إيران بعد الثورة إلى دولة «ملالي» تتحرك وفق رغبة «مرشد الثورة» والمراجع في قم.
وقد تناسب تعزيز أهمية «قم» مع بداية تدهور موقع النجف، فظهور حكومات تحكمها نخبة سنية، بدءاً من الملكية وانتهاء بالبعث، أدى إلى التضييق على النجف ومراجعها، لا سيما الفرس منهم، وتعزز هذا بعد الحرب الإيرانية 1980 ـ 1989.
وعلى عكس ما كان متوقعاً، فيبدو أن هذا التضييق على النجف صادف «هوى» في نفوس حكام طهران (أو قم، لا فرق)، بل ذكر بعض الباحثين أن الخميني في ثمانينات القرن الماضي، عرض على ابن محسن الحكيم، المرجع الشيعي في النجف، نقل الحوزة العلمية من النجف إلى «قم»!، مما يشير إلى أن أهمية حصر المرجعية الشيعية في «قم» ونبذ المرجعيات الأخرى أو إقصائها، كان أمراً حاضراً لدى قادة الثورة الإيرانية.
ومن الطرائف، أنّ منافسة «قم» للنجف لم تقتصر على «الأهمية» وعلى سحب المراجع الكبار ومصادر الدخل فقط، بل وصلت المنافسة إلى «اللقب التشريفي»، فالنجف تعرف منذ زمن طويل عند الشيعة باسم «النجف الأشرف»، وفي الأزمان المتأخرة استجلبت «قم» لنفسها لقب «قم المقدسة».
واليوم، تُطرح سيناريوهات كثيرة عن حال «عراق ما بعد صدام»، وعن تمثيل الشيعة ووجودهم في حكومة المستقبل، ويمكن تقسيم السيناريوهات المطروحة إلى: سيناريو متفائل، وآخر أقل تفاؤلاً.
فمركز الخوئي في لندن يطالب بأنْ يكون رئيس الجمهورية شيعياً، وله ثلاثة نواب يكون النائب الأول منهم شيعياً أيضاً، والباقيان أحدهما سني والآخر كردي. و«المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق»، يدعو إلى حكم ذاتي شيعي في جنوب العراق.
هذا بالنسبة للسيناريو المتفائل، أما السيناريو الأقل تفاؤلاً، فيرى أن شيعة العراق، من المؤكد أنهم سيحصلون على حرية دينية ـ سياسية أوسع، لم يكونوا يجدونها في ظل حكومة البعث.
ووفق جميع الاحتمالات، فإن المجمع عليه لدى المراقبين هو توقع عودة قوية لحوزة النجف إلى الساحة من جديد، إلا أن حوزة قم لن تسمح بعودة النجف إلى سابق عهدها، وهو الأمر الذي سيهدد مكانتها، ولن تسمح أيضاً بظهور مرجعيات «عربية» كبيرة.
فالمراجع العرب الشيعة كانوا، منذ القدم، في الصف الثاني ولم يظهر أي مرجع عربي كبير من درجة أبي الحسن الأصفهاني أو الخميني أو الخوئي أو حتى السيستاني الموجود اليوم.
وقد أشار السيد محمد حسين فضل الله إلى محاربة إيران له، وإلى أنها تمنع ظهور أي مرجع قوي خارج السياق الإيراني (قم ـ الفارسي). جريدة الحياة عدد 14552، تاريخ 2003/1/25.
ولعل هذا يؤكد أن ظهور نجف قوية سيثير صراعاً قوياً مع قم، وستحتاج النجف فيه إلى إيجاد «مصادر دخل» لمواجهة قم القوية والغنية، أما قم فستحاول محاصرة النجف اقتصادياً، وهو ما سيحول أنظار الحوزتين المتصارعتين إلى «شيعة دول الخليج»، ويجعل المنافسة تحتدم بينهما حول الفوز «بالواجبات المالية ـ الدينية» التي يقدمها الشيعة في دول الخليج لمراجعهم.
وهذه «الموارد» الاقتصادية ـ الدينية تمثل مجالاً للخلاف بين الحوزتين، غير أن الخلاف الذي يبقى بالغ الحساسية يتمثل في أن مراجع النجف معروفون بإبطالهم لنظرية «ولاية الفقيه» وهو ما يضرب مشروعية الدولة (الثورة) الإيرانية الحديثة في الصميم، ولا شك أنّ قم وطهران لن ترضيا بظهور دعاة شيعة إليها، يمثلون اختراقاً دينياً لمشروعية الدولة والثورة الإيرانيتين.
ومن المسلم به أن أي مرجع إنما يمثل المصالح الاقتصادية والسياسية لحوزته ولبلده، وهو ما سيؤثر في المقام الأول على شيعة الخليج وبلدانهم، الذين يجب أن يسعوا لإيجاد صيغة ثالثة تواجه النزاع المرتقب بين قم والنجف، أو الصراع القديم بين المراجع العرب والفرس.
وهنا يُطرح بإلحاح أهمية وجود مرجعية شيعية سعودية تراعي مصالح أهلها، وتحمل هويتها ولا تتأثر بالظروف الخارجية.
وسنضرب مثالا يدل على أهمية هذا الأمر، وهو «حزب الله اللبناني»، فإنه مع دفاعه عن قضايا لبنان، ومساهمته الفاعلة في المقاومة، إلا انه واضح للعيان «تبعيته» السياسية والفكرية لقم (وللمرشد الأعلى علي خامنئي على وجه الخصوص)، وقد اتهم السيد محمد حسين فضل الله، حزب الله بأنه ينفذ عملية اغتيال معنوي له بالتعاون مع إيران، منعاً لظهور أي مرجعية شيعية عربية كبيرة تغرد خارج السرب الإيراني، فإيران تسعى لجعل جميع المقلدين والأتباع الشيعة خاضعين لإرادة «قم» الدينية والسياسية، وممولين لحوزة «قم».
وتبدو دول الخليج، اليوم، خالية من أي مرجع شيعي، ورجال الدين الكبار من الشيعة فيها إنما هم «وكلاء» للمراجع المقيمين في النجف أو قم أو بيروت.
فمثلا: غالبية الشيعة في السعودية أي قرابة %80 منهم، إنما هم مقلدون للسيستاني، وهو إيراني مقيم في النجف، وجملة منهم يقلدون خامنئي، وآخرون يقلدون التبريزي أو الشيرازي، وهؤلاء جميعاً إيرانيون ويقيمون في إيران، وجماعة قليلة منهم يقلدون محمد حسين فضل الله، المقيم في بيروت.
وهنا يبرز سؤال عن قيمة الأموال التي تحول إلى خارج دول الخليج، فضلا عن السعودية، من خمس ونحوه، وكم يبلغ تقريبا هذا المبلغ المحول؟.
والسؤال الأكثر إلحاحاً: ماذا لو أنفقت هذه الأموال على المحتاجين في المنطقة نفسها ولرفع مستوى الخدمات عندهم، وهذا يبين الأهمية الاقتصادية لوجود مرجع شيعي سعودي أو خليجي، في الاحتمالات الأدنى.
ولو رجعنا إلى التاريخ، لوجدنا أن «السعودية» كانت تحوي مراجع شيعة، ولم تسعَ السلطة السياسية إلى نفيهم أو إقصائهم، بل تعاونت معهم، فآخر مرجعية في الأحساء كان السيد ناصر الأحسائي، أما القطيف فقد كان فيها عدد من المراجع الشيعة، إبان دخولها في الحكم السعودي (الدولة السعودية الثالثة) سنة 1331هـ، وهم الشيخ أبو عبد الكريم علي الخنيزي المتوفى سنة 1362هـ، وكان أكبر المراجع من حيث المنزلة الاجتماعية، وعمه الشيخ أبو حسن علي الخنيزي، وقد كان في النجف ثم قدم القطيف سنة 1332هـ، وتوفي فيها سنة 1363هـ، والشيخ عبد الله بن معتوق المتوفى سنة 1363هـ، والسيد ماجد العوامي المتوفى سنة 1367هـ، وهو آخرهم موتاً، وخلت القطيف منذ ذلك الوقت إلى اليوم من وجود مرجع شيعي.
ووجود هؤلاء كان ينسجم مع واقعهم وحاجاتهم لمنطقتهم وللبلاد جميعاً، ويظهر هذا الأمر جلياً في الحادثة التالية:
فبعد أن استولى الملك عبد العزيز على الأحساء سنة 1331هـ، أرسل سرية بقيادة عبد الرحمن السويلم إلى القطيف، فخرج السويلم بسريته حتى وصلوا إلى «المريقب» قرب سيهات وعسكروا هناك، وفي تلك الأثناء كان القائم مقام العثماني مجتمعاً بعلماء ووجهاء القطيف، وعلى رأسهم المراجع السابق ذكرهم، وطلب منهم مهدداً أنْ يقاوموا الملك عبد العزيز، وطلب من العلماء إصدار فتاوى بوجوب قتال الملك عبد العزيز وجنوده، وأوقف على رأس كل عالم جندياً شاهراً سلاحه، إمعاناً في إرهابهم.
فتكلم الشيخ أبو عبد الكريم علي الخنيزي وبيّن للقائم مقام، ما تعانيه القطيف من اضطراب بسبب الحروب بين القبائل والقرى، وأن الدولة العثمانية لم تحافظ على الأمن في المنطقة، وطلب من القائم مقام مغادرة المنطقة وطمأنه بأنه سيكتب معه كتاباً لرؤسائه يسوغ فيه لهم انسحاب القائم مقام، وبعد مغادرة القائم مقام العثماني إلى البحرين مع جنوده، ذهب علماء القطيف ووجهاء البلد إلى عبد الرحمن السويلم في «المريقب» وبايعوه نيابة عن الملك عبد العزيز ودعوه إلى دخول البلاد، وكان الشيخ أبو حسن علي الخنيزي مقيماً في النجف، فأيّد فعل ابن أخيه وأهالي القطيف.
ومن نافلة القول أنه في وجود مرجع شيعي سعودي ذي علاقة حسنة محلياً، لا يعني أن تكون علاقته سيئة بالنجف أو قم، بل المهم أن يكون مستقلاً في موارده الاقتصادية، وآرائه الفقهية والسياسية، عن سيطرة هاتين الحوزتين.