عرض مشاركة واحدة
قديم 18-06-09, 08:13 AM   رقم المشاركة : 8
ديار
موقوف





ديار غير متصل

ديار is on a distinguished road


موضوع منقول من موقع ملتقى البيان لتفسير القرآن

أ.د. أحمد شكري
مشرف ملتقى البحوث والدراسات القرآنية

جواب سؤال الأخت روضة عن الإعجاز العددي

رأيت أن أقسم الجواب على حلقات لئلا يطول الموضوع على الأعزاء زوار وأهل الملتقى فقد اختصرت البحث إلى عدة صفحات وجعلته في أربع حلقات سأثبتها بالتتابع إن شاء الله تعالى وهذا أولها وهو التمهيد للموضوع مع الشكر للأخت روضة على طرح السؤال

نشأة البحث في الأعداد والأرقام في القرآن الكريم
يرى بعض الباحثين أن فكرة الإعجاز العددي بدأت منذ عهد الرسالة حين نزلت الحروف المقطعة في فواتح بعض السور، وبدأ اليهود يحسبون الأرقام المقابلة لهذه الحروف بناء على حساب الجُمَّل[1] على أنها تبيين لعمر دين الإسلام[2].
وأرى أن الربط بين هذه الرواية ونحوها وبين الإعجاز العددي لا يخلو من تكلف ظاهر، سواء حصل هذا الربط من دعاة إثبات فكرة الإعجاز العددي أم من دعاة نفيها، فالفريق الأول يسعى من خلال الاستشهاد بها إلى تثبيت مبدأ استخدام حساب الجمل وتوظيفه للوصول إلى معنى ما، وإن كان مستخدموه في هذا المثال قد أساءوا في محاولة توظيفه لقصد خبيث وهدف سيء، وهو محاولة كشف عمر أمة الإسلام، ظنا منهم أن الحروف المقطعة في أوائل بعض السور إشارات لهذا الأمر.
والفريق الثاني يسعى من خلال الاستشهاد بها إلى الطعن في مثبتي فكرة الإعجاز العددي بأنهم يسيرون على نهج اليهود في هذا الأمر، ويستخدمون الطريقة المتعارف عليها بينهم وهي حساب الجمّل، ويوظفون الرواية – مع علمهم بضعفها – لتكون دليلا قويا لهم يردون بها على دعاة الإعجاز العددي، وأنه لا يؤدي إلى نتيجة كما حصل مع هؤلاء اليهود الذين صرحوا بأن أمر محمد r ألبس عليهم بهذا الحساب ولم يتوصلوا معه إلى أية نتيجة.
وبعيدا عن أي انحياز أو تحامل، فإني أرى عدم إقحام هذه الروايات للاستشهاد بها لصالح أحد الفريقين أو ضده، فما يذكره الباحثون في الإعجاز العددي والأفكار التي يطرحونها ويحاولون إثباتها ليست مندرجة كلها في ما ورد في الروايات، وقصارى ما يؤخذ من هذه الروايات أن الناس في ذلك الوقت كانوا يستخدمون حساب الجُمّل، ولم يكن استخدامه مقتصرا على اليهود وحدهم، ولكن استخدمه في أزمنة متعددة المؤرخون والشعراء والأدباء والعلماء، استخداما محمودا، ويتفاوت الهدف من استعمال هذا الحساب بين كون هذه الأرقام مفاتيح أسرار الحروف يتوصل من خلالها إلى كشف أمور غيبية وأسرار خفية[3]، ولذا يستخدمه السحرة والمنجمون والمشعوذون ومن أشبههم، وهذا استخدام لا شك في حرمته وعدم جوازه، وبين استخدامه في مقاصد حسنة نبيلة، منها: التأريخ لحدث ما بحروف أو عبارات، وبيان عدد أبيات نظم أو عدد آي سورة وما أشبه ذلك[4]، والهدف منه سهولة حفظ الحروف بدلا من الأرقام، لأن الأرقام إذا كثرت تشابهت وصعب حفظها.
ويحاول بعض دعاة الإعجاز العددي توثيق رأيهم وتأكيد قِدَم البحث فيه بروايات عن السابقين فيها ذكر للأرقام واستعانة بها على التفسير، ومن ذلك ما روي عن ابن عباس في تحديد ليلة القدر بقوله: "(ليلة القدر) تسع أحرف، ومذكورة في السورة ثلاث مرات فتكون ليلة سبع وعشرين"[5]، وما روي أيضا في تحديد ليلة القدر وأنها ليلة سبع وعشرين من كون عدد كلمات سورة القدر ثلاثين، واسم الإشارة (هي) اللفظ السابع والعشرون بينها[6]، وما روي عن ابن مسعود أنه قال: "من أراد أن ينجيه الله من الزبانية التسعة عشر فليقرأ (بسم الله الرحمن الرحيم) فيجعل الله له بكل حرف منها جُنّة من كل واحد"[7] وبما ذكره عدد من العلماء من ظواهر لها صلة بالأرقام، منها ما ذكره الباقلاني ومن تابعه[8] عن ظاهرة تتعلق بالأعداد التي في حروف فواتح السور، وهي ظاهرة استخدام نصف حروف اللغة العربية في الفواتح، ونصف حروف كل صفة من الصفات.
كما يحاولون الاستدلال بنقول ونصوص عديدة عن العلماء السابقين في إحصائهم عدد كلمات القرآن الكريم وحروفه[9]، المهمل منها والمعجم، وتقسيمه إلى نصفين وأثلاث وأرباع وأخماس وأسداس وأسباع وأثمان وأتساع وأعشار وأحد عشر واثني عشر وثلاثين وأربعين وستين ومئة وثلاث مئة وستين جزءا[10]، وببعض الحوادث التي فيها تحديد أحداث ومواعيدها من خلال معادلة رقمية مستنبطة من الآيات، منها حادثة استنباط المفسر ابن برجان أن القدس ستفتح في رجب سنة 579، وكان قد كتب تفسيره في سنة 520، وقال إنه استخرج هذه المعلومة من تأمله في فواتح سورة الروم، واعتمد على كلام هذا المفسر قاضي دمشق محي الدين زكي فقال مخاطبا صلاح الدين بعد فتحه حلب:

وفتحكم حلبا بالسيف في صفر مبشر بفتوح القدس في رجب[11]
إلا أن هذا كله لا ينهض لهم دليلا على ما سعوا إليه من التأصيل لفكرتهم، فقد كان استخدام الأرقام قديما لغايات الإحصاء أو الإشارة إلى اللطائف والتناسق بينها، ولم يتطرق أي من السابقين إلى تسميته الإعجاز العددي أو الرقمي ولذا فإني أؤكد أن فكرة القول بالإعجاز العددي حديثة غير قديمة.
ومن أوائل من أشار في العصر الحديث إلى وجود تناسق بين الأرقام والأعداد، وإلى لطائف تتعلق بعدد مرات ورود ألفاظ معينة وما يحمله ذلك من دلالات الإمام الكبير بديع الزمان سعيد النورسي (ت 1960م)، وهو أحد أئمة الإصلاح والدعاة إلى الخير في العصر الحديث، فقد حوت رسائله بعض الإحصاءات المتعلقة بهذا الأمر، وجعل الحديث عنه تابعا لحديثه عن التناسق اللفظي الذي كان يرى فيه نقشا إعجازياً، وأنه أحد الوجوه الأربعين للإعجاز[12].
وفي تلك الفترة بدأ عبد الرزاق نوفل (ت 1984م) بالبحث في الأرقام والأعداد في القرآن، حيث ضمّن كتابه: "الإسلام دين ودنيا" الذي صدر عام 1959 الإحصائية التي أجراها، وتبين له فيها تساوي عدد مرات ورود لفظي الدنيا والآخرة في القرآن، حيث ورد كل منهما 115 مرة، وأتبعها في عام 1968 في كتابه: عالم الجن والملائكة بإحصاء عدد مرات ورود لفظ الملائكة والشيطان، وأنهما متساويان تماما، حيث ورد كل منهما 68 مرة، ثم أصدر في عام 1975 كتابه "الإعجاز العددي للقرآن الكريم"[13]، وفيه إحصائيات عديدة حول تساوي عدد مرات ورود ألفاظ متقابلة أو متضادة.
ثم أعلن الدكتور محمد رشاد خليفة سنة 1972م، اكتشاف ما أسماه: معجزة القرن العشرين، وهي معجزة الأرقام في القرآن الكريم، وذلك في مقال نشره في مجلة "آخر ساعة" المصرية[14] تحت عنوان: "في أمريكا بالعقول الإلكترونية يفسرون القرآن الكريم"، وأصدر كتيّبا أسماه: "عليها تسعة عشر"، وكتابا أسماه: "دلالات جديدة في القرآن"، وألقى محاضرات عديدة ضمنها فكرة الإعجاز العددي المرتبط بالرقم 19، في عدد من الدول منها الكويت[15]، وأعجب بما طرحه كثير من الناس، ثم تبين لهم أنه بهائي وأنه يقدس الرقم 19 بسبب بهائيته، ثم ادعى أنه رسول الله، وكانت خاتمته القتل في منزله بأمريكا في حدود سنة 1990[16].
ثم كثرت المؤلفات والمقالات والمحاضرات في الإعجاز العددي، وخاض في هذا المجال كثيرون، وتبين لي من خلال الاطلاع على مؤلفاتهم إمكان تصنيفهم إلى صنفين: الأول: المتخصصون في الشريعة وهم قلة، الثاني: المتخصصون في العلوم الأخرى، وهم الأكثر، وتتفاوت تخصصاتهم ما بين الهندسة والرياضيات والطب والكيمياء الصناعية والقانون وغيرها من التخصصات، وأكثر الذين وقعوا في أخطاء من هذا الصنف، كما أن بين الباحثين في الإعجاز العددي – حسب علمي بحال بعضهم - من هو راغب في الخير وخدمة كتاب الله تعالى، ومن هو مستور الحال غير معلوم التوجه والقصد، ومن هو سيء النية خبيث القصد، مثل محمد رشاد خليفة.
ولعل من المناسب في هذا المقام التنبيه إلى أنه ليس لأي أحد أن يخوض في علوم القرآن الكريم وإعجازه وتفسيره، دون أن يكون ملما بالعلوم التي نص أهل العلم على وجوب تحصيلها قبل ذلك، وعالما بالشروط التي اشترطوها فيه، لئلا يقع في الخطأ والخلل[17]، وسأعرض لعدد من هذه الشروط في الحلقات القادمة بإذن الله تعالى

[1] بضم الجيم وفتح الميم مشددة، وحساب الجُمّل: احتساب قيمة عددية لكل حرف من حروف الهجاء الثمانية والعشرين بمراعاة ترتيبها وفق نظام: أبجد هوز...، ويكون لكل حرف منها رقم يقابله واستخدام حساب الجُمّل قديم يرجعه بعض الباحثين إلى عهد السريان، وأن العرب استحسنته ونقلته عنهم واستعملته ( ينظر: ابن منظور، محمد بن مكرم (711هـ)، لسان العرب، مادة جمل، ومحمود أحمد مروح، زينة الأداء شرح حلية القراء في أحكام التلاوة والتجويد، ص 149).
[2] منها ما رواه ابن جرير الطبري في تفسيره، ج1، ص93، وأبو عمرو الداني في البيان في عد آي القرآن، ص330، وهي روايات متكلم في سندها ، ينظر ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، ج1، ص40.
[3]رضوان سعيد فقيه، الكشوف في الإعجاز القرآني وعلم الحروف، 41
[4] من أمثلة استخدامه في التأريخ ما قيل في التأريخ لوفاة ابن كمال باشا بعبارة: " مات العلم بالكمال" التي تساوي تاريخ وفاته وهو سنة 940هـ، واختيار اسم تفسير محمد بن عمر نووي جاوي الموافق لسنة الفراغ منه وهو 1304هـ، ومن أمثلة استخدامه في بيان عدد أبيات النظم ما فعله ابن الجزري في كل من المقدمة والدرة، ومن أمثلة استخدامه في تبيين عدد آي السور ما فعله الشاطبي في منظومته ناظمة الزهر (ينظر: جميل مصطفى العظم، عقود الجوهر في تراجم من لهم خمسون تصنيفا فمئة فأكثر، ص 218، والجاوي، محمد بن عمر النووي، مراح لبيد بكشف معنى قرآن مجيد، ج1، ص 2، والمخللاتي رضوان بن محمد (1311هـ)، القول الوجيز في فواصل الكتاب العزيز، ص 157 و158 و181، وبسام جرار، إرهاصات الإعجاز العددي في القرآن الكريم، ص 52). فاستخدام حساب الجُمّل ليس مقصورا على السحرة ولا على اليهود ولا على المقاصد السلبية كما ذهب إليه بعض من ردّ على دعاة الإعجاز العددي.
[5] الفخر الرازي، محمد بن عمر (606هـ) التفسير الكبير، ج32، ص30.
[6] القرطبي، محمد بن أحمد (671هـ) الجامع لأحكام القرآن، ج1، ص92.
[7] أورده ابن عطية، عبد الحق بن غالب (541هـ)، المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، ج1، ص61، والقرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج1، ص92، وابن كثير، تفسير القرآن العظيم، ج1، ص73، وبحثت عنه في كتب الحديث وآثار الصحابة فلم أجد من ذكره، ولم يُخرّجه أحد من محققي هذه التفاسير، واستشهد ابن عطية له بحديث رفاعة الزرقي قال: "كنا يوما نصلي وراء النبي r فلما رفع رأسه من الركعة قال: سمع الله لمن حمده، قال رجل وراءه: ربنا ولك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، فلما انصرف قال: من المتكلم؟ قال: أنا، قال: رأيت بضعة وثلاثين ملكا يبتدرونها أيهم يكتبها أول"، رواه البخاري في الجامع الصحيح، كتاب الأذان، باب رقم 126، رقم الحديث 766 (ج1، ص275) وعلق بقوله: " فعدد الملائكة في الحديث موافق لعدد حروف العبارة وهي 34 حرفا، وهذا من ملح التفسير وليس من متين العلم" (ابن عطية، المحرر الوجيز، ج1، ص61).
[8] الباقلاني، محمد بن الطيب (403هـ) إعجاز القرآن، ص 44-46، والزمخشري، محمود بن عمر (538هـ) الكشاف، ج1، ص17.
[9] انظر: صدقي البيك، معجزة القرآن العددية، ص20-22.
[10]ينظر في هذه التقسيمات والإحصاءات: ابن الجوزي، عبد الرحمن بن علي (597هـ)، فنون الأفنان في عيون علوم القرآن، ص245، والسخاوي، علي بن محمد (643هـ)، جمال القراء وكمال الإقراء، ج1، ص388.
[11]بسام نهاد جرار، مقال: الإعجاز العددي بين الحاضر والماضي، منشور في موقعه على الانترنت وهو: www.islamnoon.com
[12]بديع الزمان سعيد النورسي (1960م)، المكتوبات، ترجمة: إحسان قاسم الصالحي، ص 523.
[13] عبد الرزاق نوفل، معجزة الأرقام والترقيم في القرآن الكريم، ص10.
[14]العدد رقم 2149 الصادر بتاريخ 31/12/1972، وينظر صدقي البيك، معجزة القرآن العددية، ص 23 و48.
[15] كان ذلك في سنة 1976، د. محمد حسن هيتو، المعجزة القرآنية، ص304.
[16]ينظر في التعريف به: حسين ناجي محمد محيي الدين، تسعة عشر ملكاً، ص173، ود. صلاح عبد الفتاح الخالدي، البيان في إعجاز القرآن، ص368 – 373، ود. محمد حسن هيتو، المعجزة القرآنية، ص304، وبسام نهاد جرار، إعجاز الرقم 19 في القرآن الكريم مقدمات تنتظر النتائج، ص21 و156 – 172
[17] ممن نص على هذه الضوابط أ.د. أحمد حسن فرحات في بحثه المقدم إلى ندوة الإعجاز العددي والمطبوع ضمن بحوثها، ص71-76، وأ. د. زغلول راغب النجار، قضية الإعجاز العلمي في القرآن الكريم بين المؤيد والمعارض، ص71-76، وأ.د. محمد المجالي، الوجيز في علوم الكتاب العزيز، ص209-216.