مراتب التعديل
الكاتب: د./ عبد المهدي بن عبد القادر بن عبد الهادي
لما كانت درجات الرواة في العدالة والضبط متفاوتة ، استعمل الأئمة ألفاظا تدل على ذلك ، وها أنذا أذكر لك مراتب التعديل(1) قد رتبتها من الأعلى إلى الأدنى ، والله المستعان :
المرتبة الأولى :
ما كان بصيغة " أفعل" من ألفاظ التعديل العليا : ( أوثق الناس ، أثبت الناس ، أتقن من أدركت ) ، ويلتحق بها : ( إليه المنتهى في التثبت) ، ويحتمل أن يلتحق بها : ( لا أعرف له نظيرا في الدنيا ).
المرتبة الثانية :
ما يفيد اشتهار الراوي بالعدالة والرضا : ( فلان يسأل عن مثله ، مثلي يسأل عن فلان ؟ ! ، مثل فلان يسأل عنه ؟ ! ، فلان يسأل عن الناس).
المرتبة الثالثة :
تكرار لفظ التوثيق الذي هو من ألفاظ التعديل العليا : (ثقة ثبت ، ثقة متقن ، ثبت حجة ، ثبت حافظ ، ثقة ثقة ، ثبت ثبت ) ، ونحو ذلك إذ التأكيد الحاصل بالتكرار فيه زيادة على الكلام الخالي منه ، وعليه فما زاد على مرتين فهو أعلى منها ، وهكذا . ويلتحق بذلك : ( عدل ضابط ، عدل متقن ، عدل حافظ ) .
المرتبة الرابعة :
ما كان بلفظ من ألفاظ التعديل العليا : ( ثقة ، ثبت ، متقن ، حجة ) ، وكذا إذا قيل في العدل : ( حافظ ، ضابط ) (2).
المرتبة الخامسة :
( ليس به بأس ، لا بأس به ، صدوق (3) ، مأمون ، خيار ، خيار الخلق ).
المرتبة السادسة :
( محله الصدق ، رووا عنه ، روى الناس عنه ، يروي عنه ، إلى الصدق ما هو (4) ، شيخ وسط ، وسط ، شيخ ، صالح الحديث ، يعتبر به ( أي في المتابعات والشواهد ) ، يكتب حديثه ، مقارب الحديث (5) ، جيد الحديث ، حسن الحديث ، مقارب الحديث (6) ، ما أقرب حديثه ، صويلح ، صدوق إن شاء الله ، أرجوا أنه لا بأس به ، ما أعلم به بأسا ) .
ويمكن تقسيم المرتبة السادسة إلى أكثر من واحدة ، ولعل العراقي قد فعل ذلك ، فإنه بعد ذكر اللفظين الأخيرين ( أرجو أنه لا بأس به ) ، و( ما أعلم به بأسا) قال : ( والأولى أرفع ؛ لأنه لا يلزم من عدم حصول العلم حصول الرجاء بذلك).
أما الإمام النووي فصريح كلامه أنها مرتبتان ، والسيوطي معه في هذا ، فإن الإمام النووي في تقريبه جعل ( شيخ ) مرتبة ، وذكر السيوطي ـ نقلا عن العراقي ـ معها ( محله الصدق ) ، و ( إلى الصدق ما هو ، شيخ وسط ، جيد الحديث ، حسن الحديث ) ، ونقلا عن ابن حجر : ( صدوق سيئ الحفظ ، صدوق يهم ، صدوق له أوهام ، صدوق تغير بآخره ) ، ثم قال : ويلحق بذلك من رمى بنوع بدعة كالتشيع ، والقدر ، والنصب ، والإرجاء ، والتجهم .
وجعل ـ أي النووي في تقريبه ـ ( صالح الحديث ) مرتبة وذكر السيوطي معها نقلا عن العراقي : ( صدوق إن شاء الله ، أرجو أن لا بأس به ، صويلح ) ، ونقلا عن ابن حجر : ( مقبول) .
قلت : فعلى كلام العراقي والنووي يمكن جعل هذه المرتبة ثلاث مراتب ، الأولى والثانية من كلام النووي ، والثالثة هي : ( ما أعلم به بأسا ) التي هي أنزل شئ عند العراقي ، إلا أن هذا الخلاف من جعلها مرتبة أو مرتبتين أو ثلاث مراتب غير مؤثر ، فيمكن جعل كل كلمة منها مرتبة تلي سابقتها في الدرجة ، ويمكن جعل هذه الكلمات كلها تحت مرتبة واحدة ، وهي في نفسها مرتبة ، وقد رتبتها لك في ضوء كلام الأئمة من الأعلى إلى الأدنى جهد الطاقة ، وفق الله وسدد.
قال السخاوي : ( والضابط لأدنى مراتب التعديل ؛ كل ما أشعر بالقرب من أسهل التجريح ).
وهذا الترتيب جرى عليه جمهور أهل الحديث(7)
وهناك من خالفه منهم مخالفة يسيرة ؛ كابن معين ، ودحيم ، وابن مهدي ، فيجب التنبيه هنا لشيئ ، ألا وهو :
إن هذه المراتب إنما هي لجمهور أئمة الجرح والتعديل ، وهي التي استقر عليها الاصطلاح ، وهذا لا يمنع أن يكون لإمام آخر مصطلح يختلف عن هذا المنهج العام ، فيجب مراعاة مصطلح كل إمام حينما نترجم لأحد الرواة .
فمثلاً حينما نترجم لراو فنجد فيه كلاما لأبي حاتم الرازي ، فإنه يجب هنا أن نعرف مصطلحه الذي يسير عليه ، فإن كان مع الجمهور كما هنا ، عرفنا رتبة الراوي بسهولة ، أما إذا كان له مصطلحات أخرى ، فيجب أن يفهم كلامه في ضوئها ، وهذا مما عز في زماننا .
وإليك مصطلحات لبعض الأئمة ، ممن خالف اصطلاح الجمهور : ـ
1ـ يحيى بن معين :
فظاهر كلامه يقتضي التسوية بين (ثقة ) ـ التي هي من المرتبة الرابعة ـ وبين ( ليس به بأس ) ـ التي هي من المرتبة الخامسة .
قال أبو خيثمة : قلت ليحيى بن معين : إنك تقول : ( فلان ليس به بأس ) ، و ( فلان ضعيف ) ؟ قال : إذا قلت لك : ( ليس به بأس ) فهو ثقة ، وإذا قلت لك : ( هو ضعيف ) فليس هو بثقة لا تكتب حديثه .
2ـ عبد الرحمن بن إبراهيم دحيم :
فلقد نقل عنه أيضا توثيق من قال فيه : ( لا بأس به ) مع الفارق في الرتبة بين : ( ثقة ) و ( لا بأس به ) ، قال أبو زرعة الدمشقي : قلت لعبد الرحمن بن إبراهيم دحيم : ما تقول في علي بن حوشب الفزاري ؟ قال : ( لا بأس به ) ، قال : فقلت : ولم لا تقول : ( ثقة ) ، ولا نعلم إلا خيرا ؟ قال : قد قلت لك إنه ثقة .
ولقد أجاب العلماء عما قالاه ـ ابن معين ودحيم ـ بجوابين كما يفهم من كلام مجموعهم :
الأول : إن أحدا منهما لم يقل إن قولي ( ليس به بأس ) كقولي ( ثقة ) حتى يلزم منه التساوي بين اللفظين ، وإنما قال : إن من قال فيه لا بأس به فهو ثقة ، وللثقة مراتب ، فالتعبير عنه بقولهم ثقة أرفع من التعبير عنه بأنه لا بأس به ، وإن اشتركا في مطلق الثقة .
قلت : فكأنه يفيد أن ( لا بأس به ) التي هي من المرتبة الرابعة تفيد التوثيق ، وهذا متفق عليه كما سيأتي إن شاء الله تعالى .
الثاني : إن هذا رأي لهما فقط ، ومن ثم نجد نسبة هذا القول إليهما ظاهرة ، فابن معين يقول : ( إذا قلت لك ليس به بأس فهو ثقة ) ، أي أن هذا رأيه هو ، ولو كان رأيا عامًّا ، لقال : إن ( ليس به بأس ) كـ ( ثقة ) ، أو ما شابه ذلك ، مما يفيد كونه رأيا عاما كتعبير ابن مهدي وابن حنبل حينما كانا يرويان رأيا عاما فقد قال ابن مهدي : حدثنا خلدة ، فقيل له : أكان ثقة ؟ فقال : كان صدوقًا ، وكان مأمونًا ، وكان خيِّرًا ( وفي رواية خيارًا ) الثقة : شعبة وسفيان ، وابن حنبل . سئل : عبــــــد الوهاب بن عطاء ثقة ؟ قال : تدري ما الثقة ؟ إنما الثقة يحيى بن سعيد القطان . فهذا القول من عبد الرحمن بن مهدي ومن أحمد بن حنبل دليل على أن (ثقة) أرفع ، وأن هذا رأى الجمهور.
3- عبد الرحمن بن مهدي :
فلقد قيل إنه يسوي بين ( صدوق) والتي هي من المرتبة الخامسة ، وبين "صالح الحديث" ، وهي من المرتبة السادسة ، بدليل ما روى عن أبي جعفر أحمد ابن سنان ، قال : كان عبد الرحمن بن مهدي ربما جرى ذكر حديث الرجل فيه ضعف ، وهو رجل صدوق فيقول : رجل صالح الحديث . ولقد حمل الأئمة هذا منه على أنه يخالف الجمهور في هاتين اللفظتين .
وأرى والله أعلم أن هذه ليست مخالفة للجمهور في مراتب التعديل ، إنما هي مخالفة لمن حكم على الرجل ، فحكم بعضهم بأنه صدوق ، وحكم ابن مهدي بأنه صالح الحديث ، وسيأتي ـ إن شاء الله ـ مزيد بيان لذلك ، وعلى كل فغاية ما فيه أن يكون هذا اصطلاحا خاصا بابن مهدي ، والله أعلم .
حكم هذه المراتب : ـ
وإذا كنت قد بينت لك ألفاظ التعديل ، وأنها مراتب بعضها أعلى من بعض ، وقسمتها لك إلى ست مراتب ، وبينت أنه يمكن تقسيمها إلى أكثر من ذلك فإنه يبقى أن أذكر حكم هذه المراتب من حيث الاحتجاج بأحاديث أهلها فأقول وبالله التوفيق :
أما المراتب من الأولى إلى الرابعة : فإنه يحتج بحديث أهلها ، إذ هم جميعا يشتركون في أنهم ثقات ، وقد تقول إذا كانوا جميعا ثقات ، فهلا كانت هذه المراتب مرتبة واحدة ؟ ! والجواب: إن حكمة التقسيم الترجيح عن التعارض ، فإذا اختلف ألفاظ روايتي حديث واحد ؛ إحداهما عن أوثق الناس ، والأخرى عن ثقة ، رجحت التي عن أوثق الناس ؛ إذ هو أعلى في عدالته وضبطه عن الثقة .
وحديث أهل هذه المرتب حديث صحيح ، منه ما هو صحيح ، ومنه ما هو أصح.
وحديث الصحيحين من هذه المراتب.
أما المرتبة الخامسة : فحديث أهلها يحتج به (8) ، ومرتبته تلي مرتبة حديث الثقة ، وحديث أهلها "حسن" ، إنها مرتبة تشعر بالصدق ، وسلامة الدين ، لكنها لا تشعر بتمام الضبط ، ومن ثم نزلت عن رتبة تمام الضبط ( ثقة ) ، فحديث أهلها "حسن" .
وأحاديث أهل هذه المرتبة كثير في كتب السنن : سنن أبي داود ، وسن الترمذي ، وسنن النسائي ، وسنن ابن ماجه ، وسنن البيهقي وغيرها .
أما المرتبة السادسة : فحديث أهلها ضعيف يعتبر به ، بمعنى أنه يبحث له عن مقو يقويه ، من آية قرآنية ، أو حديث آخر ، أو قول صحابي . . . إلخ ، فإذا وجدنا له مقويا ارتفع عن رتبة الضعف إلى الحسن لغيره ، أما إذا لم نجد له مقويا فإنه يستفاد به في غير العقائد والأحكام ، فيؤخذ به في الفضائل ، والترغيب والترهيب ، والزهد ، والآداب ، وحديث أهل هذه المراتب كثير في المصنفات ، والمعاجم ، والأجزاء.
..................................
المراجع والحواشي السفلية
1- الأولى أن يقال : " مراتب التوثيق " ؛ لأن هذه المراتب مراعى فيها العدالة والضبط ، ووجه جواز " مراتب التعديل " ، أن التعديل عند المحدثين يشمل العدالة والضبط ، وإنما استعملت غير الأولى مراعاة لما سار عليه الأئمة في كتبهم مع التنبيه على الأولى .
2- وإنما كانت " ضابط " مع أنها لعدل أقل من "عدل ضابط " ؛ لأن الثانية صرح الإمام فيها بالأمرين معا ، فكانت أعلى من التي لم يصرح فيها .
3- وصف بالصدق على طريق المبالغة ، ولذا كانت أعلى من " محله الصدق".
4- ليس بعيدا عن الصدق .
5- بكسر الراء ، أي : حديثه مقارب لحديث غيره من الثقات ؛ أي هو وسط .
6- بفتح الراء ، أي : حديثه تقارب حديث غيره ؛ أي هو وسط .
7- يستثنى من ذلك الخلاف في التقسيم ، ولقد سرت على نهج السخاوي في التقسيم ، أما الحافظ ابن حجر والسيوطي وغيرهما ، فأدخلوا المرتبة الثانية هنا في الأولى ، وجعلوا السادسة هنا مرتبتين خامسة وسادسة ، والخامسة من أول : "محله الصدق" ، إلى : " شيخ" ، والسادسة من : "صالح الحديث" ، إلى النهاية . راجع تدريب الراوي 1/342 ، وفتح المغيث للسخاوي 1/336 ، وراجع الرفع والتكميل في عدة مواطن .
8- قد تجد في بعض الكتب أن حديث أهل هذه المرتبة ضعيف ؛ لفقد شريطة الضبط ، وربما شجع القائلين بذلك ما روى عن ابن أبي حاتم الرازي من قوله : ومنهم ـ أي الرواة ـ الصدوق الورع ، المغفل الغالب عليه ، الوهم والخطأ ، والغلط والسهو ، فهذا يكتب من حديثه الترغيب والترهيب ، والزهد ، والأداب ، ولا يحتج بحديثه في الحلال والحرام اهـ كلامه ، وليس الأمر كذلك كذلك ؛ فكلام ابن أبي حاتم هذا ينطبق على الطبقات التالية لذلك ، أما الطبقة التي معنا فهي التي قال فيها ابن أبي حاتم : ومنهم ـ أي الرواة ـ الصدوق الورع ، الثبت الذي يهم أحيانا ، وقد قبله الجهابذة النقاد ، فهذا يحتج بحديثه . راجع الجرح (1/10) ، والواقع يؤيد ذلك ، فإن الثقة حديثه صحيح ، أما من نزل عن رتبة الثقة قليلا ـ وهم أهل هذه المرتبة ـ فيتعين أن يكون حديثهم حسنا ، وإلا انقسم الحديث إلى صحيح وضعيف .
=======================
من كتاب : علم الجرح والتعدبل ( قواعده وأئمته )
http://www.startimes.com/f.aspx?t=30130080
========