عرض مشاركة واحدة
قديم 16-09-11, 02:55 AM   رقم المشاركة : 2
جاسمكو
عضو ماسي






جاسمكو غير متصل

جاسمكو is on a distinguished road



وقبل ذلك كله كيف يريدنا هؤلاء أن نتجاهل قصة الإفك الحقيقية التى تورط فيها حسان ومِسْطَح بن أُثَاثة وحَمْنَة بنت جحش وابن أبى سلول وغيرهم وما يتصل بذلك من قصص معروفة فى كتب الحديث والسيرة والتاريخ؟ ليس أمامنا إلا أحد أمرين: إما أن عائشة لم تُتَّهَم أصلا، ومن فالسؤال هو: من يا ترى هو صاحب قصة الإفك الأخرى التى اتُّهِمَتْ فيها عائشة؟ ليس أمامنا فى هذه الحالة إلا أن نقول إنه فريق يبجّل عائشة ويريد أن يقول إن الله برأها من فوق سبع سماوات كى يكون ذلك شرفا لها. لكن هل يعقل أن يقدم من يبجّلون عائشة على رميها أولا فى عرضها حتى يتسنى لهم الزعم بأن السماء قد برأتها؟ ذلك أمر لا يدخل العقل. وإما أن عائشة قد اتُّهِمَتْ فعلا فى عرضها. فهل يعقل، والأمر هذا، أن يتجاهل القرآن المسألة وكأنها لم تقع فلا يتكلم عنها بوصفها موضوعا غير ذى شأن؟ ذلك أيضا أمر لا يمكن أن يتقبله العقل.

كما أننا حين ننظر فى آيات سورة "النور" الخاصة بقضية الإفك نرى أن الكلام من أوله إلى آخره إنما يستخدم ضمير جماعة الذكور بما يدل على أن المتهِمين هم رجال أو خليط من رجال ونساء على الأقل، لا جماعة من النساء فقط هن عائشة والمنافقات كما تزعم الرواية الآثمة. وفوق ذلك فالقرآن يشير إلى "زعيمٍ" رجلٍ لا إلى "زعيمةٍ" امرأةٍ لتلك الفرية: "والذى تَوَلَّى كِبْرَه منهم له عذابٌ أليم". ثم لقد أرسى القرآن الحكم الشرعى فى تلك الظروف، وهو الإتيان بأربعة شهداء، فكيف تجاهل النبى هذا كله وبعث عليًّا فى الحال ومعه السيف كى يقتل جريج دون توفر أربعة شهود؟
لهذا نجد رواية أخرى لتلك القصة عند القمى فى تفسير قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين} (الحجرات/ 6)، إذ أضاف الكلام التالى: "فأتى به رسول الله صلّى الله عليه وآله، فقال له: ما شأنك يا جريج؟ فقال: يا رسول الله، إنّ القبط يَجُبّون حشمهم ومن يدخل إلى أهاليهم، والقبطيون لا يأنسون الاّ بالقبطّيين.

فبعثني أبوها لأدخل اليها وأخدمها وأُونِسها". وهو كلام يدابر العقل، إذ معناه أن الرسول لم يكن يعرف كل تلك المدة لم جاء جريج مع مارية من مصر، وأن جريج كان يخدم مارية طوال الوقت ويدخل عليها ويخرج ويقضى لها مطالبها دون علم الرسول. ومعناه قبل ذلك أن القرآن يتهم رسول الله بأنه قد أقدم بجهالة على معاقبة جريج وكاد أن يصبح نادما على ما فعل لولا لطف الله الذى أراد أن يكشف حقيقة أمره وبراءته بوقوعه الدِّرَامِىّ من فوق النخلة. ثم إن الرواية تذكر أن أباها هو الذى أرسل جريج هذا فى رفقة ابنته، مع أننا نعرف أنها لم تكن فتاة حرة، بل جارية أرسلها المقوقس لا أبوها. فهذه ثغرة خطيرة فى الرواية تحطمها تحطيما. كما أن المقوقس لم يرسل مارية وحدها، بل أرسل سيرين أيضا، وهى التى أهداها الرسول لحسان بن ثابت،

فلماذا لم نسمع أن سيرين كان يصاحبها رجل مجبوب كجريج يقوم على شؤونها؟ كذلك هناك صعود جريج النخلة، وهو ليس حَلاًّ لأنه لا يستطيع أن يبقى فوقها إلى الأبد، وإن كان صعود علىٍّ كرم الله وجهه النخلة وراءه أبعث على الاستغراب والتعجب، إذ ما الداعى له، وجريج لا يمكن أن يطول مكثه هناك، بل لا بد أن ينزل، وبسرعة. على الأقل حين يقرص بطنه الجوع، أو يحتاج إلى النوم أو قضاء الحاجة.

كما أن صعوده النخلة يذكّرنا بما يفعله الشرير عادةً فى الأفلام، إذ يتسلق برجا أو سطح حجرة فوق أعلى المنزل أو صارية سفينة مثلا، مع أن أقل تفكير من جانبه كفيل بأن يباعد بينه وبين اللجوء إلى هذا الحل المضحك لأنه لا يمكنه البقاء هناك إلى آخر العمر. وعادة ما تكون نهايته فوق الموضع المرتفع الذى التجأ إليه نهاية مأساوية كما يعرف مشاهدو الأفلام والمسلسلات. ومع هذا كله فإن إصرار القمى على تلويث صحيفة عائشة يدفعه إلى المضى فى غَيّه والقول بأن الله إنما أراد أن يظهر براءة جريج على يد علىّ. أى أنه سبحانه قد دبّر اندفاع علىّ بالسيف يريد الإجهاز على جريج فى هوج ودون تبصر أو محاكمة بناء على تكليف رسول الله له بذلك لا لشىء إلا لكى يثبت براءة المصرى المسكين! وهو ما يعنى أن الأقدار قد جهزت عليًّا لتصحيح الخطإ الذى كاد أن يقع فيه النبى عليه السلام، أستغفر الله، وإن قال بعضهم إن الرسول كان يعرف براءة مارية منذ البداية وإنه إنما أمر عليًّا بقتله تظاهرا بذلك ليس إلا، كى يوقظ ضمير عائشة حين ترى رجلا بريئا يوشك أن يُقْتَل ظلمًا وافتراءً.


أى أنهم يريدوننا أن نصدق هذا التوجيه السخيف الذى يقول إن النبى قد أقدم على ترويع جريج المسكين على هذا النحو الشنيع الذى كان يمكن أن ينتهى نهاية مأساوية فتَزْهَق روح الرجل جَرّاء سقوطه من فوق النخلة لا لشىء سوى إيقاظ ضمير عائشة، وهو ما يذكرنا بالمثل الشعبى القائل: جاء يكحّلها فأعماها! وهكذا يتخبط بعض علماء الشيعة لمجرد الرغبة الأثيمة لتشويه أخلاق عائشة ورميها بالفسق طبقا لحكم الآية، أستغفر الله. كذلك فالآيات تتحدث عن شائعات تجوب أنحاء المدينة من لسان إلى لسان، على حين أن روايتنا هذه لا تتحدث إلا عن عائشة وحدها، وإن ذُكِرَتِ "المنافقات" على سبيل "بَرْو العتب" كما نقول فى مصر ليس إلا، وإلا فلماذا لم تظهر فى الصورة أولئك المنافقات اللائى لا أحسب القمى وأضرابه إلا يقصدون بهن بعض زوجات رسول الله الأخريات، وبالذات حفصة كراهيةً منهم للفاروق رضى الله عنه؟


ثم ما موقع الآية التالية من الإعراب فى جملتنا هنا: "وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ" (النور/ 22)؟ إنها، فيما نعرف جميعا، إنما نزلت لتحضّ أبا بكر على الاستمرار فى معاونة بعض أقربائه الفقراء الذين اشتركوا فى نشر الإشاعات ضد ابنته الكريمة الطاهرة العفيفة والذين أقسم فى حُمُوّ غضبه أن يتوقف عن الإنفاق عليهم. أما على رواية "الخاصّة" فكيف نفهمها؟ لقد أورد القمى فى تفسيره لها ما يلى: "في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام في قوله: {ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى}، وهى قرابة رسول الله صلى الله عليه وآله، {والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا}، يقول: يعفو بعضكم عن بعض ويصفح، فإذا فعلتم كانت رحمة من الله لكم. يقول الله: {ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم}؟".


وهو تكلف بل تنطع، فإن القرآن لا ينزل بتحنين القلوب على قرابة رسول الله، وكأنهم جماعة من الشحاذين، مع أنهم لا تجوز عليهم ولا لهم الصدقات أصلا. كما أن أمر القرآن بالعفو والصفح عن آل رسول الله ليس له من معنى إلا أنهم مشاغبون مستفزون للآخرين وأن على المسلمين الإغضاء والتجاوز عن هذا الشغب والاستفزاز. ترى هل يصح مثل هذا التفسير؟ لكن المفسر الشيعى يمزق الآية كما نرى كى يسلم له ما يريد، وهيهات! وأخيرا وليس آخرا فإن الآية الأخيرة فى آيات الإفك تقول بصريح العبارة: "الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ"، وهو ما لم يلتفت المدلسون المفترون إلى أنه ثناء على عائشة وكل زوجات الرسول، إذ تنفى الآية الكريمة أن تكون أى من أمهات المؤمنين خبيثة من الخبيثات، وتؤكد على العكس من ذلك أنهن طيبات طاهرات لأنهن زوجات الرسول الطيب الطاهر.


هذا، ولم يورد الطوسى فى تفسير الآية إلا أنها فى تبرئة عائشة، وإن أورد الكلام مختصرا، ومن بين ما قاله أن "الآية دالة على كذب من قذف عائشة وأفك عليها. فأما في غيرها إذا رماها الانسان فإنا لا نقطع على كذبه عند الله، وإن أقمنا عليه الحد، وقلنا: هو كاذب فى الظاهر، لأنه يجوز أن يكون صادقًا عند الله. وهو قول الجبائي". أما الطبرسى، وهو مِثْلَ الطوسى لم يورد إلا الرواية التى نعرفها، فقد فصّل القول فيها تفصيلا وأتى بالقصة كلها كما هى فى كتب السيرة والأحاديث، ولم يتطرق إلى ذكر سبب النزول الشيعى المزعوم الذى يحول هذه المكرمة إلى مذمة فى حق السيدة عائشة فيتهمها بالنفاق ويعيبها بالعمل على تمزيق الأعراض الطاهرة النظيفة!

وأما الجنابذى فقد ذكر أولا سبب النزول المعروف لنا باختصار قائلا: "قد نُقِل فى تفاسير الخاصّة والعامّة أنّ الآيات نزلت فى عائشة"، إلا أنه قد أورد عقب ذلك أيضا قصة اتهام مارية القبطية رضى الله عنها مع قوله إن هذا ما ترويه الخاصة. وواضح من كلامه مدى الارتباك عندهم فى هذه الآيات واضطرابهم ما بين قول الحقيقة ورغبة بعض مفسريهم فى عدم ترك الفرصة دون الإساءة إلى الصِّدّيقة بنت الصِّدّيق! وينقل الكاشانى الروايتين جميعا سائرا على خطا القمى مع التركيز على كل ما يسىء إلى بنت الصديق! ويبقى الطباطبائى، الذى يورد الروايتين جميعا ويناقشهما بالتفصيل موازنا بينهما مستشكلا على ما يراه باعثا على الاستشكال فى كل منهما، وإنْ فُهِم من كلامه فى النهاية أنه مع رواية عائشة للقصة، تلك الرواية التى تقول إن بعض المنافقين وبعض المسلمين الذين انخدعوا بهم قد ولغوا فى عرضها رضى الله عنها، إلا أنه لم يكن حاسم الوضوح تماما فى موقفه.


وفى تفسير قوله عز شأنه للآية الثالثة والثلاثين من سورة "الأحزاب": "وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ ?لْجَاهِلِيَّةِ ?لأُولَى? وَأَقِمْنَ ?لصَّلاَةَ وَآتِينَ ?لزَّكَـاةَ وَأَطِعْنَ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ ?للَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُـمُ ?لرِّجْسَ أَهْلَ ?لْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيـرًا" يقول القمى: "وفي رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام في قوله: {إنما يريد الله ليُذْهِبَ عنكم الرِّجْسَ أهل البيت ويُطَهِّرَكم تطهيرًا}، قال: نزلت هذه الآية في رسول الله صلى الله عليه وآله وعلي بن أبي طالب وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام، وذلك في بيت أم سلمة زوجة النبي صلى الله عليه وآله، فدعا رسول الله صلى الله عليه وآله عليًّا وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام ثم ألبسهم كساء‌ً خيبريًّا، ودخل معهم فيه ثم قال: "اللهم، هؤلاء أهل بيتي الذين وعدتني فيهم ما وعدتني. اللهم أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا". نزلت هذه الآية فقالت أم سلمة: وأنا معهم يا رسول الله؟ قال: أبشري يا أم سلمة. إنك إلى خير.

وقال أبو الجارود: قال زيد بن علي بن الحسين عليه السلام: إن جهالا من الناس يزعمون أنما أراد بهذه الآية أزواج النبي، وقد كذبوا وأثموا. لو عَنَى بها أزواجَ النبي لقال: "ليُذْهِب عنكن الرجس ويطهركن تطهيرا"، ولكان الكلام مؤنثا كما قال: "واذكرن ما يُتْلَى في بيوتكن، ولا تبرَّجْن، ولستنّ كأحد من النساء". وقال علي بن ابراهيم: ثم انقطعت مخاطبة نساء النبي، وخاطب أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله فقال: {إنما يريد الله ليُذْهِب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرًا}".


وتفسير الآية على هذا النحو هو استمرار لموقف الشيعة، فهم لا يريدون لأحد من بيت رسول الله أن يحظى بأى شرف أو خير إلا إذا كان من طرف فاطمة رضى الله عنها حتى إنهم ليُدْخِلون عليًّا ختن رسول الله وسبطيه فى مفهوم "أهل البيت" ويخرجون زوجاته صلى الله عليه وسلم مع أن "الأهل" بالنسبة إلى الرجل إنما يراد بهم أول ما يراد زوجه أو زوجاته كما هو الاستعمال القرآنى والنبوى. إننا نحب فاطمة وابنيها وزوجها حُبًّا جَمًّا، بيد أننا نؤمن فى ذات الوقت أن شرف الانتساب إلى أهل البيت هو من حق زوجات الرسول أيضا، وأن هذا لا يضر فاطمة وأسرتها الصغيرة ولا يزعجهم فى شىء، وبخاصة أن أهل الرجل، كما قلنا، إنما هن زوجاته فى المقام الأول. ثم إن سياق الآيات إنما هو سياق الحديث عن نسائه صلى الله عليه وسلم، ولا ذكر فيه على الإطلاق لعلى أو فاطمة أو ابنيهما.

ولهذا نرى علماء الشيعة يقولون إن الكلام عن نساء النبى قد انقطع وابتدأ كلام آخر عن فاطمة وأسرتها، ثم عاد الكلام مرة أخرى إلى النساء فى قوله سبحانه عقب ذلك: "واذكرن ما يُتْلَى فى بيوتكن من آيات الله والحكمة...". وهو تكلف لا معنى له أبدا وتمزيقٌ أَرْعَنُ لنسيج الآيات، وبخاصة أن الآية الكريمة لا يمكن أن تكون قد نزلت أولا دون عبارة "إنما يريد الله ليُذْهِب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرًا"، وإلا كان معنى هذا أن الآية نزلت وظلت غير مكتملة وعارية عن الفاصلة فترة من الوقت، وهو غريب.

أما القول المنسوب إلى زيد بن على رضوان الله عليه بأنه لو كان المقصود زوجات النبى لقالت الآية: إنما يريد الله ليذهب عنكن الرجس أهل البيت..." فليس بشىء، ولا أظنه قاله، فقد أوضحنا أن "الأهل" ليسوا زوجات الرجل فقط، بل لهن فقط المقام الأول. وإذا كان علىٌّ ذاته حين سئل عن سلمان، حسبما يُرْوَى عنه، قد قال: "هو منا أهل البيت"، وفى رواية أخرى: "إنه رجل منا أهل البيت"، وفى رواية ثالثة: "ذاك أميرٌ منا أهل البيت"، مدخلا بذلك هذا الفارسى، الذى لم يكن بينه وبين الرسول أو أى أحد من أسرة الرسول صلة، ضمن "أهل البيت"، أيضيق نطاق "أهل البيت" عن أن يستوعب عائشة وحفصة وسائر زوجات النبى، وأغلبتيهن الساحقة من العرب؟

وأخيرا إلى القارئ هذا الدليل الحاسم الذى لا يمكن أى متنطع المماراة فيه، ألا وهو قوله تعالى على لسان الملائكة خِطَابًا لسارة زوجة الخليل إبراهيم عليه السلام حين تعجبت من بشارتهم لها بأنها ستحمل وتلد رغم كبر سنها: "قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ" (هود/ 73). فها هم أولاء الملائكة يتحدثون إلى سارة زوجة إبراهيم على أنها "أهل البيت" الإبراهيمى، أو على الأقل: فرد من أفراده. فما القول فى هذا؟ لا أظن أن هناك عاقلا ولا حتى مجنونا يمكن أن يجادل فى أن معنى الآية الكريمة هو ما قلناه!


ولقد سبق أن حذّر القرآن نساء النبى فى الآيتين السابقتين ألا يخضعن بالقول حتى لا يطمع الذين فى قلوبهم مرض وأن يلزمن بيوتهن ولا يتبرجن تبرج الجاهلية الأولى وأن يُقِمْن الصلاة ويُؤْتِين الزكاة ويُطِعْن الله ورسوله تمام الطاعة. ومن قبل قال لهن سبحانه وتعالى إنه من يأت منهن بفاحشة مبينة يضاعَفْ لها العذاب ضعفين، ومن يَقْنُت منهن لله ورسوله يؤتها الله أجرها مرتين. وعلى هذا لا يمكن أن يُفْهَم قوله سبحانه عقب ذلك: "إنما يريد الله ليُذْهِب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا" إلا بمعنى أن هذا الحساب المخصوص لَكُنّ عنده سبحانه وتلك الأوامر والنواهى منه إليكن إنما يراد بها إذهاب الرجس عنكن وتطهيركن تطهيرا مع سائر بيت الرسول. هذا هو وجه الكلام لغةً وعقلاً وذوقًا، أما سوى ذلك فلا.

ولو كان القرآن قد استعمل فى هذه الآية عبارة "يا نساء النبى" بدلا من "أَهْلَ البيت" لكان قد أنّثَ الكلام فقال: "إنما يريد الله ليُذْهِب عنكن الرِّجْس يا نساء النبى ويطهّركن تطهيرا"، لكنه إنما عنى "أهل البيت" كلهم بما فيهم النبى عليه السلام لا "نساءه" فقط، وهو ما لم يفطن له من اعترض بهذا الاعتراض.


أما تعقيب الطوسى على قول عكرمة إنها "في أزواج النبي خاصة" بأن "هذا غلط، لأنه لو كانت الآية فيهن خاصة لكنَّى عنهن بكناية المؤنث كما فعل في جميع ما تقدم من الآيات نحو قوله: {وقَرْنَ في بيوتكن ولا تَبَرَّجْنَ، وأطعن الله، وأقمن الصلاة وآتين الزكاة}، فذكر جميع ذلك بكناية المؤنث، فكان يجب أن يقول: "إنما يريد الله ليذهب عنكن الرجس أهل البيت ويطهركن"، فلما كنَّى بكناية المذكر دل على أن النساء لا مدخل لهن فيها"، أقول: أما تعقيب الطوسى هذا فهو حجة عليه لا له، لأن استعمال ضمير جماعة المذكرين فى الآية القرآنية كان ينبغى أن يُخْرِج فاطمة هى أيضا من "أهل البيت" طبقا لكلامه، مع أن السيدة الزهراء عند الشيعة هى المحور فى كل هذا. وبالمناسبة فإخراج زوجاته صلى الله عليه وسلم من "أهل البيت" هو موقف عام عند جميع المفسرين الشيعة الذين رجعت إليهم فى هذه الدراسة، ولست أظن إلا أنه هو موقف المفسرين الشيعة كلهم بلا استثناء.


ولأن التقية من مبادئ التشيع نرى علماءهم يحرصون على إبرازها فى تفاسيرهم كما هو الحال عند تناولهم لقوله جل شأنه فى الآية 28 من سورة آل عمران: "لا يَتَّخِذِ ?لْمُؤْمِنُونَ ?لْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ ?لْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذ?لِكَ فَلَيْسَ مِنَ ?للَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً..."، إذ يقول الكاشانى مثلا: "{إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً}: إلا أن تخافوا من جهتهم خوفًا وأمرًا يجب أن يُخَاف منه. وقُرِئ: "تَقِيَّة". منع عن موالاتهم ظاهرًا وباطنًا فى الأوقات كلها إلا وقت المخافة، فإن إظهار الموالاة حينئذ جائز بالمخالفة كما قيل: كن وسطًا، وامش جانبًا. ثم قال: وفى العياشى عن الصادق قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا إيمان لمن لا تقيّة له". ويقول: قال الله: {إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً}.


وفى "الكافى" عنه قال: التقية تُرْس الله بينه وبين خلقه. وعن الباقر قال: التقية فى كل شئ يُضْطَر إليه ابن آدم، وقد أحلّها الله له. والأخبار فى ذلك مما لا يحصى". وفى تفسير القمى أن "الآية رخصةٌ ظاهرُها خلافُ باطنها. يُدَان بظاهرها ولا يُدَان بباطنها إلا عند التقية"، وأن "التقية رخصة للمؤمن أن يراه الكافر فيصلي بصلاته ويصوم بصيامه إذا اتقاه في الظاهر. وفي الباطن يدين الله بخلاف ذلك". ولسنا بحاجة إلى كبير ذكاء كى نفهم مَنِ المقصود بالكافر هنا الذى ينبغى أن يداجيه الشيعى فيصلى ويصوم معه عند الاضطرار، لكنه فى باطنه لا ينوى مشاركته صلاته ولا صيامه لأنه لا يدين بدينه. وهل هناك "كافر" يشترك معه الشيعى فى الصلاة والصيام سوى أهل السنة؟

أما الطوسى فرأيه أنها رخصة عند خوف الضرر، وإن كان الفضل هو الإفصاح. وأما الطبرسى فيقسمها حسب درجة الضرورة: فيجعلها مرة واجبة، وأخرى جائزة، وثالثة يتساوى فيها فعلها وتركها، ورابعة يكون فعلها أفضل من تركها، وخامسة يكون العكس هو الصحيح.


وفى "الميزان" للطباطبائى أن "في الآية دلالة ظاهرة على الرخصة في التقية على ما رُوِيَ عن أئمة أهل البيت عليهم السلام. كما تدل عليه الآية النازلة في قصة عمّار وأبويه ياسر وسمية، وهي قوله تعالى: {مَنْ كَفَر بالله من بعد إيمانه إلاَّ من أُكْرِه وقلبه مطمئنٌّ بالإِيمان ولكنْ مَنْ شَرَحَ بالكفر صدرًا فعليهم غضبٌ من الله ولهم عذاب عظيم} (النحل/ 106). وبالجملة الكتاب والسنة متطابقان في جوازها في الجملة، والاعتبار العقلي يؤكده، إذ لا بُغْيَة للدين ولا هَمَّ لشارعه إلا ظهور الحق وحياته. وربما يترتب على التقيّة والمجاراة مع أعداء الدين ومخالفي الحق مِنْ حِفْظ مصلحة الدين وحياة الحق ما لا يترتب على تركها. وإنكار ذلك مكابرة وتعسف".

وبعد عدة فقرات يضيف قائلا: "وفي تفسير العياشي عن الصادق عليه السلام قال: كان رسول الله يقول: "لا دين لمن لا تقية له"... والأخبار في مشروعية التقية من طرق أئمة أهل البيت كثيرة جدا ربما بلغت حد التواتر. وقد عرفتَ دلالة الآية عليها دلالةً غير قابلة للدفع". ومن الجلى أن التقية تشغل من التشيع مساحة كبيرة لا نجدها عند أهل السنة أبدا، مع أن الآية القرآنية عند هؤلاء هى نفسها عند أولئك.

إلا أن كثرة كلام الشيعة فى هذا الأمر وبهذا التفصيل وانشغالهم بها كل ذاك الانشغال وإلحاحهم على أهميتها بهذا الأسلوب، كل ذلك يدل على مكانها الراسخ والمتأصل فى فكرهم بحيث إن السؤال التالى يثار دائما كلما قال عالم من علمائهم شيئا أو وقف موقفا لا ينسجم مع ما هو معروف من آراء جموعهم ومواقفهم: ترى أهو يتكلم بما فى قلبه أم يستعمل التقية؟ وبهذا أصبحت التقية مشكلة كبيرة ومعقدة، وخرجت عن أن تكون موقفا قد يلجأ إليه الشخص إذا كان هناك خوف على حياته أو على دينه أو وطنه مثلا، وأضحت مبدأ يدافع علماؤهم عنه بطريقة توحى بأنه قد بات هدفا فى حد ذاته، وكأننا أمام شبكة سرية من النشطاء السياسيين لا يعرف مَنْ بالخارج شيئا عنها يُطْمَأَنّ إليه، وهو ما يبعث على الارتياب فى كل شىء يأتونه أو يدعونه، إذ لا يعرف الشخص آنذاك أهذا أمر يفعلونه من قلبهم أم هى تقية يستترون وراءها! ومما يختلف فيه الشيعة أيضا عن السنة تجويزهم نكاح المتعة.

يقول الكاشانى مثلا فى الآية 24 من سورة "النساء": "{فَمَا ?سْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ}: مهورهن. سُمِّىَ: "أجرًا" لأنه فى مقابلة الاستمتاع. "فَرِيضَةًً": مصدر مؤكد. فى "الكافى" عن الصادق: وإنما أُنْزِلَتْ "فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فآتوهن أُجورهن فريضة". والعياشى عن الباقر أنه كان يقرؤها كذلك. وروته العامّة أيضا عن جماعة من الصحابة. {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِن بَعْدِ ?لْفَرِيضَةِ} من زيادة فى المهر أو الأجل أو نقصان فيهما أو غير ذلك مما لا يخالف الشرع. فى "الكافى" مقطوعًا والعياشى عن الباقر: لا بأس بأن تزيدها وتزيدك إذا انقطع الأجل فيما بينكما. تقول: "استحللتكِ بأجرٍ آخر" برضًا منها، ولا تحل لغيرك حتى تنقضى عِدَّتها، وعِدَّتها حيضتان. {إِنَّ ?للَّهَ كَانَ عَلِيمًا} بالمصالح، {حَكِيمًا} فيما شرع من الأحكام.


فى "الكافى" عن الصادق: المتعة نزل بها القرآن، وجَرَتْ بها السُّنَّة من رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله. وعن الباقر: كان علىّ يقول: لولا ما سبقنى به ابن الخطاب ما زنى إلا شَفًى" (بالفاء)، يعنى إلا قليل. أراد أنه لولا ما سبقنى به عمر من نهيه عن المتعة وتمكُّن نهيه من قلوب الناس لنَدَبْتُ الناس عليها ورغَّبتهم فيها، فاستغنَوْا بها عن الزنا، فما زنى منهم إلا قليل. وكان نهيه عنها تارة بقوله: متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا مُحرِّمهما ومُعاقِبٌ عليهما: مُتعة الحج، ومُتعة النساء. وأخرى بقوله: ثلاث كُنّ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا مُحَرِّمهن ومُعاقِبٌ عليهن: مُتعة الحج، ومُتعة النساء، و"حَىَّ على خير العمل" فى الأذان.


وفيه: جاء عبد الله بن عمر الليثى إلى أبى جعفر فقال له: ما تقول فى مُتْعة النساء؟ فقال: أحلَّها الله فى كتابه وعلى لسان نبيه، فهى حلال إلى يوم القيامة. فقال: يا أبا جعفر، مثلك يقول هذا وقد حرَّمها عمر ونهى عنها؟ فقال: وإن كان فعل. قال: فإنى أُعيذك بالله من ذلك أن تُحِلّ شيئًا حرَّمه عمر. فقال له: فأنت على قول صاحبك، وأنا على قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهلم أُلاعِنْك أن القول ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن الباطل ما قال صاحبك.


وقال: فأقبل عبد الله بن عمر فقال: أَيَسُرّك أن نساءك وبناتك وأخواتك وبنات عمك يفعلن ذلك؟ فأعرض عنه أبو جعفر حين ذكر نساءه وبنات عمه. وفيه: سأل أبو حنيفة أبا جعفر محمد بن النعمان صاحب الطاق فقال: يا أبا جعفر، ما تقول فى المتعة؟ أتزعم أنها حلال؟ قال: نعم. قال: فما يمنعك أن تأمر نساءك ليستمتعن ويكسبن عليك؟ فقال أبو جعفر: ليست كل الصناعات يُرْغَب فيها، وإن كانت حلالا. وللناس أقدار ومراتب يرفعون أقدارهم. ولكن ما تقول يا أبا حنيفة فى النبيذ؟ أتزعم أنه حلال؟ قال: نعم. قال: فما يمنعك أن تُقْعِد نساءك فى الحوانيت نَبّاذات فيكسبن عليك؟ فقال أبو حنيفة: واحدة بواحدة، وسهمك أنفذ. ثم قال: يا أبا جعفر، إن الآية التى فى "سأل سائل" تنطق بتحريم المتعة، والرواية عن النبى قد جاءت بنسخها.


فقال أبو جعفر: يا أبا حنيفة، إن سورة "سأل سائل" مكية، وآية المتعة مدنية، وروايتك شاذة رديّة. فقال أبو حنيفة: وآية الميراث أيضا تنطق بنسخ المتعة. فقال أبو جعفر: قد ثبت النكاح بغير ميراث. فقال أبو حنيفة: من أين قلت ذاك؟ فقال أبو جعفر: لو أن رجلا من المسلمين تزوج بامرأة من أهل الكتاب ثم تُوُفِّىَ عنها، ما تقول فيها؟ قال: لا ترث منه. فقال: قد ثبت النكاح بغير ميراث. ثم افترقا. وعن الصادق أنه سأله أبو حنيفة عن المتعة فقال: عن أى المتعتين تسأل؟ فقال: سألتك عن متعة الحج، فأنبئنى عن متعة النساء: أحق هى؟ فقال: سبحان الله. أما تقرأ كتاب الله: {فَمَا ?سْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ}؟ فقال أبو حنيفة: واللهِ لكأنها آية لم أقرأها قط. وفى الفقه عنه: ليس منا مَن لم يؤمن بكَرَّتنا ويستحلّ متعتنا. أقول: "الكرَّة": الرجعة، وهى إشارة إلى ما ثبت عندهم من رجوعهم إلى الدنيا مع جماعة من شيعتهم فى زمن القائم لينصروه".


وفى "الميزان": "والمراد بالاستمتاع المذكور في الآية نكاح المتعة بلا شك، فإن الآية مدنية نازلة في سورة "النساء" في النصف الأول من عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد الهجرة على ما يشهد به معظم آياتها. وهذا النكاح، أعني نكاح المتعة، كانت دائرة بينهم معمولة عندهم في هذه البرهة من الزمان من غير شك، وقد أطبقت الأخبار على تسلم ذلك، سواء كان الإسلام هو المشرع لذلك أو لم يكن. فأصل وجوده بينهم بمرأى من النبي ومسمع منه لا شك فيه، وكان اسمه هذا الاسم، ولا يعبَّر عنه إلا بهذا اللفظ، فلا مناص من كون قوله: {فما استمتعتم به منهن} محمولاً عليه مفهومًا منه هذا المعنى".


ولست أريد أن أدخل فى جدال فقهى حول جواز نكاح المتعة أو حرمته الآن، بل كل ما أريده هو لفت الانتباه إلى أن الآية لا تدل على جوازه، ثم بعد هذا ليكن الحكم الفقهى فيه ما يكون، فذلك شأن آخر. كيف؟ لقد سردت الآية السابقة على هذه أصناف النساء اللاتى لا يحل للمسلم التزوج بهن، وهن الأمهات والبنات والأخوات والخالات والعمات... إلى أن وصل الكلام إلى المتزوجات، أى مَنْ هنّ على ذمة رجل آخر، ثم عقبت آيتنا بأنه يحل للمسلم التزوج بما وراء هؤلاء، أى بأية امرأة لم يرد ذكرها فى ذلك المسرد: "حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا* وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا". ومعنى الكلام، كما هو واضح، أن ما عدا أولئك النسوة يجوز لكم الزواج بهن بمهر، وهذا هو الأجر الذى ذكرت الآية أن الرجل يدفعه للمرأة مقابل الاستمتاع بها: "فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً". ولو كان المقصود هو زواج المتعة لكان معنى الكلام أن هناك وضعين هما: حُرْمَة النكاح من الفئات المذكورة من النساء، وحِلِّيّة المتعة مع سواهن.


ولا يقول بهذا أحد، لأن المتعة لدى من يقولون بها ليست هى النكاح بإطلاق، ولا حتى أصل النكاح كى توضع مقابل حرمة النكاح، بل هى لدى من يجوّزونها شىء يباح للضرورة، وعلى مضض، كما يتضح من رد أبى جعفر على عبد الله بن عمر الليثى وأبى حنيفة فى النص الذى أورده الطباطبائى. أما كلمة "استمتعتم" فلا تدل بالضرورة على نكاح المتعة لمجرد أنها مشتقة من نفس الأصل الذى اشتُقَّتْ منه تلك الكلمة، وإلا فالقرآن يقول: "ومَتِّعوهنّ على الـمُوسِع قَدَرُه، وعلى الـمُقْتِر قَدَرُه متاعا بالمعروف" (البقرة/ 236)، "وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين" (البقرة/ 241)، "فتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكنّ وأُسَرِّحْكنّ سَرَاحًا جميلا" (الأحزاب/ 28)، وليس للكلام هنا أية صلة بالمتعة البتة، بل الكلام عن المطلقات اللاتى ينبغى أن يُعْطَيْن مقدارا من المال لتطييب خواطرهن، وهذا المال يسمَّى: "متعة". كذلك فالكلام فى الشاهد الأخير من سورة "الأحزاب" هو عن الرسول ونسائه، ويستحيل أن يقول أحد من الشيعة إنه عليه السلام كان متزوجا بهن زواج متعة.


والواقع أن استشهاد الشيعة بكلمة "استمتعتم" على أن المقصود هو زواج المتعة يذكّرنى بما قاله المستشرق هفننج من أن الرسول قد مارس هذا الزواج، إذ فهم من قول المؤرخين وكتاب السيرة إنه رد زوجته أسماء الجونية إلى أهلها قبل أن يدخل بها و"متّعها" بكذا وكذا أنه عليه السلام كان قد تزوج بها زواج "متعة". ولله فى خلقه شؤون (انظر مادة "متعة" فى "Shorter Encyclopaedia of Islam"، وانظر كذلك الصفحتين اللتين كتبتهما فى هذه النقطة فى كتابى: "دائرة المعارف الإسلامية- أضاليل واباطيل"/ مكتبة البلد الأمين/ القاهرة/ 1419هـ- 1998م/ 133- 134). لكن ذلك مستشرق، أما مفسرونا هؤلاء فَلَيْسُوا.


ثم لو كان أبو حنيفة قد اقتنع بما قاله الصادق فى الحوار الذى قيل إنه جرى بينهما وأبدى دهشته من أنه لم يتنبه لهذا المعنى من قبل رغم صحته أو وجاهته، فلم يا ترى استمر ذلك الفقيه على موقفه من المتعة ولم يحللها فى مذهبه؟ بل ما الذى منع عليًّا كرم الله وجهه من إعادة الأمر فى المتعة إلى نصابه لو كان يرى، كما رَوَوْا عنه، أن عمر أخطأ بتحريمها؟ وعلام يدل هذا فى شخصية علىّ لو صحت الرواية، وما هى بالصحيحة؟ ألا يدل على أنه كان يعرف الحق لكنه لم بحاول العمل على إعادة الناس إليه؟

فلم يا ترى؟ أكان عمر فى قبره يمثل تهديدا له؟ فكيف؟ أم إنه كان لا يهتم بالدين ولا بإقرار الحق والمكافحة دونه؟ إن الذين يروون هذا عنه إنما يسيئون إليه فى شخصيته وإيمانه رضى الله عنه لا إلى عمر، لكنهم لا يبصرون مواقع الكلام للأسف! وإذا كان علىّ قد ترك الأمر على ما أرساه عمر، فلماذا يا ترى لم تسر الشيعة على منهاجه؟ أليس هو إمامهم الأكبر والخليفة الشرعى الوحيد لنبيهم فى نظرهم؟ فكيف يخالفون عن أمره إذن؟ ثم ألم يلاحظ هؤلاء كيف يتحدث علىٌّ كرم الله وجهه عن الفاروق رضى الله عنه بكل احترام فلم ينسبه إلى كفر أو نفاق أو يومئ إلى عمله هذا مجرد إيماء بما يغمز فى دينه؟ وأخيرا حتى لو قلنامع القائلين إن المتعة جائزة، أيسوّغ هذا قول الصادق: "ليس منا من لم يستحلّ متعتنا"، وبخاصة أننا قد رأيناه يتحدث عنها على أنها أمر يُشْمَأَزّ منه رغم حِلّه؟ إنها فى أحسن الأحوال لا تتعدى حدود الجواز، فكيف تتحول على هذا النحو إلى ركن من أركان الدين لدى الشيعة بحيث إن من لا يستحلها لا يكون مؤمنا عندهم؟


وفى تفسير الآية السابعة عشرة من سورة "العنكبوت"، وهى قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى? قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ ?لطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ}، لا يحيد الطبرسى عما تقرّره إلى ما يصنعه مفسرون شيعيون آخرون من اتخاذها فرصة للبرهنة على صحة وجود المهدى فى السرداب الآن رغم مرور ما يزيد على ألف عام منذ اختفائه.

إذ كان كل ما قاله هو: "{ولقد أرسلنا نوحًا إلى قومه} يدعوهم إلى توحيد الله عزّ وجل، {فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عامًا}، فلم يجيبوه وكفروا به {فأخذهم الطوفان} جزاء على كفرهم فهلكوا، {وهم ظالمون} لأنفسهم بما فعلوه من الشرك والعصيان.{فأنجيناه وأصحاب السفينة}، أي فأنجينا نوحًا من ذلك الطوفان والذين ركبوا معه في السفينة من المؤمنين به {وجعلناها}، أي وجعلنا السفينة {آية للعالمين}، أي علامة للخلائق أجمعين يعتبرون بها إلى يوم القيامة لأنها فرَّقت بين المؤمنين والكافرين والأبرار والفجار، وهي دلالة للخلق على صدق نوح وكفر قومه". ونفس الشىء فى تفاسير الطوسى والقمى والجنابذى والكاشانى، إذ لم يعرج أى منهم على موضوع عُمْر المهدى أثناء تعرضه لتفسير تلك الآية.


أما فى تفسير "الأمثل فى تفسير كتابِ اللهِ الـمُنْزَل" للشَّيخ نَاصِر مَكارم الشِيرازي فنقرأ: "الألف، وأيّ ألف؟ ألف سنة يعدّ رقمًا مهمًّا وعددًا كبيرًا بالنسبة لمدّة التبليغ. وظاهر الآية الآنفة أنّ هذا المقدار لم يكن هو عمر نوح عليه السلام بتمامه، وإن ذُكِر ذلك في التوراة الحديثة، في سفر "التكوين": الفصل التاسع، بل عاش بعد الطوفان فترة أخرى. وطبقًا لما قاله بعض المفسّرين فقد كانت الفترة هذه ثلاثمائة سنة! طبعًا هذا العمر الطويل بالقياس إلى أعمار زماننا كثير جدًا ولا يعدّ طبيعيًّا أبدًا، ويمكن أن يكون ميزان العمر في ذلك العصر متفاوتًا مع عصرنا هذا. وبناءً على المصادر التي وصلت إلى أيدينا فإنّ قوم نوح كانوا معمَّرين، وعُمْر نوح بينهم أيضًا كان أكثر من المعتاد. ويشير هذا الأمر ضمنًا إلى أن هيئة تركيب أجسامهم كانت تمكّنهم من أن يعمَّروا طويلا.

إنّ دراسات العلماء في العصر الحاضر تدلّ على أن عمر الإنسان ليس له حد ثابت، وما يقوله بعضهم بأنه محدود بمائة وعشرين سنة وأكثر أو أقل فلا أساس له... بل يمكن أن يتغير بحسب اختلاف الظروف. واليوم وبواسطة التجارب استطاع العلماء أن يضاعفوا عمر قسم من النباتات أو الموجودات الحيّة، إلى اثني عشر ضعفًا على العمر الطبيعي. وحتى في بعض الموارد، ولا تتعجبوا، أوصلوا هذه الفترة للنباتات أو غيرها إلى تسعمائة مرّة ضعف عمرها الطبيعي. وإذا حالفهم التوفيق فيمكنهم أن يضاعفوا عمر الإنسان، فيمكن أن يعمّر الإنسان عندئذ آلاف السنين.

وينبغي الالتفات ضمنًا إلى أن كلمة "الطوفان" في الأصل معناها كل حادثة تحيط بالإنسان، وهي مشتقّة من مادة "الطواف". ثمّ اسْتُعْمِل هذا التعبير للماء الغزير أو السيل الشديد الذي يستوعب مساحة كبيرة من الأرض ويغرقها. كما يطلق على كل شيء كثير وشديد، وفيه حالة الاستيعاب، سواءً كان ريحًا أو نارًا". وقد اشتممت فى الكلام رائحة الإيماء إلى عمر المهدى عليه السلام. ولم يكذب المفسر الشيعى خبرا، إذ وجدته فى الهامش يقول ما نصه: "لمزيد التوضيح في مسألة طول العمر بمناسبة الأبحاث المتعلقة بطول عمر المهدي عليه السلام، يراجع كتاب: المهديّ تحول كبير".

وفى موقع "arabic.irib.ir"، وفى قسم "البرامج المسجلة"، وتحت عنوان "شمس خلف السحاب" نجد الشيخ الشيعى محمد الشوكي يقول: "تعلمون أن من سنن الأنبياء عليهم السلام التي جرت في قضية مولانا المهديّ عجَّل الله فَرَجه هي سُنّة طول العمر التي ظهرت في نوح عليه السلام أشهر من غيره من الأنبياء عليهم السلام. والقرآن الكريم يصرح بأن نوحا عليه السلام ظل يدعو قومه إلى الهدى على‌ مدى ما يقارب الألف عام قبل الطوفان ويرعى من آمن معه منهم. وهذا أيضا من أوجه الشبه بينه وبين مولانا المهدي عليهما السلام.

فالمهديّ يقوم في غيبته أيضا بالدعوة إلى‌ الهدى ورعاية المؤمنين ودفع الأخطار عنهم، ولكن بأساليب خفية. ولولا ذلك لنزلت بهم اللأواء والشدائد واصطلمهم وأبادهم الأعداء كما يصرح بذلك عليه السلام في رسالته المشهورة للشيخ المفيد رضوان الله عليه. والقرآن الكريم يشير إلى‌ أن الأساليب الخفية في الدعوة إلى الهدى كانت أيضا‌ من سنة نبي الله نوح عليه السلام، فقد قال عز وجل حاكيا‌ دعاءه: "ثم إني دعوتهم جهارا* ثم اني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا". ويستفاد من الأحاديث الشريفة أن من علل إطالة عمر نبي الله نوح عليه السلام هو تمحيص إيمان الذين آمنوا به وغربلتهم لإيصال المستعدين منهم إلى الدرجات العالية من الإيمان.

وهذه الحكمة ‌متوفرة في إطالة عمر مولانا المهدي وطول غيبته، عجل الله فرجه، ففيها يغربَل المؤمنون ويمحَّصون حتى‌ لا يبقى إلا الأندر الأندر كما ورد في حديث الإمام علي عليه السلام الذي رواه الشيخ النعماني رحمه الله في كتاب "الغيبة". وهؤلاء المؤمنون الثابتون على الدين الحق رغم طول الغيبة هم الأنصار الحقيقيون للمهدي المنتظر، وهم أصحابه الخلَّص الذين يبعثهم الله أحياءً لنصرته عند ظهوره إذا توفاهم قبل ذلك".

وهو كلام غير مقنع على الإطلاق: فنوح قد أخبرنا القرآن بخبره، أما المهدى فأين الدليل على أنه قد عُمِّر كل هذا العمر الطويل؟ ثم إن الأعمار فى زمن نوح كانت طويلة، بخلافها منذ زمن المهدى حتى الآن. وحتى لو قلنا إن طول عمر نوح معجزة انفرد بها، فأين الدليل على أن المهدى قد حَظِىَ هو أيضا بتلك المعجزة؟ لا القرآن ولا الحديث قال ذلك.


وكذلك لم يره أحد حيًّا، وإلا فليأت من رآه ويأخذنا إليه لنتأكد أن ما يقال عنه صحيح. وبطبيعة الحال فإن كل إنسان حى يحتاج إلى طعام وشراب وقضاء حاجة واغتسال وقص شعر وأظافر وزواج وما إلى ذلك، فمن يقوم له بتلك الحاجات يا ترى؟ ولماذا لا يتحدث الناس الذين يقومون بخدمته إن كان هناك أمثال أولئك الناس؟ أما إن قيل إنه لا يحتاج إلى شىء من هذا، فمعنى ذلك أننا، كرة أخرى، أمام معجزة، فأين الدليل على هذه المعجزة؟ مرة ثانية لا القرآن والحديث قال شيئا عن هذا، فكيف يراد منا أن نؤمن به؟ ومعنى ذلك كرة ثانية أن أحدا لم يره من قبل ولا يراه الآن، فكيف نعرف إذن أنه موجود؟ وعلى كل حال فإن وسائل البحث عن الأشخاص المفقودين والغائبين والمختفين قد تطورت تطورا هائلا فى العصر الحديث، ومِثْلُ المهدى ينبغى أن تُجَنَّد له كل الإمكانات لمعرفة موضعه وحاله.

فلماذا لا يقوم من يؤمنون به، ويبحثون عنه فى المنطقة التى يقال إنه اختفى فيها منذ أكثر من ألف عام ويمشطونها تمشيطا حتى يعثروا عليه؟ إنهم يَدْعُون دائما بأن يعجِّل الله فرجه، فما المانع أن يبذلوا ما يستطيعون من جهد للتعجيل بهذا الفرج بدلا من ذلك الانتظار الطويل دون جدوى؟ ولم يبقى المهدى كل هذا الوقت دون أن يظهر؟ أولم يحركه كل ما وقع بالمسلمين طوال هاتيك القرون من مصائب ونكبات حتى لو قلنا إن المسلمين هم الشيعة وحدهم؟ والغريب أن الشيخ يقول إن المهدى، مثل نوح عليه السلام، يقوم منذ اختفائه بهداية الناس.


فكيف ذلك يا ترى؟ لقد كان نوح يخالط قومه وهو يدعوهم ويعمل على هدايتهم فيسمعه الناس ويَرَوْنه، ويسخر منه الكافرون ويصدّق به المؤمنون. أما هداية الناس غيبًا فلا أدرى كيف تكون؟ هل هناك وسيط ينقل لهم ما يريد المهدى تبليغه إياهم؟ فمن هو ذلك الوسيط يا ترى؟ ولماذا لا يأخذ محبِّى المهدى إليه فيختصر الجهد ويعجّل بسعادتهم ويكمل هدايتهم؟ كذلك يقول الشيخ إن المهدى يرعى أتباعه ويحميهم من الأخطار. ترى بالله العظيم كيف يكون ذلك؟ إن إيران تتعرض مثلا للزلازل فتنهدم بيوتها ويموت الناس تحت أنقاضها كما يفعلون فى أية دولة أخرى. كذلك عندما كانت هناك حرب بين العراق وإيران كانت القنابل تنزل على المبانى الإيرانية فتحولها إلى خرائب يندفن الناس تحتها، وكان الجنود الشيعة على الجانب الإيرانى يُقْتَلون مثلما يقتل الجنود السنة عل الجانب العراقى سواء بسواء.

وحتى فى الكُرَة كثيرا ما تنهزم الفرق الإيرانية أمام فرق آسيوية، وما أدراك ما مستوى الفرق الآسيوية؟ فما بالنا بمسابقات كأس العالم التى لا مكان فى صفوف صدارتها لأية دولة مسلمة فى وقتنا الحالى، شيعية كانت أم سنية؟ ترى لم لا يرينا المهدى عجائب قدرته فى هذا الميدان، والمعاونة فيه أسهل كثيرا منها فى ميدان الحروب والقنابل والقتل والدمار بما لا يقاس؟ أما إنْ طَلَعَتْ فى دماغه وقام بتدمير أمريكا وتخليصنا من بوش وعصابته قبل أن تعتدى على إيران، فلسوف نكون له من الشاكرين الحامدين، ولسوف يكون هذا دليلا لا يُصَدّ ولا يُرَدّ بشرط أن يكون هناك برهان على أنه من صنعه هو. ثم هل يصح أن يقال عن المهدى إنه هو الذى يحمى ويرعى ويقى المؤمنين به من الأخطار والمهالك، وكأنه هو الله سبحانه؟ إننى لا أسخر، بل أحاول أن أفهم.


ثم لماذا ينبغى أن يكون المهدى المنتظر هو محمد بن الحسن العسكرى بالذات؟ إذ من المعروف أن الشيعة منقسمون بشأن السلسلة التى من حقها وراثة علىّ كرم الله وجهه فى خلافة المسلمين، فلماذا ينبغى أن يكون الإمام المختفى هو محمد بن الحسن العسكرى بالذات، وليس شخصا آخر من أحفاد علىّ كرم الله وجهه؟ بل لو افترضنا أننا سلمنا بأن هناك نصا فى الإسلام (أين؟ لاأدرى) يعين الخليفة بعد النبى بعلى كرم الله وجهه، أفهناك نص على أنها لا بد أن تستمر فى ذريته؟ وهل وراثة الحكم فى الإسلام مقبولة؟ أم إن الواجب تولى من تختاره الأمة فى انتخابات حرة مفتوحة؟ إن علماء الإسلام قد وصفوا ما فعله معاوية من توريث السلطان لابنه يزيد بأنه جبرية وكسروية، فكيف يراد منا أن نقبل من علىٍّ ما أنكرناه على معاوية؟

وعندنا الغنائم. وهى فى فقه الشيعة أوسع من أن تقتصر على غنائم الحرب، بل تشمل تلك مع غنائم الغوص، والكنز الذى يعثر الإنسان عليه، والمعدن المستنبط من الأرض، وأرباح المكاسب...إلخ كما يوضح الدكتور محمد حسين الذهبى فى كتابه: "التفسير والمفسرون" لدى تعرضه لتلك النقطة أثناء تناوله لتفسير للطبرسى وكما كتب ذلك المفسر نفسه. يقول مفسرنا فى كتابه: "مجمع البيان فى علوم القرآن" تفسيرا لقوله تعالى فى الآية الحادية والأربعين من سورة "الأنفال": "وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آَمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ":

"اختلف العلماء فى كيفية قسمة الـخُمْس ومن يستحقه على أقوال: أحدها ما ذهب إليه أصحابنا، وهو أن الخـُمْس يُقَسَّم على ستة أسهم: فسهم الله، وسهم للرسول، وهذان السهمان مع سهم ذى القُرَبى للإمام القائم مقام الرسول، وسهم ليتامى آل محمد، وسهم لمساكينهم، وسهم لأبناء سبيلهم، ولا يَشْرَكهم فى ذلك غيرهم لأن الله سبحانه حَرَّم عليهم الصدقات لكونها أوساخ الناس وعوَّضهم من ذلك الـخُمْس. وروى ذلك الطبرى عن علىّ بن الحسين زين العابدين ومحمد بن علىّ الباقر. وروى أيضًا عن أبى العالية والربيع أنه يُقَسَّم على ستة أسهم، إلا أنهما قالا: سهم الله للكعبة، والباقى لمن ذكره الله. وهذا القسم مما يقتضيه ظاهر الكتاب ويقوّيه. الثانى أن الـخُمْس يُقَسَّم على خمسة أسهم، وأن سهم الله والرسول واحد، ويُصْرَف هذا السهم إلى الكُرَاع والسلاح، وهو المروى عن ابن عباس وإبراهيم وقتادة وعطاء. الثالث أن يُقَسَّم على أربعة أسهم: سهم لذوى القُرْبَى: لقرابة النبى صلى الله عليه وسلم، والأسهم الثلاثة لمن ذُكِروا بعد ذلك من سائر المسلمين، وهو مذهب الشافعى.

الرابع أنه يُقَسَّم على ثلاثة أسهم، لأن سهم الرسول قد سقط بوفاته لأن الأنبياء لا تُورَث فيما يزعمون، وسهم ذى القُرْبَى قد سقط لأن أبا بكر وعمر لم يعطيا سهم ذى القُرَبى، ولم ينكر ذلك أحد من الصحابة عليهما، وهو مذهب أبى حنيفة وأهل العراق. ومنهم مَن قال: لو أعطى فقراء ذوى القُرْبَى سهمًا، والآخرين ثلاثة أسهم جاز، ولو جعل ذوى القُرَبى أُسوةً بالفقراء، ولا يُفْرَد لهم سهمٌ جاز. واختُلِف فى ذى القُرْبَى، فقيل: هم بنو هاشم خاصة من ولد عبد المطلب لأن هاشمًا لم يعقب إلا منه: عن ابن عباس ومجاهد، وإليه ذهب أصحابنا. وقيل: هم بنو هاشم بن عبد مناف وبنو عبد المطلب بن عبد مناف، وهو مذهب الشافعى. وروى ذلك عن جبير بن مطعم عن النبى صلى الله عليه وسلم.

وقال أصحابنا: إن الخـُمْس واجب فى كل فائدة تحصل للإنسان من المكاسب وأرباح التجارات وفى الكنوز والمعادن والغوص وغير ذلك مما هو مذكور فى الكتب. ويمكن أن يُسْتَدَلّ على ذلك بهذه الآية، فإن فى عُرْف اللغة يُطلق على جميع ذلك اسم الغُنْم والغنيمة". وعند تفسيره للآية السابعة من سورة الحشر: {مَّآ أَفَآءَ ?للَّهُ عَلَى? رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ ?لْقُرَى? فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي ?لْقُرْبَى? وَ?لْيَتَامَى? وَ?لْمَسَاكِينِ وَ?بْنِ ?لسَّبِيلِ} يقول: {مَّآ أَفَآءَ ?للَّهُ عَلَى? رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ ?لْقُرَى?}، أى من أموال كفار أهل القرى، {فَلِلَّهِ}: يأمركم فيه بما أحب، {وَلِلرَّسُولِ} بتمليك الله إياه، {وَلِذِي ?لْقُرْبَى?}، يعنى أهل بيت رسول الله وقرابته، وهم بنو هاشم، {وَ?لْيَتَامَى? وَ?لْمَسَاكِينِ وَ?بْنِ ?لسَّبِيلِ} منهم، لأن التقدير: ولِذِى قُرْباه ويتامى أهل بيته ومساكينهم وابن السبيل منهم.

وروى المنهال بن عمرو عن علىّ بن الحسين، قال: قلت: قوله: {وَلِذِي ?لْقُرْبَى? وَ?لْيَتَامَى? وَ?لْمَسَاكِينِ وَ?بْنِ ?لسَّبِيلِ}، قال: هم أقرباؤنا ومساكيننا وأبناء سبيلنا. وقال جميع الفقهاء: هم يتامى الناس عامة، وكذلك المساكين وأبناء السبيل. وقد روى أيضًا ذلك عنهم. وروى محمد بن مسلم عن أبى جعفر أنه قال: "كان أبى يقول: لنا سهم رسول الله، وسهم ذوى القُرَبى، ونحن شركاء الناس فيما بقى. والظاهر يقتضى أن ذلك لهم، سواء أكانوا أغنياء أو فقراء، وهو مذهب الشافعى. وقيل إن مال الفَىْء للفقراء من قرابة رسول الله، وهم بنو هاشم وبنو المطلب. وروى عن الصادق أنه قال: نحن قومٌ فرض الله طاعتنا، ولنا الأنفال، ولنا صَفْوُ المال". وفى هذا النص نرى الطبرسى قد جمع ما يقوله الشيعة فى هذه القضية، ومن ثم نكتفى بما قاله.



* كاتب ومفكر مصري و استاذ بجامعة عين شمس