عرض مشاركة واحدة
قديم 16-09-11, 02:30 AM   رقم المشاركة : 1
جاسمكو
عضو ماسي






جاسمكو غير متصل

جاسمكو is on a distinguished road


جولة فى تفاسير الشيعة * د. إبراهيم عوض

جولة فى تفاسير الشيعة



* د. إبراهيم عوض

د. ابراهيم عوض الاستاذ بجامعة عين شمس

جاء فى "الملل والنحل" لعبد الكريم الشهرستانى أن "الشيعة هم‏:‏ الذين شايعوا عليًّا رضي الله عنه على الخصوص وقالوا بإمامته وخلافته‏:‏ نصًّا ووصيّةً: إما جليًّا وإما خفيًّا‏، واعتقدوا أن الإمامة لا تخرج من أولاده، وإن خرجت فبظلمٍ يكون من غيره أو بتقيّةٍ من عنده‏.‏ وقالوا‏:‏ ليست الإمامة قضية مصلحة تناط باختيار العامة وينتصب الإمام بنَصْبهم، بل هي قضية أصولية.

وهي ركن الدين لا يجوز للرسل عليهم السلام إغفاله وإهماله ولا تفويضه إلى العامة وإرساله‏. ويجمعهم القول بوجوب التعيين والتنصيص وثبوت عصمة الأنبياء والأئمة وجوبًا عن الكبائر والصغائر والقول بالتولي والتَّبَرِّي‏:‏ قولاً وفعلاً وعقدًا إلا في حال التقيّة‏.‏ ويخالفهم بعض الزيدية في ذلك‏.‏ ولهم في تعدية الإمامة‏ كلام وخلاف كثير، وعند كل تعدية وتوقف مقالة ومذهب وخبط‏.‏ وهم خمس فرق‏:‏ كيسانية وزيدية وإمامية وغُلاَة وإسماعيلية‏.‏ وبعضهم يميل في الأصول إلى الاعتزال، وبعضهم إلى السنة، وبعضهم إلى التشبيه"‏.‏


والذى يهممنا هنا الشيعة الإمامية، وفيهم يقول الشهرستانى: "الإمامية هم القائلون بإمامة علي رضي الله عنه بعد النبي عليه السلام‏:‏ نصًّا ظاهرًا وتعيينًا صادقًا من غير تعريض بالوصف بل إشارة إليه بالعَيْن‏.‏ قالوا‏:‏ وما كان في الدين والإسلام أمر أهم من تعيين الإمام حتى تكون مفارقته الدنيا على فراغ قلبٍ من أمر الأمة، فإنه إنما بُعِث‏‏ لرفع الخلاف وتقرير الوفاق، فلا يجوز أن يفارق الأمة ويتركهم هملاً‏‏ يرى كل واحد منهم رأيًا ويسلك كل منهم طريقًا لا يوافقه في ذلك غيره، بل يجب أن يعين شخصًا هو المرجوع إليه، وينص على واحد هو الموثوق به والمعوَّل عليه‏.‏ وقد عيَّنَ عليًّا رضي الله عنه في مواضع‏‏ تعريضًا، وفي مواضع‏ تصريحًا‏.‏

أما تعريضاته فمثل أنه بعث أبا بكر ليقرأ سورة "براءة" على الناس في المشهد، وبعث بعده عليًّا ليكون هو القارىء عليهم والمبلغ عنه إليهم، وقال‏:‏ نزل عليَّ جبريل عليه السلام فقال‏:‏ يبلِّغه رجل منك، أو قال‏:‏ من قومك. وهو يدل على تقديمه عليًّا عليه‏.‏ ومثل أنه كان يؤمِّر على أبي بكر وعمر وغيرهما من الصحابة في البعوث، وقد أَمَّر عليهما‏‏ عمرو بن العاص في بعث، وأسامة بن زيد في بعث، وما أمَّر على عليٍّ أحدًا قط‏.‏ وأما تصريحاته فمثل ما جرى في نأنأة الإسلام حين قال‏:‏ من الذي يبايعني على ماله؟ فبايعته جماعة.

ثم قال‏:‏ من الذي يبايعني على روحه، وهو وصيِّي ووليّ هذا الأمر من بعدي؟ فلم يبايعه أحد حتى مد أمير المؤمنين علي رضي الله عنه يده اليه فبايعه على روحه ووفَّى بذلك حتى كانت قريش تعيِّر أبا طالب‏ أنه أمَّر عليك ابنك‏.‏ ومثل‏ ما جرى في كمال الإسلام وانتظام الحال حين نزل قوله تعالى: "ياأيها الرسول، بَلِّغْ ما أُنْزِل اليك ربك، وإن لم تفعل فما بلّغتَ رسالته. والله يعصمك من الناس‏"،‏ فلما وصل إلى غدير خم أمر بالدوحات فقُمِمْنَ ونادَوْا‏:‏ الصلاة جامعة‏.‏ ثم قال عليه السلام وهو على الرحال‏:‏ ‏"‏من كنت مولاه فعليٌّ مولاه. اللهم‏،‏ والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحق معه حيث دار‏.‏ ألا هل بلغت‏؟‏ ثلاثًا‏"‏‏، فادَّعت الإمامية أن هذا نص صريح.‏ فإنا ننظر‏:‏ من كان النبي صلى الله عليه وسلم مولى له، وبأي معنى، فنَطْرُد ذلك في حق عليٍّ رضي الله عنه‏. وقد فهمت الصحابة من التولية ما فهمناه حتى قال عمر حين استقبل عليًّا‏:‏ طُوبَى لك يا علي‏!‏ أصبحتَ مولى كل مؤمن ومؤمنة‏.‏


قالوا‏:‏ و قول النبي عليه السلام‏:‏ ‏"‏أقضاكم علي‏"‏ نَصٌّ في الإمامة، فإن الإمامة لا معنى لها إلا أن يكون‏‏ أقضى القضاة في كل حادثة، والحاكم على المتخاصمين في كل واقعة. وهو معنى قول الله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏"‏أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم".‏ قالوا: فأُولُوا الأمر‏‏ مَنْ إليه القضاء والحكم‏.‏ حتى في مسألة الخلافة لما تخاصمت المهاجرون والأنصار كان القاضي في ذلك هو‏ أمير المؤمنين علي دون غيره. فإن النبي صلى الله عليه وسلم كما حكم لكل واحد من الصحابة بأخص وصف له فقال‏:‏ أفرضكم زيد، وأقرؤكم أُبَيّ، وأعرفكم بالحلال والحرام معاذ. وكذلك حكم لعلي بأخص وصف له، وهو قوله‏:‏ ‏"أقضاكم على‏"،‏ والقضاء يستدعي كل علم، وليس كل علم يستدعي القضاء‏.‏

ثم إن الإمامية تخطت عن هذه الدرجة إلى الوقيعة في كبار الصحابة‏‏ طعنًا وتكفيرًا، وأقله‏:‏ ظلمًا وعدوانًا، وقد شهدت نصوص القرآن على عدالتهم والرضا عن جملتهم. قال الله تعالى‏:‏ ‏"لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة‏"،‏ وكانوا إذ ذاك ألفًا وأربعمائة. وقال الله تعالى عن المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم‏:‏ "والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رَضِيَ الله عنهم ورَضُوا عنه". وقال‏:‏ "لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العُسْرة". وقال تعالى‏:‏ ‏"‏وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنّهم في الارض كما استخلف الذين من قبلهم"‏‏.‏ وفي ذلك دليل على عظم قدرهم عند الله تعالى وكرامتهم ودرجتهم عند الرسول صلى الله عليه وسلم‏.‏

فليت شعري‏ كيف يستجير ذو دينٍ الطعن فيهم ونسبة الكفر إليهم‏؟‏ وقد قال النبي عليه السلام‏:‏ عشرة من أصحابي في الجنة‏:‏ أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد بن ابي وقاص وسعيد بن زيد وعبد الرحمن بن عوف وأبو عبيدة بن الجراح... إلى غير ذلك من الأخبار الواردة في حق كل واحد منهم على انفراد. وإن نُقِلَتْ هَنَاتٌ من بعضهم فليُتَدَبّر النقل، فإن أكاذيب الروافض كثيرة، وأحداث المحدثين كثيرة‏.‏

ثم إن الإمامية لم يثبتوا، في تعيين الأئمة بعد‏‏ الحسن والحسين وعلي بن الحسين رضي الله عنهم، على رأي واحد، بل اختلافاتهم أكثر من اختلافات الفرق كلها حتى قال بعضهم‏:‏ إن نيفًا وسبعين فرقة من الفرق المذكورة في الخبر هو في الشيعة خاصة، ومن عداهم فهم خارجون عن الأمة‏.‏ وهم متفقون في الإمامة وسوقها إلى جعفر بن محمد الصادق رضي الله عنه، ومختلفون في المنصوص عليه بعده من أولاده، إذ كانت له خمسة اولاد، وقيل‏:‏ ستة‏:‏ محمد وإسحاق وعبد الله وموسى وإسماعيل وعلي‏.‏ ومن ادعى منهم النص والتعيين‏:‏ محمد وعبد الله وموسى وإسماعيل‏.‏ثم‏‏ منهم من مات ولم يعقب، ومنهم من مات وأعقب‏.‏


ومنهم من قال بالتوقف والانتظار والرجعة‏، ومنهم من قال بالسوق والتعدية كما سيأتي ذكر اختلافاتهم عند ذكر طائفة طائفة. وكانوا في الأول على مذهب أئمتهم في الأصول، ثم لما اختلفت الروايات عن أئمتهم وتمادى الزمان‏‏ اختارت كل فرقة منهم طريقة: فصارت الإمامية بعضها‏‏ معتزلة: إما وعيدية وإما تفضيلية، وبعضها إخبارية‏:‏ إما مشبِّهة وإما سلفية‏. ومن ضل الطريق وتاه لم يبال الله به في أي واد هلك".


والآن إلى ما قالته كتب التفسير الشيعى فى النصوص القرآنية التى يلوونها بحيث تظهر فيها ملامح عقيدتهم، تلك العقيدة التى تتمحور حول علىّ كرم الله وجهه: ففى تفسير الآيات 8- 16 من سورة "البقرة": "وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ* يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ* فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ* وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ* أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ* وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا كَمَا آَمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آَمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ* وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ* اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ* أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ" يقول علي بن ابراهيم القمي (ت القرن 4هـ) فى كتابه الموسوم بــ"تفسير القرآن" إنها فى فريق من المنافقين على أيام النبى عليه السلام كانوا يُسِرّون إلى الكفار بأنهم معهم ويستهزئون بالمسلمين، فى الوقت الذى يتظاهرون فيه أمام النبى والصحابة بأنهم مؤمنون.

ومن ثم فإن القمى لا يحمّلها تأويلا شيعيا. وفى تفسير "التبيان الجامع لعلوم القرآن" للطوسي (ت 460هـ) نجد نفس الشىء، إلا أنه يزيد الأمر توضيحا فيقول إن المنافقين هم قوم من الأوس والخزرج وغيرهم وإنه لا خلاف بين المفسرين أنها نزلت فيهم: "ولا خلاف بين المفسرين أن هذه الآية وما بعدها نزلت في قوم من المنافقين من الأوس والخزرج وغيرهم. رُوِيَ ذلك عن ابن عباس، وذكر أسماءهم، ولا فائدة في ذكرها. وكذلك ما بعدها إلى قوله: {وما كانوا مهتدين} كلها في صفة هؤلاء المنافقين.

والمنافق هو الذي يظهر الإسلام بلسانه وينكره بقلبه". ولم يخرج الطبرسى (ت 548هـ) فى "مجمع البيان في تفسير القرآن" هو أيضا عن هذا التفسير، وإن كان قد زاد الأمر إيضاحا من ناحية أسماء أولئك المنافقين فقال إنها نزلت فى "عبد الله بن أُبَيّ بن سَلُول وجد بن قيس ومعتب بن قشير وأصحابهم، وأكثرهم من اليهود". والمنافقون كذلك عند الطباطبائى (ت 1401هـ) صاحب "الميزان في تفسير القرآن" هم ابن سلول وأصحابه. ذكر هذا فى تفسيره لسورة "المنافقون" التى أحال عليها عند تناوله لآية سورة "البقرة".

أما فى تفسير "الصافي في تفسير كلام الله الوافي" للفيض الكاشاني (ت 1090هـ) فنقرأ شيئا خطيرا: "أقول: كابن أُبَيّ وأصحابه، وكالأول والثاني (يقصد أبا بكر وعمر الخليفتين الأول والثانى بعد رسول الله) وأضرابهما من المنافقين الذي زادوا على الكفر الموجب للختم والغشاوة والنفاق، ولا سيما عند نصب أمير المؤمنين عليه السلام للخلافة والإمامة.
أقول: ويدخل فيه كل من ينافق في الدين إلى يوم القيامة، وإن كان دونهم في النفاق كما قال الباقر عليه السلام في حكم بن عتيبة إنه من أهل هذه الآية.

وفي تفسير الإمام ما ملخصه أنه لما أمر الصحابة يوم الغدير بمبايعة أمير المؤمنين عليه السلام بإمرة المؤمنين وقام أبو بكر وعمر إلى تسعة من المهاجرين والأنصار فبايعوه بها ووكَّد عليهم بالعهود والمواثيق وأتى عمر بالبخبخة وتفرقوا، تواطأ قوم من متمرديهم وجبابرتهم بينهم: لئن كانت بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلم كائنة ليدفَعُنّ هذا الأمر عن علي عليه السلام ولا يتركونه له. وكانوا يأتون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويقولون: لقد أقمت علينا أحبّ الخلق إلى الله وإليك، وكفيتنا به مؤنة الظلمة لنا والجائرين في سياستنا. وعَلِم الله تعالى من قلوبهم خلاف ذلك وأنهم مقيمون على العداوة ودفع الحق عن مستحقيه، فأخبر الله عنهم بهذه الآية. {وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ}: بل تواطأوا على إهلاكك وإهلاك من أحبك وتحبه إذا قدروا والتمرّد عن أحكام الله، خصوصا خلافة من استخلفتَه بأمر الله على أُمّتك من بعدك لجحودهم خلافته وإمارته عليهم حَسَدًا وعُتُوًّا. قيل: أخرج ذواتهم من عداد المؤمنين مبالغة في نفي الإيمان عنهم رأسا".


أما الإمام الذى يشير إليه فهو الإمام العسكرى (ت 260هـ) أبو المهدى المنتظر لدى الشيعة، والمقصود كلامه فى التفسير المنسوب له، إذ جاء فيه: "قال العالم موسى بن جعفر: إن رسول الله لما أوقف أمير المؤمنين علىّ بن أبى طالب فى يوم الغدير موقفه المشهور المعروف، ثم قال: يا عباد الله، انسبونى، قالوا: أنت محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، ثم قال: يا أيها الناس، ألست أولى بكم من أنفسكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله. فنظر إلى السماء وقال: اللَّهم اشهد بقول هؤلاء، وهو يقول ويقولون ذلك ثلاثا. ثم قال: ألا فمن كنتُ مولاه وأولى به فهذا علىّ مولاه وأولى به. اللَّهم والِ مَن والاه، وعادِ مَن عاداه، وانصر مَن نصره، واخذل من خذله.

ثم قال: قم يا أبا بكر فبايع له بإمرة المؤمنين. فقام وبايع له. ثم قال: قم يا عمر فبايع له بإمره المؤمنين. فقام فبايع له. ثم قال بعد ذلك لتمام التسعة رؤساء المهاجرين والأنصار، فبايعوا كلهم. فقام من بين جماعتهم عمر بن الخطاب فقال: بَخٍ بَخٍ يا ابن أبى طالب. أصبحتَ مولاى ومولى كل مؤمن ومؤمنة. ثم تفرّقوا عند ذلك وقد وُكِّدَتْ عليهم العهود والمواثيق. ثم إن قوما من متمرديهم وجبابرتهم تواطأوا بينهم: لئن كان بمحمد كائنة ليدفعُنّ هذا الأمر من علىّ ولا يتركونه. فعرف الله ذلك من قِبَلهم. وكانوا يأتون رسول الله ويقولون: لقد أقمتَ علينا أحب خلق الله إلى الله وإليك وإلينا، فكفيتنا مؤنة الظلمة لنا والمتجبرين فى سياستنا. وعلم الله من قلوبهم خلاف ذلك من مواطأة بعضهم لبعض أنهم على العداوة مقيمون، ولدفع الأمر عن مستحقه مُؤْثِرون، فأخبر الله عَزَّ وجَلَّ محمدا عنهم فقال: يا محمد، {وَمِنَ ?لنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِ?للَّهِ} الذى أمرك بنصب علىّ إماما وسايسا لأُمتك ومدبرا، {وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ} بذلك، ولكنهم يتواطأون على إهلاكك وإهلاكه. يوطّنون أنفسهم على التمرد على علىّ إن كانت بك كائنة".


ونفس الشىء عند قوله تعالى فى الآية 13 من سورة البقرة: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَآ آمَنَ ?لنَّاسُ قَالُو?اْ أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ ?لسُّفَهَآءُ أَلا? إِنَّهُمْ هُمُ ?لسُّفَهَآءُ وَلَـ?كِن لاَّ يَعْلَمُونَ}، إذ نقرأ أيضا فى ذلك التفسير المنسوب للعسكرى: "قال موسى بن جعفر: إذا قيل لهؤلاء الناكثين للبَيْعة، قال لهم خيار المؤمنين كسلمان والمقداد وأبى ذر وعمار: آمِنُوا برسول الله وعلىّ الذى أوقفه موقفه وأقامه مقامه وأناط مصالح الدين والدنيا كلها به، وآمِنوا بهذا النبى وسلِّموا لهذا الإمام، وسلِّموا له فى ظاهر الأمر وباطنه، كما آمن الناس، قالوا فى الجواب لمن يفضون إليه لا لهؤلاء المؤمنين، فإنهم لا يجسرون على مكاشفتهم بهذا الجواب، ولكنهم يذكرون لمن يُفْضُون إليه من أهلهم والذين يثقون بهم من المنافقين ومن المستضعفين من المؤمنين الذين هم بالستر عليهم واثقون بهم، يقولون لهم: {أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ ?لسُّفَهَآءُ}. يعنون سلمان وأصحابه لما أعطوا عليًّا خالص ودهم ومحض طاعتهم، وكشفوا رؤوسهم بموالاة أوليائه ومعاداة أعدائه حتى إِنِ اضمحل أمر محمد طحطحهم أعداؤه، وأهلكهم سائر الملوك والمخالفين لمحمد.

فهم بهذا التعرض لأعداء محمد جاهلون سفهاء. قال الله عَزَّ وجَلَّ: {أَلا? إِنَّهُمْ هُمُ ?لسُّفَهَآءُ} الأخفّاء العقول والآراء، الذين لم ينظروا فى أمر محمد حق النظر فيعرفوا نبوته، ويعرفوا صحة ما ناطه بعلمه من أمر الدين والدنيا، حتى بَقُوا لتركهم تأمُّل حجج الله جاهلين، وصاروا خائفين وجلين من محمد وذُرِّيته ومن مخالفيهم، لا يأمنون أيهم يغلب فيهلكون معه. فهم السفهاء حيث لا يَسْلَم لهم بنفاقهم هذا لا محبة محمد والمؤمنين ولا محبة اليهود وسائر الكافرين، لأنهم يُظْهِرون لمحمد من موالاته وموالاة أخيه علىّ ومعاداة أعدائهم اليهود والنصارى، كما يُظهرون لهم معاداة محمد وعلىّ وموالاة أعدائهم، فهم يُقدِّرون فيهم نفاقهم معهم كنفاقهم مع محمد وعلىّ، ولكن لا يعلمون أن الأمر كذلك وأن الله يُطْلِع نبيه على أسرارهم فيخشاهم ويعلنهم ويُسقطهم".

وهو يسحب هذا التفسير على آيات أخرى كثيرة لا صلة بينها ولا بين سياقها وبين الصحابة الكرام: أبى بكر وعمر وعثمان ممن يتهمهم الشيعة بأنهم اسْتَوْلَوْا على الخلافة من علىّ كرم الله وجهه، كقوله تعالى مثلا: "إِنَّ ?لَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ ?لْبَيِّنَاتِ وَ?لْهُدَى? مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي ?لْكِتَابِ أُولَـ?ئِكَ يَلعَنُهُمُ ?للَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ ?للاَّعِنُونَ* إِلاَّ ?لَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَـئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} وغير ذلك.


ومع آية سورة "البقرة" نمضى إلى "تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة" للجنابذى (من وَفَيَات القرن 14هـ) فنجده يقول: "{وَمِنَ ?لنَّاسِ}: لـمّا انساق ذكر الكتاب الذى هو أصل كلّ الخيرات وعنوان كلّ غائب، وغائب كلّ عنوان، ومصدر الكلّ، وكلّ المصادر والصّوادر، أعنى كتاب علىّ (ع)، إلى ذكر المؤمنين وذكر قَسِيمهم، أعنى المسجَّل عليهم بالكفر، أراد أن يذكر المذبذب بينهما، أعنى المنافق المظهر للإيمان باللّسان المضمر للكفر فى القلب، تتميما للقسمة وتنبيها للأمة على حال هذه الفِرْقة وتحذيرا لهم عن مثل أحوالهم.

بل نقول: كان المقصود من سَوْق تبجيل الكتاب إلى ذكر المؤمنين واستطرادهم بالكافرين ذكر هؤلاء المنافقين الذين نافقوا بولاية علىّ (ع)، خصوصا على ما هو المقصود الأتمّ من الكتاب والإيمان والكفر والنّفاق. أعنى كتاب الولاية والايمان والكفر والنّفاق به، فإنه أقبح أقسام الكفر فى نفسه وأضرّها على المؤمنين وأشدّها منعا للطّالبين. ولذا بسط فى ذمّهم وبالغ فى ذكر قبائحهم وذكر مثل حالهم فى آخر ذمّهم قرينةً دالّةً على أنّ المراد المنافقون بالولاية لأنّ المنافقين بالرّسالة ليست حالهم شبيهة بحال المستوقد المضيء، فإنّ المنافق بالرّسالة لا يستضيء بشيء من الأعمال لعدم اعتقاده بالرسالة وعدم القبول من الرسول بخلاف المنافق بالولاية فإنه بقبوله للرسالة يستضيء بنور الرسالة والاعمال المأخوذة من الرّسول (ص).

لكنْ لـمّا لم تكن أعماله المأخوذة وقبوله الرّسالة متّصلة بنور الولاية كان نوره منقطعا. وما يستفاد من تفسير الإمام أن الآية كانت إشارة إلى ما سيقع من النفاق بعلىّ (ع) يوم الغدير ومبايعة الأمّة والمنافقين معه. وتواطؤهم على خلافه بعد البيعة وبعد التّأكيد بالعهود والمواثيق عليهم يدلّ على أنّ المراد النّفاق بالولاية". ولعل القارئ لم يفته، فى هذا النص، الربط الخطير بين على وبين الألوهية، ولا اتهام كبار الصحابة ومن لم يشترك فى ذمهم وتنقيصهم وكراهيتهم بالنفاق والكفر، أعوذ بالله.


ومن البين الجلىّ أن الذين يتهمون الخلفاء الثلاثة الأوائل، ويتهمون كذلك من لم ينكر عليهم ورضى بخلافتهم، بالنفاق والكفر إنما يلقون الكلام على عواهنه دون عقل أو منطق أو استلهام لمنطق التاريخ وروح الإسلام وسياق الآيات وتصرفات النبى ومواقفه وأحاديثه، وقبل ذلك مواقف علىّ ذاته وأحاديثه فى حق أولئك الصحابة الكرام. ذلك أنه ليس من المعقول أن يعرف النبى نفاق أولئك الصحابة وكفرهم ويظل على علاقته الطيبة معهم طوال الوقت لا يصدر منه ما يوحى على الأقل بتوجسه منهم وانقباضه عنهم.

لقد كان عليه السلام، على العكس من ذلك، يكرمهم ويقربهم دائما منه ويثنى عليهم ويشاورهم ويطمئن إليهم ويستعين بأموالهم وجهودهم فى تدعيم الدين الجديد. وهم من جهتهم لم يصدر عنهم فى حياته ولا بعد مماته ما يمكن أن ينال من دينهم أو أخلاقهم، بل كانوا طول الوقت مخلصين له ولدينه وضَحَّوْا فى سبيله بكل نفيس وغال لم يتقهقروا يوما. وعند توليهم الخلافة لم يقصّروا فى ذات الله ولا فى ذات الدين، بل صنعوا كل ما بوسعهم لنصره ونشره وتأييده. لقد كانوا أمثلة عليا قلما يجود الزمان بنظيرها.

ولا ننس أنه صلى الله عليه وسلم قد تزوج عائشة بنت أبى بكر، وحفصة بنت عمر، وزوّج اثنتين من بناته لعثمان، وقال له حين ماتت الأخيرة منهما: لو كانت عندنا ثالثة لزوّجناك! فهل يمكن أن يكون هؤلاء منافقين؟ أعوذ بالله! ثم هل يمكن أن يجىء الإسلام أصلا بوراثة الحكم؟ فما الجديد الذى أتى به إذن إذا كان قُصَارَى ما لديه فى ذلك هو التوريث دون الكفاءة واختيار الناس لمن يحكمهم؟ ولا يحتجَّنّ أحد بأن معاوية قد فعلها وورّث الحكم من بعده لابنه وأسرته، فليس صنيع معاوية هنا بالذى نرضاه، بل نرفضه وندينه ونرى أنه غير ما يريده الإسلام.

ثم لماذا لم نسمع عليا يذم أبا بكر وعمر وعثمان ويرميهم بالنفاق؟ لقد زوج ابنته مثلا لعمر، فكيف يزوجها لرجل من المنافقين؟ إن هذه لوصمة فى خلق علىّ قبل أن تكون سبة فى جبين عمر إن كان عمر فعلا هو كما يقول المرجفون! ثم لقد انتهت الخلافة إلى علىّ كرم الله وجهه بعد موت الخلفاء الثلاثة الأوائل ولم تستقم له الأمور رغم ذلك، فهل كانوا هم أيضا الذين أفسدوها عليه، وهم فى قبورهم؟


وأما من ناحية السياق الذى وردت فيه الآية فإنه لا يمكن أبدا أن يؤدى إلى هذا المعنى الذى يفتريه المفترون. ذلك أن الكلام فى أول السورة يدور على "الكتاب"، أى القرآن. بيد أن المفترين يتصورون أنهم يستطيعون أن يلووا ذراع النص لينطق بما يشتهون، وهيهات. إنهم يزعمون أن "الكتاب" المقصود إنما هو الكتاب الذى يدّعون أن النبى عليه السلام قد كتبه بوراثة على وذريته لحكم المسلمين بعد انتقاله صلى الله عليه وسلم للرفيق الأعلى، مع أنه لم يسبق أى ذكر لهذه المسألة بتاتا فى الآيات الماضية، ومن ثم لا يصلح أن يكون الحديث فيها عن "الكتاب" المزعوم، بل عن "الكتاب" بمعنى القرآن، كما فى كل السور التى تبتدئ بذكر الكتاب أو آياته مثل سورة "آل عمران" و"الأعراف" و"يونس" و"هود" و"الرعد" و"الحِجْر" و"الكهف"...

ومعظم هذه السور قد نزل فى مكة، أى قبل أن يكون هناك على حد زعم الزاعمين كتابٌ ينص على حق علىٍّ وذريته فى خلافة النبى على حكم المسلمين إلى الأبد لأن الشيعة يقولون إن ذلك الكتاب إنما كُتِب فى المدينة. كما أن الكتاب المزعوم لا تصدق معه كلمة "آيات" التى وردت فى عدد من افتتاحيات السور المذكورة لأن هذا النوع من الكتب لا يشتمل على آيات بل على شروط وبنود.


على أية حال تعالَوْا نقرأ معا مفتتح سورة "البقرة" لنرى ماذا فيه. يقول المولى سبحانه: "الم* ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ* وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ* أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ".

هذا ما تقوله افتتاحية "البقرة"، فكيف يا ترى يجرؤ زاعم على الادعاء بأن أولئك الصحابة الكرام لا يندرجون، بل لا يأتون على رأس من يندرجون، تحت هذه الصفات: صفات الإيمان بالغيب والإيمان بما نُزِّل على محمد وعلى إخوانه الأنبياء من قبل وإقامة الصلاة والإنفاق مما رزقهم الله والإيقان بالآخرة؟ وإن لم يندرج هؤلاء، فمن يا ترى يمكن أن ينجو ويدخل الجنة؟ ثم لقد وُسِم المنافقون فى آياتنا هذه بأنهم "إِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ"، فمتى قال هؤلاء الصحابة الشرفاء النبلاء ذلك؟ ولمن قالوه يا ترى؟ وكيف سكت المسلمون جميعا بما فيهم علىّ فلم يشنّعوا عليهم ويفضحوهم؟ وكيف رضى على بتزويج عمر ابنته أم كلثوم؟ أكان خوّافًا إلى هذا الحد فكان يتبع معهم أسلوب التقية؟ إنه إذن ليس عليًّا البطل الشجاع الجسور المقدام الذى نعرفه.

بل كيف سكت النبى عليه السلام فلم يتصرف بمقتضى هذه الآية؟ أم تراه كان يخافهم ويتخذ معهم هو أيضا حيلة التقية؟ ألا إن ذلك لمما تضجّ منه العقول والضمائر والنفوس! بل كيف سكت القرآن فلم يضع نهاية حاسمة لتلك المهزلة، مهزلة أن كل من حول النبى منافقون كافرون، اللهم إلا عليًّا كرم الله وجهه ونفرا ضئيلا من الصحابة وقفوا بعد ذلك إلى جانبه؟
ويستمر الفيض الكاشانى على سنته الشريرة فى الطعن على الخلفاء الثلاثة الكرام بكل سبيل.

ومن ذلك تفسيره لقوله تعالى فى الآية رقم 40 من سورة "التوبة" عن الغار الذى لجأ إليه النبى والصِّدّيق أثناء هجرتهما إلى المدينة: "إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ"، إذ جاء فى هذا التفسير: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ}، وهو أبو بكر: {لاَ تَحْزَنْ}، لا تخف، {إِنَّ ?للَّهَ مَعَنَا} بالعصمة والمعونة. فى الكافى عن الباقر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل يقول لأبى بكر فى الغار: "اسكن، فإن الله معنا"، وقد أخذته الرعدة وهو لا يسكن.

فلما رأى رسول الله حاله قال له: تريد أن أريك أصحابى من الأنصار فى مجالسهم يتحدثون؟ وأريك جعفر وأصحابه فى البحر يغوصون؟ قال: نعم. فمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده على وجهه فنظر إلى الأنصار يتحدثون، وإلى جعفر وأصحابه فى البحر يغوصون، فأضمر تلك الساعة أنه ساحر، {فَأَنزَلَ ?للَّهُ سَكِينَتَهُ} أَمَنَتَه التى تسكن إليها القلوب {عَلَيْهِ}. فى الكافى عن الرضا أنه قرأها: "على رسوله". قيل له: هكذا؟ قال: هكذا نقرؤها، وهكذا تنزيلها. والعياشى عنه: إنهم يحتجون علينا بقوله تعالى: {ثَانِيَ ?ثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي ?لْغَارِ}، وما لهم فى ذلك من حُجَّة، فوالله لقد قال الله: "فأنزل الله سكينته على رسوله" وما ذكره فيها بخير. قيل: هكذا تقرأونها؟ قال: هكذا قراءتها".


وغريبٌ جِدُّ غريبٍ أن يتم تفسير آيات الله بهذه الطريقة المفسدة للنص القرآنى قبل أن تكون مفسدة للذوق والمروءة والدين والحق والصدق والتاريخ، إذ كيف يُتَّهَم بهذه الطريقة البشعة الكريهة أبو بكر، رضى الله عنه، الذى لُقِّب بــ"الصديق" لتصديقه النبى فى كل ما أتى به وتصديه للكفار فى مواقف حاسمة خطيرة متعددة كذّبوه صلى الله عليه وسلم فيها، وبخاصة غداة حادثة الإسراء والمعراج التى زلزلت إيمان بعض المسلمين أنفسهم على ما هو معروف، فيقال عنه إنه كان يعتقد أن رسول الله ساحر؟ وهل مثل أبى بكر، بعد كل الذى صنعه من أجل نصرة الإسلام وبعد كل الذى تلقاه من الأذى وأنفقه من الأموال فى سبيل الله، يمكن أن يشك فى صدق الوعد الإلهى فى تلك الظروف بأنه سبحانه ناصر رسوله ودينه حتى يحتاج إلى أن يريه النبى أصحابه الغائبين على ذلك النحو الإعجازى الذى لم ينجح رغم ذلك فى تهدئة شكوكه ومخاوفه واضطراب أعصابه، بل زاده حيرة وضلالا (أستغفر الله) فأضمر لساعتها أن محمدا ساحر؟

لكن إذا كان الأمر كذلك فلماذا يا ترى استمر فى رحلته معه ولم ينقلب إلى مكة "ويفضّها سيرة" ويتحول إلى معسكر المشركين؟ ولماذا اختار النبى هذه المعجزة بالذات فى ذلك الوقت؟ وهل كانت الظروف ملائمة للقيام بها وهما حابسان أنفاسهما فى الغار على مقربة من أقدام المطاردين؟ وما دام ثَمّ مكان للمعجزة فى تلك الظروف، أفلم يكن الأجدى أن تكون تلك المعجزة هى نقلهما فى لمح البصر إلى يثرب بعيدا عن الخطر المحدق بهما، وكفى الله المؤمنين شر الحيرة والضلال؟ ثم ما معنى أن النبى أراه جعفرا وأصحابه فى البحر يغوصون؟ هل كانوا يمتهنون الصيد أو البحث عن اللؤلؤ تحت الماء فى الحبشة حيث كانوا يقيمون وقتها؟ وأى بحر يا ترى كان ذلك، وهم إنما كانوا يعيشون على مقربة من النجاشى فى عاصمة بلاده بعيدا عن البحار؟ ولماذا هذا المشهد بالذات؟

ولقد قرأت فى تفسير "نـور الثقلين" لعبد على بن جمعة العروسى الحويزى (ت 1112هـ) رواية تقول إن النبى أَرَى أبا بكر جعفرا وأصحابه راكبين السفينة فى البحر. فما معنى ذلك؟ هل كانوا فى طريقهم للعودة إلى بلاد العرب؟ لكنهم لم يعودوا إلا بعد هذا بأعوام على ما هو معلوم، حيث ذهبوا إلى المدينة مباشرة. ثم لماذا جعفر وأصحابه بالذات؟ وهل عبارة "لا تحزن" معناها: "لا تخف"؟ ثم ما دام أبو بكر خائفا إلى هذا الحد، فمن كان أَوْلَى الاثنين بإنزال السكينة: النبى الرابط الجأش الثابت الجَنَان أم أبو بكر المضطرب اللهفان؟ ولماذا ترك الله سبحانه نبيه يطمئنّ إلى صحبة أبى بكر دون غيره من الصحابة فى هذه الرحلة البالغة الخطورة ما دام فى إيمانه دَخَل؟

ولقد كنت أحدث زوجتى فى هذا الأمر ثانى يوم كتبت فيه الفقرات السابقة واللاحقة، فإذا بها تسألنى مستنكرة موقف الشيعة فتقول: فمن يا ترى أخبر هؤلاء الناس بما جرى فى الغار؟ فقلت: ليس أمامنا إلا افتراضان: فإما أن الرسول هو الذى روى ما حدث، وإما أبو بكر نفسه. فأما أبو بكر فلن يقول عن نفسه إنه ضعيف الإيمان بالإسلام ما دام لم يشأ أن يعلن مشاعره الحقيقية تجاه ذلك الدين وتجاه الرجل الذى أتى به. فلم يبق إلا النبى. لكن من الذى روى له النبى ما وقع؟ فليجب هؤلاء الزاعمون إن كان عندهم ما يقولون. ولكن هيهات ثم هيهات ثم هيهات! وإلا ما سكتوا طوال تلك القرون. إنها كذبة غير محبوكة الأطراف كما نرى. وفى تفسير الجنابذى لتلك الآية نقرأ نفس الكلام.

أما الطوسى فرغم أنه لم يورد تلك الرواية البلهاء لم يشأ أن يمر الأمر بسلام، فقال إن وصف القرآن لأبى بكر بأنه "صاحبه"، أى صاحب النبى، لا يوجب له فضيلة، إذ الصحبة تطلق حتى على الكافر واليهودى، بل حتى على البهائم. بارك الله فيك يا مولانا على أدبك الرفيع! ما كل هذا الذوق؟ وما كل تلك اللياقة؟ والطريف أنه يقول، بعد ذلك كله وبعد أن جرَّد أبا بكر من كل فضيلة ولوى الآية ووقائع التاريخ عن وجهتها، إنه لم يذكر هذا للطعن على أبى بكر!

وهل تركت يا مولانا شيئا فى عِرْض أبى بكر لم تمزقه بحقدك وسواد قلبك؟ على كل حال هذا هو كلامه نصًّا فى النقطة الأخيرة: "وليس في الآية ما يدل على تفضيل أبي بكر، لأن قوله: {ثاني اثنين} مجرد الإخبار أن النبي صلى الله عليه وآله خرج ومعه غيره، وكذلك قوله: {إذ هما في الغار} خبر عن كونهما فيه. وقوله: {إذ يقول لصاحبه} لا مدح فيه أيضا، لأن تسمية "الصاحب" لا تفيد فضيلة. ألا ترى أن الله تعالى قال في صفة المؤمن والكافر: {قال له صاحبه وهو يحاوره: أكفرت بالذي خلقك}؟ وقد يسمون البهيمة بأنها صاحب الانسان كقول الشاعر: "وصاحبي بازلٌ شمول".

وقد يقول الرجل المسلم لغيره: "أُرْسِلُ اليك صاحبي اليهودي"، ولا يدل ذلك على الفضل. وقوله: {لا تحزن} إن لم يكن ذمًّا فليس بمدح، بل هو نهي محض عن الخوف. وقوله: {إن الله معنا} قيل إن المراد به النبي صلى الله عليه وآله. ولو أريد به أبو بكر معه لم يكن فيه فضيلة، لأنه يحتمل أن يكون ذلك على وجه التهديد، كما يقول القائل لغيره إذا رآه يفعل القبيح: "لا تفعل. إن الله معنا"، يريد أنه مطلع علينا، عالم بحالنا. والسكينة قد بيَّنّا أنها نزلت على النبي صلى الله عليه وآله بما بيناه من أن التأييد بجنود الملائكة كان يختص بالنبي صلى الله عليه وآله. فأين موضع الفضلية للرجل لولا العناد؟ ولم نذكر هذا للطعن على أبي بكر، بل بينا أن الاستدلال بالآية على الفضل غير صحيح".

وفى تفسير القمى أنه، بعد أن أرى الرسول أبا بكر ما أراه وقال هذا فى نفسه ما قال، نسمعه صلى الله عليه وسلم يقول له: "وأنت الصديق"، وهو ما لا أفهم له معنى، إلا أن تكون الجملة استفهامية إنكارية، بمعنى: "أتقول هذا وأنت المسمَّى بــ"الصدّيق"؟ كأنه عليه السلام ينكر صِدِّيقيّته ويتهكم بها. أعوذ بالله، وإلا فلماذا ظل عليه السلام يقرّبه إليه ويكرمه ويستشيره؟

بل لماذا أتم زواجه من ابنته ما دام قد اتضح له أنه ليس أهلا لتلك المصاهرة؟ ثم يضيف القمى بأن كلمة الله العليا فى قوله عز شأنه عند نهاية الآية: "وجعل كلمة الذين كفروا السفلى، وكلمةُ الله هى العليا" هى قول رسول الله وآله. والمغزى واضح، وهو أن كلمة أبى بكر فى المقابل هى الكلمة السفلى لأنها كلمة الذين كفروا. بل لقد جاء هذا التفسير صراحة منسوبا إلى الإمام أبى جعفر فى تفسير "نـور الثقلين" للعروسى الحويزى حيث قال: "قال أبو جعفر عليه السلام: فأنزل الله سكينته على رسوله. ألا ترى أن السكينة إنما نزلت على رسوله، وجعل كلمة الذين كفروا السفلى؟ قال: هو الكلام الذي يتكلم به عتيق". و"عتيق" هو اسم أبى بكر رضى الله عنه وأرضاه.


وفى موقع شيعى اسمه "البرهان موقع أهل السنة والقرآن: www.alborhan.org" يطالعنا مقال طويل غُفْل من التوقيع بعنوان "معاناة النبي صلى الله عليه وآله من أبي بكر في الغار" جاء فيه "أن الكفار أخرجوا النبي صلى الله عليه وآله ولم يكن معه إلا شخص واحد، وقد دخل الغار، فلم يكن له أي ملجأ يلجأ إليه أو منفذ يفر إليه بعد أن حوصر فيه. ومع هذه المعاناة الشديدة التي كان يتكبدها من انعدام سبل الخلاص من المشركين بعد أن دخل الغار ووجود الكفار خارج الغار يريدون قتله، مع كل هذه المعاناة "يَقُولُ لِصَاحِبِهِ: لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا".

أي أن النبي صار يتكبد معاناة أخرى غير تلك المآسي المتراكمة، وهي تـهدئة هذا الشخص الذي لم يزل متحسرا على ما فاته خائفا مما سيلحق به مرتعدا مضطربا أوشك أن يوقع بالنبي لشدة خوفه واضطرابه ورعدته! ومازال النبي يقنعه أن الله لن يترك رسوله!... (و)أن الآية الكريمة صريحة في ذم أبي بكر وذم موقفه المثبّط ورعدته واضطرابه وحزنه ومحاولة النبي جاهدا تـهدئته بأن الله معهما، إذ الآية في مقام بيان عظم المأساة وتكالب المصائب عليه وفقدان الناصر للنبي حينها إلا الله لتتجلى عظمة قدرة الله وعظيم سلطانه...

(و)أن أبا بكر فشل فشلا ذريعا في هذا الاختبار ولم يكن من الصابرين، (وأنه قد) اختص الله عز وجل معيته وسكينته برسوله، الذي قلق من اضطراب أبي بكر، وأيده بجنود من السماء، وحَرَم أبا بكر من هذه السكينة التي كان بأشد الحاجة إليها... (وأن) قول النبي مهدئا أبا بكر: {إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} دليل صريح وواضح على ما قلناه من أن أبا بكر لم يكن ناصرا للنبي في خروجه للغار، وإنما كان عالة ومعاناة ومصدر إزعاج وقلق للنبي حتى احتاج النبي صلى الله عليه وآله لسكينة من الله وأن يذكّر أبا بكر بألف باء الإسلام، وهي معية الله للمؤمنين وصونـهم من الكافرين وأن الله عز وجل يراقبهم ويسمع ويبصر ما يجري بـهم وأن الله ليس بغافل عنهم! ومع كل هذا فشل أبو بكر في هذا الاختبار!... والآية الكريمة الصريحة في موقف أبي بكر المخزي تتعاضد مع الروايات التي تحكي لنا سوء نيته وما أضمره في نفسه عن شخصية النبي صلى الله عليه وآله بأنه ساحر، والعياذ بالله، عندما جرت على يديه صلى الله عليه وآله كرامة عَلَّها تـهدئ روع أبي بكر! ولكن دونما فائدة!".


لكن تُرَى لو كان الصِّدّيق رضى الله عنه على النحو الذى يصفه به هذا الكاتب، فكيف نفسر يا ترى استمرار النبى الكريم صلى الله عليه وسلم فى تقريبه إياه إليه ومعاملته بإكرام ومودة وحرصه على مشاورته فى كل أموره؟ وكيف يحكم مثل ذلك الشخص عليه بهذا الحكم الغريب، وهو رضى الله عنه لم تسجَّل عليه مأخوذة مما تؤخذ على المنافقين والمذبذبين وضعفاء الدين؟ فلا هو رجع مرة عن الجيش ولا تخلف عن معركة ولا كانت له مع اليهود مودة ولا كان صديقا لجماعة المنافقين ولا تأخر يوما عن الإنفاق فى سبيل الله ولا اتصل بمشركى مكة يؤلبهم على الإسلام ورسوله؟

بل كل ما أُثِر عنه إنما يدل على نبل وشرف وقوة إيمان وصلابة فى الحق والخير والغيرة على دين الله ورسول الله. ولو كان كارها للنبى ودينه فكيف أبلى هذا البلاء العظيم الرائع فى محاربة الردة وفى الجهاد فى سبيل الله ونشر الإسلام بعد توليه الخلافة؟ أهذه أعمال المنافقين المذبذبين الضارعين الخائفين الذين يعتقدون أن رسول الله ساحر؟ أستعغفر الله العظيم! وليلاحظ القارئ أننى لا أستشهد على فضل أبى بكر بأحاديث أهل السنة أو رواياتهم، بل أستعمل المنطق العام وأستنطق وقائع التاريخ التى لا يستطيع أن يشكك فيها أحد.



أما الطبرسى والطباطبائى فلم يصدر عنهما ما ينال من أبى بكر على النحو الجلف الذى شاهدناه عند الطوسى والجنابذى والكاشانى، وإن كان الطباطبائى قد استفرغ كل وسعه للحيلولة دون القول بنزول السكينة على أبى بكر رضى الله عنه.وكأن الطبرسى قد تبرأ من حرص علماء مذهبه على حرمان الصِّدّيق رضى الله عنه من فضيلة نزول السكينة عليه، إذ قال: "وقد ذكرت الشيعة في تخصيص النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية بالسكينة كلاما رأينا الإضراب عن ذكره أَحْرَى لئلا ينسبنا ناسبٌ إلى شيء".

ولا شك أن هذه تُحْسَب له وتُشْكَر مهما يكن باعثه عليها. أما ناصر مكارم الشيرازى صاحب "الأَمْثَل فى تفسير كتاب الله الـمُنْزَل" فقد وقف موقفا وسطا، إذ لم يتعال تماما على التنقص من أبى بكر كالطبرسى، لكنه فى ذات الوقت لم يسئ إليه بشكل مباشر، مكتفيا بالقول بأن الصحبة لا تدل بالضرورة على أن الموصوف بها رجل صالح، بل تصدق على الصالح والطالح جميعا، وإن لم يضرب المثل هنا بالكافر واليهودى والبهائم مثلما فعل زميل له من قبل. كما أصر على نفى نزول السكينة على الصديق رضى الله عنه.


وتبلغ كراهية الشيعة للصحابة الكرام الذين يَرَوْن أنهم اغتصبوا حق علىٍّ فى الخلافة أن يقول بعض مفسريهم إن "الجبت والطاغوت" فى قوله تعالى فى الآية الحادية والخمسين من سورة "النساء" هما فلان وفلان، أى أبو بكر وعمر، جاعلين إياهما من الكفار. يقول الكاشانى: "{أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطّاغُوتِ}. القمّي قال: نزلت في اليهود حين سألهم مشركو العرب: أديننا أفضل أم دين محمد صلّى الله عليه وآله وسلم؟

قالوا: بل دينكم أفضل. قال: ورُوِيَ أيضًا أنها نزلت في الذين غصبوا آل محمد صلوات الله عليهم أجمعين حقهم وحسدوا منزلتهم. والعياشي عن الباقر عليه السلام: "الجِبْت والطاغوت" فلان وفلان. أقول: "الجِبْت" في الأصل: اسم صنم، فاستُعْمِل في كل ما عُبِد من دون الله تعالى. و"الطاغوت" يطلق على الشيطان وعلى كل باطل من معبود أو غيره. {وَيَقُولُونَ لِلّذِينَ كَفَرُوا} لأجلهم وفيهم: {أَهَؤُلاءِ} إشارة إليهم {أَهْدَى مِنَ الّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً}: أقوم دينًا وأرشد طريقًا؟ في الكافي عن الباقر عليه السلام: يقولون لأئمة الضلال والدعاة إلى النار: هؤلاء أهدى من آل محمد صلوات الله عليهم أجمعين. {أُولَئِكَ الّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا}.{أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ}: إنكار. يعني ليس لهم ذلك. {فَإِذًا لاَ يُؤْتُونَ النّاسَ نَقِيرًا}: يعني لو كان لهم نصيب في الملك فإذا لا يؤتون الناس نَقِيرًا.

في الكافي عن الباقر عليه الصلاة والسلام: أم لهم نصيب من الملك؟ يعني الإمامة والخلافة. قال: ونحن الناس الذين عَنَى الله. و"النَّقِير": النقطة التي في وسط النواة. أقول: لعل التخصيص لأجل أن الدنيا خُلِقَتْ لهم، والخلافة حقهم. فلو كانت الأموال في أيديهم لا نتفع بها سائر الناس، ولو مُنِعوا عن حقوقهم لـمُنِع سائر الناس، فكأنهم كل الناس. وقد ورد: نحن الناس، وشِيعتنا أشباه الناس، وسائر الناس نسناس".


وغريب أن يُنْسَب إلى إمام من أهل البيت القول بأنه وأهل بيته هم وحدهم الناس، أما أتباعهم فليسوا ناسا، بل أشباه ناس. وأما بقية البشر فنسناس: يستوى فى ذلك المسلمون وغير المسلمين. ولا أظن الباقر أبدا أو سواه من العترة النبوية يمكن أن تصدر عنه هذه الجلافة والعنجهية التى لا مسوغ لها لا من دين ولا من مروءة ولا من لياقة. وليست هذه سنة جده التى لا أشك لحظة أنه كان حريصا على السير فى نورها وعلى دربها. ثم متى كان النبى وعترته حرصاء على أن تكون الأموال تحت أيديهم على هذا النحو الجشع الذى يحاول أن يتستر برداء الكرم والأَرْيَحِيّة والحرص على مصالح الناس كما فى الكلام المنسوب للإمام الباقر؟

وأمعن من ذلك فى الغرابة وأضل سبيلا أن يقال إن الآية نزلت فى فلان وفلان، أى فى أبى بكر وعمر، والآية إنما نزلت قبل حادثة الغدير بوقت طويل حتى لو صدّقنا بأن النبى عليه السلام قد أوصى بالخلافة فى ذلك اليوم فعلا لعلى وذريته من بعده. فكيف إذن يصدّق عاقل بأن آيةً تتحدث عن حادثة وقعت، وتتحدث عنها بصيغة الماضى (هكذا: "ألم تر...؟")، ثم يقال رغم هذا وذاك إنها نزلت فى أمر لم يقع بعد؟ كما أن الآية واضحة الدلالة على أن المقصود هم أهل الكتاب لا نفر من المسلمين حتى لو كان فى إسلام هؤلاء النفر تهمة.

فهل كان الشيخان الكريمان ومن يحبهما ينتسبون إلى أهل الكتاب؟ ثم إن السياق هو سياق حديث عن انتقال النبوة من بنى إسرائيل إلى بنى إسماعيل واضطغان اليهود على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بسبب اختيار الله له رسولا وخروج النبوة بهذه الطريقة من دائرتهم التى لم يكونوا يحسبون يوما أنها يمكن أن تخرج منها. فما علاقة هذا بالخلافة وحكم المسلمين؟ إنهما أفقان مختلفان تماما.


وغريب كذلك أن ينسب الكاشانى إلى القمى الكلام التالى كله: "القمّي قال: نزلت في اليهود حين سألهم مشركو العرب: أديننا أفضل أم دين محمد صلّى الله عليه وآله وسلم؟ قالوا: بل دينكم أفضل. قال: ورُوِيَ أيضًا أنها نزلت في الذين غصبوا آل محمد صلوات الله عليهم أجمعين حقهم وحسدوا منزلتهم"، مع أن كل ما قاله القمى فى تفسيره هو ما يلى لا أكثر ولا أقل: "قوله: {ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً}، قال: نزلت في اليهود حين سألهم مشركو العرب، فقالوا: ديننا أفضل أم دين محمد؟ قالوا: بل دينكم أفضل".

وكما هو واضح ليس فى كلام القمى شىء من التفسير الأخير المنسوب له، فكيف إذن ينسب إلى ذلك المفسر ما لم يقله؟ من البين أن الكاشانى إنما صنع ما صنع على سبيل التكثر من التفاسير المسيئة، ولمجرد النكاية فى الشيخين الكريمين! ومع هذا فإن القمى يفسر قوله تعالى قبيل ذلك: "{أَلَمْ تَرَ إلَى الّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ} بأن المقصود هنا "هم الذين سَمَّوْا أنفسهم بالصِّدّيق والفاروق وذي النورين". أما الطوسى والطبرسى والطباطبائى فقد اكتفَوْا بالقول بأن الكلام فى الآيات كلها عن اليهود، ولم يتطرقوا إلى ذكرالصِّدّيق والفاروق وذي النورين، عليهم رضوان الله، ونزّهوا أقلامهم هنا عن التشنيع عليهم. وأما الجنابذى فإنه، وإن لم يصف الشيخين بــ"الجبت والطاغوت"، قد أخرج كل من ليس بشيعى من زمرة المؤمنين الذين سوف يغفر الله لهم، وسوف يكون الغفران آليًّا لا لشىء إلا لمجرد تذوق شيعة علىٍّ لتجربة الموت ليس إلا.

وهذا كلام الرسول حسبما يزعمون، إذ ينسبون إليه الحديث التالى: "لو انّ المؤمن خرج من الدّنيا وعليه مثل ذنوب أهل الارض لكان الموت كفّارة لتلك الذّنوب". والمؤمن لديهم هو المؤمن بولاية على، أما المشرك فهو من أشرك فى تلك الولاية، وهو أيضا منافق.


وعلى كلٍّ فهذا هو النص فى سياقه كاملا حتى يتبين القارئ أنه لا علاقة بتاتا بينه وبين أبى بكر وعمر وعلىّ رضى الله عن الجميع رضا واسعا، وأن الجبت والطاغوت يستحيل أن يكون المقصود بهما الخليفتين الأولين، إذ الكلام فى النص من أوله إلى آخره إنما يدور على اليهود فى المدينة وانحيازهم لوثنيى مكة ضد الرسول ودينه وأتباعه وشهادتهم الكاذبة بأن شركهم أفضل من التوحيد الذى أتى به الرسول صلى الله عليه وسلم: "أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ* وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا* مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً* يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آَمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً* إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا* أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً* انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا* أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا سَبِيلاً* أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا* أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا* أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آَتَيْنَا آَلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآَتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا* فَمِنْهُمْ مَنْ آَمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا".

إن القول بأن "الجبت والطاغوت" فى النص الشريف هما أبو بكر وعمر إنما هو جهل باللغة والتاريخ وضلال فى العقل والفهم قبل أن يكون إثما دينيا. ومن العيب بل من الخزى أن يتصدى لتفسير القرآن الكريم من لا يفهمون لغته ويصلون فى الجهل بها إلى هذا المدى! وقد فسّر الطبرسى والطباطبائى الآيات على أنها جميعها فى اليهود كما سلفت الإشارة.

وإذا كان هذا هو رأى بعض مفسرى الشيعة فى الشيخين الجليلين، فأحرى أن يكون هو نفسه رأيهم فى بنى أمية، إن لم يكن أشد سوءا.

ومن هنا لا غرابة فى أن نقرأ للعياشى مثلا فى تفسير قوله تعالى عن اليهود فى الآية التاسعة والثمانين من سورة "البقرة": "وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ" ما نصه: "عن أبى بصير عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله : "وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا" فقال: كانت اليهود تجد في كتبها أن مُهَاجَر محمد عليه الصلاة والسلام ما بين عير وأحد... فلما بعث الله محمدا عليه الصلاة والسلام آمنت به الانصار وكفرت به اليهود، وهو قول الله: "وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا" إلى "فلعنة الله على الكافرين".


عن جابر قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن هذه الآية عن قول الله: "لما جاءهم ما عرفوا كفروا به" قال: تفسيرها في الباطن: لما جاءهم ما عرفوا في علىٍّ كفروا به، فقال الله فيهم: "فلعنة الله على الكافرين" في باطن القرآن. قال أبوجعفر: "فيهم" يعنى بنى أمية. هم الكافرون في باطن القرآن. قال أبوجعفر: نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وآله هكذا: "بئسما اشتروا به أنفسَهم أن يكفروا بما أنزل الله في عليّ بَغْيًا". وقال الله في علىّ: " أن ينزّل اللهُ مِنْ فضله على من يشاء من عباده"، يعنى عليًّا.

قال الله: "فباؤا بغضب على غضب": يعنى بني أمية. "وللكافرين": يعنى بنى أمية "عذاب اليم". وقال جابر: قال أبوجعفر: نزلت هذه الآية على محمد صلى الله عليه وآله هكذا والله. وقال جابر: قال أبوجعفر: نزلت هذه الآية على محمد صلى الله عليه وآله هكذا والله: "وإذا قيل لهم: ماذا أنزل ربكم في علىٍّ؟": يعنى بنى أمية، "قالوا: نؤمن بما أُنْزِل علينا": يعنى في قلوبهم بما أنزل الله عليه، "ويكفرون بما وراءه": بما أنزل الله في علىٍّ، "وهو الحق مصدِّقًا لما معهم": يعنى عليا".

وهذا كذب على أبى جعفر، إذ لا يعقل أن يقيم أبو جعفر من نفسه إلها يحكم على هذا أو ذاك بالكفر، ويُدْخِل هذا أو ذاك النار، ويتلاعب هكذا بنصوص القرآن، وهو ما لا يقدم عليه إلا متفلت من الإسلام، وحاشا أن يكون أحد من عترة رسول الله على هذه الشاكلة من الجرأة على مقام الألوهية وعلى كتاب الله، فضلا عن الجهل بالقرآن وأسباب نزوله وفهم سياقاته مما لا يمكن أن يفوت أحدا إلا إذا كان عريقا فى الجهل واللؤم والانحطاط، والعياذ بالله!


وفى قوله جل جلاله فى الآيتين 55- 56 من سورة "المائدة": "إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ* وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ" يقول الطوسى: "اختلفوا فيمن نزلت هذه الآية فيه: فروى أبو بكر الرازي في كتاب "أحكام القرآن" على ما حكاه المغربي عنه، والطبري والرماني ومجاهد والسدي، أنها نزلت في علي (ع) حين تصدق بخاتمه وهو راكع. وهو قول أبي جعفر وأبي عبد الله (ع) وجميع علماء أهل البيت. وقال الحسن والجبائي: إنها نزلت في جميع المؤمنين. وقال قوم: نزلت في عبادة بن الصامت في تبرُّئه من يهود بني قينقاع وحِلْفهم إلى رسول الله والمؤمنين. وقال الكلبي: نزلت في عبد الله بن سلام وأصحابه لما أسلموا فقطعت اليهود موالاتهم، فنزلت الآية. واعلم أن هذه الآية من الأدلة الواضحة على إمامة أمير المؤمنين (ع) بعد النبي بلا فصل.


ووجه الدلالة فيها أنه قد ثبت أن "الوليَّ" في الآية بمعنى الأَوْلَى والأحقّ، وثبت أيضا أن المعنيّ بقوله: {والذين آمنوا} أمير المؤمنين (ع). فإذا ثبت هذان الأصلان دل على إمامته، لأن كل من قال إن معنى "الوليّ" في الآية ما ذكرناه قال إنها خاصة فيه، ومن قال باختصاصها به (ع) قال: المراد بها الإمامة... فالذي يدل على أن أمير المؤمنين (ع) هو المخصوص بها أشياء: منها أن كل من قال إن معنى الولي في الآية معنى الأحقّ قال إِنه هو المخصوص به. ومن خالف في اختصاص الآية يجعل الآية عامة في المؤمنين، وذلك قد أبطلناه. ومنها أن الطائفتين المختلفتين: الشيعة وأصحاب الحديث رووا أن الآية نزلت فيه عليه السلام خاصة.

ومنها أن الله تعالى وصف الذين آمنوا بصفات ليست حاصلة إِلا فيه، لأنه قال: {والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون}، فبين أن المعنيّ بالآية هو الذي آتى الزكاة في حال الركوع. وأجمعت الأمة على أنه لم يُؤْتِ الزكاة في حال الركوع غير أمير المؤمنين (ع)، وليس لأحد أن يقول: إِن قوله: {وهم راكعون} ليس هو حالاً لــ{يؤتون الزكاة}، بل المراد به من صفتهم إِيتاء الزكاة، لأن ذلك خلاف لأهل العربية، لأن القائل إذا قال لغيره: "لقيت فلانا وهو راكب" لم يُفْهَم منه الا لقاؤه له في حال الركوب، ولم يفهم منه أن من شأنه الركوب. وإذا قال: "رأيته وهو جالس أو جاءني وهو ماش" لم يفهم من ذلك كله إلا موافقة رؤيته في حال الجلوس أو مجيئه ماشيا. وإذا ثبت ذلك وجب أن يكون حكم الآية مثل ذلك.


فإن قيل: ما أنكرتم أن يكون الركوع المذكور في الآية المراد به الخضوع؟ كأنه قال: يؤتون الزكاة خاضعين متواضعين كما قال الشاعر:
ولا تهـــــين الفقيـــــر عَلَّكَ أن تركع يومًا، والدهر قد رَفَعَهْ
والمراد "عَلَّك أن تخضع"، قلنا: الركوع هو التطأطؤ المخصوص. وإِنما يقال للخضوع: "ركوع" تشبيها ومجازا لأن فيه ضربا من الانخفاض. يدل على ما قلناه نص أهل اللغة عليه. قال صاحب العين: كل شئ ينكبّ لوجهه فتمس ركبتيه الأرض أو لا تمس بعد أن يطأطئ رأسه فهو راكع.

قال لبيد:أخبّر أخبار القرون التي مضت أَدِبّ كأني، كلما قمتُ، راكعُ
وقال ابن دريد: الراكع الذي يكبو على وجهه، ومنه الركوع في الصلاة... فإن قيل: قوله: {الذين آمنوا} لفظ جَمْعٍ، كيف تحملون ذلك على الواحد؟ قيل: قد يعبر عن الواحد لفظ الجمع إِذا كان معظما عالي الذكر. قال تعالى: {إِنّا نحن نزلنا الذكر وإِنّا له لحافظون}، {ولو شئنا لآتينا كل نفسٍ هداها}، ونظائر ذلك كثيرة. وقال: {الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم}، ولا خلاف في أن المراد به واحد، وهو نُعَيْم بن مسعود الأشجعي... فإذا ثبت استعمال ذلك كان قوله: {الذين يقيمون الصلاة} محمولا على الواحد الذي قدمناه.

فإن قيل: لو كانت الآية تفيد الإمامة لوجب أن يكون ذلك إماما فى الحال ولجاز له أن يأمر وينهى ويقوم بما يقوم به الأئمة، قلنا: من أصحابنا من قال: إِنه كان إِمامًا في الحال، ولكن لم يأمر لوجود النبي صلى الله عليه وسلم، وكان وجوده مانعًا من تصرفه. فلما مضى النبي صلى الله عليه وسلم قام بما كان له. ومنهم من قال، وهو الذي نعتمده، إن الآية دلت على فرض طاعته واستحقاقه للامامة. وهذا كان حاصلا له...


فإن قيل: أليس قد رُوِيَ أنها نزلت في عبادة بن الصامت أو عبد الله بن سلام وأصحابه؟ فما أنكرتم أن يكون المراد بالذين آمنوا هم دون من ذهبتم اليه؟ قلنا: أول ما نقوله إِنّا دلّلنا على أن هذه الآية نزلت في أمير المؤمنين (ع) بنقل الطائفتين، ولما اعتبرناه من اعتبار الصفة المذكورة في الآية وأنها ليست حاصلة في غيره بطل ما يُرْوَى في خلاف ذلك. على أن الذي رُوِيَ في الخبر من نزولها في عبادة بن الصامت لا ينافي ما قلناه، لأن عبادة لما تبرأ من حلف اليهود أُعْطِيَ ولاية من تضمنته الآية...

والذي يكشف عما قلناه أنه قد رُوِيَ أنها لما نزلت خرج النبي صلى الله عليه وسلم من البيت، فقال لبعض أصحابه: "هل أعطى أحد سائلاً شيئا؟". فقالوا: نعم يا رسول الله. قد أعطى علي بن أبي طالب السائل خاتمه، وهو راكع. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الله أكبر! قد أنزل الله فيه قرآنًا"، ثم تلا الآية الى آخرها. وفي ذلك بطلان ما قالوه... فأما "الولي" بمعنى الناصر فلسنا ندفعه في اللغة، لكن لا يجوز أن يكون مرادا في الآية لما بيناه من نفي الاختصاص. وإِقامة الصلاة إتمامها بجميع فروضها، من قولهم: فلان قائم بعمله الذي وَلِيَه، أي يوفي العمل جميع حقوقه".


والذى قاله الطوسى هنا فى دلالة الآية على حق علىّ فى خلافة النبى فى حكم المسلمين يقوله علماء الشيعة كلهم، سواء منهم من أورد التفاسير والروايات الأخرى أو لا. ورغم محبتى الشديدة لعلى بن أبى طالب، وإن كنت لا أفضله على الشيوخ الثلاثة ولا أفضلهم عليه، بل أَكِلُ ذلك إلى الله وأكتفى بالقول بأن كلا منهم قد خدم الإسلام بعبقريته ومواهبه الخاصة التى أفاضها الله عليه، أقول: إننى، رغم محبتى له كرم الله وجهه، لا أستطيع الاقتناع بما قاله الطوسى للأسباب التالية التى لا أعدّها مع ذلك ملزمة له ولا لغيره، بل هى مجرد رأى اجتهدت فيه ولم آلُ.

فالشيعة، كما هو واضح، يفهمون الولاية فى النص الذى بين أيدينا على أنها ولاية الحكم، بمعنى أن خلافة النبى بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى هى من حق علىّ وذريته دون المسلمين جميعا رغم أن السياق لا يقبل هذا الفهم أبدا. فالآية تحدد الذين يجب على المسلم موالاتهم بعد أن حذرته الآيات السابقة عليها من موالاة اليهود والنصارى الذين يتآمرون على الإسلام والمسلمين. فليس الكلام إذن عن الولاية السياسية، بل عن موالاة المودة والتعضيد والمعاونة، ولا يُعْقَل أن يحصر الله سبحانه موضوع هذه الولاية فى علىّ رضى الله عنه لا غير، فعلىّ رغم صفاته النبيلة الكثيرة ليس هو المؤمنين جميعا، بل مجرد فرد واحد منهم فحسب.

فرد كريم وعظيم ومن أفذاذ الرجال نعم، لكنه رغم هذا ليس إلا فردا واحدا. وإلا فماذا نسمى سائر الصحابة إن كان علىّ هو المؤمنين جميعا؟ إن هناك رواية تقول إنه كان يصلى يوما حين دخل المسجد سائل، فما كان منه كرم الله وجهه إلا أن خلع خاتمه وهو راكع وأعطاه إياه. لكن الملاحظ أن الآية قد عبرت عن إيتاء الزكاة بصيغة المضارع (هكذا: "ويؤتون الزكاة وهم راكعون") بما يدل على أن هذا العمل كان يتم بهذه الصورة دائما. فهل كان علىّ يؤتى زكاته باستمرار وهو راكع؟ وهل كان علىّ هو وحده الذى يقيم الصلاة دون سائر المسلمين ما دامت الآية قد وصفت الذين آمنوا بأنهم "يقيمون الصلاة"؟

ثم لقد كانت الزكاة تؤدَّى لموظفين مختصين بجمعها فى أوقات معلومة ممن تجب عليهم وإيصالها لمن يستحقونها، وليس للمحتاجين مباشرة أو فى أى وقت كما يزعم أصحاب هذا التفسير الغريب. وفضلا عن ذلك فقد نهى الرسول عن السؤال فى المساجد، فكيف يصح تفسير الآية بما يفيد أنها تُثْنِى على من يخالفون وصية النبى عليه السلام فى هذا الشأن فيعطون الصدقات للذين يسألون داخل المسجد واصفة إياهم بكمال الإيمان؟ ولو غضضنا الطرْف عن هذه، أفلم يكن ممكنا أن ينتظر علىّ، كرم الله وجهه، إلى أن يفرغ من صلاته ويتثبت من حاجة السائل الفعلية ومقدار ما يحتاجه من مال؟


وذلك كله علاوة على صرف "الذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة" من الدلالة على الجمع إلى الدلالة على الواحد دون أدنى مسوغ. وفوق هذا فقد ورد فى صفة المؤمنين فى مواضع كثيرة من القرآن الكريم أنهم يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة، ولا يقول عاقل إن المقصود بهذا كله هو على وحده. وقد أوْرَدَتِ الترجمةُ الإنجليزية لتفسير العالم الباكستانى أبى الأعلى المودودى لهذه الآية على النحو التالى: "Only Allah, His Messenger, and those who establish Prayer, pay Zakah, and bow (before Allah) are your allies". وبهذه الطريقة ابتعدت الآية عن أن تكون موضعا للأخذ والرد بين طوائف المسلمين، إذ أصبح معناها هو: "إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويركعون"، فــ"الواو" فى "وهم راكعون" ليست "واو حال"، بل "واو عطف أو استئناف". أى أن المؤمنين من صفاتهم إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والركوع. و"الركوع" هنا بمعناه المجازى، وهو الخضوع والإخبات. أى أن هؤلاء المؤمنين حين يخرجون زكاتهم إنما يفعلون ذلك تواضعًا وبِرًّا بالمحتاجين، ورجاءً فى المثوبة الإلهية، ولا يشمخون بها على الفقراء والمساكين أويراؤون الناس بها من حولهم.

وقد ورد فى الشعر الجاهلى لفظ "الركوع" بهذا المعنى:
سيبلغ عذرا أو نجاحا من امرئٍ إلى ربــــــــه رب البريــــــة راكـــــع
كل ذلك، ولم أتطرق إلى تضعيف ابن تيمية وغيره للرواية التى تنسب إلى على تصدقه بخاتمه فى الركوع، لأننى أعرف ماذا سيكون الرد على هذا، إذ سيقال: ولكن الرواية عندنا نحن صحيحة.


ويرتبط بالآيتين السابقتين قوله عز شأنه فى الآية السابعة والستين من ذات السورة: "يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ"، التى ذكر الطوسى فى تفسيرها أربعة أقوال، مع أخذه بالقول الأخير بطبيعة الحال لأنه هو أساس التمييز بينهم وبين سائر فرق المسلمين، ولأنه منسوب إلى اثنين من أئمتهم: "قيل في سبب نزول هذه الاية أربعة أقوال: أحدها: قال محمد بن كعب القُرَظِيّ وغيره إِن اعرابيا هم بقتل النبي صلى الله عليه وسلم فسقط السيف من يده وجعل يضرب برأسه شجرة حتى انتثر دماغه. الثاني أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يهاب قريشا فأزال الله عز وجل بالآية تلك الهيبة.

وقيل: كان للنبي صلى الله عليه وسلم حراس بين أصحابه، فلما نزلت الآية قال: الحقوا بملاحقكم، فإن الله عصمني من الناس. الثالث: قالت عائشة إن المراد بذلك إزالة التوهم أن النبي صلى الله عليه وسلم كتم شيئا من الوحي للتقيّة. الرابع: قال أبو جعفر وأبو عبد الله عليهما السلام إن الله تعالى لما أوحى إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يستخلف عليا كان يخاف أن يشقّ ذلك على جماعة من أصحابه، فأنزل الله تعالى هذه الآية تشجيعا له على القيام بما أمره بأدائه. والآية فيها خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وإيجاب عليه تبليغَ ما أُنْزِل إليه من ربه وتهديد له إن لم يفعل وأنه يجري مجرى إن لم يفعل ولم يبلّغ رسالته".

وإن الإنسان ليتساءل: إذا كانت إمامة علىّ كرم الله وجهه من أركان الدين إنها إذن لكارثة أن يتلجلج فيها النبى كل ذلك التلجلج حتى لينزل عليه الوحى يهدده على هذا النحو. الواقع أن ما يقال عن استخلاف على، رغم إجلالى وإكبارى إياه وحبى الشديد له ولولديه سِبْطَىْ رسول الله، هو أمر لا يقنعنى أبدا. ومع هذا فمن حق الشيعة أن يؤمنوا بذلك، لكننا كنا نودّ ألا يَجْرِمهم هذا الحب على البذاءة فى حق غيره من الصحابة الأجلاء، وعلى رأسهم أبو بكر وعمر وعثمان رضى الله عنهم وعن علىٍّ أجمعين.


وفى القُمِّىّ تفسيرا لقوله تعالى فى الآيتين 68- 69 من سورة "النحل": "وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ* ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ..." نقرأ الآتى: "قوله: {وأوحى ربك إلى النحل} قال: وَحْي إلهام. تأخذ النحل من جميع النَّوْر ثم تتخذه عسلاً. وحدثني أبي عن الحسن بن علي الوشّاء عن رجل عن حريز بن عبد الله عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله: "وأوحى ربك إلى النحل"، قال: نحن النحل التي أوحى الله إليها {أن اتخذي من الجبال بيوتا}، أمرنا أن نتخذ من العرب شيعة. {ومن الشجر}، يقول: من العجم. {ومما يعرشون}، يقول: من الموالي".


وكالعادة فإن مثل تلك التفسيرات تتنكر للسياق وتدير ظهرها له وتفسد اللغة والمنطق إفسادا شنيعا، فإن الكلام فى الآيات عن نعم الله فى الماء والبلح والعنب واللبن والعسل، ولا مدخل فى هذا لبنى هاشم ولا حتى للرسول نفسه، فنحن هنا فى طعام وشراب لا فى علم. ولو افترضنا أن هذا التفسير الذى يقدمه القمى صحيح، فلماذا يكون بنو هاشم هم النحل فقط ولا يكونون أيضا أبقارا وجواميس تدر اللبن من بين فرث ودم فى الآية التى تسبق هذه؟ ترى أَثَمّ مسوّغ لهذا الانتقاء لأحد الشيئين دون الآخر؟ ولست بحاجة بطبيعة الحال للتنبيه إلى أننى لا أقصد أبدا النيل من بنى هاشم آل النبى وآل خَتَنه، بل كل ما أردت هو الإيماء إلى أن مثل تلك التفسيرات توقع صاحبها فى مآزق ومهالك ما كان أغناه عنها لولا التنطع!


وقد نقل الكاشانى فى تفسيره ما يلى: "القمّيّ عن الصادق عليه السلام: نحن والله النحل الذي أوحى الله إليه أن "اتخذي من الجبال بيوتا". أُمِرْنا أن نتخذ من العرب شيعة. "ومن الشجر"، يقول: من العجم. "وممّا يعرشون"، يقول: من الموالي. والذي "يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه"، أي العلم الذي يخرج منّا إليكم. والعياشي عنه عليه السلام: النحل الأئمّة، والجبال العرب، والشّجر الموالي عتاقة. "ومنها يعرشون": يعني الأولاد والعبيد ممن لم يُعْتَق، وهو يتولى الله ورسوله والأئمة. والثمرات المختلفة ألوانه: فنون العلم الذي يعلّمه الأئمّة شيعتهم. فيه شفاء للناس: والشيعة هم الناس، وغيرهم الله أعلم بهم: ما هم؟ ولو كان كما تزعم أنّه العسل الذي يأكله الناس إذن ما أكل منه ولا شرب ذو عاهة إلاّ شُفِيَ لقول الله تعالى: "فيه شفاء للناس". ولا خُلْفَ لقول الله، وإنّما الشفاء في علم القرآن. ونُنَزِّل من القرآن ما هو شفاء ورحمة لأهله لا شكّ فيه ولا مِرْيَة، وأهله أئمّة الهدى الذين قال الله فيهم: "ثمّ أورثنا الكتاب الذين اصْطَفينا من عبادنا"...".

وفى تفسير العياشى (ت 324 هـ) وفرات الكوفى (ت القرن 4) مثله، أما الطوسى والطبرسى والطباطبائى وتقىّ الدين المدرسى، وهو عالم شيعى معاصر له تفسيرٌ يسمَّى: "من هدى القرآن"، فكانوا من العقل والحكمة بحيث لم يشيروا ولو مجرد إشارة إلى هذا التفسير المضحك! وأما ناصر مكارم الشيرازى صاحب تفسير "الأمثل فى تفسير كتاب الله الـمُنْزَل" فبالإضافة إلى سَيْره على منوال هؤلاء الأربعة الأخيرين فى ضَرْب صَفْحِه عن الخزعبلات التى يريد بعضهم إلصاقها بالآية الكريمة نراه ينفق جهده فى الحديث عن طبائع النحل وأماكن سكنه وطريقته فى إفراز العسل والعناصر الغذائية التى يحتوى عليها ذلك الطعام وما إلى ذلك.


ولقد قرأت ذات مرة منذ وقت طويل أن بشّار بن بُرْد الشاعر العباسى المشهور قد ردّ على أحد المتشيعين الذين يفسرون "النحل" فى الآية الحاليّة بأنهم بنو هاشم ردا مفحما قطعه به فلم يُحِرْ جوابا وأضحك كلّ من كان بالمجلس عليه، وكذلك كل من سمع بالقصة، بل جعله أضحوكة على مَرّ الأجيال. وهذه هى القصة كما وردت فى كل من "الأغانى" للأصفهانى، و"التذكرة الحمدونية" لابن حمدون، و"الكشكول" لبهاء الدين العاملى، و"معاهد التنصيص على شواهد التلخيص" لعبد الرحيم العباسى، واللفظ "للأغانى": "كان بشار جالسا في دار المهدي، والناس ينتظرون الإذن، فقال بعض موالي المهدي لمن حضر: ما عندكم في قول الله عز وجل: "وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر"؟ فقال له بشار: النحل التي يعرفها الناس.


قال: هيهات يا أبا معاذ. "النحل": بنو هاشم، وقوله: "يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس" يعني العلم. فقال له بشار: أراني الله طعامك وشرابك وشفاءك مما يخرج من بطون بني هاشم، فقد أوسعتنا غثاثةً. فغضب وشتم بشارا. وبلغ المهديَّ الخبرُ فدعا بهما فسألهما عن القصة، فحدثه بشار بها، فضحك حتى أمسك بطنه، ثم قال للرجل: أجل! فجعل طعامك وشرابك مما يخرج من بطون بني هاشم، فإنك باردٌ غَثٌّ".


ولم يكتف بعض علماء الشيعة بهذا، بل أوّلوا قوله تعالى فى سورة "الرحمن": "فبأى آلاء ربكما تكذبان؟" بالنبى وعلىّ. يقول القمى: "قوله: {فبأي آلاء ربكما تكذبان}، قال: في الظاهر مخاطبة الجن والإِنس، وفي الباطن فلان وفلان. حدثنا أحمد بن علي قال: حدثنا محمد بن يحيى عن محمد بن الحسين عن محمد بن أسلم عن علي بن أبي حمزة عن أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله: فبأي آلاء ربكما تكذبان؟ قال: قال الله تبارك وتعالى وتقدس: فبأي النعمتين تكفران: بمحمد صلى الله عليه وآله أم بعلي عليه السلام؟". وعند الكاشانى مثله.


وفى تفسير الجنابذى زيادة على ذلك: "{فَبِأَيِّ آلا?ءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}: روى عن الرّضا (ع) أنه قال: {عَلَّمَ ?لْقُرْآنَ} (الرحمن/ 2): الله علّم القرآن قبل خلق الإنسان، وذلك أمير المؤمنين (ع). قيل: علّمه البيان؟ قال: علّمه بيان كلّ شيءٍ يحتاج إليه النّاس. قيل: الشّمس والقمر بحسبان؟ قال: هما بعذابٍ. قيل: الشّمس والقمر يعذّبان؟ قال: سألتَ عن شيءٍ فأتقنْه. إنّ الشّمس والقمر آيتان من آيات الله يجريان بأمره مطيعان له، ضوؤهما من نور عرشه، وحَرّهما من جهنّم. فإذا كانت القيامة عاد إلى العرش نورهما، وعاد إلى النّار حرّهما فلا يكون شمسٌ ولا قمرٌ. وإنّما عناهما لعنهما الله! أوليس قد روى النّاس أنّ رسول الله (ص) قال: إنّ الشّمس والقمر نوران فى النّار؟ قال: بلى. قال: أما سمعت قول النّاس: فلان وفلان شمس هذه الامّة ونورها؟ فهما فى النّار. والله ما عَنَى غيرهما".


وهم، فى غمرة التدليس، يَنْسَوْن أن الكلام هكذا لا يستقيم نحويا ولا سياقيا: فأما السياق فهو مخاطبة الجن والإنس، لا فلان وفلان، والمقصود طبعا أبو بكر وعمر. وإذا كان الجن والإنس يرمزان إلى الخليفتين الأولين، فمن منهما الجن يا ترى؟ ومن منهما الإنس؟ ثم ألا يرى المدلسون أنهم قد أَعْلَوْا من شأن الصحابيين الجليلين فى غمرة حقدهم، إذ جعلوهما الثقلين جميعا، بما يعنى أن المقابل للإنس منهما يشمل، فيما يشمل، النبى وعليا وفاطمة وحسنا وحسينا... إلى آخر فرد فى البشر. وأما النحو فكيف يتحدث الله سبحانه عن "آلاء" جَمْعًا، فيقول الشيعة إن هذه الآلاء اثنتان فقط هما محمد وعلى؟ لقد غطت كراهيتهم للشيخين فخلطا بين المخاطبَيْن اللذين يزعم الشيعة أنهما هما الشيخان وبين "الآلاء" فظنوها بدورها اثنتين هى أيضا.

كذلك فهم، فى غمرة تدليسهم، لم يتنبهوا إلى الارتباك فى كلامهم عن الشمس والقمر، إذ بينما جعلوا حرهما يعود يوم القيامة إلى النار، نراهم يقولون بعودة نورها إلى عرش الله. أى أن فى أبى بكر وعمر نورا، وهذا النور مصيره إلى عرش الرحمن، فكيف يتسق هذا مع حرص الشتامين على لعنهما وتحقيرهما؟ أهناك شرف أعظم من هذا الشرف؟ ثم كيف يتسق هذا مرة أخرى مع كونهما حَرًّا يصير فى الآخرة إلى النار؟


وفى "شبكة كربلاء المقدسة: www.holykarbala.net"، فى باب "عقائدنا بين السائل والمجيب"، قرأتُ فى الرد على سؤال يستفسر فيه صاحبه عن مدى صدق ما يقال من أن الشيعة يفسرون "البقرة" فى قوله تعالى: "إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة" (البقرة/ 67) بأنها "عائشة"، أن هذا التفسير لا يوجد فى أى من التفاسير الشيعية. وقد بحثت فى بعض التفاسير الشيعية المتاحة لى فلم مأجد فعلا تفسيرا كهذا، بل وجدتها كلها تقول إن القصة من قصص بنى إسرائيل، ولم يتطرق أى منها إلى أنها تتعلق بعائشة أو بأحد من المسلمين البتة.

ولكن لفت نظرى فى الرد قول المجيب الشيعى بعد ذلك: "ثم هل هناك من مناسبة في الآية من تشبيه ووصف أو مجاز أو استعارات إلى غير ذلك يمكن للمفسّر ولغيره أن يربط بين الآية وبين المناسبة: ما علاقة البقرة بعائشة؟ ما علاقة الذبح وغير ذلك مما ورد في الآية الكريمة؟". وهذا ما أريد أن نكون على ذكر منه حين نفسر آيات القرآن، فقد لاحظنا أن بعض المفسرين الشيعة فى تفسيراتهم المسيئة فى حق الشيخين وابنتيهما، يمزقون النص القرآنى وينزعون بعض آياته أو عباراته من سياقها ويحمّلونها ما لا تحتمل دون أن يكون هناك ما يسوّغ مثل هذا الصنيع الذى حذر منه الكاتب صاحب الإجابة على السؤال الحالى.


كما أوّل بعضهم البحرين وما يخرج منهما من اللؤلؤ والمرجان فى قوله عز جلاله: "مرج البحرين يلتقيان* بينهما برزخ لا يبغيان* فبأى آلاء ربكما تكذبان* يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان" (الرحمن/ 19- 22) بأن البحرين هما على وفاطمة، والبرزخ محمد، واللؤلؤ والمرجان الحسن والحسين.


ففى تفسير فرات الكوفى (ت القرن4): "حدثنا أبو القاسم العلوي، قال: حدثنا فرات معنعنا عن ابن عباس رضي الله عنه في قوله تعالى: "مرج البحرين يلتقيان"، قال: علي وفاطمة. "بينهما برزخ لا يبغيان"، قال: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. "يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان"، قال: الحسن والحسين عليهما السلام... محمد الفزاري معنعنا عن جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام قال:... علي وفاطمة بحران عميقان لا يبغي أحدهما على صاحبه، جاء‌هما النبي صلى الله عليه وآله فأدخل رجليه بين فاطمة وعلي. "يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان": الحسن والحسين عليهما السلام... حدثنا محمد بن إبراهيم الفزاري معنعنا عن علي بن فضيل عن علي بن موسى الرضا عليهما السلام قال: سألته عن قول الله تبارك وتعالى: "مرج البحرين يلتقيان". قال: ذلك علي وفاطمة. "بينهما برزخ لا يبغيان"، قال: العهد الذي أخذه عليهما النبي صلى الله عليه وآله وسلم. يعني: لا يزنيان. "يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان"، قال: الحسن والحسين وذريتهما... وقوله: "لا يزنيان" ربما لا يتناسب مع ظاهر الآية وسمو أهل البيت، بل المتناسب ماورد في حديث ابن عباس الذي رواه الحسكاني في "شواهد التنزيل" بأسانيد، قال: حب دائم لا ينقطع ولا يَنْفَد أبدا.

وفى رواية: ود لا يتباغضان.... عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه في قوله تعالى: "مرج البحرين يلتقيان"، قال: أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وفاطمة عليهما السلام. "يخرج منها اللؤلؤ والمرجان": الحسن والحسين عليهما السلام. فمن رأى مثل هؤلاء الاربعة؟ لايحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا كافر. فكونوا مؤمنين بحب أهل البيت، ولا تكونوا كفارا ببغض أهل البيت فتُلْقَوْا في النار. قال: حدثني محمد بن أحمد بن علي الكسائي معنعنا عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، وقد سئل يوما في محفل من المهاجرين والانصار في قوله عز وجل: "بينهما برزخ لا يبغيان"، قال: لا يبغي عليٌّ على فاطمة، ولا تبغي فاطمة على عليّ. يَنْعَم عليٌّ بما أعد الله له وخصَّه من نعيمِهِ بفاطمة، اتصل معها ابناهما حافَّيْنِ بهما منهم فيصل من النور كالحجال، خُصُّوا به من بين أهل الجنان. يقف عليّ من النظر إلى فاطمة فيَنْعَم، وإلى ولديه فيفرح. والله يعطي فضله من يشاء، وهذا أوسع وأرحم وألطف! ثم قرأ هذه الآية: "يتنازعون فيها كأسا لا لَغْوٌ فيها ولا تأثيم" (الطور/ 23) بين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام من غير تكلف، وكل في أماكنه ونعيمه مد بصره، "فيومئذ لا يُسْأَل عن ذنبه إنسٌ ولا جانٌّ".


وعند الجنابذى: "القمّي عن الصادق عليه السلام قال: عليّ وفاطمة صلوات الله عليهما بحران عميقان لا يبغي أحدهما على صاحبه. "يخرج منهما اللّؤلؤ والمرجان"، قال: الحسن والحسين عليهما السلام. وفي "المجمع" عن سلمان الفارسي وسعيد بن جبير وسفيان الثوري أنّ "البحرين" عليّ وفاطمة عليهما السلام، و"البرزخ" محمد صلّى الله عليه وآله، و"اللّؤلؤ والمرجان" الحسن والحسين عليهما السلام". ولايخرج فُرَاتٌ الكوفى فى تفسيره لتلك الآية عن هذا. وبهذه الطريقة يُمْتَلَخ النص من سياقه ويُخْلَع عليه من المعانى ما لا علاقة بينه وبينها، إذ الكلام فى الآيات إنما هو عن الطبيعة ومناظرها والنعم التى بثها الله فيها، والخطاب فيها موجه إلى الجن والإنس، فما دخل ذلك بعلى وفاطمة وحسن وحسين عليهم رضوان الله أجمعين؟ علاوة على أنه من سوء الأدب أن يجعلوا البحرين هما عليا وفاطمة، فى حين أن الرسول لا يزيد عن أن يكون برزخا يحجز بينهما،

وإن كنت مع هذا لا أدرى حكمة الحجز هنا، والزوجان إنما يتزوجان ليختلطا وينصهرا ويصبحا كيانا واحدا، لا ليظلا منفصلين يقوم بينهما رقيب يحجز بينهما. وما معنى أن البرزخ، الذى هو محمد، يمنع عليا وفاطمة من أن يبغى أحدهما على الآخر؟ أتراهما لو لم يحجز بينهما البرزخ سوف يتظالمان ويتباغيان؟ فلقد مات قبلهما الرسول إذن، فهل نفهم أن البغى بينهما بدأ عقب وفاته صلى الله عليه وسلم؟ وإذا كان الحسن والحسين هما اللؤلؤ والمرجان، بغض النظر عن أن مفسرى الآية لم يحددوا من منهما اللؤلؤ، ومن منهما المرجان، فمن هم الجوارى المنشآت فى البحر كالأعلام؟ وينبغى ألا ننسى أنه كان عندنا قبل ذلك بحران اثنان، فأصبح لدينا الآن بحر واحد، فأين ذهب الآخر يا ترى؟ وأى البحرين هو الذى ذهب؟ علىٌّ أم فاطمة؟أما الطبرسى والطباطبائى وتقىّ الدين المدرسى صاحب تفسير "من هَدْى القرآن" فقد أعرضوا ونَأَوْا بجانبهم عن كل هذا الشطط فلم يَتَدَهْدَوْا إلى ما لا يليق بالعقلاء، ولم ينغمسوا فيما فى ذلك من إثم وإصر.


وفى آيات الإفك التى يعرف القاصى والدانى أنها نزلت تبرئةً للسيدة عائشة رضى الله عنها وأرضاها مما بُهِتَتْ به فى قصة ضياع العِقْد الذى فقدته فى الصحراء مَرْجِعَها هى والنبى والمسلمين من غزوة بنى المصطلق، نرى القمى مثلا يصرف القصة عن حقيقتها حتى لا يُضْطَرّ هو وأمثاله إلى الإقرار بأى فضل لها. وأى فضل أعظم من الفضل الذى ظلت أم المؤمنين تباهى به نظيراتها، وهو أن الله سبحانه وتعالى قد أنزل تبرئتها من فوق سبع سماوات؟ ولا ننس أن لعلىٍّ صلة بالقصة، إذ لما استطلع النبى رأيه حين دارت الشائعات فى أرجاء المدينة كان رده حسبما تحكى لنا الروايات أن النساء كثير. صحيح أنه رضى الله عنه لم يلوث لسانه بقالة سوء فى سيدة كريمة لم يلحظ عليها أية ريبة، إلا أنه لم يراع مدى وقع الكلمة على نفسها، إذ كان كل همه إراحة الرسول من القلق الذى كان يعانيه، فظن أن الرسول إن نفض يده منها واقترن بغيرها فقد أراح نفسه.

فعلماء الشيعة يحولون قصة الإفك من فضل يزين عرضها وكرامتها إلى منقصة تنال منها، إذ زعموا أن الآيات المذكورة إنما نزلت لإدانة عائشة بسبب اتهامها لمارية القبطية أم إبراهيم ابن رسول الله فى سمعتها وسلوكها. ولْنقرأ ما كتبه القمى فى تفسير قوله تعالى: "إِنَّ ?لَّذِينَ جَآءُوا بِ?لإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ لاَ تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ ?مْرِىءٍ مِّنْهُمْ مَّا ?كْتَسَبَ مِنَ ?لإِثْمِ وَ?لَّذِي تَوَلَّى? كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ". قال: "أما قوله: {إن الذين جاؤا بالإفك عصبةٌ منكم لا تحسبوه شرًّا لكم بل هو خير لكم} فإن العامة رَوَوْا أنها نزلت في عائشة وما رُمِيَتْ به في غزوة بني المصطلق من خزاعة.

وأما الخاصة فإنهم رَوَوْا أنها نزلت في مارية القبطية وما رمتها به عائشة‌ والمنافقات. حدثنا محمد بن جعفر قال: حدثنا محمد بن عيسى عن الحسن بن علي بن فضال قال: حدثنا عبد الله بن بكير عن زرارة، قال: سمعت أبا جعفر عليهما السلام يقول: لما مات إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وآله حزن عليه حزنا شديدا، فقالت عائشة: ما الذي يحزنك عليه؟ فما هو إلا ابن جُرَيْج. فبعث رسول الله صلى الله عليه وآله عليًّا وأمره بقتله، فذهب علي عليه السلام إليه ومعه السيف. وكان جريج القبطي في حائط، وضرب عليّ عليه السلام باب البستان، فأقبل إليه جريج ليفتح له الباب. فلما رأى عليا عليه السلام عرف في وجهه الغضب فأدبر راجعا ولم يفتح الباب. فوثب علي عليه السلام على الحائط ونزل إلى البستان واتبعه وولى جريج مدبرا.

فلما خشي أن يرهقه صعد في نخلة، وصعد علي عليه السلام في أثره. فلما دنا منه رمى بنفسه من فوق النخلة فبدت عورته، فإذا ليس له ما للرجال ولا ما للنساء. فانصرف علي عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وآله فقال: يا رسول الله، إذا بعثتني في الأمر أكون فيه كالمسمار المحمى في الوبر أم أتثبت؟ قال: فقال: لا بل تتثبت. فقال: والذي بعثك بالحق ما له ما للرجال ولا ما للنساء. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: الحمد لله الذى يصرف عنا السوء أهل البيت".


وبادئ ذى بدء نلفت النظر إلى كلمتى "العامة" و"الخاصة" فى النص السابق: فالعامة هم أهل السنة، والخاصة هم المتشيعون. ومغزى إطلاقهما واضح لا يحتاج منى إلى أى شرح، فهما تتكلمان من تلقاء نفسيهما. كذلك نلفت النظر إلى وضع الكاتب لعائشة مع المنافقات فى خانة واحدة واتهامهن جميعا بنفس الجرم، ألا وهو قذف مارية فى عرضها. وثالثا لا أتصور أبدا النبى يخرج على مبدإ التثبت قبل إيقاع العقوبة بالمتهم، فلعله برىء، إذ تقول الرواية إنه عليه السلام ما إن سمع التهمة من ضَرّة فى ضَرّتها حتى بادر بإرسال علىّ لقتل جريج دون أن يكلف نفسه أن يسألها ولو عن مصدر الخبر. ورابعا كيف يأمر بقتل جريج ويترك شريكته فى الإثم ما دام قد صدّق أن الأمر وقع كما قالت عائشة فيما نُسِب لها زورا وبهتانا؟ ولقد كان النبى يتريث أشد التريث فى مسائل الزنا وعقوبته حتى إنه إذا أتاه شخص وأقرّ من تلقاء نفسه بمواقعة تلك الفاحشة كان يراجعه مرارا ويفتح له الباب بعد الباب لعله يرجع ويتوب ولا يعود لذلك أبدا.

بل إنه كان يستحب الستر فى تلك الأمور ولا يرتاح لمن يأتيه شاهدا على أحد بالزنا قائلا له: لو سترتهما بثوبك لكان أفضل. فكيف يسارع هنا إذن إلى الأمر بتوقيع العقوبة على متهم دون أن يتثبت من التهمة المنسوبة له، بل دون أن يعطيه الفرصة للدفاع عن نفسه؟ ثم إن موقفه من اتهام عائشة فى عِرْضها قد اختلف عن ذلك اختلافا تاما، فلم يسارع بعقابها رغم أن الشائعات التى تلوك سيرتها كانت تتطاير فى أرجاء المدينة. كذلك كيف نسى ملفقو القصة أن عائشة وأباها متَّهمان عند رسول الله حسبما يفترون عليهما، لعن الله كل كذاب أشر؟ فكيف صدّق الرسول عليه الصلاة والسلام بهذه البساطة امرأة يزعم الشيعة أنها منافقة بنت منافق؟ أعوذ بالله، وأستلعنه من يتقول على أم المؤمنين الأقاويل. كذلك كيف يرمى جريج نفسه من فوق النخلة دون أن تنكسر أضلاعه؟ بل كيف يفكر فى الرمى بنفسه من فوقها أصلا ويقدم على ذلك الخطر الفظيع؟ وأغرب من هذا أن تمر الرواية على حادثة السقوط من فوق النخلة دون أن تعلق بكلمة واحدة على ما حدث له من جرائه!

يتبع