عرض مشاركة واحدة
قديم 14-04-18, 11:43 PM   رقم المشاركة : 17
المنيب
موقوف







المنيب غير متصل

المنيب is on a distinguished road


السـرية بين أوهـام المغـرضـين وتحـليلات المحققـين


قال الله عز وجل: " وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً"

يعمد كثير من المغرضين بقصد التشويه والتشنيع في دعوة الحق إلى نسبة الباطل إليها بسبب السرية والتقية التي اتخذتها في كثير من مراحلها عبر تاريخها الطويل. ولأجل توضيح المعنى الحقيقي للسرية، أقدم للمنصفين من القراء هذا المقال:

تمر الحركات عموما بمراحل عديدة، فمنها مراحل الحذر والخوف، ومراحل الأمن والطمأنينة، ومراحل الترقب. ولا شك أن مرحلة السرية والحذر من المراحل المهمة لكل دعوة وحركة. ولقد مرت الحركة الإسلامية الأولى بقيادة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بهذه المرحلة في بداياتها عندما كان الكفر محيطا بهم، والخطر مطبقا عليهم، فكان الاجتماع سريا والدعوة سرية والتحركات سرية، وحتى الهجرة إلى المدينة كانت في غاية السرية، حتى وكأنهم المخاطبون بفحوى الآية الكريمة التي تحكي قول أهل الكهف: " وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً"، وذلك بالفعل هو ما حصل لهؤلاء الفتية في الكهف عندما أرسلوا رسولهم ليأتي لهم بطعام، وأمروه باتخاذ الحيطة والحذر واستعمال السرية "ولا يشعرن بكم أحدا"، لماذا؟ لأنهم لو شعروا بهم لاستأصلوا شأفتهم ولبترت الدعوة من أصولها وانقطعت عن بكرة أبيها.

فالسرية إذن ليست عنوان الضعف كما يحلو للجهال أن يصفوها، وليست علامة الجبن، إنما هي مصلحة من المصالح، ومرحلة من المراحل تمر بها معظم الحركات، عندما يكون للباطل صولة وللظالمين جولة، فليست هي بدعا إذن. وقد يقول قائل: لماذا نسر بالدعوة مع إننا على حق؟ ظنا منه أن السرية سمة الباطل والمجاهرة سمة الحق؟ فنقول إن الحق شيء والأسلوب الموصل إليه شيء آخر، ويجب أن لا نخلط الأوراق، ونداخل المفاهيم بقصد أو بغير قصد.

فمعلوم أن الحركة الإسلامية كان ولا زال هدفها الرئيس هو إحقاق الحق، لكن الوصول إلى هذا الهدف المنشود تتعدد وسائله وتتنوع صوره، وتختلف وسائله بحسب اختلاف مراحله وتباين ظروفه. فالسرية احدى الوسائل المتاحة للوصول إلى الهدف المنشود، كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان"، وليس أدل على ذلك من فعل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم نفسه، ودار الأرقم بن أبي الأرقم أكبر شاهد على ذلك. وأصحاب الكهف مثلا يتأسى بهم لأن الله عز وجل مدحهم وأثنى على أسلوبهم، قال جل من قائل: " إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى".

فبالعكس مما يقوله المغرضون من أن السرية سمة الباطل، لكن الأولى أن نقول أنها ضمان لأفراد الجماعة من تسلط الظالمين، قال الله عز وجل: "وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ"، لماذا يكتم إيمانه؟ لأنه يعيش في جو مليء بالكفر والضلال، فلو أظهر إيمانه لوجد من التنكيل والتعذيب ما لا يحتمله، فكانت مصلحته في الكتمان والسرية، ولم ينكر الله عليه فعله ذلك.

ومن فوائد السرية أيضا حفظ الخطط والتحركات حتى لا تنكشف وتفسد، وقد كان من هدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا أراد أن يغزو يكني بخروجه ويخبر أنه يريد وجها غير الوجه الذي يقصد كي يباغت العدو ويعمي عليه الأنباء.

والحديث عن السرية يجرنا إلى ذكر متطلباتها ومقوماتها:

وأولها عدم إشاعة الخبر السيء، لأن القلوب كالأرض بعضها أصلب من بعض، فبعضها يتشرب الماء، وبعضها يحفظه، وبعضها يلفظه. والقلوب كذلك بعضها يحتمل الخبر ويتعامل معه بالأمر المطلوب، وبعضها يفتتن بذلك. ومن هذا المعنى ما حدث في غزوة الخندق عندما تنامى إلى علم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن بني قريظة قد نقضوا العهد، فأمر بعض أصحابه أن ينظروا في الأمر، وقال لهم: إن كان حقا فلحنوا إلى لحنا أعرفه، أي إشارة أفهمها وحدي، ولا تصرحوا بخيانتهم، لئلا تفتوا في عضد الناس فيدخلهم بسبب ذلك الوهن والفشل والخذلان، وتضعف عزائمهم، وإن كانوا لا يزالون على الوفاء فيما بيننا وبينهم، فاجهروا به بين الناس.

ثانيا: عدم إفشاء سر الجماعة بتسريب المعلومات قبل أوانها، وقصة حاطب بن بلتعة في فتح مكة دليل شاهد على أن إفشاء السر يعتبر خيانة قبيحة، وأمر خطير على الجماعة. والمحافظة على سر الجماعة وكتمانه دائما يصب في مصلحة الدين والحق ويساعد في تحقيق الهدف المنشود بأسرع ما يمكن.

ثالثا: العمل بحذر في حدود نطاق السرية، وهذا ما فعله رسول أهل الكهف عندما دخل المدينة لجلب الطعام فأمروه أن يتلطف في الوصول دون أن يشعر أحدا من الناس بهم.

رابعا: ترك السذاجة والغفلة، فمن المسؤولية المناطة بعاتق كل من ينتمي إلى مجموعة أو حركة ما أن يعرف أهدافها ويتخذ أقصى درجات الحيطة والتحفظ، ويستخدم اللباقة اللازمة في التعامل مع الآخرين، دون أن يكشف دون قصد ما حرص زعماء الحركة على كتمانه والتحفظ من تسريب الأسرار قبل وقت أوانها لئلا يهدم في لحظه ما بناه القادة في سنين كثيرة.

أكثر فقراته مقتبسة ومستوحاة من مقال بعنوان "وقفات في سورة الكهف – السرية" لعبد الله القصار – مجلة المجتمع، العدد 1026.